أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سليم يونس الزريعي - مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين..نهاية الخرافة















المزيد.....



مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين..نهاية الخرافة


سليم يونس الزريعي

الحوار المتمدن-العدد: 7693 - 2023 / 8 / 4 - 11:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الفصل الأول: مقدمات أسست لوهم عودة اليهود إلى فلسطين
مدخل
الذرائع الدينية والسياسية وراء مشروع زرع اليهود في فلسطين
المسألة اليهودية صناعة أوروبية وحلها بعيدا عنها.
المسيحية الصهيونية.. ودوافع تبني أسطورة عودة اليهود.
تمهيد
جاءت فكرة هذه الدراسة بعد المتغير الاستراتيجي الذي أحدثته غرفة العمليات المشتركة للمقاومة الفلسطينية في غزة التي تضم 12 جناحا عسكريا، وهي: كتائب الشهيد عز الدين القسام، سرايا القدس، كتائب أبو علي مصطفى، كتائب شهداء الأقصى- لواء العامودي، كتائب الشهيد عبد القادر الحسيني، ألوية الناصر صلاح الدين، كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية، كتائب الشهيد جهاد جبريل، كتائب الأنصار، كتائب المجاهدين، مجموعات الشهيد أيمن جودة، وجيش العاصفة ، بانتصارها لحي الشيخ جراح والقدس والأقصى، وتصديها للعدوان الذي شنته آلة الحرب الصهيونية على قطاع على مدى أحد عشر يوما، توحد فيها الشعب الفلسطيني على امتداد مساحة فلسطين التاريخية.
هذا التصدي النوعي على صعيد المبادرة أولا، ثم الكتلة النارية والقدرة العسكرية مع حراك الضفة الغربية وهبة جماهير المناطق المحتلة عام 1948، كل ذلك أصاب قادة الرأي والمسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين في كيان الاحتلال بالصدمة، جراء هذا المتغير الاستراتجي في المشهد الفلسطيني الذي سيكون له ما بعده، ولهذا السبب اعتبرها القادة الصهاينة أنها الأخطر.
ومن الواضح على ضوء ردود فعله أن صدمة العدو كانت ثنائية البعد، جراء التداعيات الاستراتيجية. لرد المقاومة وهبة الجماهير الفلسطينية، كونها أولا: شلت الحياة في كيان الاحتلال عندما أجبرت صواريخ المقاومة 80% من المستجلبين الصهاينة إلى فلسطين، البقاء في المخابئ طوال أيام الحرب على غزة، والثانية: تعلقت بهبة جماهير الشعب الفلسطيني في المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 التي تجلت فيها وحدة الحال الفلسطينية ممثلة في حالة


الانتماء للهوية الفلسطينية بعد ثلاثة وسبعين عاما من زرع هذا الكيان، ومن قبل شابات وشباب من الجيل الرابع، وهي هبة عمدوها بالدم، وستكون لها بالتأكيد أبعادها الفكرية الإيجابية على صعيد التأسيس لمقاربات سياسية تستهدف تحرير فلسطين بعيدا عن لغو أوسلو ومخرجاته البائسة المدمرة، لذلك كانت الصدمة كبيرة لدى المستوى السياسي والأمني الصهيوني ولدي قادة الرأي في الكيان.
ويمكن أن نلمس تجليات هذه الصدمة كمثال، لدى أفيغدور ليبرمان وزير الأمن السابق ورئيس حزب (إسرائيل بيتنا) الذي أعلن فشل المشروع الصهيوني في عمليات التهويد الفكري والسياسي والمجتمعي في طمس الهوية الوطنية الفلسطينية والشعور القومي لدي الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948، رغم توصيفه العنصري للشعب الفلسطيني بقوله إن "ما يحدث اليوم هو أن تلك العصابات من طوبا زنغاريا واللد والبدو في الجنوب، أصبحت أكثر قومية، وهي تتعاطف مع حماس والجماعات المتطرفة وسط الفلسطينيين" .
إن بقاء الهوية والانتماء الوطني حية وحاضرة في الوعي والذاكرة الفردية والجمعية للجماهير الفلسطينية، وانفجارها في وجه الاحتلال عندما حانت لحظات الحقيقية، جعلت العديد من المسؤولين الصهاينة يتحدثون عن المستقبل القاتم الذي ينتظر الكيان الصهيوني، وربما تكون بداية العد التنازلي لنهاية خرافة " الدولة اليهودية" في فلسطين.
ولعل في سؤال ليبرمان الذي وجهه بعد معركة سيف القدس والهبة الفلسطينية الشاملة، إلى كل مستجلب من الخارج، وهو منهم؛ في مقاله له في صحيفة معاريف، عندما كتب: "أقترح على كل مواطنٍ في "إسرائيل" أن يسأل نفسه: إذا كان هذا هو وضعنا في مواجهة حماس، فما هو موقفنا في مواجهة حزب الله وإيران؟ ما يشير إلى أن المستقبل في الكيان يسير نحو النهاية الحتمية، وهي بالضرورة نهاية كل مشروع أسس على الكذب والخداع، كون المقدمات هي التي تحدد النتائج سلبا أو إيجابا، والمشروع التوراتي الصهيوني بني على الخرافة، ومصيره بالتأكيد سيكون كذلك.
إن سؤال ليبرمان يعكس تلك الحقيقة الصادمة وهي أن ما يعتبرونه أقوى جيش في المنطقة المفتوح على الترسانة العسكرية الأمريكية والبريطانية والألمانية هزمته المقاومة المحاصرة في غزة بقدراتها المحدودة جراء الحصار، فكيف سيكون المصير في حال الحرب مع حزب الله أو إيران كما يقول؟
سؤال ليبرمان المحمل بكل الخوف من المستقبل المشكوك فيه، تبلوره الدراسة في سؤال "مآل خرافة استمرار زرع الكيان الصهيوني في فلسطين" في وجود شعب فلسطين المتمسك بكامل حقوقه في وطنه وأنه سيحرره من الاحتلال، وإجابة السؤال ستأخذها الدراسة مما قاله أو كتبه مؤرخون وعلماء آثار ورجال فكر وسياسيون وأصحاب رأي يهود ويهود إسرائيليون وصهاينة يهود وغيرهم ومن الوقائع التاريخية.
وكي تكتمل الصورة حول طبيعة هذا المشروع الصهيوني كمشروع كولنيالي استعماري غربي انطلق من مفهوم التفوق والاستعلاء الحضاري والثقافي كما وصَّفه تيودور هرتزل وهو أن "الدولة اليهودية الموعودة تمثل ’رأس حربة الثقافة ضد البربرية’ الآسيوية" ، قبل أن يتبلور في فكرة ثم مشروعا رعته قوى الاستعمار الغربي وقوى المسيحية الصهيونية وفقا لأساطير التوراة، باعتباره إرادة ربانية ونجاحهم في زرعه كيانا عنصريا في فلسطين، وهو كان وما يزال يعيش أزمة بنيوية وتناقضا تناحريا مع أصحاب الأرض الأصليين، الذي ينفي وجودهم أحد الأسس المكونة لخرافة الدولة اليهودية (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، مما جعل حتى المستجلبين إليه يشككون في استمراره.
إن شرط الوصول إلى الإجابة العلمية الموضوعية لسؤال "مآل خرافة المشروع الصهيوني في فلسطين" ولتحصين الذاكرة وشحذ الوعي، فيما يسمى بـ"المسألة اليهودية" التي هي صناعة أوروبية، في حين أن أتباع الديانة اليهودية في الوطن العربي كانوا يعيشون حياتهم كمواطنين في بلدانهم كغيرهم، دون تمييز إثني أو ديني، إلى أن نجح المشروع الصهيوني الغربي من زرع مستجلبيه الأوروبيين في فلسطين عام 1948.

ومن ثم فإنه من المهم أن تتتبع الدراسة مسار زرع هذا الكيان المستجلب في أرض فلسطين، كأداة وظيفية في خدمة المشاريع الكولنيالية الغربية بالاتكاء على أساطير التوراة وأوهام المسيحية الصهيونية الأوروبية والأمريكية والغربية.
ذلك أن كشف؛ ثم وعي خَطَل الأسس الفكرية والتاريخية التي جرى التذرع بها لزرع هذا الكيان الغريب في فلسطين، من خلال البحث العلمي والوقائع الملموسة، الذي هو بمثابة نفي لكل المبررات التي أسست له، بما يعنيه ذلك من تفكيك تجسيد هذه الأكذوبة (الكيان الصهيوني) كحتمية تاريخية، العامل المقرر فيها هو الشعب الفلسطيني، وهو ما بدا واضحا خلال العدوان الصهيوني على غزة في مايو 2021، ورد المقاومة الواسع الشامل غير المسبوق عبر عملية "سيف القدس"، وهو الرد الذي صدم الصهاينة على كل المستويات، مما جعل العديد منهم يتساءل هل اقتربت نهاية خرافة المشروع الصهيوني في فلسطين؟
إن الإجابة على هذا السؤال هي مشكلة الدراسة، ليس عبر الضرب في الرمل، ولكن من خلال رصد الآراء والمواقف والأفكار والتوقعات والبحوث العلمية التاريخية والأثرية لعلماء ومفكرين يهود إسرائيليين ويهود صهاينة، وكل من موقعه الفكري والسياسي سواء بشكل مباشر أو من خلال مفهوم المخالفة.
وهذا ما يعكسه عنوان العمل "مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين..نهاية الخرافة" الذي يأتي في مدخل وستة فصول تغطي متطلبات الدراسة بشكل واسع منذ أن كان المشروع الصهيوني فكرة ثم تبلوره في مشروع إلى أن زرع في فلسطين عبر حوامل استعمارية غربية، وصولا إلى معركة "سيف القدس" وهبة الجماهير الفلسطينية في كل فلسطين، التي كشفت أن الكيان الصهيوني يعيش أزمة حقيقة تتعلق بمصيره, وهو ما عبرت عنه الدكتورة أدليت وايزمان، التي كتبت في صحيفة إسرائيل اليوم " كنت أنا استهزئ بخطابات نصر الله عندما كان يقول إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، والآن أنا يا حسن نصر الله، أقول لك نعم.. أنت على حق.. أنت صادق.. "إسرائيل" أوهن من بيت العنكبوت، وتضيف كفاكم خداعا يا قادتنا.. وكفاكم كذبا.. وأقروا بالهزيمة فهذه غزة فقط.. فكيف لو كانت حرب مع حزب الله؟
إن معركة سيف القدس وهبة الجماهير الفلسطينية في كل مدن الضفة، ومدن وبلدات فلسطين المحتلة عام 1948، يمثل متغيرا استراتيجيا سيكون له ما بعده على صعيد تراكم الفعل الكفاحي على طريق تفكيك المشروع الصهيوني التوراتي في فلسطين وإنهاء هذه الخرافة.



















الفصل الأول: مقدمات أسست لوهم عودة اليهود إلى فلسطين

مدخل
لا يختلف اثنان من الباحثين ممن يتحلون بالنزاهة الفكرية والأخلاقية، حول الإقرار بأن إثارة موضوع "العودة" إلى فلسطين الذي جاء في دعوة نابليون بونابرت 20/4/1799 اليهود للالتحاق بجيشه من أجل دخول القدس ضمن الحملة الفرنسية نحو الشرق. فيما كان يعيش حالة فشل أمام أسوار عكا في فلسطين، إنما أتى لخدمة مصالح فرنسا الاستعمارية آنذاك في المنطقة العربية بدرجة أساسية، عبر التوظيف المالي والديني لليهود في إطار التنافس الاستعماري الأوروبي حينها، ومع أنها بقيت مجرد دعوة، إلا أن فكرة تلك الدعوة تدحرجت، والتقطتها بريطانيا وشخصيات يهودية ومؤسسات صهيونية مسيحية إما لبسط السيطرة والنفوذ على المنطقة التي تربط الشرق بالغرب، أو لأسباب دينية، فيما لجأ المثقفون اليهود إلى "حيلة" التزوير للتاريخ باختلاق قومية يهودية.
من ذلك أن مثقفين في ألمانيا من أصل يهودي أخذوا في مرحلة معينة من القرن التاسع عشر على عاتقهم مهمة اختراع شعب يهودي بأثر رجعي، من منطلق رغبتهم الجامحة في اختلاق قومية يهودية عصرية. بأن شرع أولئك الكتاب والمثقفين منذ المؤرخ وعالم العقيدة، والحاخام الألماني اليهودي، هاينريخ غيرتس(1817–1891م)، الادعاء أن هذا الشعب انعطف في نهاية المطاف ليعود إلى وطنه" .
لكن السؤال هل كان سينجح الغرب الاستعماري وخاصة بريطانيا والحركة الصهيونية في تجسيد العودة ماديا دون توفر الشروط الموضوعية والذاتية حينها لذلك؟ مع أن ذلك التأسيس قام مع سبق الإصرار على مجموعة من الأكاذيب منها خرافة أن هناك "شعب يهودي"، وأيضا أسطورة "الحق التاريخي لليهود في فلسطين" وهما الأكذوبتان اللتان كذبهما الواقع والعلم، ومن مصادر علمية يهودية، فيما كانت الأكذوبة الأكثر وقاحة هي أن فلسطين "أرض بلا شعب"، هذا النفي الفاضح للوجود الفلسطيني الموجود في الواقع، يشير إلى أن الكيان الصهيوني زُرع بناء على أسس هي مجرد خرافات، بما يعنيه ذلك من بطلان لكل الأسس التي جرى على أساسها زرعه، وكذلك النتيجة التي أسفرت عن ذلك، لأن ما بني على باطل فهو باطل.
غير أن هذه الأرض التي زعم أنها بلا شعب، هي التي باتت في ظل تغير الظروف سواء ما يتعلق بالشرط الذاتي الفلسطيني أو الظروف المتعلقة بالكيان الصهيوني وتجمع المستجلبين من أكثر من 90 دولة من دول العالم، وراء "فوبيا" الديمغرافيا الفلسطينية، مما جعل التجمع الاستيطاني في فلسطين يعيش حالة من فقدان الثقة في بقاء كيانهم وأن مآله الانهيار، من خلال تأكيد الشعب الفلسطيني اليومي ومنذ بداية المؤامرة على فلسطين أنه صاحب الأرض، وأن أرض فلسطين ليست بلا شعب، وهذا التأكيد الفلسطيني المعمد بالدم والتشبث بالأرض على مدى عشرات العقود، هو الذي جعل الكثير من المستجلبين من أربعة أرجاء الدنيا يبدأ في استيعاب، أن الأسس التي أقيم عليها كيانهم لم تكن سوى محصلة خرافات، وهي الخرافات التي دحضها علماء آثار ومؤرخين يهود صهاينة ومن داخل الكيان.
وإذا كان زرع الكيان الصهيوني جرى ارتباطا بالشروط التاريخية المواتية للمؤامرة في حينها، التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث بيئات: البيئة الدولية، البيئة اليهودية والبيئة العربية. ومع أن تلك البيئات الثلاث غير منفصلة عن بعضها البعض لجهة التأثير والتأثر، إلا أنها تحمل في داخلها مزايا وخصائص تميزها عن بعضها البعض، فالبيئة الدولية التي كانت تشهد حراكاً كبيراً يتعلق بالمسألة اليهودية في أوروبا وروسيا، وصعوداً في قوة الدول الاستعمارية الأوروبية، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، المناهضة للعثمانيين حكام الشرق العربي وأسياده آنذاك، هو أمر ساهم في أن تتوافق تلك الدول على أن يكون حلّ المسألة اليهودية مرتبطاً بتسوية تركة الدولة العثمانية بعد القضاء عليها، أي أن يكون الحل على حساب الشعب العربي الفلسطيني، وكان لهذا التوافق نتائج ذات تأثير كبير على اليهود وعلى العرب على حدٍ سواء .إلا أن الشرط التاريخي بظروفه الموضوعية والذاتية الذي كان قائما حينها ومكن من إقامة كيان غاصب في فلسطين لم يعد قائما الآن، وأهمها شرط العامل الذاتي الفلسطيني كعامل مقرر في هذه المعادلة.
وإذا كان التحالف الاستعماري الغربي بقيادة بريطانيا مع الحركة الصهيونية والصهيونية المسيحية قد نفذوا زرع هذا الكيان في ظل ميزان قوى مختل تماما لصالحهم تحت ذريعة أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب، ليكتشف الآن الساسة الصهاينة والعسكريون منهم أيضا، أن التهديد الوجودي لمسألة استمرار كيانهم في فلسطين هو"الخطر الديموغرافى" ، وهذا الخطر الديمغرافي كما يقولون يتمثل في وجود الشعب الفلسطيني داخل فلسطين، وهو الوجود الذي سبق أن ادعوا حينها كذبا أنه غير موجود، وأن "فلسطين أرض بلا شعب"، وهذا الوجود الراهن الممتد عبر التاريخ هو في الجوهر النفي الفعلي لوجودهم، وهم بذلك يكذِّبون روايتهم التي كانت أحد الأسس التي أقيم بناء عليها مشروعهم في فلسطين، الذي يعيش حالة عد تنازلي.
واللافت أن التحذير الصهيوني من "الخطر الديمغرافي" ،الذي بات "مَرَضِيّا"، تفاقم بشكل غير مسبوق بعد أن كشف الفلسطينيون في المناطق المحتلة عام 1948 عبر تراكم نضالاتهم منذ النكبة وصولا لمعركة "سيف القدس" مايو/أيار2021، أنهم جزء أساس من حالة نفي النفي الكفاحية والديمغرافية الفلسطينية لكيانهم الغاصب، وهذا يعني أن استمرار بقاء الصهاينة في فلسطين هو أمر مؤقت، كون هذا الوجود الفلسطيني يشكل أحد طرفي معادلة "التناقض التناحري، للمحتل الصهيوني مع صاحب الأرض المحتلة الفلسطيني.
ويبدو أن الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي الأب الروحي للسفاح بيغن وشارون ونتنياهو قد وعي هذه الحقيقية منذ وقت مبكر، لذلك توقع بأن الكيان الصهيوني "سيواجه بمقاومة من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وأن هذه المقاومة سوف تستمر إلى أن يستولي اليأس على النفوس"، لكن جابوتنسكي في الوقت نفسه "أكد أنه ما من شعب احتل غزاة أرضه إلا وقاوم الاحتلال واستمر في هذه المقاومة إلى أن تحرر من الغزاة وأفشل مشروع الاستعمار الاستيطاني" .
ويمكن الرد على جابوتنسكي بأن حالة الذعر الصهيوني مما يسمونه الخطر الديمغرافي تعترف بأن الشعب الفلسطيني لم ولن ييأس، وأنه سيحقق مقولة جابوتنسكي بتحرير أرضة لأن ذلك هو قدره، وأنه سينهي المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وهو ما باتت شرائح واسعة من المستجلبين الصهاينة إلى فلسطين تدركه.















مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين.. نهاية الخرافة
الفصل الأول: مقدمات أسست لوهم عودة اليهود إلى فلسطين
مدخل
• الذرائع الدينية والسياسية وراء مشروع زرع اليهود في فلسطين.
• المسألة اليهودية صناعة أوروبية وحلها بعيدا عنها.
• المسيحية الصهيونية.. ودوافع تبني أسطورة عودة اليهود لفلسطين.















الذرائع الدينية والسياسية وراء مشروع زرع اليهود في فلسطين

إن أي ساع وراء الحقيقية سيكتشف بسهولة أن تلك الذرائع الدينية وغيرها من المبررات التي روج لها الغرب الاستعماري والمسيحية الصهيونية والحركة الصهيونية بقدر ما هي افتئات على الحقيقة من أجل استعمار فلسطين على حساب أهلها الذين عمروها لآلاف السنين المتصلة والممتدة قبل بدء تلك المؤامرة على بلادهم، فهي من جانب آخر "كومة" من الأكاذيب، وسيجد الباحث أن ما جاء فيها، مثَّل أكبر عملية تزوير ديني وتاريخي على مر العصور، ولا يتعلق الأمر هنا بالفصل بين التوراة ككتاب دين والحقائق التاريخية، وإنما في جعل التوراة في ذاته مصدرا للتاريخ، للادعاء بالحق التاريخي في فلسطين، وأخذ كل ما جاء في التوراة على أنها حقائق ربانية مطلقة، ومن ثم اعتبار التوراة الأساس الفكري لإقامة الكيان الصهيوني، بجعله يتجاوز كونه مجرد كتاب دين لأتباع الديانة اليهودية، وجعله برنامج عمل، لمعتنقي تلك الديانة مهما تنوعت أعراقهم والجغرافيا التي ينتمون إليها. ليوهموا الآخرين أن هذا الكيان رباني كمنتج إلهي، في كذب صريح على إلاههم.
وجذر هذه الخرافة ينطلق من أسطورة التوراة التي زعم اليهود والصهيونية المسيحية أن يهوه وعد إبراهيم ونسله بأرض كنعان من النيل إلى الفرات، بأن أعطتهم هذه الأسطورة حق امتلاك أجزاء من الوطن العربي، وإنكار هذا الحق عن سكان فلسطين الأصليين وأصحابها الشرعيين.
إن الزعم الصهيوني بأن فلسطين هي جزء من أرض الميعاد من الحدود التوراتية التي منحها يهوه لنسل إبراهيم هي ابتداع خيال يهودي أكدت خطله الحقائق العملية.
وهو زعم تأسس على الخرافة، بناء على الحقائق العلمية التي أثبتها مؤرخون وعلماء آثار يهود. تلك الحقائق التي تتفق والمنطق الذي يقول بأنه لا يمكن تصور أن إلها عادلا ومنصفا، كون العدل والإنصاف من صفاته، يمكن أن يقدم على سلوك ليس من صفاته بأن ينزع أرض الفلسطينيين ويمنحها لمجموعة بشرية أخرى.
والمفارقة هنا أن كل هذا الكذب والتزييف ينسب إلى إله اليهود، وإذا كان الكذب هو حالة إنسانية، فهل يمكن للإله أن يكذب؟! ويبدو أن من كتبوا التوراة بعد قرون من النفي إلى بابل قد تعمدوا كذبا أن يضفوا على كتابهم صفة ربانية، ومع ذلك أصرت الصهيونية المسيحية والحركة الصهيونية. على الترويج للتوراة باعتباره كتاب تاريخ أيضا، يستند إلى وعد وإرادة إلهية، وعلى ضوء تلك الخرافة جرى التعامل مع التوراة كأساس فكري لإقامة الكيان الصهيوني بجعله من مجرد كتاب ديني إلى برنامج عمل ومصدرا للتاريخ للادعاء بالحق التاريخي في فلسطين، فكان أن وجدت الحركة الصهيونية في هذا الكتاب الديني الأساس الفكري الأهم لإقامة الدولة اليهودية. ولذلك جرت عملية فكرية واسعة لتعميق مفاهيم هذا الكتاب في الذهن الصهيوني، وتحويله من مجرد كتاب ديني إلى برنامج عمل، بعد أن كان المتدينون اليهود وطوال قرون يركزون على التلمود الذي يحوي التشريعات والشرائع الدينية ويخلو تقريبا من الأبعاد التاريخية.
فـ"التوراة" كان في العرف الصهيوني مصدرا للتاريخ، وفيه تكمن كل مبررات الادعاء اليهودي بالحق التاريخي في فلسطين. وجاء هذا الإحياء لهذا المصدر في الوقت الذي كانت فيه غالبية الباحثين في هذا الحقل ترى في هذا الكتاب مجرد كومة من الأساطير التي لا يمكن الاستناد إليها، لا في كتابة التاريخ القديم لفلسطين، ولا في منح الحق لليهود في فلسطين.
ومع ذلك اعتبر الجمهور اليهودي، بأغلبيته الساحقة، معطيات هذا الكتاب هي حقائق تاريخية غير مشكوك فيها، حتى أنهم اعتبروا الباحثين الانتقاديين من اليهود مجرد معادين للسامية. لتبرير سرقة فلسطين من أهلها حسب توراتهم، الذي كان في العرف الصهيوني مصدرا أيضا للتاريخ، الذي فيه تكمن كل مبررات الادعاء اليهودي بالحق التاريخي في فلسطين.
واللافت أن ذلك الإحياء لهذا المصدر جاء في الوقت الذي كانت فيه أغلبية الباحثين في هذا الحقل ترى في كتاب التوراة مجرد أساطير لا يمكن الاستناد إليها، لا في كتابة التاريخ القديم لفلسطين، ولا في منح الحق لليهود في فلسطين .
ومع ذلك فإن الإيمان بخرافات التوراة مكون أساس في عقيدة الكنيسة البروتستنتية، لأن الترويج لما سمي بالعودة والعمل على ذلك، بدأ كمشروع مسيحي بروتستنتي ثم التحقت به الحركة الصهيونية، ولذلك تدعي الأساطير أن اليهود الذين وصلوا فلسطين عام 1882 هم أحفاد أولئك الذين طردهم الرومان منها عام 70م، لكن المؤرخ اليهودي إيلان بابيه يدحض ذلك قائلا إن ما قبل عهد الصهيونية كانت الرابطة بين المجتمعات اليهودية في العالم بما فيه فلسطين هي علاقة روحية ودينية وليست سياسية.
ويؤكد المؤرخ اليهودي إيلان بابيه أن ترتيب عودة اليهود إلى فلسطين كان مشروعا مسيحيا بروتستانتيا في الأصل حتى القرن السادس عشر، ثم أكملته الصهيونية. في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.









ذريعة.. "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
إن ذريعة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ضمن ذرائع الحركة الصهيونية هي أحد أكثر الذرائع الصهيونية وقاحة وتعد على الواقع وإنكارا له، ذلك أن هذه الذريعة تحمل مفهومين متناقضين أحدهما حالة إنكار لواقع قائم وموجود يتعلق بوجود الفلسطينيين في أرضهم، ونقيضها حالة إثبات لشيء غير موجود في الواقع، أي خرافة "الشعب اليهودي"، الذي يحق له الاستيلاء على تلك الأرض التي هي حسب مزاعم التوراة محل وعد إلهي لنسل إبراهيم. مع أن النبي إبراهيم، كان قد كيّف وجوده بعد ذلك الوعد المزعوم في أرض الكنعانيين بـ"الوجود المؤقت" فهو في أرض "غُربة"، وفق ما جاء في التوراة وذلك عندما ”قال إبراهيم لعبده لمّا شاخ وكبر سنه: “لا تأخذ زوجة لابني من بنات كنعان الذين أنا ساكن في أرضهم، بل إلى أرضي، وإلى عشيرتي تذهب”.
فإبراهيم وعشيرته وفق التوراة يقيمون ولا يملكون، فهم أغراب وسط الكنعانيين أصحاب البلاد الأصليين وفي النص: “ظهر الرب (أي لإبراهيم) وقال له: إنّ نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم”.
ولقد دحض اثنين من كبار رجال الدين اليهود كان قد أرسلهم الطبيب "ماكس نوردو" الساعد الأيمن لهرتزل لاستكشاف فلسطين مقولة أن فلسطين أرض بلا شعب، بعدما شعر هرتزل أن يهود أوروبا لا يزالون متعلقين بالهجرة نحو أمريكا وليس إلى فلسطين، بأن حملا جوابًا من سطر واحد جاء فيه: (1896) العروس جميلة جداً ومستوفية لجميع الشروط، ولكنها متزوجة فعلاً. وهو الرد الذي فهم منه "نوردو" أن المقصود هو أن فلسطين ليس كما ذكر هرتزل أرضًا بلا شعب، بل إن فلسطين فيها شعباً يسكنها منذُ آلاف السنين. وهم بهذه العبارة المختصرة يدحضون ما روجت له الحركة من خرافة أن فلسطين أرض بلا شعب.
لكن أكثر الخرافات مجافاة للعلم والعقل وحقائق التاريخ..تتعلق بخرافة" الشعب اليهودي فيما ينفي الدكتور ل.كارنييف: وجود أي صلة "بين اليهود المعاصرين واليهود القدامى غير صلة الدين، ومن وجهة نظر العلوم الإنسانية فاليهود قد اختلطوا بعشرات الشعوب الأخرى، وهم بذلك لا يملكون أرضاً ثابتة، أو لغةً واحدة، أو ثقافةً متجانسة، أو حياةً اقتصاديةً واحدة، ولهذا لا يعتبر اليهود المعاصرون شعباً، ولذلك فإنّهم لا يشكّلون قومية“.
في حين أن المشروع الصهيوني والصهيوني المسيحي قام على مزاعم وخرافات وأكاذيب رسخها كتبة التوراة والتلمود والمؤسسون الصهاينة. وهي أن اليهودية ليست مجرد ديانة، وإنما هي قومية، واليهودية هي الوجه الديني للصهيونية، والصهيونية هي الوجه السياسي والديني لليهود في العالم، والكيان الصهيوني هو التجسيد العملي للصهيونية وللوجهين الديني والسياسي لليهودية، ودولة جميع اليهود في العالم.









دور أوروبا في بعث فكرة الكيان اليهودي في فلسطين.
تكشف معطيات التاريخ أن الحراك نحو بلورة إجابة على المسألة اليهودية اقترن بتلك المساعي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بتبني المفهوم القومي القائم أساساً على توحيد اللغة والأرض. أي الدولة القومية التي تقوم على أرض محددة وحدودها واضحة. وكان عليها أن تعيد تعريف اليهود واليهودية بالمفاهيم الأوروبية القومية العلمانية السائدة، أي أن تموضع نفسها جغرافياً.
وبحثا عن جغرافيا تخدم ذلك المشروع، ناقش المؤتمر الصهيوني السادس، أهم الادعاءات لتبرير خيار الوطن القومي في فلسطين وهي أن «لا صهيونية من دون صهيون»، وبرر ماكس نورداو، أحد مؤسسي المنظمة الصهيونية العالمية، اختيار فلسطين موقعاً للاستيطان هو كون الاسم (صهيون) بحد ذاته يُعتبر أسطورة ذات سطوة وقوة كبيرين «وصرخة عظيمة تجمع اليهود.»
كان لبيان نابليون بونابرت الذي دعا فيه جميع يهود آسيا وإفريقيا إلى الانضمام إلى صفوفه، وتحت رايته، لاستعادة القدس القديمة.ونشرته صحيفة مونيتور يونيفرسال، الصادرة في 22/5/1799، أول ربط سياسي بين فلسطين واليهود بهدف التوظيف المالي والديني لليهود في إطار التنافس الاستعماري الأوروبي حينها. ومع أنها بقيت مجرد دعوة. إلا أن فكرة تلك الدعوة تدحرجت، والتقطتها بريطانيا، الذي يبدو أن دعوة نابليون قد أيقظت دهاقنة الإمبراطورية البريطانية، فأعلن اللورد شافتسيري واللورد منتفيوري عام 1835ـ أن لدى اليهود المال والرجال لاستعمار فلسطين وجعلها قاعدة لخدمة المصالح البريطانية.
وفي إطار ترجمة ذلك التبني من قبل بريطانيا وقبل بلورة الحركة الصهيونية اليهودية مشروعها السياسي بعقود، طالب بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا عام 1837 بالعمل مع تركيا لوضع اليهود تحت الحماية البريطانية. أي أن بريطانيا بذلك تبنت مشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين من ذلك الحين.
بل من بريطانيا خرجت خرافة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" من قبل أبرز البريطانيين الذين لعبوا أدوارا بارزة في المسيحية الصهيونية اللورد شافتسبوري (1818-1885)، وهو من الألفيين المسيحيين المتحمسين من أجل عودة اليهود إلى فلسطين، ودعا إلى تشجيع اليهود على العودة إلى فلسطين بأعداد كبيرة، ليعودوا ملاك أراضي الجليل ويهودا، واستمر شافيستبري بدعوته 57 سنة حتى تمكن من أقناع حكومة بلاده بافتتاح قنصلية لها في القدس، لتكون بعثة رسمية لبريطانيا إلى أرض فلسطين، تبع ذلك تعيين اليهودي ميخائيل سلمون الكسندر كاهنا انجليكانيا للقدس، والقس ويليام هتشلر(1845-1931)، وهو المسؤول الديني في السفارة البريطانية في فينا، وكانت لهتشلر علاقات مع تيودور هرتزل، وقد أمضى هيتشلر ثلاثين سنة في خدمة للصهيونية والحركة اليهودية رغم كونه مسيحيا، وحضر المؤتمر الأول للحركة الصهيونية العالمية الذي عقد في بازل بسويسرا عام1897م، وكان للقاء هيتشلر مع جيمس بلفور عام 1905م أكبر الأثر في صدور وعد بلفور المشؤوم بإقامة دولة لليهود في فلسطين عام 1917م.
ويمكن والحال تلك وارتباطا بدور اللورد شافتسبوري ملاحظة أن ثمة صهيونية أوروبية أخذت معالمها تتضح بعد نشوء المسألة الشرقية وصعود نجم محمد علي بصفته تهديداً ‏لقدرة أوروبا‏ الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية. فقد نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة. والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف أسطورة إحياء دولة يهودية في فلسطين. وبهذا المعنى يكتب المؤرخ والمفكر الشيوعي الفلسطيني إميل توما أن «الكولونيالية البريطانية تصبح صهيونية قبل نشوء الحركة الصهيونية»، وهناك كثير من الأدبيات التي تقرأ نشوء الحركة الصهيونية في الأساس كاستمرار للمشروع الاستعماري ومن وجهة نظر المصالح الاقتصادية التي يخدمها المشروع، وتظهر فيه الصهيونية أيضاً ‏أداة في أيدي القوى الاستعمارية الكبرى. ومن ناحية ثانية تبدو الصهيونية كمشروع استثماري للبورجوازية اليهودية الأوروبية نفسها.
ولا يمكن فصل البعد الكولنيالي في المشروع الصهيوني عن نظرة اليهود للـ(الأغيار)، وهي نظرة محملة باستعلائية كولونيالية اتسمت بها كثير من كتابات الصهيونيين الأوائل. فكتاب هرتزل «البلاد القديمة الجديدة» مملوء بالتعابير التي تشير إلى‏ بدائية السكان الأصليين وهمجيتهم في مقابل تفوق الأوروبيين وحضارتهم. أمّا في كتابه «دولة اليهود» فإنه يتبنّى بوضوح نبرة وخطاب أوروبا القرن التاسع عشر الكولنيالي، التي يقسم العالم إلى‏ أمم متحضرة وأمم بربرية، ويضع المشروع الصهيوني بوضوح كجزء من المشروع الأوروبي الحضاري الكولنيالي ويكتب:
«بالنسبة إلى أوروبا،‏ سنمثل جزءاً من السد أمام آسيا، سنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية. وسنبقى كدولة مستقلة متحالفين مع أوروبا‏ التي ستضمن في المقابل وجودنا».
إن تلك الجملة تحمل كثيراً من الدلالات التي تفضح علاقات الكراهية– الحب– العداء– الحميمية التي اتسمت بها الحركة الصهيونية، وتفسح المجال لقراءة جديدة للحركة الصهيونية تقوم على تقصي جذور الصهيونية في أوروبا‏ نفسها، وتلفت الانتباه إلى وجود وقيام صهيونية غير يهودية متأصلة في التراث الأوروبي، وهي سابقة للصهيونية اليهودية من ناحية نشوئها. وهي التي كانت الرافعة الأيديولوجية والعملية للمشروع الصهيوني المسيحي في فلسطين.



الصهيونية المسيحية .. ودوافع تبني أسطورة عودة اليهود.
من المفارقات ذات الدلالة أن فكرة إنشاء "وطن قومي لليهود في فلسطين" آمن بها المسيحيون البروتستانت قبل إيمان اليهود بها، وسعوا إلى تنفيذها قبل أن يسعى اليهود إلى ذلك، بل قبل أن يؤمن اليهود بإمكانية تحقيقها، حتى أن هرتزل نبي الحركة الصهيونية اقترح أكثر من موقع يمكن أن تقام عليه تلك الدولة.
ذلك أن تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية حينما طرح فكرة "الدولة اليهودية" لم تكن دوافعه دينية بالأساس، فهو قومي علماني في الصميم، ولذلك كان مستعدا لقبول استيطان اليهود في أوغندا أو العراق أو كندا أو الأرجنتين. أما المسيحيون الصهاينة في أميركا وغيرها فقد آمنوا من أول يوم بفلسطين وطنا لليهود، واعتبروا ذلك شرطا في "عودة المسيح"، وأخرجوا "المسألة اليهودية" من الإطار السياسي إلى الإطار الاعتقادي.
ولذلك فقد "انتقدوا الموقف المتساهل لهرتزل، والمؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، حتى إن بلاكستون أرسل إلى هرتزل نسخة من العهد القديم، وقد علَّم على صفحاتها، مشيرا إلى الفقرات التي عين فيها النبيون فلسطين تحديدا بأنها "الوطن المختار للشعب المختار".
ويبدو واضحا هنا أن مشروع زرع كيان صهيوني في فلسطين لم يناقش يهوديا إلا في أواخر القرن التاسع عشر، بخلاف الصهيونية المسيحية التي طالما روجت لذلك ومنذ وقت مبكر..
وثمة عوامل إيديولوجية وعقائدية، وظفت فيها رؤى توراتية ونصوصا مجتزأة من الكتاب المقدس، باستغلال اللاهوت المسيحي فى تأييد الخرافات الصهيونية عن ما يسمى "أرض الميعاد" والحق فى فلسطين، استنادًا إلى تفاسير آيات الكتاب المقدس، اعتمادًا على أسطورة «هرمجدون»، التي وردت في الكتاب المقدس، التي تقول بأن معركة ستنشب في فلسطين وهي الإشارة الكبرى على نهاية الزمان، ولذا يلزم تجميع يهود العالم في منطقة واحدة، يعتقد أنها «أرض الميعاد» كخطوة ضرورية قبل "تنصيرهم" لعودة المسيح وإنشاء مملكته التي تستمر لألف عام، على حد المعتقد.
وكان لذلك المتغير الذي تبنته الصهيونية المسيحية من أتباع الكنيسة البروتستنتية أن باتت التصورات والمفاهيم والتقاليد التوراتية اليهودية تطغى على الجانب المسيحي لدى أتباع المذهب البروتستانتي، حتى كادت تمس الثوابت العقدية المعروفة في المسيحية، مما اعتبر "غزوا عبرانيا" داخل المسيحية البروتستانتية، خاصة داخل نحلتها "البيوريتانية" أو التطهيرية التي لعب مفكروها في إنجلترا أدوارا واضحة للضغط على السلطة السياسية لتبني المشروع الصهيوني ..، فكان أن شكلوا رأس حربة في استهداف فلسطين أرضا وشعبا.
وضمن ذلك المسار أصبحت الصهيونية المسيحية مع نهاية القرن الثامن عشر تيارا راسخا في الثقافة الغربية، فتحولت منذ ذلك التاريخ من ميدان اللاهوت والفلسفة والأدب إلى ميدان السياسة، وقد تجلى ذلك أثناء حملة نابليون بونابرت على فلسطين. ولذلك كان لهذا الاكتساح الذي حققته المسيحية الصهيونية، في الفضاء الديني الأوروبي، أن صداه لم يقف عند حدود الطبقة السياسية والفئات الاجتماعية العادية، بل إن أثر ذلك التغلغل للمفاهيم التوراتية الذي وُصف بالغزو العبراني، أن طال الفضاء الفكري والفلسفي الأوروبي طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مما جعل أعمال شريحة واسعة من كتاب وفلاسفة أوروبا تعكس هموم وتطلعات المسيحية الصهيونية كما هو الشأن مع جون لوك وإسحاق نيوتن وجان جاك روسو وبليزباسكال وإيمانويل كانط وغيرهم من المفكرين والأدباء والشعراء الذين وإن اختلفت تصوراتهم الفلسفية والفكرية، فقد اتحدت عقيدتهم "الألفية" المترجمة لضرورة عودة المسيح والتعجيل بإرجاع اليهود إلى أرض الميعاد بعد طرد "الغرباء" منها، حتى باتت أصداء أساطير التوراة تتردد في أعمال هذه النخبة من فلاسفة وكتاب أوروبا .
وتماهيا في أساطير التوراة ارتكزت عقيدة الصهيونية المسيحية في النظرة لليهود على ثلاثة أمور هي: أن اليهود هم شعب الله المختار، وهم الأمة المفضلة على بقية الأمم والشعوب. وأن هناك ميثاقاً إلهياً ووعداً مقدساً يربط اليهود بالأرض المباركة فلسطين، وإنّ هذا الميثاق والوعد أعطاه الله تعالى لإبراهيم ونسله، وخاصة يعقوب (إسرائيل) بن إسحاق، وهو ميثاق أبدي.ثم ربط الإيمان المسيحي بعودة المسيح ونزوله إلى الأرض بقيام دولة يهودية صهيونية في فلسطين.
وقد نتج عن هذا التهويد للبروتستانتية أن تبنت بريطانيا منذ سنة 1600 استراتيجية رسمية رفعتها إلى مستوى المهمة المقدسة، تقضي ببذل كل الجهود لتمكين يهود أوروبا من الهجرة إلى فلسطين باعتبار ذلك يتوافق مع العقيدة الألفية ويمهد لعودة المسيح...
وفي سياق هذا التحول وجه سنة 1649م من هولندا عالما اللاهوت التطهريّان الإنجليزيان: جوانا، وأليندز كارترايت مذكرة إلى الحكومة البريطانية عبّرا فيها عن مدى التحوّل في النظرة اللاهوتية إلى فلسطين والقدس من كونها أرض المسيح المقدسة التي قامت من أجلها الحروب الصليبية إلى كونها وطناً قومياً لليهود، كما عبرّا عن التحول من الإيمان بأنّ عودة المسيح يجب أن تسبقها عودة اليهود إلى فلسطين، وأنّ العودتين لن تتحققا إلا بتدخل إلهي إلى الإيمان بأنّ هاتين العودتين ممكن أن تتحققا بعمل بشري".
ثم توالت طيلة القرن السابع عشر التفسيرات والتأويلات والقراءات للأحداث الدينية والسياسية والعسكرية الكبرى في العالم باعتبارها "علامات على اقتراب موعد الألفية ونزول المسيح". وتسابقت القوى الغربية الكبرى في ذلك القرن، بروتستانتية كانت أو كاثوليكية، إلى خطب ود اليهود ودعتهم إلى العيش بين ظهرانيها طمعا في تحويلهم إلى المسيحية والظفر بشرف قيادتهم بعد ذلك إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل، وكأن تلك القوى كانت تعد لحرب صليبية جديدة بعد زمن مضى على نهاية الحروب الصليبية"، فصارت بريطانيا وفرنسا تحلمان بإحياء دورهما المعروف في قيادة تلك الحرب، ولكن هذه المرة بمعية اليهود الذين اعتبرهم لوثر أبناء الله وأحباؤه !
وفي خضم هذا الانقلاب الديني الجذري في نظرة المسيحية لليهود لم يتأخر بعض أحبار اليهود عن استغلال دعاوى تلك المسيحية اليهودية داخل البروتستانتية، فركبوا موجة العقيدة الألفية في
صيغتها المسيحية، وشددوا على دعاوى نحلة البيوريتانية الإنجليزية الداعية إلى اعتبار إنجلترا " المؤقتة" تمهيدا للرحلة إلى إسرائيل الدائمة. ولهذا الغرض كتب الحاخام الأكبر لأمستردام كتابه أمل إسرائيل، أواسط القرن السابع عشر، يخطب فيه ود بريطانيا العظمى ويشجعها للمضي قدما في تنفيذ مشروعها المسيحاني المشار إليه، بل لقد كان من المتوقع لهذا الاكتساح الذي حققته المسيحية الصهيونية، في الفضاء الديني الأوروبي، أن نجد صداه ليس فحسب لدى الطبقة السياسية والفئات الاجتماعية العادية، بل إن أثر التغلغل للمفاهيم التوراتية ولذلك الغزو العبراني، قد مس الفضاء الفكري والفلسفي الأوروبي طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وبهذا المعني يمكن القول إن المسيحية اليهودية (الصهيونية) أصبحت مع نهاية القرن الثامن عشر تيارا راسخا في الثقافة الغربية، إلا أنها منذ ذلك التاريخ تحولت من ميدان اللاهوت والفلسفة والأدب إلى ميدان السياسة ولذلك لن يتأخر نابليون بونابارت في حملته على الشام سنة 1799 عن استغلال ما غرسته العقيدة الألفية والمسيحية اليهودية، فقام يدعو اليهود إلى المساهمة في تمويل حملته تلك والانضمام إليه واغتنام هذت العرض الثمين الذي تقدمه فرنسا الثورة ليهود العالم بإقامة دولة لهم فوق أرض فلسطين معلنا لهم أن المسيحيين الأحرار أدركوا أن اليهود، "سيعودون إلى صهيون وهم يغنون" بعد طرد الدخلاء وأن العناية الإلهية أرسلت نابليون لإتمام هذه المهمة وتحقيقها على أرض أورشليم وأمام هذا الاندفاع والتحرك العملي الفرنسي الذي لن ينتهي مع فشل حملة نابليون، أسرعت بريطانيا، خاصة بعد انتعاش الحركة الإيفانجيلية البيوريتانية، لمعاودة المحاولة، فقامت شخصيات نافذة في المجتمع البريطاني لحمل الدولة على تبني المشروع الصهيوني في صيغته السياسية، وكان على رأس هؤلاء اللورد شافتيسبري زعيم "المبشرين" الذي "جعل كل همه إقناع الإنجليز بأن اليهود حجر الزاوية من أجل الأمل المسيحي في الخلاص" معتبرا في مقال كتبه سنة 1839 أن فلسطين "بلاد بدون أمة، لأمة بدون بلاد" ! وهو الشعار الذي سوف تقتبسه فيما بعد الصهيونية اليهودية وتعيد صياغته هكذا: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" فهو شعار مسيحي قبل أن يكون شعارا صهيونيا. وسرعان ما تبنت بريطانيا هذا المشروع وجعلت رأس حربته أول قنصلية لها افتتحتها في القدس سنة 1838، ثم توالت المشاريع والدعوات الرسمية والاستطلاعات الميدانية لتحقيق مشروع عودة اليهود إلى فلسطين.
بل إنها عندما بدأت فكرة الوطن اليهودي تتبلور سياسيا، وصدر وعد بلفور لصالحها، تلقف أغلب السياسيين الأميركيين الفكرة، وتعاملوا معها بمنطق الاعتقاد الديني الراسخ, ومن أمثلة ذلك خطاب ألقاه رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي (هنري كابوت لودج) في مدينة (بوسطن) عام 1922، حيث قال في الخطاب "إنني لم أحتمل أبدا فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين.. إن بقاء القدس وفلسطين المقدسة بالنسبة لليهود، والأرض المقدسة بالنسبة لكل الأمم المسيحية الكبرى في الغرب، في أيدي الأتراك، كان يبدو لي لسنوات طويلة وكأنه لطخة في جبين الحضارة من الواجب إزالتها"
وتكشف معطيات التاريخ إلى أن الحراك نحو بلورة إجابة على المسألة اليهودية اقترن بتلك المساعي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بتبني المفهوم القومي القائم أساساً على توحيد اللغة والأرض. أي الدولة القومية التي تقوم على أرض محددة وحدودها واضحة. وكان عليها أن تعيد تعريف اليهود واليهودية بالمفاهيم الأوروبية القومية العلمانية السائدة، أي أن تموضع نفسها جغرافياً.
وبحثا عن جغرافيا تخدم ذلك المشروع، ناقش المؤتمر الصهيوني السادس، أهم الادعاءات لتبرير خيار الوطن القومي في فلسطين وهي أن «لا صهيونية من دون صهيون.» وبرر ماكس نورداو، أحد مؤسسي المنظمة الصهيونية العالمية، اختيار فلسطين موقعاً للاستيطان هو كون الاسم (صهيون) بحد ذاته يُعتبر أسطورة ذات سطوة وقوة كبيرين «وصرخة عظيمة تجمع اليهود.»
إن هوس المسيحية الصهيونية بما يسمى الألفية خلق تيارا واسعا تشرب بوعي مزيف لا أساس له، ولذلك جرى الاستثمار الديني ثم السياسي في اليهود لتحقيق خرافات التوراة التي كُتبت بعد قرون من نفيهم إلى بابل محملا بكل الأوهام والخرافات، لكن هناك مع ذلك من يتاجر بتلك الأوهام، حتى لو كان بعض محتواة مجرد خرافات..
















الفصل الثاني : بلورة مشروع صهيوني استعماري
أولا: مناخ أوروبي ساهم في نشأة الحركة الصهيونية
ثانيا: شعار الصهيونية.. والوازع الديني وربط ذلك بالعودة لفلسطين.
ثالثا: مؤتمر بازل وبلورة مشروع صهيوني كولنيالي.
رابعا:المشروع الصهيوني رأس حربة للقوى الإمبريالية.













مناخ أوروبي ساهم في نشأة الحركة الصهيونية
كان لظهور الصهيونية في ذلك السياق الأوروبي الذي تميز بنزعة قومية متعاظمة سادت القارة في القرن التاسع عشر نتيجة لقيام الدول الوطنية في القرنين السابع عشر والثامن عشر وما رافقها من حروب دموية، شغل الانتماء القومي ركنا أساسيا في التعبئة من أجلها، وقيام كيانات وطنية قومية الهدف السياسي أساسي لها . بأن لعب دورا في تبني المفهوم القومي القائم أساساً على توحيد اللغة والأرض. أي الدولة القومية التي تقوم على أرض محددة وحدودها واضحة.
فقد تميزت سنوات أواسط القرن التاسع عشر بانتشار الأفكار التحررية وقيم المساواة والحرية، مثلما عبّرت عنها الثورة الفرنسية من ناحية، لكن أعوزها من ناحية أُخرى التيقن من تحقيق هذه الأفكار على أرض الواقع الأوروبي، إزاء نمو الفكر القومي؛ وازدهار وتطور المشاريع الكولنيالية التي من خلالها سيطرت أوروبا على معظم أجزاء الكرة الأرضية.
وراجت فيه الأفكار الليبرالية والعلمانية، وشهد، مقارنة بالعالم الإقطاعي، عملية انحسار الدين من الحيز العام ‏إلى‏ الحيز الخاص وبناء مفهوم جديد للأمة والدولة. ففي العالم الإقطاعي، كان هناك دين للدولة، والمشاركة السياسية كانت محصورة في فئات اجتماعية/اقتصادية معينة، ومن ثم كان عالم السياسة مقفلاً أمام معظم فئات الشعب، وكانت المكانة الاجتماعية/ الاقتصادية تجر وراءها مكانة سياسية. وكذلك الأمر مع الدين، إذ كان لكل فئة دينية قانون يحكمها، ولذلك لم يكن الدين قضية فردية، وإنما قضية الحيز العام. أمّا الثورة الفرنسية، فكان من نتائجها أنها أرست، على الأقل نظرياً، نظاماً سياسياً جديداً ونظاماً اقتصادياً جديداً، وأجرت عملية «خصخصة» للدين وللملكية. فأصبح الانتماء الديني مسألة خاصة، وكذلك الملكية، فأضحى الولوج الفردي والجمعي إلى عالم السياسة مفتوحاً أمام الجميع، ولم تعد الملكية حاجزاً أمام المشاركة السياسية، ولم يعد الدين كذلك.
وكان ذلك المناخ مناسبة لتفكر الحركة الصهيونية في جمع شتات اليهود عبر العالم بعد أن كان قد نزع عنهم صفة الأمة وحرمهم من إقامة كيان أو كيانات سياسية تضمن لهم التميز من الناحية الاجتماعية، وتبعد عنهم خطر الذوبان داخل المجتمعات الأوروبية التي كانوا يعيشون داخلها أقليات تعاني التهميش والاحتقار، وتبقى على هامش الحياة السياسية الاقتصادية.
ذلك أنه ضمن ذلك المفهوم الأوروبي الجديد لم يعد الوجود اليهودي على ضفاف المجتمع المسيحي الأوروبي وهوامشه أمراً مفروغاً منه، وأصبح هناك ضرورة لأن يعرّف اليهود عن أنفسهم من جديد.
وكان للانفتاح على اليهود الذي انطوى عليه النظام الجديد، حتى لو كان نظرياً، وضعهم في مشكلة حقيقية، إذ إنه حتى ذلك الوقت لم يكن هناك حاجة إلى أن يعرّف اليهود عن أنفسهم، أمّا وقد اكتشف اليهودي أن في استطاعته أن يخرج من جماعته الأصلية (اليهود) إلى‏ المجتمع الجديد وأن ينخرط فيه، طفت إلى‏ السطح مسألة الهوية اليهودية ومعناها في المجتمع الأوروبي.
إلاّ إن العالم الأوروبي الجديد لم يكن يقوم على الفكر الليبرالي وقيم الحرية فقط، بل كان أيضاً عالماً قومياً بامتياز من بسمارك في ألمانيا إلى‏ غاريبالدي في إيطاليا، فالمجتمع الأوروبي لم يكن يعيد إنتاج مفاهيمه ومجتمعه الجديد من خلال الأفكار الليبرالية فحسب، بل‏ من خلال المفاهيم القومية أيضاً.
وفي هذا المجال تأثرت الصهيونية بالفكر القومي الشرق أوروبي الذي نما وتطور شرقي نهر الراين، الذي كان مختلفاً عن الفكر القومي الذي نشأ غربي الراين. ففي غرب أوروبا، وفي فرنسا بالتحديد، جرى بناء فكرة الأمة على الجغرافيا السياسية، وسبقت فيها الدولة وجود الأمة، أي أن الدولة كانت قائمة، وحدودها معرّفة، وفي واقع الأمر هي التي قامت بتعريف الأمة وبتحديدها تحديداً جغرافياً. وكان المشروع الفرنسي – الغربي للأمة مشروعاً تراكمياً اندماجياً يشارك فيه كثير من الفئات الإثنية التي جاءت من أصول متعددة، وهو لا يشترط لبناء الأمة أي انتماء عرقي مسبق، بل إن الاندماج في الأمة هو طوعي وفردي. أمّا في النموذج الشرق الأوروبي (ألمانيا؛ إيطاليا؛ روسيا؛ البلقان)، فإن المشروع القومي هو في الأساس مشروع مبني على أساس عرقي – لغوي – وشائجي تسبق فيه القومية وجود الدولة، فهي التي تقيم الدولة، وهي قائمة – أو هكذا يخيل إليها – قبل الدولة وبعدها. وما الدولة، ضمن هذا المنظور، سوى أداة للمشروع القومي. فهي دائماً في خدمة القومية، وخاضعة لتحقيق أهدافها.
جاءت الصهيونية لتجيب عن المسألة اليهودية –مسألة معاناة اليهود وملاحقتهم وصعود اللاسامية– بالأدوات المفاهيمية ذاتها التي كانت سائدة في أوروبا، وخصوصاً في شرقها، وتبنّت عالم المفاهيم القومي (والليبرالي) نفسه (وأحياناً تبنّت المقولات اللاسامية ذاتها في خطابها)، القائم أساساً على توحيد اللغة والأرض.
فالدولة القومية دولة تقوم على أرض محددة وحدودها واضحة. وإذا أرادت الصهيونية أن تعرّف عن نفسها بصفتها صاحبة مشروع قومي، كان عليها أن تعيد تعريف اليهود واليهودية بالمفاهيم الأوروبية القومية العلمانية السائدة، أي أن تموضع نفسها جغرافياً .
كان موسى هيس (Moussa Hess) في طليعة العناصر النخبوية اليهودية التي أسهمت في انطلاقة الحركة الصهيونية، وفي رسم هدفها المركزي بتقوية الروابط الدينية بين اليهود المنتشرين في غير بلدٍ في العالم. ففي كتابه «روما والقدس» الذي أصدره العام 1862، لم يتطرَّق هيس إلى قيام دولة يهودية ولكنه بحث السبل المثلى لتحقيق أحلام اليهود في إقامة نظام اجتماعي في فلسطين. فهو يرى أنَّ مثل هذا النظام ينسجم مع الوظيفة اليهودية في قيادة العالم، وهي الوظيفة التي خصَّ بها الله اليهود في التاريخ. وحسب زعمه «إنَّ أوامر الله لليهود هي تطبيقهم القانون الذي أرسلهم الله ليعلّموه للشعوب الأخرى، وإنَّ أقسى عقوبة فرضت عليهم كانت لانحرافهم عن الطريق الذي وضعته العناية الإلهية. أما عجزهم عن عبادة الله كأمّة متكاملة فكان بسبب فقدهم لأرضهم."
وقَّف هيس عند أرض فلسطين ليس فحسب بوصفها أرضاً تتسم بخصوصية تاريخية بالنسبة إلى اليهود، وإنما أيضاً بوصفها موقعاً جيو - استراتيجياً من حيث أنها تمثّل الطريق الرئيس والمركز الجغرافي المهم للمدنية الغربية على الطريق المتجهة إلى الهند، وحتى يتمكَّن اليهود من تحقيق مركز لهم على هذا الطريق لا ينقصهم المال والكفاءات أو العمال وغيرهم.
وأشار هيس إلى أنّ قيام دولة يهودية في فلسطين «سوف يحقِّق الرسالة الحضارية لليهود في نقل الحضارة إلى الشعوب المتخلِّفة في آسيا وإفريقيا، وأنّ ذلك سيكون من خلال تأسيس المستوطنات اليهودية عبر رقعةٍ ممتدة من السويس إلى القدس، ومن نهر الأردن حتى البحر المتوسط».
وارتدى مشروع الدولة اليهودية مع الكاتب اليهودي "نورمان بنتويتش" (Norman Bentwitch) في فلسطين – قلب الشرق الأوسط – أهمية جيوبوليتيكية بحكم خصوصية الموقع الفلسطيني كنقطة ارتكاز لمجال حيوي يربط بين شبه الجزيرة العربية ومصر وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. والمعروف أنّ هذه المناطق تتميَّز بحضارات تاريخية شكّلت تقاطعات لحضارات عالمية. فقد أوضح بنتويتش هذه الخصوصية لفلسطين إلى القادة الإنكليز مظهراً لهم الدور الذي يمكن أن تقوم به دولة يهودية في المستقبل.
مع مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان مشروع الدولة اليهودية قد عرف بعض الترجمة الميدانية عندما بدأ المليونير اليهودي «روتشيلد» يغذِّي اليهود بتأسيس مزارع في فلسطين، ثم تبعته مؤسسات مالية أخرى في عدة دول من العالم من أجل تشجيع الهجرة الزراعية تمهيداً للاستيلاء على الأراضي في فلسطين. كما عمل المفكِّرون اليهود على تكثيف الدعاية الإعلامية التي تحرِّض على هجرة اليهود إلى فلسطين عبر حملات دعائية منظمة قامت بها جمعيات ومؤتمرات عديدة لتحقيق الحلم الذي كان يراود اليهودي، وبخاصة البائس
والمضطهد والمنعزل داخل أسوار «الغيتو» في بلدان أوروبا، في المجيء إلى فلسطين ليعمل في الأراضي الزراعية تمهيداً للاستيلاء عليها بعد طرد سكانها الأصليين.
من بين الجمعيات التي راحت تُؤلب الرأي العام اليهودي للهجرة إلى فلسطين، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت «محبي صهيون»، التي أنشأها كتّاب وطلاّب جامعيون في روسيا وعمّال يهود العام 1867، وكذلك جمعية أخرى ناشطة في أوكرانيا كانت قد أرسلت أول فوج من مهاجري يهود أوروبا الشرقية إلى فلسطين العام 1882 .
ثانيا:" شعار الصهيونية.. لربط ذلك بالعودة لفلسطين.
عند ذكر الحركة الصهيونية يجرى في الذهن استدعاء اسم الكاتب والصحفي السويسري تيودور هرتزل، كونه منشئ الحركة الصهيونية، لكن رغم الدور المركزي لهرتزل في المشروع الصهيوني، إلا أن ابتكار مصطلح "صهيونية" يعود للصحفي السويسري ناتان بيرنبون، الذي كان وراء ابتكار ذلك المصطلح عام 1890. وكان بيرنبون زميل هرتزل يؤكد أن "مصطلح الصهيونية يعني النهضة السياسية لليهود بعودتهم الجماعية إلى فلسطين، أو بمعنى آخر إعطاء مضمون سياسي وقومي لليهودية .
وكانت أيضا جمعيات يهودية قد نشأت تحت اسم أحباء صهيون"أو هواة صهيون ،ترجمة للاسم العبري “حوفيفيتسيون” في روسيا سنة 1881 بعد صدور قوانين أيار/مايو التي فرضت قيوداً على الأقلية اليهودية هناك بين عامي 1881 -1883، وعلى حركة المهاجرين اليهود من روسيا وبولونيا ورومانيا إلى فلسطين (الهجرة الأولى 1881 – 1904). وكان هدف حركة أحباء صهيون محاربة اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، و”العودة إلى صهيون”. وقد اتخذت شعاراً لها “إلى فلسطين ”ودعت إلى الاستعداد للهجرة لشراء الأراضي فيها، ومساعدة الاستيطان اليهودي هناك. وكانت حركة أحباء صهيون همزة الوصل بين ما أطلق عليه “طلائع” الصهيونية في منتصف القرن التاسع عشر وبداية الصهيونية السياسية مع ظهور تيودور هرتزل وانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في سنة 1897.
لكن مصطلح الصهيونية بمدلوله السياسي جاء في مقال نشر عام 1890، للكاتب اليهودي النمساوي "ناثان بيرنباوم" في مجلة "الانعتاق الذاتي"، مُستخدِما لفظة جديدة على قُرَّائه في ذلك الوقت لكنها لم تكن لفظة اعتباطية، إذ لم تمضِ سبع سنوات فقط حتى تبلور هذا المصطلح في بازل بسويسرا عام 1897 على يد اليهودي النمساوي الآخر "تيودور هرتزل"، الذي استخدم لفظة "الصهيونية" التي صكَّها "ناثان" ليعقد المؤتمر الصهيوني الأول بعد عام واحد من صدور كتابه "الدولة اليهودية"؛ داعيا فيه إلى هجرة اليهود نحو فلسطين وإقامة أرض إسرائيل التي ستحل مشكلة الأقليات اليهودية في الشتات.
ما نعرفه اليوم جيدا أن تلك اللحظة كانت بداية المشروع الاستيطاني الصهيوني، الذي انتهى بدولة إسرائيل المُقامة على أنقاض فلسطين، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أيضا أن اللحظة نفسها هي التي دشَّنت حكاية الصراع اليهودي الداخلي بين اليهود المتدينين وبين الصهيونية، قبل النكبة، وقبل الهجرات اليهودية إلى فلسطين، وقبل وعد بلفور، وقبل حتى أن يعرف "بلفور" أنه سيُقدِّم وعدا لليهود بشيء ما في أرضٍ ما. وكان كثير من اليهود المتدينين قد رفضوا الفكر الصهيوني منذ بدايته، بل وحاربوه واعتبروه ضارًّا بمصالحهم في العالم، وأدرك زعماؤهم أن الصهيونية حركة علمانية، ليس فقط لعلمانية مؤسسيها، وإنما لمعارضتها الصريحة لاعتقادهم في مملكة إسرائيل التي سيُقيمها لهم "الماشيح" المنتظر .
ومع ذلك، فإن هرتزل هو أبو الحركة الصهيونية وصاحب مشروع الدولة اليهودية التي تحدث عنها بإسهاب في كتاب أصدره عام 1896 وحمل عنوان "الدولة اليهودية" بسط فيه أفكارا عملية فعالة سيكون لها إسهامها الكبير في إنجاح المشروع لاحقا. وتمحورت هذه الأفكار حول تهجير اليهود إلى فلسطين، والتعبئة من أجل القضية اليهودية عبر العالم، ثم تجنيد الأوساط اليهودية خلف فكرة الدولة اليهودية التي لم تكن ذات أهمية لدى فئات واسعة من اليهود .
وقد انطلقت الصهيونية العالمية كحركةٍ سياسية إيديولوجية وثيقة الصّلة بالمشاريع الاستعمارية المعاصرة، إلاّ أنّ حُلم إيجادِ وطنٍ قوميّ لليهود في العالم لا يمكن تحقيقه ولا التعبئة له إلاّ بدغدغة العواطف الدينية لليهود لإقناعهم بالهجرة إلى تلك الأرض، ولم تجد إلاّ أسطورةً في التوراة المحرَّفة بأنّ الله وعد بني إسرائيل بأرض الميعاد، وهي فلسطين على لسان سيّدنا إبراهيم عليه السلام .














ثالثا: مؤتمر بازل وبلورة مشروع صهيوني كولنيالي.
جاء عقد المؤتمر الصهيوني الأول تتويجا للحراك اليهودي الصهيوني والصهيوني المسيحي والقوى الاستعمارية آنذاك، وبعد عام من نشر الصحافي النمساوي تيودور هرتزل الذي اعتُبر «تيودور هرتزل»، بحق بمنزلة الأب الروحي للحركة الصهيونية، والمؤسس لمشروع الدولة اليهودية وفق مقولات فكرية أيديولوجية وسياسية. شملها عام 1896 كتابه «الدولة اليهودية» الذي قال فيه إنّ فكرة هذه الدولة ليست بالطارئة أو الجديدة، وإنما هي «فكرة موغلة في القدم، وهي فكرة استعادة الدولة اليهودية".
وأراد هرتزل بذلك أن يُضفي على مشروع الدولة بعداً تاريخياً من أجل تقديم مسوّغ تبريري لكون استعادة هذه الدولة هي بمنزلة «حق تاريخي» لليهود. ولمّا كانت الدولة متماهية مع القومية فإنَّ قومية اليهود «لا يمكن أن تفنى ولن تفنى ولا ينبغي لها أن تفنى. وقد تبلى فروع كثيرة من اليهودية وتسقط أما الجذوع فإنها تبقى ثابتة» .
في الواقع، ربط هرتزل أيديولوجياً بين ثلاثة أبعاد لدولته اليهودية: الأول، البعد الاجتماعي من خلال التوجُّه إلى يهود الطبقات الدنيا في السلّم الاجتماعي الأوروبي، والثاني، البعد الديني التوراتي، في محاولة لاستحضار مقولتي «أرض الميعاد» و«شعب الله المختار»، وإظهار أنَّ استعادة إحياء الدولة اليهودية هي مسألة تكليف إلهي، والثالث، البعد القومي على اعتبار أنّ اليهود، على الرغم من توزيعهم في الشتات، هم شعب واحد. فقد جاء في قوله: «أعتقد أنّ المسألة اليهودية لم تعد مجرد مشكلة اجتماعية بقدر ما هي قضية دينية، ومع ذلك قد تتخذ أشكالاً أخرى، إنها قضية قومية يمكن حلُّها فحسب عندما تعالج كقضية سياسية عالمية تناقشها
شعوب العالم المتحضِّر في مجلس دولي. إننا شعب.. وشعب واحد».أما مرتكزات قيام الدولة اليهودية فقد حدّدها هرتزل بثلاثة أساسية:
الأول، السيادة اليهودية على جزء من الأرض، يكون كافياً للاحتياجات الحقيقية للأمة. وبعد ذلك يعود الأمر إلى اليهود بتقدير الجغرافيا السياسية للدولة – الأمة على قاعدة أنّ الأرض هي الأساس الموضوعي للدولة في حين يمثل الشعب الأساس الذاتي.
الثاني، النخبة السياسية التي تتولَّى التخطيط وإجراء المباحثات والتفاوض، وهي عبارة عن جمعية سوف تنال اعتراف الحكومات العالمية بوصفها سلطة لإقامة الدولة.
الثالث، الشركة اليهودية التي تمثِّل الشرط الاقتصادي لإقامة الدولة، وعليها يتوقَّف توفير رأس المال وتحقيق المصالح المالية لليهود الوافدين، وسوف تُنظم الاقتصاد والتجارة في الدولة الجديدة.
وبالنسبة إلى الأرض التي ستنشأ عليها الدولة أو بالأحرى الجغرافية السياسية للدولة اليهودية، فقد حسم هرتزل الجدل عندما أعطى الأولوية لفلسطين على الأرجنتين حيث جاء في قوله: «إنّ الأرجنتين من أكثر بلاد العالم خصوبة، وهي تمتد على مساحات شاسعة وفيها عدد قليل من السكان، ومناخها معتدل. وجمهورية الأرجنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها.. أما فلسطين فإنها وطننا التاريخي الذي لا تُمحى ذكراه، إنّ اسم فلسطين بحدّ ذاته سيجتذب شعبنا بقوة ذات فعالية رائعة. فإذا منحنا جلالة السلطان فلسطين سنأخذ على عاتقنا بالمقابل، تنظيم مالية تركيا. ومن هناك سوف نشكِّل جزءاً من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية. وعلينا – كدولة طبيعية – أن نبقى على اتصال بكل أوروبا التي سيكون من واجبها أن تضمن وجودنا».
في خاتمة كتابه يطلق هرتزل نداءً إلى يهود العالم يخاطبهم بالقول: «فيا إخواننا اليهود هذه هي «أرض الميعاد»! لا أسطورة هي ولا خدعة، وكل إنسان يستطيع أن يختبر حقيقتها بنفسه، لأن كل إنسان سيحمل معه قطعة من أرض الميعاد: بعضها في رأسه، وبعضها بين ذراعيه، وبعضها في ملكيتها المكتسبة».
هكذا وضع هرتزل الأساس الأيديولوجي لدولته اليهودية، وهو أساس مزج بين التوراتي التاريخي من جهة، والقومي العلماني من جهة أخرى. فهو أعار أهمية بالغة للاعتبارات الدينية، إلا أنها اعتبارات لم تخرج عن كونها وسيلة ضرورية للتعبئة والشحن النفسي ليهود العالم من أجل دفعهم تحت توهَّج الحرارة الدينية إلى الهجرة باتجاه فلسطين. وقد أوضح هرتزل هذه الوسيلة عندما أناط وظيفة الهجرة برجال دين أي بحاخامات يهود يتولَّون قيادة المجموعات المهاجرة. إنّ «كلَّ مجموعة سيكون لها حاخامها يسافر مع رعيته. وسوف تتشكَّل المجموعات المحلية في ما بعد تشكيلاً تطوعياً حول حاخاماتها، وسوف يكون لكل مجموعة محليَّة قائدها الروحي». وعن وظيفة هؤلاء الحاخامات أوضحها هرتزل بالقول: «إنّ حاخاماتنا الذين نوجِّه إليهم دعوة خاصة سيكرِّسون طاقاتهم في خدمة فكرتنا، وسيحفزون رعاياهم بالوعظ من فوق منابرهم.. فدعوة كهذه جديرة بأن يتردّد صداها بين جدران المعابد».
هذه الوظيفة الوعظية لمدرسة المعابد هي وظيفة مكيافلية من حيث أنّها وسيلة في خدمة الغاية أو الهدف الأعلى الذي يتمثّل بإقامة الدولة اليهودية وغير الدينية حسب هرتزل نفسه. فالدولة الدينية باتت من الماضي في التاريخ الأوروبي، وباتت ظاهرة أخرى مسيطرة في أوروبا والعالم هي ظاهرة الدولة القومية العلمانية. لذلك يتساءل هرتزل: «هل سننتهي إلى حكومة ثيوقراطية؟»، ويجيب على الفور: «لا بالتأكيد. إن العقيدة تجمعنا والمعرفة تمنحنا الحرية. ولذلك سنمنع أي اتجاهات ثيوقراطية تتصدَّر قيادتنا من جانب الكهنوت. سوف نحصر كهنتنا داخل حدود المعابد، كما سنحصر بالمثل جيشنا داخل حدود معسكراته. ولسوف يتلقَّى جيشنا وكهنتنا منا كل احترام رفيع بقدر ما تستحقه وظيفتهما القيّمة، ولكنهما لا يجب أن يتدخلا في إدارة شؤون الدولة التي تُخلع عليها مكانة سامية، وإلا فسيجلبان علينا صعوبات في الداخل والخارج» .
وفي المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل في العام 1897 تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية واختير هرتزل رئيساً لها. طرح هرتزل في ذلك المؤتمر مشروعه الذي أصبح يحمل اسم "مشروع بازل". وجرى انتخاب لجنة تنفيذية مكونة من 15 عضواً ولجنة إدارية مصغرة مكونة من خمسة أعضاء. وكتب هرتزل في يومياته: "في بازل وضعت الأساس لدولة اليهود".
ويعتبر ذلك المؤتمر نقطة تحول هامة في تاريخ الحركة الصهيونية، وذلك يعود إلى نجاح هرتزل في تجميع التيارات الصهيونية المتفرقة في إطار تنظيمي واحد، والسعي لتحويل "القضية اليهودية" إلى قضية عالمية، مع التأكيد على أهمية "السير قدماً نحو تنظيم عملية بناء الوطن القومي اليهودي مستقبلاً".
وأعلن هرتزل أمام ذلك المؤتمر أن الهدف الأساسي هو "وضع حجر الأساس للبيت الذي سيسكنه الشعب اليهودي في المستقبل"، معلناً في الوقت نفسه أن الصهيونية هي "عودة إلى اليهودية قبل العودة إلى بلاد اليهود" .
واكتسبت الحركة الصهيونية اهتماما سياسيا وإعلاميا هاما في أوروبا والعالم مع انعقاد مؤتمرها الأول بين 29 و31 أغسطس/آب 1897 في مدينة بازل السويسرية.
وتوج المؤتمر أعماله بإعلان قيام الحركة الصهيونية العالمية وانتخب لها لجنة تنفيذية اتخذت من فيينا مقرا لها. وتعززت هذه المؤسسات بذراع مالية هي الصندوق اليهودي الذي تأسس بناء على مقررات المؤتمر الخامس عام 1901.
ويعتبر ذلك المؤتمر نقطة تحول هامة في تاريخ الحركة الصهيونية، وذلك يعود إلى نجاح هرتزل في تجميع التيارات الصهيونية المتفرقة في إطار تنظيمي واحد، والسعي إلى تحويل "القضية اليهودية" إلى قضية عالمية، مع التأكيد على أهمية "السير قدماً نحو تنظيم عملية بناء الوطن القومي اليهودي مستقبلاً".
الواقع أن أول مؤتمر صهيوني يهودي خالص، وهو الذي عقد في بازل سنة 1897، لم يكن في حقيقته إلا صدى واستجابة لحركة صهيونية حقيقية داخل الفكر المسيحي عامة، والفكر المسيحي البروتيستاني خاصة، هذا الفكر الأخير الذي عرف داخل بريطانيا تحالفا بين رجال الفكر ورجال السياسة بمعية كهنة "ومبشرين: عملوا جميعا على إخراج المشروع القديم الذي بشرت به المسيحية اليهودية. والجدير بالذكر أن من أشهر المنتسبين لهذه المسيحية المتهودة،
بعد وضوح صورتها الصهيونية، نجد وزير الخارجية البريطاني لورانس أوليفنت، ووزير خارجيتها أيضا جوزيف تشامبرلين ثم رئيس وزرائها اللورد أرثر بلفور، صاحب وعد بلفور الذي أضفى على عودة اليهود إلى فلسطين طابعا "شرعيا" وإلزاما أمميا! وحوّل ما كان مجرد أسطورة وعقيدة مسيحية متهودة إلى سياسة عملية وخطة تطبيقية تساهم فيها كل الأمم للإسراع بعودة المسيح !
وفي ذلك تنفيذ "لخطة الرب" هذه لمن كان يعتقد في صدقها، وتحقيق لمصالح اجتماعية لمن كان يرغب في إبعاد اليهود عن أوروبا، وتنفيذا لاستراتيجية استعمارية توسعية لمن كان يتطلع إلى إيجاد موطن قدم في المنطقة. ولا نعدم من كان يرى كل هذه الأهداف مجتمعة جديرة بالتنفيذ على أنقاض فلسطين وشعب فلسطين. وتلك صورة من صور علاقة الدين بالسياسة في أوروبا إلى مطلع القرن العشرين، مع ملاحظة أنه بالرغم من تضارب المصالح الأوروبية وهيمنة العلمانية على الفكر الغربي، إلا أن ذلك لم يكن يكف ليؤثر مطلقا في تنامي وترسيخ الولاء "للصهيونية" بين جميع الاتجاهات الغربية بما يفيده ذلك الولاء من العمل على توطين يهود العالم في فلسطين. وتلك بعينها استراتيجية العقيدة الألفية وجوهر المسيحية الصهيونية. ورأي هرتزل أن الهدف المركزي والمحوري للحركة الصهيونية هو إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين تحت حماية القانون العام. ولتحقيق ذلك الهدف على أرض الواقع يجب القيام بالخطوات التالية:
• تطوير منهجي لفلسطين بواسطة توطينها باليهود الذين سيعملون في الأرض والأشغال الحرفية الأخرى.
•إعادة تنظيم اليهودية وتوحيدها بواسطة مشاريع مفيدة محلياً وعالمياً بما يتناسب وقوانين كل دولة يعيشون فيها.
• تقوية وتعميق الشعور القومي اليهودي والوعي القومي- اليهودي. أعمال وخطوات تحضيرية لنيل موافقة الحكومات التي هي ضرورية لتسهيل تحقيق الهدف الأسمى.
والواقع أن جدلاً دار بين المشتركين في المؤتمر الذي صدر عنه مشروع بازل وذلك حول اعتماد كلمة (وطن) أو (دولة). ولكن استعمال مصطلح (وطن) كان عبارة عن سعي دبلوماسي لمنع إثارة مخاوف أطراف معينة، منها الدولة العثمانية. وكان جواب هرتزل نفسه حول هذا الموضوع بقوله: (لا داعي للقلق حول صياغة هذه الكلمة، فالناس سوف يفهمون،على أية حال، أنها تعني دولة). ومن جهة أخرى أضاف في مناسبة أخرى ما يلي: (لو كان علي أن اختصر مشروع بازل في عبارة واحدة، وهي التي لا أجرؤ على أن أعلنها علانية، لقلت لقد أوجدت في بازل الدولة اليهودية). كان مشروع بازل الذي صدر عن المؤتمر الصهيوني الأول ثمرة جهود كبيرة ومتواصلة قام بها هرتزل، من لقاءات مع زعماء دول كإمبراطور ألمانيا والقيصر الروسي والبابا ومحاولاته للقاء السلطان العثماني، ثم لقاءاته مع رؤساء حكومات ووزراء ودبلوماسيين أوروبيين، كل هذا في سبيل إثارة القضية اليهودية عالمياً، ليطرح مشروع سياسي يريد من الدول الأوروبية مجموعة أو واحدة منها تبنيه.
أما نص المشروع فوضع بصيغة محكمة لمنع أي احتكاك داخل الجاليات اليهودية المتفرقة في آرائها ومواقفها، وكذلك أخذ المشروع بعين الاعتبار حساسية المواقف الأوروبية.
إن نظرة عميقة نحو مشروع بازل تشير إلى البعد الاستعماري الذي يحتويه المشروع، فهو بهذا يتجاوب مع الرؤى الاستعمارية الأوروبية وعلى وجه الخصوص التلاقي الذي سيحدث مع النهج الاستعماري الإنكليزي.
ولم يتطرق المشروع إلى العرب ولو بذكر اسمهم، وهذا التغاضي مقصود كجزء من الفكر الاستعماري الذي يتعامل مع السكان الأصليين على أنهم منحطون حضارياً ولا قيمة لوجودهم على وجه الإطلاق، وهذا ما يمكن رؤيته بوضوح من خلال نص تصريح بلفور الذي تعامل مع السكان الأصليين الفلسطينيين على أنهم طوائف غير يهودية.
رابعا: المشروع الصهيوني رأس حربة للقوى الإمبريالية.
يشير مسار الأحداث إلى أن المشروع الصهيوني بدأ كجزء من المشروع الاستعماري للهيمنة على الوطن العربي، ذلك أن فكرة تأسيس “إسرائيل” في فلسطين برزت عندما بلغ التنافس بين بريطانيا وفرنسا ذروته للسيطرة على مصر وفلسطين والهند. وكانت حملة نابليون على الشرق واحتلال مصر وندائه عام 1799 لليهود بدعم حملته لإقامة "إسرائيل" في القدس، بعد فشله في احتلال عكا البداية الجنينية لبروز المشروع الصهيوني في فلسطين على يد أوروبا.
وقد ترافق ذلك مع صعود نجم محمد علي بصفته تهديداً ‏لقدرة أوروبا‏ الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية.
وبسبب ذلك المعطى نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة. والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف أسطورة إحياء دولة يهودية في فلسطين. وهذا جعل البعض يرى أن نشوء الحركة الصهيونية في الأساس جاء كاستمرار للمشروع الاستعماري، وتظهر فيه الصهيونية أيضاً ‏أداة في أيدي القوى الاستعمارية الكبرى .
وقد كشف هرتزل حقيقة ذلك المشروع عندما "اعتبر أن الدولة اليهودية الموعودة تمثل ’رأس حربة الثقافة ضد البربرية’ الآسيوية، وكان قادة المشروع الصهيوني كافة، شركاء في الأيديولوجية الأساسية تلك .
وتبنى هرتزل في كتابه «دولة اليهود» خطاب أوروبا القرن التاسع عشر الكولنيالي، الذي يقسم العالم إلى‏ أمم متحضرة وأخرى بربرية، ويضع المشروع الصهيوني بوضوح كجزء من المشروع الأوروبي الحضاري الكولنيالي ويكتب: «بالنسبة إلى أوروبا،‏ سنمثل جزءاً من السد أمام آسيا، سنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية. وسنبقى كدولة مستقلة متحالفين مع أوروبا‏ التي ستضمن في المقابل وجودنا.»















مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين.. نهاية الخرافة
الفصل الثالث:علماء ومؤرخين يهود يدحضون أساطير التوراة
أولا: الوعد الإلهي ميثولوجيا ..والتوراة تزوير للتاريخ.
ثانيا: مؤرخون يدحضون أسطورة الشعب اليهودي وخرافة العودة.
ثالثا: دحض مقولة شراء الأرض.(الاحتلال العثماني ودورة في تسرب الأرض للمؤسسات اليهودية.)
رابعا: مشروع كولنيالي إحلالي على حساب الشعب الفلسطيني صاحب الأرض.















أولا: الوعد الإلهي "ميثولوجيا" ..والتوراة تزوير للتاريخ

لم تكن الأسس التي أقيم على أساسها المشروع الصهيوني في فلسطين غير عادلة أو قانونية، وإنما في كونها اختلاق متعمد مع أن مروجيها قد أسبغوا على بعضها رداء إلهيا، وهذا التزييف باسم الإله كشفه علماء آثار ومؤرخون يهود (إسرائيليون)، ممن يعيشون أو عاشوا في فلسطين المحتلة، فعاشوا صدمة الحقيقة بعد أن اكتشفوا أن كل الأسس التي قام على أساسها المشروع الصهيوني في فلسطين هي مجرد أكاذيب ولا أساس لها في الواقع. وأن ما يسمى بالوعد الإلهي حسب التوراة ليس سوى أسطورة مختلقة، في حين أن الحركة الصهيونية قد رأت في التوراة الأساس الفكري الأهم لإقامة الدولة اليهودية. ولذلك جرت عملية فكرية واسعة لتعميق مفاهيم هذا الكتاب في الذهن الصهيوني، وتحويله من مجرد كتاب ديني إلى برنامج عمل، بعد ان كان المتدينون اليهود وطوال قرون يركزون على التلمود الذي يحوي التشريعات والشرائع الدينية ويخلو تقريبا من الأبعاد التاريخية.
غير أنه في إطار الترويج لمشروع الحركة الصهيونية اعتبر العرف الصهيوني أن "التوراة" مصدر للتاريخ، وفيه تكمن كل مبررات الادعاء اليهودي بالحق التاريخي في فلسطين. وجاء هذا الإحياء لهذا المصدر في الوقت الذي كانت فيه أغلبية الباحثين في هذا الحقل ترى في هذا الكتاب مجرد أساطير لا يمكن الاستناد إليها، لا في كتابة التاريخ القديم لفلسطين، ولا في منح الحق لليهود في فلسطين.
واعتبر الجمهور اليهودي، بغالبيته الساحقة، معطيات هذا الكتاب حقائق تاريخية غير مشكوك
فيها، لدرجة أنهم اعتبروا الباحثين الانتقاديين مجرد معادين للسامية .
في حين كتب الفيلسوف باروخ سبينوزا في القرن السابع عشر أن من، "الواضح كالشمس في عز الظهيرة أن خمسة أخماس التوراة لم تكتب على أيدي موسى، وإنما بيد شخص عاش بعده بسنوات كثيرة" .
ورأى عالم الآثار اليهودي زئيف هرتسوغ“ أن سكان العالم سيُذهلون، وليس فقط مواطنو إسرائيل والشعب اليهودي، عند سماع الحقائق التي باتت معروفة لعلماء الآثار الذين يتولون الحفريات منذ مدة من الزمن. فبعد الجهود الجبارة في مضمار التنقيب عن “إسرائيل القديمة” في فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، وهي أنه لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق يدل علي وجود اليهود في فلسطين، وحكايات الآباء التوراتية هي مجرد أساطير. لم نهبط من مصر، لم نحتل فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان. إن المكتشفات الأثرية أظهرت بطلان ما تضمنته النصوص التوراتية حول وجود مملكة متحدة يهودية بين داوود وسليمان في فلسطين "بل إن هرتسوغ جزم بصورة قاطعة بأن القدس لم تكن إطلاقا عاصمة مملكة كبيرة كما تذكر المزاعم التوراتية .
ونسف باحثان يهوديان هما بروفسور يسرائيل فنكلشتاين من قسم علم الآثار بجامعة تل أبيب، ونيل سيلبرمان عالم آثار أمريكي يهودي في كتاب بعنوان بدايات إسرائيل (ראשיתישראל)، قصص التوراة الأساسية مثل الخروج من سيناء وعجائب موسى ورحلة احتلال يشوع بن نون لأرض الميعاد إذ تبين مثلا أنها آثار هكسوسية وليست يهودية، بل ذهبوا إلى القول إنه على الأغلب الملك سليمان وداوود هما أسطورتان، مؤكدين أنه لا علاقة بين التوراة وأرض إسرائيل .
وذكر عالم الآثار ميشيل هوبينك أنّ علم الآثار في إسرائيل هو علم مشحون بالتوقعات، ومنذ القرن التاسع عشر، يجري التنقيب في الأرض للعثور على أدلّةٍ ملموسةٍ حول تاريخ الشعب اليهوديّ كما جاء في التوراة، لكن، بعد مرور قرن، لم تتوصل الحفائر إلى العثور على ما يؤكّد هذا التاريخ، بل على العكس من ذلك، تشير الدلائل إلى اتجاهٍ مُعاكسٍ .
وتوافِق غالبية علماء الآثار على أنّ معظم قصص التوراة لم تحدث بالفعل، ويجب اعتبارها مجرد أساطير، وحتى عالم إسرائيليّ مثل زئيف هرتسوغ، توصّل إلى قناعة بأنّ البحث عن أشياءٍ لا وجود لها ليس مُجديًا، كما قال.
والسبب الرئيس وراء عدم اقتناع معظم علماء الآثار بالحقيقة التاريخيّة لقصة خروج اليهود من مصر، كما وردت في التوراة، هو الغياب التّام لما يشير إلى وجود بني إسرائيل لدى المصريين القدامى، وتابع أنّ الفراعنة حافظوا على تاريخهم بكل عناية في النقوش والمخطوطات والمراسلات التاريخية، ولكن لا ذكر في تاريخهم أبدًا لمجموعة ضخمة تزيد عن مليوني إسرائيلي، جاء ذكرهم في التوراة، ولا عن رحيلهم المفاجئ، أوْ هزيمة الجيش المصريّ .
ويقول عالم الآثار هرتسوغ وكابن للشعب اليهودي، وكتلميذ للمدرسة التوراتية، فإنني أدرك عمق الإحباط النابع من الفجوة بين التوقعات وإثبات التوراة كمصدر تاريخي وبين الوقائع المكتشفة على الأرض .
وفي ألمانيا شككت مدرسة انتقاد التوراة ابتداء من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، في تاريخية القصص التوراتية وادعت أن التوصيف التاريخي التوراتي صيغ، وبقدر كبير "اختلق" في أيام النفي البابلي. وقال الباحثون في التوراة، وخصوصا الألمان منهم، إن تاريخ شعب "إسرائيل" كاستمرار أحداث، بدءا من أيام إبراهيم، وإسحق ويعقوب، مرورا بالهجرة إلى مصر، والاستعباد والخروج من مصر وانتهاء باحتلال البلاد واستيطان أسباط "إسرائيل" - ليست إلا استذكارا متأخرا للماضي، ذا هدف ديني.
بل إن الوثائق المصرية الكثيرة لا تذكر البتة مكوث بني "إسرائيل" في مصر، أو حادث الخروج من مصر، والترحال في الصحراء وجبل سيناء وتذكر هذه الوثائق فعلا العادة المعهودة عند الرعاة الرحل (الذين تسميهم شاسو) بالدخول إلى الأراضي المصرية في أوقات القحط والجوع والاستيطان على هوامش دلتا النيل. ولكن لم يكن هذا حدثا فريدا، فأحداث كهذه تقع كثيرا طوال آلاف السنين ولم تكن ظاهرة استثنائية. ورغم الأبحاث الحثيثة لم يتم اكتشاف ولو موقع واحد يمكن ان يتناسب مع الصورة التوراتية، كما أن قوة التقليد تدفع حاليا أيضا الباحثين إلى "اكتشاف" جبل سيناء في شمال الحجاز في جبل كركوم في النقب، وهذه الأحداث المركزية في
التاريخ "الإسرائيلي" لا تحظى بـتأكيد في أي شهادة خارج التوراة، أو في الاكتشافات الأثرية.
وخيبت نتائج فورة حفريات علم الآثار بعد حرب 1967 آمالهم التي لم تتطابق وتخيلات الـ"تناخ"!عندها، اقترح الباحثون التعامل مع قصص الآباء هذه على أنها مجموعة قصصيّة اخترعها باحثون لاهوتيون أكفّاء. وقد قضت الاستنتاجات العلمية لديهم بأنّه "إذا كان ثمة كيان سياسي قام في يهودا في القرن العاشر قبل الميلاد، فإن هذا الكيان هو مملكة قبلية صغيرة، لم يتعدَّ حجم القدس فيها حجم بلدة محصَّنة، ومن المحتمل أن تكون قد تطورت في هذا الكيان الصغير عائلة سُمِّيت آل داوود". وأنه لم يكن هناك على الإطلاق مملكة موحدة وعظيمة، وأنه لم تكن لدى الملك سليمان قصور فخمة وفسيحة ليُسكِن فيها سبعمائة زوجة" وعلى طريقته في نقض فكرة "الدولة اليهودية"، أقدم المؤرخ شلومو ساند على تقويض فكرة "المنفى وأن الشعب اليهودي أجلي عن بلاده بالقوة، كما يقول شموئيل عغنون إن "الشعب اليهودي أُجلي في أثر خراب الهيكل سنة 70 للميلاد..وفي قلبه أمل..في وطنه القديم" بأن رد ساند قائلا: "الرومانيّون لم يقوموا قط بنفي الشعوب..وهذه السياسة الشاذة لم تطبَّق في الشرق الأوسط" .
وفرّق ساند بين الانتماء لليهودية والإثنية؛ فاليهودية لم تنحصر في إثنية بعينها. فرجع إلى الأناجيل ليلتقط إشارات واسعة إلى عدم ثبات اليهودية في جنس واحد، فيُذكِّر بسفر زكريا، "فتأتي شعوبٌ كثيرة وأمم قوية ليطلبوا ربَّ الجنود في أورشليم، وليترضّوا وجه الرب"؛ (زكريا، الإصحاح الثامن)". وتحدث عن تهوُّد مملكة الحشمونائيم (القرن الثاني ق.م)، ومملكة حديب في القرن الثاني الميلادي شمال الهلال الخصيب، فكانت مملكة حوديب، هي الكيان السياسي اليهودي الأول خارج يهودا ولم تكن الأخيرة. واستوطن اليهود في الحجاز؛ في تهامة ويثرب وخيبر، وكان التبشير باليهودية في اليمن قد ساهم في القرون الأولى للميلاد بانتشار التهويد في اليمن "مملكة حمير"، ويأتي بمثال تهويد أهل مملكة الخزر، ما بين القرنين السادس والحادي عشر، بين جورجيا ونهر الفولغا، الذين ذكرهم الرحالة ابن فضلان والجغرافي الإطخري والمؤرخ المسعودي. لهذا سعى الصهاينة إلى طمس الخزر من ذاكرة التاريخ، وسجلت أفريقيا الشمالية إحدى نجاحات التهويد. ولم يبدأ التهويد بالتراجع، إلَّا مع بدء التضييق على اليهودية، وذلك بعد وصول المسيحية للسلطة مع الإمبراطور قسطنطين (ت272)، في القرن الرابع. فكانت اليهودية عابرة للأمم ولم تخصّ قومًا بحدِّ ذاته.
وعمل ساند على تفكيك الأسطورة الصهيونية عن شجرة أنساب اليهود المتسلسل لـ"الشعب اليهودي"، واتهمه نقاده الصهاينة بأنه حاول فصم علاقة اليهود بـ"أرض الأجداد" وجرّدهم من حقهم التاريخي، فرد عليهم بالقول إنه "لم يكن يتصور أن يكون هناك في مطلع القرن 21، من يُبرِّر إقامة دولة إسرائيل بالادعاء أنّها ’أرض الأجداد’".
وشرح ساند موضوع كتابه بالقول: حاولت أن أشرح في كتابي "اختراع الشعب اليهودي" كيف فبركت الحركة الصهيونية تاريخًا مزيفًا لليهود مبنيًا على فكرة الشعب اليهودي. وبيّنتُ أن هذه فكرة خاطئة ومجرّد خرافة، تمّ استعمالها من أجل تبرير الاحتلال الإسرائيلي، فالشعب بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي- الاجتماعي، هو مصطلحٌ يُطلق على مجموعة بشرية تجمعها ثقافة مشتركة مثل؛ اللغة والأدب والموسيقى وما إلى ذلك من الشروط الثقافية الأخرى. وهذا ما لا ينطبق على الشعب اليهودي الذي اخترعته الحركة الصهيونية" .

ثانيا: مؤرخون يدحضون أسطورة الشعب اليهودي وخرافة العودة.

هناك فرق تأسيسي بين نسبة دين معين إلى مجموعة بشرية باعتبارها شعب ذلك الدين، وبين ربط الدين بمعتنقيه معهما اختلفت إثنياتهم ، فمثلا هناك فرق بين مفهومي أتباع الدين اليهودي والشعب اليهودي، فالأول يحتوي التنوع العرقي والجغرافي، فيما الثاني يفترض أن مجرد الانتماء لذلك الدين فهو دليل على الوحدة العرقية.
وعلى أساس من هذه العلاقة روجت الحركة الصهيونية والمسيحية الصهيونية والاستعمار الغربي لمفهوم الشعب اليهودي، بخلاف المنطق والحقائق العلمية والتاريخية، وقد كشف المؤرخ اليهودي شلومو ساند هذا التدليس في سياق دحض أسطورة الشعب اليهودي أي خرافة الشعب اليهودي والعودة، كخرافة توراتية، بالعودة آلاف السنين إلى الوراء، ساعياً إلى إثبات أن الشعب اليهودي لم يكن أبداً "شعبا عرقيا" ذا أصل مشترك، وإنما هو خليط كبير ومتنوع لمجموعات بشرية تبنت خلال مراحل مختلفة من التاريخ الديانة اليهودية. وبحسب قوله فإن النظرة الميثولوجية(الأسطورة) إلى اليهود كشعب عريق أدّت بعدد من المفكرين الصهيونيين إلى تبني فكر عنصري تماماً.
أما علم الآثار فقد حسم أمر خرافات التوراة التي تذرعت بها الحركة الصهيونية والمسيحية الصهيونية وأوروبا الاستعمارية لزرع المستجلبين اليهود في فلسطين، فدحض عالم الآثار البروفيسور زئيف هرتسوغ عبره زيف ما يسمى الحق التاريخي "الإسرائيلي". ذاهبا إلى أبعد من مجرد دحض مقولات الشعب اليهودي وارتباط اليهود بفلسطين إلى التأكيد أن التوراة التي يتكئون عليها لاختراع شعب يهودي هي "ميثولوجيا، أي(أساطير) وتزوير للتاريخ. لأن (الحفريات تدحض خرافة الشعب اليهودي، وتؤكد أن لا تاريخ يهودي في فلسطين .
وقد أكدت عقود من البحث المحموم والحفريات الأثرية المكثفة في أرض فلسطين المحتلة كما كشف عالم الآثار البروفيسور زئيف هرتسوغ توصل علماء الآثار إلى استنتاج مخيف وهو أن: الأمر مختلق من الأساس. فأفعال الآباء هي مجرد أساطير شعبية، ونحن لم نهاجر لمصر ولم نُرحّل من هناك. ولم نحتل هذه البلاد وليس هناك أي ذكر لامبراطورية داوود وسليمان، والباحثون والمختصون يعرفون هذه الوقائع منذ وقت طويل، ولكن المجتمع لا يعرف .
ومن ثم فإن السؤال ماذا تبقى من هذه الخرافة إذا كان مصدرها هو التوراة كونها الأساس الفكري لإقامة الكيان الصهيوني بجعله من مجرد كتاب ديني إلى برنامج عمل وكمصدر للتاريخ للادعاء بالحق التاريخي في فلسطين، في حين أن أغلبية الباحثين في هذا الحقل ترى في هذا الكتاب مجرد أساطير لا يمكن الاستناد إليها. سواء في كتابة التاريخ القديم لفلسطين، أو في منح الحق لليهود في فلسطين. وقال البروفيسور زئيف شيف بصفته ابن للشعب اليهودي، وكتلميذ للمدرسة التوراتية، إنني أدرك عمق الإحباط النابع من الفجوة بين التوقعات وإثبات التوراة كمصدر تاريخي وبين الوقائع المكتشفة على الأرض .
ويخلص العالم زئيف هرتسوغ إلى أن التوراة "اختُلق" في أيام النفي البابلي، ذلك أن الحفريات في فلسطين لم تكتشف أي شهادة يمكن أن تؤكد هذا التسلسل التاريخي. بل إن الاكتشافات الكثيرة تقوض المصداقية التاريخية للوصف التوراتي .
فيما يقول المؤرخ شلومو ساند في كتابه "اختراع الشعب اليهودي" كيف فبركت الحركة الصهيونية تاريخًا مزيفًا لليهود مبنيًا على فكرة الشعب اليهودي. ويضيف ساند أنه بيّن أن هذه فكرة خاطئة ومجرّد خرافة، استعملت من أجل تبرير الاحتلال الإسرائيلي.
وفي مسار الإعداد لمشروعها احتلال فلسطين لجأت الحركة الصهيونية لاختراع أسطورتها القومية، بل واختراع الشعب نفسه تحت اسم "الشعب اليهودي"، وأضيفت إليه "الدولة اليهودية". إلى جانب ذلك، لاحظ أن هذه القومية "اليهودية"، التي وُلدت في شرقي أوروبا "المتخلّف" قياسًا لغربيّ أوروبا، كان "نجاحها" مشروطًا بمساندة "الأغيار"، فظلَّت الصهيونية ما بين العام 1897؛ منذ تاريخ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، تيارًا هزيلًا للغاية في صفوف الجاليات اليهودية في العالم. فلجأت إلى تحويل فلسطين إلى وطن قومي لكل يهود العالم. واستدعت الميثة التاريخية لتبني أيديولوجية "علمية" ملائمة؛ "فالوعد الإلهي لم يعد كافيًا لدعاة القومية العلمانيين. وإذا كان العدل لا يكمن في الميتافيزيقا الدينية، فعليه أن يكون مخبوءًا في البيولوجيا". وقد قال فيلسوفهم بيرنباوم: "ليست اللغة أو الثقافة هي
التي يمكن أن تفسِّر نشوء القوميات، وإنما فقط البيولوجيا". وأكد ماكس نورداو، رجل هرتزل المخلص، على الأمر نفسه، إذ قال "إن اليهود يشكلون بوضوح، شعبًا ذا أصل بيولوجي متجانس...تشده رابطة الدم". وأصبح العرق والأعراق النقية لدى جابوتنسكي، مصطلحين علميين. وقد استهدفت تلك البيولوجيا اليهودية تشجيع نزعة الانعزال عن الآخرين، بغية الحفاظ على الهوية القديمة، وللتطهير العرقي لاحقًا. وهذا التفسير يصبح مقبولًا عند حديث ساند عن طرد الفلسطينيين أثناء حرب 1948.
ويخلص المؤرخ شلومو ساند إلى القول إن اليهودية ديانة وليست قومية، واليهود لا يشكلون أمة واحدة وشعبا عالميا واحدا، ولا يشكلون مجموعة عرقية نقية، ولا وجود لعرق يهودي نقي على الإطلاق، وإنما هم من أجناس وأمم شتى شأنهم في ذلك كما أثبت علم السلالات شأن المسلمين والكاثوليك والبروتستانت.












ثالثا: دحض مقولة شراء الأرض.
(الاحتلال العثماني ودورة في تسرب الأرض للمؤسسات اليهودية.)

عندما جرى ترويج الحركة الصهيونية والمسيحية الصهيونية ودول الاستعمار الغربي لمقولة "أرص بلا شعب لشعب بلا أرض"، كأحد أكثر وأحط الأكاذيب في تاريخ الإنسانية، من أجل زرع المستجلبين الصهاينة في فلسطين، دل الشعار على أحد معنيين، أحدها ينفي وجود شعب فلسطيني من حيث المبدأ كصاحب للأرض وهو أول من عمرها، ومن ثم فإن القول بأنها أرض بلا شعب ينفه رد قوم النبي موسى عليه عندما قالوا له حسب الآية 22 من سورة المائدة "يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ " هذا من جانب، وقد يكون من رفعوا الشعار ممن يعرفون أن تلك الأرض فيها أهلها ولكنهم وفق نظرية العرق الأسمى والنغمة الاستعلائية الكولنيالية التي يتسم بها كثير من كتابات الصهيونيين الأوائل، وجود يماثل العدم ارتباطا بتلك النظرية.
فكتاب هيرتزل «البلاد القديمة الجديدة» مملوء بالتعابير التي تشير إلى‏ بدائية السكان الأصليين وهمجيتهم في مقابل تفوق الأوروبيين وحضارتهم. أمّا في كتابه «دولة اليهود» فإنه يتبنّى بوضوح نبرة وخطاب أوروبا القرن التاسع عشر الكولنيالية، التي تقسم العالم إلى‏ أمم متحضرة وإلى‏ أمم بربرية، ويضع المشروع الصهيوني بوضوح كجزء من المشروع الأوروبي الحضاري الكولنيالي ويكتب: «بالنسبة إلى أوروبا،‏ سنمثل جزءاً من السد أمام آسيا، سنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية. وسنبقى كدولة مستقلة متحالفين مع أوروبا‏ التي ستضمن في المقابل وجودنا.» ووفق تلك العقلية فإن وجود أهل فلسطين هي والعدم سواء.
لكن الشق الآخر من المعادلة أي الشعب الذي بلا أرض، فهو فعلا غير الموجود، ومن ثم فإن الحديث عن شعب يهودي هي مجرد "خرافة وأكذوبة" أكدها علميا علماء آثار ومؤرخون يهود (إسرائيليين).
ومع ذلك فهي في سياق عدم تصديق العالم تلك الرواية اخترعت الحركة الصهيونية أكاذيب أخرى كشراء الأرض أو أن الفلسطينيين غادروا أرضهم ولا غرابة أن يكذب الصهاينة عبر تلك الخرافات، كون وجودهم في فلسطين هو أكبر كذبة.
وخرافة شراء الأرض هي أحد الأكاذيب التي روجت لها وما تزال الحركة الصهيونية لإعطاء مشروعية لمشروعهم الكولنيالي في فلسطين، فالحركة الصهيونية مع أن الشعب الفلسطيني كان تحت انتداب دولة بريطانيا التي أخذت على عاتقها تمكين الحركة الصهيونية من فلسطين تنفيذا لوعد بلفور الذي تعهدت فيه بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني، فإن الحركة الصهيونية لم تستطيع سوى الاستحواذ على 7% فقط من أرض فلسطين، بمساعدة سلطة الاحتلال البريطاني آنذاك، ولذلك لجأت إلى الإبادة الجماعية لإزالة المواطنين من وطنهم.
وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلا لفك لغز تسرب الـ7% من الأراضي للحركة الصهيونية، إلى منتصف القرن التاسع عشر أثناء الاستعمار العثماني لفلسطين، عندما كانت الأراضي الفلسطينية من جهة ملكيتُها تتبع جهات عدَّة، هي: ملكيات إقطاعية كبيرة يتقاسمها ملاَّكٌ كبارٌ فلسطينيون وعرب غير فلسطينيين، ثم أراضي الوقف الإسلامي، وأراضي الكنائس المسيحية، والأراضي الخاصة لصغار الملاَّك الفلسطينيين. أما الملكيات الكبيرة، فقد تقاسمها ملاَّكٌ كبارٌ من الفلسطينيين أو من العرب السوريين واللبنانيين الذين تجمعت في أيديهم الأراضي غالباً في ظل وحدة الأرض أيام الخلافة العثمانية.
وكانت البدايات الأولى لاستحواذ اليهود أراضٍ في فلسطين عام 1855 مع موشي مونتفيوري Montefiore زمن السلطان عبدالمجيد؛ نتيجة تدخُّل بريطانيا لدى السلطات العثمانية، فأصدر السلطان فرماناً سنة 1849م يجيز لليهود الاستحواذ على الأراضي في الديار المقدسة في منطقة موزا (غرب القدس)؛ وقد أقيم عليها فيما بعد الحي اليهودي المعروف بحي مونتفيوري. وقد استمرت عملية تسريب الأراضي في فلسطين إلى الأجانب بعد إقرار إصلاحات وتنظيمات عُرفَت باسم: «التنظيمات الخيرية» عام 1856م. وبموجب هذه التنظيمات أصدرت الدولة العثمانية قانون الأراضي عام 1858م، ثم تبع ذلك إصدار العديد من القوانين اللاحقة، فأصدرت لائحة تعليمات بحق سندات التمليك عام 1859م، ثم إعلان قانون التمليك عام 1861م، وملحقاته عام 1867م، ونظام تملُّك الأجانب عام 1869م، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات أو شركات في جميع أراضي الدولة، وسواء داخل المدن أو خارجها ونتيجة لذلك قامت الدول الأوروبية: كبريطانيا وفرنسا وروسيا بإرسال رعاياها للإقامة في فلسطين والعمل على شراء الأراضي وإقامة المستعمرات. علما بأنه لم يكن لليهود أي حيازات للأراضي الزراعية في فلسطين حتى عام 1868 م كما لم يزد عددهم حتى عام 1877 م عن1.3 % بالنسبة لإجمــالي عــدد سكان فلسطــين. ولكن مع فتح إمكانية تملُّك الأجانب وتسجيل أراضٍ كأملاكٍ خاصة، والسماح للأجانب بشراء الأراضي وما تبع ذلك من عملية بناء المستعمرات الصهيونية في أنحاءَ مختلفة من فلسطين.، كل ذلك كان المحرك الأساسي لمؤامرة تسرُّب وانتقال الأراضي إلى الغير بما في ذلك مندوبي الحركة الصهيونية.
وقد شاركت الصحف في فضح تلك المؤامرة، مثل صحيفة: الكرمل، والدفاع، والجامعة العربية ،وفلسطين.. من ذلك أنه عندما أقدمت السلطة العثمانية على بيع الأراضي للمنظمات اليهودية مثل الصندوق القومي اليهودي «الكير نكايمت» (Keren Kayemeth) والصندوق التأسيسي «كير نهايسـود» (Hayesod Keren)، أبرزت «الكـرمل» بشـكل لا يقبل الجدل سياسة السلطة العثمانية ثم الانتداب البريطاني لتمليك اليهود أراضٍ فلسطينية؛ فكتب نجيب نصار يقول:
«في نابلس قامت في تموز 1913م مظاهرة ضد اعتزام السلطات بيع أراضي بيسان التابعة للدولة للمنظِّمة الصهيونية، كما أرسل المزارعون في سهل بيسان برقيات احتجاج على بيع أراضيهم»، وبيَّنت الكرمل أن «حتمية تنظيم العمل والجهود كانت ذات أثر فعال في التمهيد لظهور جمعية مكافحة الصهيونية التي اتخذت من نابلس مقرها الرئيسي مع إقامة فروع لها في بعض المدن الفلسطينية الأخرى».
وبمجرد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها بدأت الخطط في التحرك على الأرض وأوَّل هذه الخطط كان مؤتمر الصلح في باريس في أوائل عام 1919م، وقد أعدت الحركة الصهيونية بياناً لتقديمه أمام هذا المؤتمر؛ حيث يبدأ هذا التصريح أو الخطة بإشارات إلى العلاقة التاريخية لليهود في فلسطين كوطن قومي، ودعوات للمؤتمر في صيغة قرارات مقترحة للقبول بانتداب بريطاني من عصبة الأمم يضع فلسطين تحت ظروف اقتصادية وسياسية تمهد لإنشاء الوطن القومي لليهود تنفيذاً لوعد بلفور.
مما سبق يتضح لنا أن الفرضية التي روجت لها الصهيونية بشكل غير مسبوق فيما يتعلق ببيع الفلسطينيين لأراضيهم، قد كانت بهدف تغطية جرائمها ومجازرها الوحشية التي ارتكبتها أثناء الحرب التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي لطرد الفلسطينيين من أراضيهم، وليس هذا ما أعطاهم إياه حق التقسيم، والسيطرة على المناطق الاستراتيجية في فلسطين، ومن ناحية أخرى نجد أن قوات الاحتلال قامت بتشويه صورة الفلسطينيين أمام إخوانهم العرب حتى لا يتعاطفوا معهم أو يساندوهم في معاركهم لاسترداد أراضيهم.
وتواصل الأكاذيب الصهيونية التناسل للتغطية على جرائمهم بالادعاء أن الفلسطينيين غادروا "أرضهم طوعا"؛ وهذه الخرافة اختلقتها الحركة الصهيونية لأنهم لم يتمكنوا من تصور التنفيذ الناجح لمشروعهم دون التخلص من السكان الأصليين، إما عن طريق الاتفاق أو بالقوة. ولم يكن مطروحا في فكر قادة الحركة الصهيونية سوى الطرد إلى خارج فلسطين، وإقامة وطن بديل لهم.
بل إن قادة الحركة الصهيونية رفضوا نقل الفلسطينيين إلى نابلس وتوطينهم هناك، عندما ألمحت بريطانيا لإمكانية ذلك، وأصروا على أن يكون ذلك إلى الخارج وبالقوة، وعلى دعم بريطانيا لخطة التهجير القسري، وربطوا بين حتمية ذلك وبناء الدولة اليهودية واستقلالها وتماسكها.
ويلاحظ إيلآن بابيه، أن الزعماء الإسرائيليين في كلا الاتجاهين؛ الليكود وحزب العمل، كلما اعتقدوا أنهم تخلصوا من مشكلة، وجدوا نفسهم على الدوام أمام مشكلة "الميزان الديمغرافي"، وهذا ليس جديدًا، "فمنذ أواخر القرن التاسع عشر،حددت الصهيونية "المشكلة السكانية" على أنها العقبة الرئيسية أمام تحقيق حلمها. ثم حددت الحل، إذ كتب هرتزل "سوف نسعى لطرد السكان الفقراء دون أن يلاحظ أحد"، وكان بن غوريون واضحًا بأنّه "لا يمكن أن تكون هناك دولة يهودية مستقرة قوية، ما دامت الأغلبية اليهودية لا تتعدى 60%". وعلى هذا، تم "إنقاص عدد الفلسطينيين – في النكبة – إلى مادون 20% من إجمالي عدد سكان الدولة اليهودية الجديدة".
وفي سياق تفنيد تلك الكذبة أكد الكاتب والأكاديمي اليهودي إيلان بابيه من خلال أبحاثه أن اللاجئين الفلسطينيينPalestinian Refugee لم يهربوا بناءً على طلب القادة العرب لهم، بل أُخرِجوا بالقوة، موضحاً الأوامر بشأن التدمير والإخلاء في مضمون الخطة (داليتDalet)[42] التابعة للهاغانا، لكنه ألقى لوماً جزئياً على تنازل القيادة الفلسطينية، والدور الذي لعبته السلطات البريطانية قبيل أيار عام 1949م. وهو الأمر الذي أكده مناحم بيغن عندما قال: «كان لمذبحة دير ياسين نتائج كبيرة غير متوقعة؛ فقد أصيب العرب بعد أخبار دير ياسين بهلع قوي فأخذوا يفرون مذعورين».
كما أيد مايكل بالومبو (Michael Palumbo)،صحة الرواية الفلسطينية لأحداث عام 1948م، استناداً إلى وثائق الأمم المتحدة ومقابلات مع لاجئين ومعنيين فلسطينيين. في كتابه: النكبة الفلسطينية (The Palestinian Catastrophe) الذي نشر في سنة 1987م.









رابعا: مشروع كولنيالي إحلالي على حساب الشعب الفلسطيني صاحب الأرض.
لا يمكن للباحث إلا التعامل مع الكيان الصهيوني كجزء من ظاهرة الاستعمار ومحكومة بقوانينها، فالتاريخ المعاصر يشير إلى أن 62 دولة مستقلة حالياً كانت مستعمرات (استيطانية وغير استيطانية)، ونالت استقلالها خلال القرن العشرين، ومن الضروري هنا التنبيه إلى أن المستعمرات الاستيطانية التي نالت استقلالها هي التي بقيت نسبة السكان الأصليين فيها أعلى من نسبة المستوطنين الغرباء، فإذا نقلنا الظاهرة إلى فلسطين، يتبين أن عدد الفلسطينيين حالياً في فلسطين التاريخية يزيد بنحو ربع مليون نسمة عن مجموع عدد اليهود فيها، وهذا هو المأزق الأكبر لـ”إسرائيل”، وهو التفسير الأعمق لما جرى في حي الشيخ جراح، وما قد يحدث في أحياء ومدن وأرياف فلسطينية أخرى.
والنظر للكيان الصهيوني كجزء من الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية من شأنه أن يطرح سؤال استمرار الوجود الصهيوني في فلسطين، ارتباطا بأن هذا النوع من الاستعمار الاستيطاني، يقوم
على منطق الإبادة والفرضيات المؤسسة لهذا النموذج، كما صاغها المؤرخ الأسترالي باتريك وولف، التي تستبطن القناعة بهزيمة أهل البلاد وأصحاب الأرض وأبدية الاستعمار، وتؤمن بأن عجلة الزمن لا يمكن إرجاعها إلى الوراء .
واستمرار وجود هذه الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية حسب المؤرخ الاسترالي محكوم بشرطين الاستيلاء على الأرض هذا أولا، وثانيا لأنه قائمٌ على منطق الإبادة لأهل البلاد بالمعنى الماديّ، والمعنويّ، والسياسيّ، والثقافيّ، ومن ثم السطو على هوية أهل البلاد واستدخالها" في هوية المستوطن الجديدة. لأنه جاء ليبقى ولا ينتهي في الزمان أو المكان، فهو استعمارٌ لا رجعةَ عنه. كما الحال في أستراليا ونيوزلندا والولايات المتحدة التي عقد المستعمرون البيض 300 اتفاقية سلام مع السكان الأصليين في أميركا، ولم يحترموا أي منهاـ فكان أن أبادوا 200 مليون إنسان، ليقضوا بذلك ماديا على أي مطالبة بحقوق جماعية، ويدمجوا القليل المتبقي منهم على هامش المجتمع الاستيطاني "الحديث".واستثناء حالات الاستعمار الاستيطاني في الجزائر وروديسيا وجنوب أفريقيا، التي انتهت إلى نتيجة مختلفة.
لكن الشعب الفلسطيني الذي تجاوز نكبة عام 1948، جعل وجود الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية في فلسطين هي في ذاتها محل شك، وهو أمر طالما تحدث عنه المسؤولين الصهاينة، بأن هناك شك متواصل في مكنة بقاء الكيان الصهيوني في فلسطين، وما يعمق هذا الشعور بالوجود المؤقت أن يلتقط كثير من الدارسين لجولات الصراع العربي الصهيوني “حدثاً” معيناً، ويحاولون تفسيره في ضوء اللحظة الآنية وبشكل معزول عن الاتجاه التاريخي للظاهرة التي تنتمي لها تلك اللحظة والحدث. ففي معركة سيف القدس (سمَّاها الصهاينة حارس الأسوار)، نجد التركيز على موضوع السعي الصهيوني لتهجير أحد أحياء مدينة القدس وهو حي الشيخ جراح، أو التركيز على الانتهاك الاستيطاني للأماكن المقدسة. غير أنه لا يجب تغييب جوهر الصراع ألا وهو “الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين”، الذي أدى إلى جعل المنطقة العربية من أعلى مناطق العالم في مؤشرات عدم الاستقرار السياسي سواء بطريقة مباشرة (بالحروب والتي تتكرر بمعدل كل 4.5 أعوام)، أم غير مباشرة عبر العمليات الخاطفة أو الاغتيالات…إلخ. وعند تحليل أسباب كل من هذه الحروب منذ سنة 1948، سنجد “حدثاً” فجَّر الصراع الكامن بكيفية أو أخرى، وعليه فإن جولات الصراع المستمرة منذ 1948 ستتواصل إلى حين اجتثاث سبب هذا الصراع التاريخي، وهو الاحتلال.
ومن الضروري هنا التنبيه إلى أن المستعمرات الاستيطانية التي نالت استقلالها هي التي بقيت
نسبة السكان الأصليين فيها أعلى من نسبة المستوطنين الغرباء.
ومع أن هناك من يريد بسوء نية إسقاط النموذج الاسترالي على الحالة الكولنيالية الصهيونية في فلسطين، فهو يقدم حلولا لبقاء العدو لا التحرر منه، ويبعد بصيرتنا التحليلية عن رؤية تشققات وأزمات هذه البنية الاستعمارية، وتفسير انكماش الاستعمار الاستيطاني في فلسطين من خلال سياسة بناء الجدران مع لبنان، والأغوار، والضفة الغربية وقطاع غزة، وحتى داخل القدس أو رحيل المستوطنين وتفكيك المستوطنات في قطاع غزة.


























الفصل الرابع: الدور الأوروبي في زرع الكيان الصهيوني في فلسطين
أولا: مقدمة
ثانيا: مشروع استعماري غربي بذريعة دينية
ثالثا الدور اليهودي في الحصول على الوعد
جريمة وعد بلفور
1 –نص الوعد
2- نظرة ميثولوجية (الأسطورة) بريطانيا دولة الانتداب تشرف على تمكين الحركة الصهيونية من فلسطين
العصابات الصهيونية وعمليات التطهر وتدمير المدن.
موجات الهجرة إلى فلسطين












مدخل
إنه من التبسيط ربط وعد بلفور باللورد آرثر جيمس بلفور كشخص، كون ذلك التعهد هو تعبير عن إرادة ونية الدولة البريطانية في ارتكاب جريمة زرع كيان غريب مع سبق الإصرار والترصد في فلسطين، أقدمت عليها بريطانيا كدولة، ضد الشعب الفلسطيني صاحب الأرض حاضرا وعلى امتداد التاريخ. من أجل تمكين المستجلبين اليهود بكافة تنوعهم العرقي والقومي فيما أَطلَقَ عليه المؤرخ اليهودي شلومو ساند المدرس في جامعة "تل أبيب" مسمى خرافة " الشعب اليهودي".
مقدمات الوعد
وتكشف الوقائع أن ذك التعهد الاستعماري جاء تتويجاً لعمل مشترك بين الساسة الأوروبيين ويهود أوروبا اعتمد على تخطيط استمر لأكثر من 120 عاماً منذ محاولات نابليون عام 1799 وحتى إعلان التعهد البريطاني عام 1917.
وكان نابليون بونابرت في سياق دوره الاستعماري ولإنقاذ حملته التي تحطمت على أسوار عكا الفلسطينية، قد حاول وهو على أسوار عكا عام 1799 إرضاء اليهود في أوروبا سعياً منه لكسب المزيد من الدعم لحملاته العسكرية، فخاطب يهود آسيا وأوروبا "أيها الإسرائيليون انهضوا، فهذه هي اللحظة المناسبة، إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملةً إرث إسرائيل، سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين شعوب العالم".
وقد نشر نابليون بياناً يدعو فيه كل يهود آسيا وأوروبا للقدوم إلى القدس تحت الراية الفرنسية وتحول نداء نابليون إلى خبر رئيس في الصحف الفرنسية، وذلك في محاولة من "بونابرت" كسب المزيد من الدعم لحملاته العسكرية، لأنه كان يعاني من عقبات كبيرة على الشواطئ الفلسطينية .

وبعد هزيمة نابليون بحوالي أربعين عاماً، التقط وزير خارجية بريطانيا "بالمرستن" فكرة توظيف جسم يهودي لصالح بريطانيا عبر الاستفادة من يهود أوروبا بأن يقيم لهم وطناً ليس في الممتلكان البريطانية ولكن في فلسطين فيكون بذلك أرضاهم من جهة، ويرد على محاولة محمد علي توحيد مصر وسورية عام 1840، ورفض طلب السفير البريطاني في إسطنبول إقناع الخليفة العثماني وحاشيته بأن الحكومة الانجليزية ترى أن الوقت أصبح مناسباً لفتح فلسطين أمام هجرة اليهود.
فكان أن قوبل الرفض العثماني باستجابة يهودية وكان من أوائل المتفاعلين البارون الثري ادموند روتشيلد الذي مول فيما بعد إنشاء (30) مستعمرة يهودية من أهمها مستعمرة "ريشون لتسيون" التي رفع فيها العلم "الإسرائيلي" الحالي .
بريطانيا الصهيونية المبكرة
وإلى جانب بريطانيا كانت هناك حالة أوروبية بدأت فيها ملامح لصهيونية أوروبية أخذت معالمها تتضح بعد نشوء المسألة الشرقية وصعود نجم محمد علي بدعوى أن ذلك يمثل تهديداً ‏لقدرة أوروبا‏ الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية.
لذلك نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة. والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف أسطورة إحياء دولة يهودية في فلسطين. وبهذا المعنى يكتب إميل توما أن «الكولونيالية البريطانية تصبح صهيونية قبل نشوء الحركة الصهيونية.» وهناك كثير من الأدبيات التي تقرأ نشوء الحركة الصهيونية في الأساس كاستمرار للمشروع الاستعماري ومن وجهة نظر المصالح الاقتصادية التي يخدمها المشروع، وتظهر فيه الصهيونية أيضاً ‏أداة في أيدي القوى الاستعمارية الكبرى. ومن ناحية ثانية تبدو الصهيونية كمشروع استثماري للبورجوازية اليهودية الأوروبية نفسها

إن الوعد الذي قطعه بلفور كوكيل للحكومة البريطانية لليهود، لا يمكن اعتباره نزوة ووليد لحظته، ولكنه جاء تتويجا لمسار وحراك سبقه من عمل أطراف متعددة كمقدمة لذلك التصريح، الذي تعهدت فيه الدولة البريطانية القوة الاستعمارية الأولى في العالم آنذاك، بمنح "الحركة الصهيونية" التي تبلورت رسميا في مؤتمر بازل سنة 1897 فلسطين، في حين أن بريطانيا لا تملك تلك المُكنة، كون فلسطين آنذاك تحت سيطرة الاحتلال العثماني هذا أولا، وثانيا هي ملك تاريخي خالص للشعب الفلسطيني. بما يدحض أحد الأسس التي روج لها المشروع البريطاني-الصهيوني من أن فلسطين أرض بلا شعب، ولا بأس من أن تمنحها بريطانيا الاستعمارية للشعب الذي بلا أرض، أي لـ(شتات المستجلبين اليهود) من شتى بقاع العالم عبر اختراع شعب يهودي بأثر رجعي.
مشروع استعماري غربي بذريعة دينية
لاشك أن التعهد البريطاني بقطع وعد بلفور، أسست له مقدمات ومعطيات في بيئة دينية وسياسية وفكرية وجيوسياسية ضمن سيرورة كذبة أن هناك "شعبا يهوديا" يجب أن يعود إلى وطنه، وذلك ارتباطا بالنسبة للمسيحية الصهيونية بـ"ميثولوجيا التوراة" (أي أساطير التوراة)، ويمكن تعريف الأساطير: أنها لا تعكس واقعا حقيقيا، ذلك أن الأسطورة: "هي حكاية أو قصة قديمة أو مجموعة من القصص تعود إلى الزمن القديم، ولكنها لا تكون دائماً قصصا حقيقية حصلت على أرض الواقع" . في حين أنه بالنسبة إلى بريطانيا يتعلق بزرع كيان وظيفي لخدمة مصالحها بالاتكاء على البعد الديني.
وهذا الدور الوظيفي للكيان المقترح هو ما عبر عنه بوضوح هرتزل بأن "اعتبر أن الدولة اليهودية الموعودة تمثل "رأس حربة الثقافة ضد البربرية" الآسيوية .
وضمن هذا المناخ الذي شكلته حمى دعوات المسيحية الصهيونية التي يعرفها الباحث الفلسطيني الدكتور يوسف الحسن «المسيحية الصهيونية» بأنها:"مجموعة المعتقدات الصهيونية المنتشرة بين المسيحيين، خاصة بين قيادات وأتباع الكنائس البروتستانتية، تهدف إلى تأييد قيام دولة يهودية في فلسطين بوصفها حقاً تاريخياً ودينياً لليهود، ودعمها بشكل مباشر وغير مباشر، كون عودة اليهود إلى الأرض الموعودة -فلسطين- هي برهان على صدق التوراة، وعلى اكتمال الزمان وعودة المسيح ثانية ."
والصهيونية المسيحية تعتقد أنّ الله قد وضع في الكتاب المقدس نبوءات واضحة، حول كيفية تدبيره لشؤون الكون ونهايته، ومن هذه التدابير: قيام دولة إسرائيل وعودة اليهود إليها، وهجوم أعداء الله: على إسرائيل، ووقوع محرقة (هرمجدون) التي يعتقدون أنها ستكون نووية. وتؤدي إلى مقتل الملايين وانتشار الخراب والدمار، وحينئذ فقط سيظهر المسيح لتخليص أتباعه (أي المؤمنين به) من هذه المحرقة، ومن بقي من اليهود بعد المعركة سيؤمنون بالمسيح، وعندها سينتشر السلام في مملكة المسيح في أرض جديدة وتحت سماء جديدة مدة ألف عام.
وفي مجال تسويق هذه الخرافة التوراتية، وفد إلى القدس عام 1844م أول قنصل أميركي وهو (واردر كريستون)، وكان من الأهداف التي رسمها القنصل لنفسه أن يقوم بعمل الرب، ويساعد على إنشاء وطن قومي لليهود في أرض الميعاد. وبذل (كريستون) جهدا مضنيا في الاتصال بالقادة الأميركيين وحثهم على العمل من أجل"جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود حتى يلتئم شمل الأمة اليهودية، وتمارس شعائرها وتزدهر" كما ألح على القادة العثمانيين للتعاون في هذا السبيل دون جدوى.
والمفارقة أن فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين آمن بها المسيحيون البروتستانت قبل إيمان اليهود بها، وسعوا إلى تنفيذها قبل أن يسعى اليهود إلى ذلك، بل قبل أن يؤمن اليهود بإمكانية تحقيقها .
ولكن إذا وضعنا جانباً ‏الصهيونية المسيحية القائمة على أفكار دينية خلاصية، نلاحظ أن ثمة صهيونية أوروبية أخذت معالمها تتضح بعد نشوء المسألة الشرقية وصعود نجم محمد علي بصفته تهديداً ‏لقدرة أوروبا‏ الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية. لذلك نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة. والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف "أسطورة" إحياء دولة يهودية في فلسطين. وبهذا المعنى كتب المفكر الفلسطيني إميل توما أن "الكولونيالية البريطانية تصبح صهيونية قبل نشوء الحركة الصهيونية". وهناك كثير من الأدبيات التي تقرأ نشوء الحركة الصهيونية في الأساس كاستمرار للمشروع الاستعماري، ومن وجهة نظر المصالح الاقتصادية التي يخدمها المشروع .
الدور اليهودي في الحصول على الوعد
اكتسبت الحركة الصهيونية بعد مؤتمرها الأول بين 29 و31 أغسطس 1897 في مدينة بازل السويسرية، اهتماما سياسيا وإعلاميا هاما في أوروبا والعالم، وارتباطا بذلك، برز دور الصهيوني حاييم وايزمان الذي ساعدت اكتشافاته العلمية وبالأخص مادة "الأسيتون" في تقربه من القيادات السياسية والعسكرية البريطانية التي راح يلح عليها في استصدار قرار بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين فكان وعد بلفور عام 1917.
وفي إطار الدور الوظيفي لهذا المشروع عرض هرتزل سنة 1902 على تشمبرلين وزير المستعمرات البريطاني ضمن حراك عرّابي الحركة الصهيونية على الدول الراعية إقامة “إسرائيل” في فلسطين تأمين المصالح البريطانية وحماية قناة السويس والحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية.
ونتج عن ذلك أن تبنت دول الاستعمار الأوروبي المشروع الصهيوني لحل المسألة اليهودية في بلدانهم بتصديرهم إلى فلسطين لخدمة مصالح الدول الغربية والصهيونية .
وجاءت بلورة المشروع الصهيوني كمشروع استعماري أوروبي في تقرير كامبل عام 1907 واتفاقية سايكس– بيكو عام 1916 ووعد بلفور عام 1917 ومؤتمر الصلح في فرساي عام 1919 ومؤتمر الحلفاء في سان ريمو عام 1922 الذي قرر وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني.
وقد سبق أن قُدمت لمجلس الوزراء البريطاني عام 1915 مذكرة سرية بعنوان مستقبل فلسطين، كتبها أول صهيونيّ يهودي يصل لمنصب وزير بريطاني هيربرت صموئيل، جاء في الوثيقة:
"الوقت الحاضر ليس مناسبا لإنشاء دوله يهودية مستقلة، لذا يجب أن توضع فلسطين بعد الحرب تحت السيطرة البريطانية لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة وعلينا أن نزرع بين المحمديين ثلاثة إلى أربعة ملايين يهودي أوروبي."

جريمة وعد بلفور
لكن من المهم أن وعي أن وعد بلفور لم يأتي كقفزة في الهواء، أو كهدية عابرة من قبل مسؤول أوروبي لطائفة معينة، بل أتى نتيجة عمل امتد طوال 120سنة استخدم فيها يهود أوروبا مختلف أساليب الدهاء السياسي والاقتصادي لتحقيق حلمهم على حساب الفلسطينيين أصحاب الحق والأرض .
وفي 2 نوفمبر1917 وافق مجلس الوزراء البريطاني، برئاسة ديفد لويد جورج، على إصدار وعد بريطاني لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، كُتب الوعد على صيغة رسالة من وزير الخارجية آرثر بلفور إلى اللورد الصهيوني ليونيل ولتر روتشيلد، باسم الحكومة البريطانية.
نص الوعد
وكانت الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطانية عام 1917 إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في تلك الفترة وعرفت فيما بعد باسم وعد بلفور، هي أول خطوة يتخذها الغرب لإقامة كيان لليهود على تراب فلسطين. وقد قطعت فيها الحكومة البريطانية تعهدا بإقامة
دولة لليهود في فلسطين. وجاء في التعهد البريطاني (رسالة بلفور) التي أرسلها في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917. عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين،(النفاق البريطاني المعروف والمؤامرة على الشعب الفلسطيني تتحدث عن الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية فيما هي تصادر وطنهم وحريتهم وتمنحها لمجموعة غازية، وتعتبر الفلسطينيين طوائف وليس الشعب الفلسطيني كما تعاملت مع المستجلبين الصهاينة قبل أن يطأوا فلسطين) ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى” (التعهد البريطاني.. يعد الصهاينة الذين بقوا في أوطانهم الأوروبية بحقوقهم كمواطنين في البلدان الأخرى، في حين تجاهل عن عمد منح هذه الحقوق للشعب الفلسطيني صاحب الأرض منذ الأزل) .
عندما تتعهد الحكومة البريطانية لمن سمتهم، الشعب اليهودي، بينما تتجاهل الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والمقيم فيها، في حين أن الحقائق التاريخية تؤكد أنه لا يوجد ما يمكن تسميته " شعب يهودي" وهي حقائق أكدها مؤرخون وعلماء آثار يهود مقيمين في فلسطين المحتلة.
وهاهو المؤرخ البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، يدحض مقولة (الشعب اليهودي) في كتابه "اختراع الشعب اليهودي" قائلا: إن الحديث عن شعب عاد إلى وطنه هي خرافة قومية فاقعة.
وهو يرى أن وصف اليهود كشعب مشرد ومعزول من المنفيين الذين "عاشوا في تنقل وترحال على امتداد الأيام والقارات ووصلوا إلى أقاصي الدنيا وفي نهاية المطاف استداروا مع ظهور الحركة الصهيونية كي يعودوا جماعياً إلى وطنهم الذي شردوا منه" ما هو إلاّ "خرافة" .
ويفند المؤرخ اليهودي ما وصفها بـ "خرافة الشعب اليهودي" بأن أرجع أصول ما يسمى بالشعب اليهودي إلى "شعوب متعددة اعتنقت اليهودية على مرّ التاريخ في أماكن شتى من حوض البحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة، وإن هذا يشمل أيضاً يهود اليمن (بقايا مملكة حمير في شبه الجزيرة العربية التي اعتنقت اليهودية في القرن الرابع الميلادي) ويهود أوروبا الشرقية الإشكنازيين (وهم من بقايا مملكة الخزر البربرية التي اعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي) .

النظرة الميثولوجية ( الأسطورة)
وكي يكشف مكمن ذلك الزيف وتلك الخرافة التوراتية، يعود ساند في بحثه آلاف السنين إلى الوراء، ساعياً إلى إثبات أن الشعب اليهودي لم يكن أبداً "شعبا عرقيا" ذا أصل مشترك، وإنما هو خليط كبير ومتنوع لمجموعات بشرية تبنت خلال مراحل مختلفة من التاريخ الديانة اليهودية. وبحسب قوله فإن النظرة الميثولوجية(الأسطورة) إلى اليهود كشعب عريق أدّت بعدد من المفكرين الصهيونيين إلى تبني فكر عنصري تماماً.
فيما يدحض البروفيسور زئيف هرتسوغ بدوره ، عبر علم الآثار زيف ما يسمى الحق التاريخي "الإسرائيلي" .
ذاهبا إلى أبعد من مجرد دحض مقولات الشعب اليهودي وارتباط اليهود بفلسطين إلى التأكيد أن التوراة التي يتكئون عليها لاختراع شعب يهودي هي "ميثولوجيا، أي(أساطير) وتزوير للتاريخ. لأن (الحفريات تدحض خرافة الشعب اليهودي، وتؤكد أن لا تاريخ يهودي في فلسطين) .
ويكشف عالم الآثار البروفيسور زئيف هرتسوغ أنه "بعد سبعين عاما من الحفريات الأثرية المكثفة في أرض فلسطين، توصل علماء الآثار إلى استنتاج مخيف وهو أن: الأمر مختلق من الأساس. فأفعال الآباء هي مجرد أساطير شعبية، ونحن لم نهاجر لمصر ولم نُرحّل من هناك. ولم نحتل هذه البلاد وليس هناك أي ذكر لامبراطورية داوود وسليمان، والباحثون والمختصون يعرفون هذه الوقائع منذ وقت طويل، ولكن المجتمع لا يعرف .
ومن ثم فإن السؤال ماذا تبقى من هذه الخرافة إذا كان مصدرها هو التوراة كونها الأساس الفكري لإقامة الكيان الصهيوني بجعله من مجرد كتاب ديني إلى برنامج عمل وكمصدر للتاريخ للادعاء بالحق التاريخي في فلسطين، في حين أن أغلبية الباحثين في هذا الحقل ترى في هذا الكتاب مجرد أساطير لا يمكن الاستناد إليها. لا في كتابة التاريخ القديم لفلسطين، ولا في منح الحق لليهود في فلسطين . وقال البروفيسور زئيف شيف بصفته ابن للشعب اليهودي، وكتلميذ للمدرسة التوراتية، إنني أدرك عمق الإحباط النابع من الفجوة بين التوقعات وإثبات التوراة كمصدر تاريخي وبين الوقائع المكتشفة على الأرض .
ويكشف المؤرخ اليهودي أن التوراة "اختُلق" في أيام النفي البابلي، ذلك أن الحفريات في فلسطين لم تكتشف أي شهادة يمكن أن تؤكد هذا التسلسل التاريخي. بل إن الاكتشافات الكثيرة تقوض المصداقية التاريخية للوصف التوراتي.

التمكين البريطاني للصهاينة
بدايةً، يجب الإشارة إلى‏ أهمية وعد بلفور بالنسبة لليهود، فوفق أكثر الاستفتاءات سخاءً مع الصهيونية، كان عدد اليهود في فلسطين في سنة1922 نحو 83,000 نسمة، أي أنهم شكلوا 11¬% من سكان فلسطين، إلاّ إن عددهم وصل في سنة ‏1947 عشية قرار التقسيم إلى‏ ما يقارب 650,000 نسمة، أي ما يعادل ثلث سكان فلسطين .
ويفضح هذه الفرق في عدد الصهاينة المستجلبين بين عام 1922 مع بدء الانتداب البريطاني وعام 1947 عملية التمكين التي مارستها دولة الانتداب ضد الشعب الفلسطيني وذبك يبيّن أنه خلال الفترة السابقة كلها لوعد بلفور، هاجر إلى‏ فلسطين بعض عشرات الآلاف فقط (شكلوا مع يهود فلسطين الأصليين قبل بداية الهجرة ما مجموعه 83,000 مثلما ذكرنا أعلاه)، في حين أن عدد المهاجرين اليهود زاد بنحو 600,000 مهاجر خلال العقود الثلاثة من الوجود البريطاني. وهذا بطبيعة الحال يدل على أهمية الدور البريطاني في إنشاء «الوطن القومي اليهودي» تنفيذاً لوعد بلفور الذي لم يكن مجرد تعبير عن تعاطف دولة عظمى مع فكرة الوطن القومي، وإنما تَحَوَل، مثلما نعلم، إلى‏ وثيقة رسمية دولية تبنّتها عصبة الأمم عندما أقرّت صك الانتداب على فلسطين. ونتيجة توكيل الانتداب إلى بريطانيا، تحول الوعد من وثيقة دولية تتمتع بالإجماع الدولي في تلك الفترة إلى سياسة رسمية تنفذها دولة يسيطر جيشها على فلسطين .
الدور البريطاني في إنشاء «الوطن القومي اليهودي» تنفيذاً لوعد بلفور الذي لم يكن مجرد تعبير عن تعاطف دولة عظمى مع فكرة الوطن القومي، وإنما تحول، مثلما نعلم، إلى‏ وثيقة رسمية دولية تبنّتها عصبة الأمم عندما أقرّت صك الانتداب على فلسطين. ونتيجة توكيل الانتداب إلى بريطانيا، تحول الوعد من وثيقة دولية تتمتع بالإجماع الدولي في تلك الفترة إلى سياسة رسمية تنفذها دولة يسيطر جيشها على فلسطين.
من أهم التغييرات التي أدخلها البريطانيون كي يسهّلوا عملية إنشاء وطن قومي تلك التي تتعلق بقوانين الهجرة وملكية الأراضي، فتمكّن المهاجرون اليهود من الوصول إلى‏ فلسطين بدايةً، ثم تمكنوا من اقتناء الأراضي والاستيطان فيها.
وبدأ الاستيطان اليهودي والاستيلاء على الأراضي وتغيير ملامحها، واندلعت الثورة الفلسطينية عام 1936 وسحقها البريطانيون بوحشية، وبدأت الشكوك تحوم حول إمكانية نجاح المشروع الصهيوني وقيام دولة إسرائيل .

وقد اختارت بريطانيا لهذا الغرض مندوبها السامي الأول هربرت صامويل، من أصل يهودي وذا ميول صهيونية واضحة. فمباشرة بعد توليه المنصب، قام بإجراءات توحي بأن البلد ثنائي القومية، وكان على رأس هذه التغييرات الاعتراف الرسمي بالمؤسسات التمثيلية اليهودية مثل المنظمة الصهيونية العالمية، وما بات يُعرف لاحقاً باسم الوكالة اليهودية، بصفتهما ممثلين شرعيين ووحيدين، لا لليهود في فلسطين فحسب (وذلك ضمن البند 4 لصك الانتداب نفسه)، بل كممثلين لليهود ولمصالحهم أينما يكونوا،أي باعتبارهم ممثلين لأمة كونية فوق الجغرافيا. وقد يصح القول في هذه الحالة إن اليهود قبل أن يكونوا شعباً، كان لهم ممثلون معترف بهم على اعتبار أنهم شعب، أي أن التعامل معهم كأنهم شعب، حوّلهم فعلاً إلى‏ شعب.
ممّا لا شك فيه أن المشروع الصهيوني لم يكن من الممكن أن يتحول من مجرد حلم يراود هرتزل إلى‏ مشروع عمل وبرنامج سياسي لولا تدخّل الدول الكبرى، وأساساً بريطانيا. الحرب الكونية الأولى منحت اليهود وعد بلفور، والحرب الكونية الثانية ستحوّل الوعد إلى‏ حقيقة. وهكذا كانت الصهيونية تتواطأ مع «أعدائها» منذ البداية .



















بريطانيا دولة الانتداب تشرف على تمكين الحركة الصهيونية من فلسطين

لم يقف الدور البريطاني في إنشاء «الوطن القومي اليهودي» تنفيذاً لوعد بلفور عند حدود كونه وعدا صدر من دولة عظمى تتعاطف مع فكرة الوطن القومي، وإنما تحول، إلى‏ وثيقة رسمية دولية تبنّتها عصبة الأمم عندما أقرّت صك الانتداب على فلسطين. ونتيجة توكيل الانتداب إلى بريطانيا، تحول الوعد من وثيقة دولية تتمتع بالإجماع الدولي في تلك الفترة إلى سياسة رسمية تنفذها دولة يسيطر جيشها على فلسطين.
ويعيد ياكوف شاريت نجل مؤسس إسرائيل، الفضل في أن خطط إقامة "دولة يهودية" أصبح أمرا ممكنا إلى إعلان بلفور عام 1917 الذي وعد بوطن قومي لليهود في فلسطين وبشر بالحكم الاستعماري البريطاني.
ولم يكن اختيار هيربرت صموئيل حاكما لفلسطين تحت الانتداب البريطاني اعتباطيا كأفضل ممثل شخص يمكن أن يقوم ومن أجل تنفيذ بريطانيا وعدها للحركة الصهيونية، وإنما بصفته افضل من ينفذ وعد بلفور، كونه من أصل يهودي أولا، وذا ميول صهيونية ثانيا، ولكون قد سبق قد قدم لمجلس الوزراء البريطاني في عام 1915 مذكرة سرية بعنوان مستقبل فلسطين، كتبها بصفته أول صهيونيّ يهودي يصل لمنصب وزير بريطاني وهذه الوثيقة التي قدمت قبل صدور وعد بلفور جاء فيها:
"الوقت الحاضر (1915) ليس مناسبا لإنشاء دوله يهودية مستقلة لذا يجب أن توضع فلسطين بعد الحرب تحت السيطرة البريطانية لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي وإقامة
المستعمرات وتنظيم الهجرة وعلينا أن نزرع بين المحمديين ثلاثة إلى أربعة ملايين يهودي أوروبي."

وقد أخذ بتوصية صموئيل في الاتفاقية السرية التي جمعت بريطانيا وفرنسا لتقسيم سوريا الكبرى، عرفت الاتفاقية باسم مهندسيها البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو، واتفاقية سايكس بيكو وضعت فلسطين تحت سيادة مشتركة للحلفاء لإعدادها للدولة اليهودية.
وبعد تولي هيربرت صموئيل قام مباشرة بعد توليه المنصب، بتنفيذ المذكرة التي سبق أن قدمها عام 1915 لمجلس الوزراء البريطاني ،وجاء فيها"لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة وعلينا أن نزرع بين المحمديين ثلاثة إلى أربعة ملايين يهودي أوروبي."
ولذلك سارع إلى اتخاذ إجراءات توحي بأن البلد ثنائي القومية، وكان على رأس هذه التغييرات الاعتراف الرسمي بالمؤسسات التمثيلية اليهودية مثل المنظمة الصهيونية العالمية، وما بات يُعرف لاحقاً باسم الوكالة اليهودية، بصفتهما ممثلين شرعيين ووحيدين، لا لليهود في فلسطين فحسب (وذلك ضمن البند 4 لصك الانتداب نفسه)، بل كممثلين لليهود ولمصالحهم أينما يكونوا، أي باعتبارهم ممثلين لأمة كونية فوق الجغرافيا. وقد يصح القول في هذه الحالة إن اليهود قبل أن يكونوا شعباً، كان لهم ممثلون معترف بهم على اعتبار أنهم شعب، أي أن التعامل معهم كأنهم شعب، حوّلهم فعلاً إلى‏ شعب.
من أهم التغييرات التي أدخلها البريطانيون كي يسهّلوا عملية إنشاء وطن قومي تلك التي تتعلق بقوانين الهجرة وملكية الأراضي، فتمكّن المهاجرون اليهود من الوصول إلى‏ فلسطين بدايةً، ثم تمكنوا من اقتناء الأراضي والاستيطان فيها.
وبدأ الاستيطان اليهودي والاستيلاء على الأراضي وتغيير ملامحها، واندلعت الثورة الفلسطينية عام 1936 وسحقها البريطانيون بوحشية، وبدأت الشكوك تحوم حول إمكانية نجاح المشروع
الصهيوني وقيام دولة إسرائيل .
وممّا لا شك فيه أن المشروع الصهيوني لم يكن من الممكن أن يتحول من مجرد حلم يراود هرتزل إلى‏ مشروع عمل وبرنامج سياسي لولا تدخّل الدول الكبرى، وأساساً بريطانيا. وإذا كانت الحرب الكونية الأولى منحت اليهود وعد بلفور كالتزام دولي، فإن الحرب الكونية الثانية هي التي حوّلت الوعد إلى‏ حقيقة. .
وفي سياق تنفيذ الوعد بتمكين الحركة الصهيونية من فلسطين بدأ الاستيطان اليهودي والاستيلاء على الأراضي وتغيير ملامحها، ولذلك اندلعت الثورة الفلسطينية عام 1936 وسحقها البريطانيون بوحشية، وبدأت الشكوك تحوم حول إمكانية نجاح المشروع الصهيوني وقيام دولة إسرائيل. وهذا بطبيعة الحال يدل على أهمية الدور البريطاني في إنشاء «الوطن القومي اليهودي» تنفيذاً لوعد بلفور الذي لم يكن مجرد تعبير عن تعاطف دولة عظمى مع فكرة الوطن القومي، وإنما تَحَوَل، مثلما نعلم، إلى‏ وثيقة رسمية دولية تبنّتها عصبة الأمم عندما أقرّت صك الانتداب على فلسطين. ونتيجة توكيل الانتداب إلى بريطانيا، تحول الوعد من وثيقة دولية تتمتع بالإجماع الدولي في تلك الفترة إلى سياسة رسمية تنفذها دولة يسيطر جيشها على فلسطين.

عمليات التطهر وتدمير المدن والإحلال(الاستجلاب)
لأن الحركة الصهيونية كذبت عن عمد على يهود العالم عندما زعمت «أن فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، وذلك لتبرير الاستعمار الاستيطاني فيها، عندما تصوروا أن بإمكانهم التخلص من الشعب الفلسطيني تماماً كما تخلصت أمريكا الشمالية من الهنود الحمر عن طريق الإبادة الجماعية والاستيطان.
ولذلك فإن المجازر التي ارتكبت ضد الفلسطينيين من قبل عصابات الحركة الصهيونية المسلحة، هي مكون أساسي لفكر أصحاب الاستعمار الكولنيالي على غرار ما جري في أمريكا واستراليا ونيوزلندا، ومن ثم فإن عملية التطهير العرقي التي نفذتها الحركة الصهيونية بدعم بريطاني كان مخططا لها ونفذت مع سبق الإصرار والترصد بهدف اقتلاع أكبر عدد ممكن من أصحاب الأرض.
وتؤكد الحقائق التاريخية أنه كانت هناك مذابح وهدم قرى ومدن بأكملها في فلسطين تعود لأصحابها إيلان بابيه يؤكد في دراساته أن نكبة الشعب الفلسطيني كان مخططا لها من قبل الحركة الصهيونية. وأكد وقوع تطهير عرقي في فلسطين حتى ولو أنكرت إسرائيل ذلك، وكذلك العالم الغربي. ولكن الحقائق التاريخية تؤكد أنه كانت هناك مذابح وهدم قرى ومدن بأكملها في فلسطين تعود لأصحابها الأصليين، وأن ما حدث للشعب الفلسطيني كان ممنهجا ومدروسا ومخططا له من قبل الزعماء الإسرائيليين، وهم المسؤولون عن ما حدث للشعب الفلسطيني من نكبة وما تلاها من تهجير وتدمير وخراب».
ولأنه الأرشيف الصهيوني، فهو لن يكذب ليدين نفسه، وذلك وصف المؤرخ اليهودي إيلان بابي تدمير العصابات الصهيونية 500 قرية في فلسطين عام 1948 بأنه تطهير عرقي ويقول
بابي: الأرشيف مهم جدا في هذه الحالة بالنسبة لنا كمؤرخين جدد، ولاحقا فهمنا أن هناك أمورا أخرى تثبت من المحق هنا وأنت تفهم إذا كانت هناك 500 قرية مدمرة وعدد كبير من اللاجئين فأنت تدرك أن تطهير عرقيا قد حصل في البلاد.
ويروي المؤرخ إيلان بابيه أن الوثائق كشفت أن هناك 1000 أمر عسكري صدرت قبل 15 أيار مايو 1948 (أي قبل حرب 48 ودخول الدول العربية ) تنص على اقتحام أحد القرى وقتل الرجال وأسر الآخرين وتفجير بيوتها وإحراق ما أمكن حرقه تكشف طبيعة هذا العدو النازي.
ويؤكد بابي أن ما جرى كان إعداما ممنهجا وبشكل وحشي لأن الأوامر صدرت قبل حرب 48 وقبل الدخول العربي في الحرب. وكشف الأرشيف أنه وجد 1000 أمر عسكري كل منها خاص بقرية، ويقول بابيه إن التاريخ مهم هنا فهي مؤرخة بمعظمها قبل مايو/ أيار 1948، وهذا أول ما فتح عيوني… الوثائق هذه مهمة لأنني درست في المدرسة أنه تم الإعلان عن قيام إسرائيل في 15 مايو/ أيار 1948 فقرر العالم العربي منع قيامها عنوة وأرسل جيوشا لتدميرها فنشبت الحرب واللاجئون من نتائجها وهذا ذنبهم.

لكن الأرشيفات زرعت الشك في مصداقية الرواية الصهيونية. عندما تجد وثيقة تاريخية قبل الحرب بشهور تحمل تعليمات عسكرية خاصة بقرى قيسارية والبرج ثم قرى حيفا ويافا تنص على اقتحام القرية وقتل الرجل وأسر الآخرين وتفجير بيوتها وإحراق ما أمكن حرقه»، موضحا أنه قال في سره في البداية وقتها: هذا غير معقول وربما هذه وثيقة واحدة، وربما هذا قائد مجنون ومن غير المعقول أن يكون هذا الوضع، فقد قاتلت ضمن صفوف الجيش الأخلاقي في العالم، لا يعقل. وعندها فتحت المزيد من الوثائق ووجدت التعليمات ذاتها بما يتعلق بقرى عكا وغيرها. ولاحقا أذكر أنني وجدت وثيقة تتعلق بيوسيففاشيتس أحد قادة حزب اليسار الصهيوني في «هشومير هتسعير» التابع لـ حزب «مبام» (رئيس الدائرة العربية في الحزب). وفي الوثائق الخاصة به يسجل أسماء القرى الفلسطينية التي تعرضت لجرائم ومجازر، قرية قرية كالصفصاف، حيث يقول فاشيتس الذي قررت حكومة الاحتلال قبل عام حجب أرشيفاته:
ومن الأمثلة على ذلك التطهير العرقي مثال قرية الصفصاف التي كانت خطة صهيونية للترهيب، وهو سلوك صهيوني نازي يؤكد طبيعة هذه الحركة من ذلك ما حدث في الصفصاف، عندما جمعوا 52 رجلا تم ربطهم واحدا بالآخر وإيداعهم داخل بئر ثم قتلوهم بالرصاص. ثم قتلوا امرأة تحتضن طفلها.
ويقول المؤرخ بابيه: ما صدمني وزعزعني هو ما جرى في قرية الدوايمة قضاء الخليل وحتى الآن استصعب قراءة المادة: قيام جنود باغتصاب نساء وتحطيم جماجم أطفال وتفجير بيوت على رؤوس ساكنيها.
ويتابع بابيه أذكر وقتها أن شقيق رئيس الحكومة الأسبق إيهود أولمرت (يوسي أولمرت) قد درس معي وأعد هو الآخر دكتوراة في التاريخ وكنت أعبر عن استغرابي على مسامعه مما نقرأ فكان يقول: لا، هذه وثيقة أو وثيقتين فلا تضخم الأمور. لكن لاحقا اكتشفت عددا كبيرا من الوثائق المشابهة، وبعد أسبوعين أدركت أن هناك خطة صهيونية وراء ذلك.
فيما رسم المؤرخ شلومو ساند خريطة "النكبة الفلسطينية"، وعنوانها: الاقتلاع من الأرض والقذف خارج الحدود دون شفقه، فبالإضافة إلى "الأحياء العربية في المدن، فإن أكثر من أربعمائة قرية أخرى تم تدميرها ومحوها من ’أرض إسرائيل’ في حرب 1948، ونحو سبعمائة ألف إنسان هُجّروا مع النكبة، وانتُزعت بيوتهم منهم بدون أي مقابل أو تعويض، ولا يزال كثيرون منهم، كما أحفادهم، يعيشون في مخيمات اللاجئين".
بل وصل الأمر بالحركة الصهيونية حد تسميم مياه الآبار لمنع الفلسطينيين من العودة أو البقاء قي مدنهم وقراهم، فقد كشفت صحيفة “هآرتس” عن وجود وثائق تؤكّد، بشكلٍ رسميٍّ، إيغال الحركة الصهيونية في جرائمها، بتسميم آبار المياه الفلسطينية في عكا وغزّة عام 1948، لافتةً إلى أنّه في البحث الذي أجراه بني موريس وبنيامين كيدار، الحاصل على جائزة إسرائيل، تم كشف توثيق رسمي يوفر شهادات عن العملية.
وأفادت صحيفة “هآرتس” العبرية، في عددها الصادر يوم الأحد (16/10/2022)، باكتشاف وثائق رسمية تثبت تسميم إسرائيل لآبار مياه فلسطينية في عام 1948، شارك فيها شخصيات إسرائيلية كبيرة، ومعروفة.
وقالت “إنّه تم إجراء بحث مؤخرا، وتم الحصول على وثائق رسمية تابعة لأرشيف الجيش الإسرائيلي تشير إلى حقيقة تنفيذ العملية التي أكدت تسميم تلك الآبار”.
وذكرت أنه في الأول من نيسان (أبريل) 1948، كتب ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في مذكراته، أهمية العلم، ومدى أهميته، واستخدامه في الحروب، وبعد حوالي شهر ونصف من هذا التاريخ، كتب عن شراء “مواد بيولوجية” مقابل ألفي دولار.
وأشارت إلى أنّه الآن اتضح مدى الربط بين ما كتبه بن غوريون وشراء إسرائيل للمواد البيولوجية، والتي يبدو أنها مسحوق أو سائل معين استخدم لتسميم مياه الآبار الفلسطينية.
ووفقًا للصحيفة العبريّة، فقد كشفت الوثائق الجديدة، التي كانت ممنوعة من النشر بأوامر من الرقابة العسكريّة في دولة الاحتلال، أنّ تلك العمليات شارك فيها شخصيات إسرائيلية كبيرة ومعروفة، على رأسها: ديفيد بن غوريون، ووزير جيش الاحتلال الأسبق موشيه دايان، وإفرايم كاتسير، الرئيس الإسرائيليّ الأسبق، وآخرين.
وتابعت الصحيفة أنّه “على الرغم من أنّ الكشف عن الوثائق التي تدلل على العملية وعلى المشاركين فيها، فإنّ أمر تنفيذ العملية لم يتم كشفه حتى الآن، وأيضًا المعلومات عن شراء أوْ إنتاج السلاح البيولوجيّ”.
علاوة على ذلك، لفتت إلى أنّه “من الوثائق التي لدى الباحثين يتبين أنه على رأس الهرم يقف بن غوريون، وتحته كان يقف يدين الذي أشرف على العملية من الناحية العسكرية، وريتنار كان القائد الفعلي لها. رجل الميدان الكبير في هذه المجموعة كان في البداية دايان، الذي أصبح بعد ذلك وزيرًا للأمن ورئيسًا للأركان. ديان حسب الوثائق عمل كساعٍ، حيث نقل الجراثيم من سلاح العلوم إلى نقاط مختلفة في أرجاء البلاد. أيضاً دافيد شئلتئيل، قائد لواء عصيوني في القدس، كان مشاركًا في العملية. بعد ذلك انضم رجل المخابرات عزرا هيلمر (عومر). وبقيت هوية شخص آخر شارك في العملية مجهولة، في البرقيات كان اسمه مزراحي”.
وتابعت الصحيفة: “الذين نفذوا العمل الأسود لتسميم الآبار في بداية الطريق كانوا جنوداً عاديين، من الكتيبة الرابعة في لواء هرئيل. ولكن بعد ذلك انتقل هذا الدور الى أعضاء القسم العربي في البلماخ، (المستعربون)، وتخصصوا في أعمال تخريب واغتيالات (في مناطق العدو(”.
ومضت الصحيفة قائلةً إنّه”حسب الوثائق فإنّ العملية بدأت في شهر نيسان (أبريل) من 1948 أثناء الحرب، قبل شهر ونصف على قيام الدولة. ومع ازدياد الخوف من غزو الجيوش العربية للبلاد. الباحثون شرحوا بأنّ العملية استهدفت تسميم آبار في قرى عربية مهجورة لمنع العرب من العودة إليها، لكن أيضًا في بلدات يهودية، التي كانت الدولة – القادمة تنوي إخلاءها خوفًا على سلامة السكان من أجل منع العرب من التمركز فيها إذا قاموا باحتلالها”، كما جاء في البحث الذي اعتمد على أرشيف الجيش الإسرائيليّ .
وكان المؤرخ اليهودي ساند قد دعا طلابه إلى الحذر من الروايات التي تصنعها الجماعات حول نفسها وتاريخها، إذ أنّ "كلّ ذاكرة جماعية بهذا القدر أو ذاك، هي نتاج هندسة ثقافية تعديلية، تخضع على الدوام تقريبًا، لاحتياجات الحاضر ومزاجه السائد. ومن عادتي التأكيد بوجه خاص، على أنه عند الحديث عن تاريخ الأمم، فليس الماضي هو من يخلق الحاضر، بل الحاضر القومي هو الذي يعجن الماضي ويصوغه لنفسه".
ويذهب المؤرخ إيلان بابيه إلى وصف ترحيل الفلسطينيين عن وطنهم أنه فكر ترانسفيري متأصل في المشروع الصهيوني من خلال اقتباسات عديدة من أقوال القيادة الصهيونية في مراحل متعددة ومناسبات متنوعة.
ويهدف استحضار أقوال الصهيونية بشأن الترانسفير وضرورة اتخاذ إجراءات عنيفة ضد الفلسطينيين بهدف إقامة الدولة اليهودية إلى‏ الإشارة إلى‏ وجود النية المسبقة والمبيّتة لدى القيادة الصهيونية للقيام بفعلتها، بمعنى أن القيادة الصهيونية لا تستطيع، إذا تحدثنا بمفاهيم مستوردة من عالم القانون الجزائي، الادعاء أن ما حدث هو ضرب من الحادث العرضي، أو الإهمال، أو أنه استثناء وخروج عن القاعدة، بل إن القيادة الصهيونية قامت بفعلتها هذه مع سبق الإصرار والترصد، علماً بأن المجرم الذي يصرح قبل القيام بجريمته عن نيته القيام بها، ثم يقوم بها لاحقاً، فإن ذلك يعني التقاء الأفعال والنيات والتعامل معاً، وتصبح الجريمة من نوع «القتل المتعمد».




موجات الهجرة إلى فلسطين
لما كانت السيطرة على الأرض الفلسطينية تمثل جوهر فلسفة المشروع الصهيوني، ولأنه مشروع كولنيالي يعتمد على استجلاب مادته البشرية من الخارج، كانت الهجرة أهم أسسه، وذلك بهدف الاستيلاء على الأراضي من أجل إحداث التغيير الديمغرافي بأن يحل المستجلبين اليهود محل الفلسطينيين أصحاب الأرض في نفي عملي لكذبة "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض". التي كانت قد روجت لها الحركة الصهيونية.
لذلك عملت الحركة الصهيونية على جلب اليهود من مختلف أنحاء العالم، ليحلوا مكان السكان العرب الفلسطينيين، ساعدتها في ذلك، المملكة المتحدة، دولة الانتداب على فلسطين والولايات المتحدة الأمريكية. فيما ساهم فشل ثورة 1905 في روسيا إلى حدوث موجات من الهجرة ليهود روسيا.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية التي انحازت مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين، سمحت الإدارة الأمريكية بفتح كل الأبواب وبلا شروط أمام الهجرة اليهودية لفلسطين،!
وبموازاة ذاك كانت المنظمات الصهيونية تُنظم الهجرة إلى فلسطين لتدارك التخلف الديمغرافي مقابل الفلسطينيين، لكن الحركة الصهيونية واجهت تحديا آخر هو الرفض داخل المجتمع اليهودي نفسه، إذ كانت فئات واسعة من هذا المجتمع غير مقتنعة بفكرة الدولة، ولم يحدث تحول ذو شأن في هذا المنحى إلا بعد إبادة اليهود على يد النازية في محرقة الحرب العالمية الثانية.
مع ذلك يمكن رصد خمس موجات متتالية من الهجرات اليهودية، كل موجة منها تأتي عقب حدث من الأحداث الدولية والمحلية، أو نتيجة خطة صهيونية موضوعة، فقد حدثت الموجة الأولى ما بين عامي 1882-1903م، إذ هاجر نحو عشرة آلاف يهودي من روسيا في أعقاب حادثة اغتيال قيصر روسيا وما تبعتها من عمليات اضطهاد لليهود هناك نتيجة اشتراكهم في اغتيال قيصر روسيا ،كذلك كانت نتيجة لقضية دريفوس التي أدت لموجة من العداء لليهود في فرنسا عام 1894م، حيث قد رتب ما يتراوح ما بين 20 إلى 30 ألف مهاجر يهودي.
وفى الفترة من (1905 إلى 1918م) جاءت الموجة الثانية، وكان معظم أفرادها من روسـيا أيضاً، وقد قدر عددهم بما يتراوح بين 35-40 ألف يهودي.
انتعشت حركة الاستيطان اليهودي والهجرة إلى فلسطين بعد الاحتلال البريطاني لفلسـطين الذي تلاه مباشرة صدور وعد بلفور عام 1917م، فقد أخذت الهجرات اليهودية تتوالى على فلسـطين بتشـجيع ودعم من حكومة الانتداب البريطاني التي أخذت على عاتقها تنفيـذ مخطط التهـويد، ونتيجة لـذلك أخذ عـدد اليهـود يتزايد يوماً بعد يوم.
كما ازدادت أملاكهم التي منحتهم إياها بريطانيا في فلسطين وسهلت لهم طرق شرائها، فقد حدثت الموجة الثالثة ما بين عامي 1919-1923م بعد حدوث الثورة البلشفية في روسيا، وبلغ عدد المهاجرين في هذه الموجة نحو 35 ألف مهاجر وتمت الموجة الرابعة ما بين عام 1924-1932م، حيث هاجر نحو 62 ألف مهاجر بسبب قيام الولايات المتحدة الأمريكية بسن قوانين حدت من الهجرة إليها. أما الموجة الخامسة فكانت بين عامي 1933-1938م، حيث بلغ عدد المهاجرين في هذه المرحلة حوالي "174" ألف مهاجر يهودي، مما رفع عدد السكان إلى 370 ألف يهودي، وأخذت تتدفق إلى البلاد أفواج عديدة من المهاجرين بشكل لم يسبق له مثيل مما أثار شعور الاستياء والغضب لدى الشعب الفلسطيني، وكان هذا أحد الأسـباب الرئيسـية التي فجـرت ثورة 1936م الشـهيرة، وكان هذا مع بداية عهد نازية هتلر وانتشـار اللا سامية في أوروبا.
وإلى جانب الموجات السابقة المشار، كانت هناك هجرات سرية قام بها اليهود الشرقيين (السفارديم) من جهات مختلفة من اليمن والحبشة وأفريقيا الشمالية وتركيا وإيران وذلك في فترة الأربعينات، بسبب قيام سلطات الانتداب البريطاني بفرض قيود على الهجرة اليهودية؛ تقرباً للعرب؛ للوقوف بجانبها في الحرب العالمية الثانية، وقد بلغت حصيلة الهجرة اليهودية إلى فلسطين حتى عام 1948م حوالي 650 ألف مهاجر يهودي، وبعد قيام إسرائيل قامت بتشجيع الهجرة اليهودية وذلك بسن العديد من القوانين مثل قانون العودة عام 1950م، وقانون الجنسية الإسرائيلي عام 1952م، فازداد عدد المهاجرين، حيث بلغ في الفترة من 1948-1967م (12.0075) مهاجراً.
كما وشهد الكيان الإسرائيلي عقب إنشائه موجات هجرة واسعة؛ نتيجة زوال قيود الانتداب البريطاني، وتولي الحكومة مسؤولية الإشراف المباشر على تنظيم موجات الهجرة واستيطانها، مما ساهم في تزايد أعداد المهاجرين. كما رافق عمليات الهجرة توسيع الاستيطان المدني والقروي، لاستيعاب هذه الهجرة، وقد بلغ مجموع الهجرة اليهودية بين(1948–1967م) حوالي 1300000 يهودي شكلوا الأساس البشرى للكيان الإسرائيلي في فلسطين، وعموماً، أدت الهجرة اليهودية والاستيطان وترحيل العرب إلى إقامة أكبر غيتو يهودي غاصب وعنصري في العالم، أي قيام كيان غريب ودخيل، استيطاني واستعماري، على الأرض العربية الفلسطينية.















الفصل الخامس.. المشروع الصهيوني وأزمة الوجود
مقدمة
الكيان الصهيوني .. أزمة بنيوية مستمرة.
نضوب خزان الهجرة.والهجرة العكسية وفقدان هالة النموذج.
انكشاف المشروع الصهيوني .(تناقضات الكيان الداخلية..تنوع اثني ..فشل عملية الصهر.نظام عنصري..الشرذمة السياسية..)
دور العامل الفلسطيني الكفاحي والديموغرافي ونفي النفي.
















الفصل الخامس.. المشروع الصهيوني وأزمة الوجود
مقدمة
عندما ينضح حديث المسؤولين الصهاينة في مؤسسات الكيان المختلفة بغياب الثقة ضمن المدى المنظور في استمرار وجود الكيان على أرض فلسطين، فإن ذلك هو تظهير لجملة من الأزمات التي يعيشها. وتتفاقم على وقع احتدام التناقض مع الفلسطينيين أصحاب الأرض الذي يؤكد وجودهم والتنامي في مصادر قوتهم وإن كان ببطء، إلا أن هذا التنامي بمعناه الفكري يعيه كل المستجلبين إلى فلسطين، لأنه يمثل تآكلا في مساحة ثقتهم بوجودهم في فلسطين، وهو مؤشر على أن الكيان يسير نحو نهايته المحتومة.
وعندما يقول أحد غلاة الصهاينة إن خبيرا أمنيا إسرائيليا بارزا، حذر من خطر حقيقي داخلي يهدد استمرار وجود "إسرائيل" كدولة يهودية في المنطقة، في ظل تفكك "النسيج المشترك" الإسرائيلي الداخلي وتآكله، فهذا يعني أن الكيان يعيش أزمة وجود لأنه كيان طارئ على المنطقة.
وهو ما كتبه بوسي ميلمان، المعلق الإسرائيلي الخبير بالشؤون الأمنية والاستخباراتية، في مقال بصحيفة "هآرتس وهو "أن "إسرائيل" والصهاينة بالنسبة للعرب، مثل "نبتة غريبة، نهايتهم الاختفاء مثل الصليبيين".
ولذلك عزا ميلمان "الخوف الإسرائيلي إلى هشاشة الوجود في الدولة الصغيرة، المحاطة بعالم إسلامي"، منوها أن المقارنة بين الصليبين والاحتلال الإسرائيلي "لافتة وقوية".
وأضاف "الصليبيون كانوا غزاة من أوروبا، مفعمون بالأيديولوجيا، احتلوا البلاد بقوة السلاح، وأقاموا ممالك مسلحة، ومثلوا ثقافة غربية في قلب الشرق الإسلامي، وحاولوا، لكنهم وجدوا صعوبة في الاندماج في محيطهم، وأنهكوا مرة تلو الأخرى في معارك، وأضعفوا في أعقاب انقسامات وصراعات داخلية فيما بينهم، لدرجة أن خارت قواهم وانتهى حكمهم".
وتابع "حتى لو كانت هناك أوجه شبه، كل مقارنة تاريخية هي مبسطة تقريبا، بين المشروع الصهيوني والممالك الصليبية، أولا: يجب علينا أن نذكر بأنه في زمن الحملات الصليبية، منذ نهاية القرن الحادي عشر وحتى منتصف القرن الثالث عشر، لم تكن هناك رؤية قومية التي على أساسها ومنها نمت الحركة الصهيونية".
فيما يستخدم اليميني أفيدور ليبرمان مصطلح انهيار المنظومات الحكومية بما يعكسه من أزمة بنيوية نتيجتها كما قال الانهيار"والتشكيك في قدرات مؤسسات الكيان في مختلف المستويات وأبرزها الأمنية والعسكرية والسياسية، ولهذا استخدم مصطلح الانهيار ،على أثر معركة سيف القدس أيار/مايو 2021 التي كشفت جدية مقولة "نفي النفي" التي أبرزها تجلي (الهوية والانتماء الفلسطيني) خلال تلك المعركة التي تظل حية وحاضرة لتنفجر في وجه الاحتلال عندما تحين لحظات الحقيقية ، تلك التجربة جعلت صحيفة هآرتس تنعى ما يسمى بالوعد الرباني عندما كتبت" طالما أن تل أبيب ذاقت صواريخ المقاومة، فمن الأفضل أن نتخلَّى عن حلمنا الزائف بإسرائيل الكبرى، ويجب أن تكون للفلسطيني دولة جارة تُسَالمنا ونُسالمها، وهذا فقط يطيل عمر بقائنا على هذه الأرض بضع سنين؛ وأعتقد أنه ولو بعد ألف عام هذا إن استطعنا أن نستمر لعشر أعوام قادمة كدولة يهودية، فلا بد أن يأتي يوم ندفع فيه كل الفاتورة" ، هذا الشك من قبل نخب صهيونية في قدرة مشروع الحركة الصهيونية على البقاء يكاد أن يكون قاسما نفسيا عاما لدي كل المستجلبين تؤكده الأزمة البنيوية التي يعيشها الكيان بتجلياتها المختلفة.







الكيان الصهيوني..أزمة بنيوية مستمرة.
لم تمض سبعة عقود على عملية الزرع القسرية للمستجلبين اليهود من أربعة أرجاء الدنيا في فلسطين، تحت ذريعة مجموعة من الخرافات لتبرير وجودها الكولنيالي، حتى ظهرت أعراض مرضية تمس جوهر الكيان الصهيوني كنتيجة موضوعية لتداعي مبررات زرعه أمام الحقائق العلمية التي نسفت كل تلك الخرافات حول الوعد الإلهي، والأرض التي بلا شعب للشعب الذي بلا أرض..إضافة إلى قوة العامل الفلسطيني الديمغرافي والكفاحي، الذي يعيد التذكر بمصير الإمارات الصليبية التي لفظتها بلاد الشام كمصير لأي استعمار استيطاني، يستحضر قولا وعملا النموذج الجزائري والروديسي والجنوب أفريقي في كنس المستوطنين، وينفي عن الحركة الصهيونية وتجسيدها المادي الكيان الصهيوني، النموذج الأمريكي، والنيوزلندي، والاسترالي للاستعمار الاستيطاني، الذي حسب المؤرخ الأسترالي باتريك محكوم بشرطين هما أولا: الاستيلاء على الأرض، وثانيا لأنه قائمٌ على منطق الإبادة لأهل البلاد بالمعنى الماديّ، والمعنويّ، والسياسيّ، والثقافيّ، ومن ثم السطو على هوية أهل البلاد و"استدخالها" في هوية المستوطن الجديدة. لأنه جاء ليبقى ولا ينتهي في الزمان أو المكان، فهو استعمارٌ لا رجعةَ عنه، إن وعي هذه الحقيقة من قبل الكيان الصهيوني وإن بشكل قسري، كونه فشل فيما نجحت فيه الدول التي قامت على فلسفة الاستعمار الاستيطاني عبر أداتها الإبادة للسكان الأصليين، وهي الفلسفة التي مارسها الكيان الصهيوني وكشف وقائعها وضحاياها مؤرخون يهود من صلب النظام، لأن الشعب الفلسطيني كان دوما حاضرا ويمارس حقه الشرعي والقانوني عبر كافة أشكال النضال من أجل تحرير وطنه كاملا. وهذا هو الفارق بين الشعب الفلسطيني وتلك الشعوب التي نجحت قوى الاستعمار الأوروبي الاستيطاني في إبادتها للأسف.
وبسبب الشعور الذي أحدثه الوجود الفلسطيني في فلسطين وحولها، وكفاحه المستمر للتحرير والعودة، جعل مستجلبي الكيان يعيشون حالة من عدم اليقين ببقاء كيانهم لأنه كيان عنصري كولنيالي استيطاني، وهذا جعل الكيان يعيش جملة من التناقضات الجوهرية التي هي تجلي لأزمة بنيوية لا يمكن حلها. ومن أبرز مظاهرها شرذمة الهويات الدينية والقومية والسياسية.
أزمة الهوية
إن تداعيات أزمة الهوية الشاملة خلقت تناقضات كبيرة داخل التجمع الاستيطاني الصهيوني، الذي هو خليط عرقي إثني يهودي غير متجانس بسبب من أصولهم التي تعود إلى أكثر من (100) دولة في العالم.
يشكل اليهود الشرقيين (السفارديم) حوالي نصفه، فيما النصف الآخر من اليهود الغربيين (الإشكناز) الذين استُجلبوا من حضارات مُختلفة تماما عن الحضارات الشرقية، أما اليهود الروس، وأعدادهم تقارب 1.5 مليون من سكان "إسرائيل" فقد وصلوا إلى فلسطين المحتلة إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وهم مُتخمون بثقافات مُختلطة، وحتى بلغات مُختلفة، وبمشاعر بعيدة عن أيديولوجيا الموقف العقائدي الصهيوني، بل ملامسة لأيديولوجيا المنافع وبراغماتيا المصالح، لذلك سعت غالبية يهود جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق للانطلاق خارج بلدانها الأصلية من أجل الحصول على مكاسب ومنافع حياتية واقتصادية بالدرجة الأولى، وكمعبر نحو الغرب الأوروبي بعد عقود طويلة من الانغلاق داخل منظومة الاتحاد السوفياتي السابق.

التعدد الإثني
ومن ثم فإن وجود أكثر من 35 إثنية بجذورها القريبة منها: 1.9 مليون من اليهود من أصول أوروبية-أميركية، و858 ألفا من أصول سوفياتية، وهذه المجموعة هي الكبرى في الكيان الصهيوني، و500 ألف من أصل مغربي، و300 ألف من أصل بولندي وروماني، و180 ألفا من أصل عراقي، و180 ألفا من أصل يمني، و64 ألفا من اليهود الفلاشا، والباقي من أصول مختلفة: سوري، إيراني، مصري..) ، هو خليط يصعب اندماجه إن لم يكن صهره في بوتقة المشروع الكولنيالي للحركة الصهيونية.
ونتج عن شرذمة الهويات الدينية والقومية والسياسية في "إسرائيل", كمظهر من مظاهر الأزمة البنيوية تراخي قبضة الصهيونية التي لم تعد تتمكّن من احتواء التناقضات الداخلية المستشرية, إلى حدّ التصريح بالحديث عن مرحلة ما بعد الصهيونية وعن ضرورة تبنّي هويّة إسرائيلية فقط, وعن ضرورة تحوّل "إسرائيل" إلى دولة شرق أوسطية عادية.
لقد تغيّرت وتفتّتت صورة الكيان الأسطورة المأمولة لتحلّ محلّها صور أخرى عديدة لكلٍّ منها شرعيتها.. بين اليهودي والعربي, والمتشدّدين دينياً (الحريديم) والقوميين الدينيين (غوش ايمونيم) والتقليديين والعلمانيين وغيرهم ممّن تمتدّ جذورهم إلى أصول عرقية مختلفة مثل السفاراديم والأشكنازيم والمهاجرين الروس والأثيوبيين (الفلاشا) وغيرهم.
وقد أدّى هذا التفتّت للصيغة الإسرائيلية إلى تشرذم بين ثقافات وطوائف مختلفة, ولهجات متباينة, ومواقف متصارعة تجاه الدولة اليهودية. حتى أنه يمكن القول بأنّ هذه الانشقاقات “تؤهّل لحدوث انفجارات عنيفة”. داخل هذا التكوين الاستيطاني الدخيل على فلسطين.

مصطلح الحرب الأهلية
ولذلك أصبح مصطلح “الحرب الأهلية” بين المتدينين والعلمانيين في إسرائيل شائع الاستعمال, بل وأكثر من هذا, بدأ الحديث عن احتمال حصول انقلاب عسكري وصراع جنرالات. فإسرائيل حسب حاييم هانغفي هي “ديمقراطية مسلّحة حيث نجد الجنرالات في كلّ مكان: في الكنيست في الحكومة, في البلديات والمجالس المحليّة, وأين لا يوجدون؟ حتى في مقر الرئاسة مثل حاييم هرتسوغ وعيزر فايتسمان. “إنها دولة ترتدي الخاكي”. وعلى سبيل المثال يعدّد هانغفي: أوري أور, رفائيل ايتان, بنيامين بن اليعيزر, متان فلنائي, رحبعام زئيفي, آمنون شاحاك, افرايم سنيه, اورن شاحور, ايهود باراك, آرييل شارون... هؤلاء وأمثالهم حسب هانغفي هم الطغمة العسكرية, وهي “الحزب غير المسجّل أبداً في سجل الأحزاب في وزارة الداخلية وهي التي ستنتصر”. ويضيف: “علينا أن نسحب موضوع السلام من أيدي الجنرالات لأنهم يوقفونه ويفجّرونه ويقضون عليه, يجب أن نقوم بذلك قبل فوات الأوان”.

خرافة القومية اليهودية
لقد تبين في العقود الماضية من قيام إسرائيل على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني أن إسرائيل النقية ذات التكوين القائم على صهر اليهود في بوتقة واحدة تحت مسمى "القومية اليهودية" قد فشلت تماما، وأن الاعتراف باليهود كقومية جديدة مُتميزة لغويا وثقافيا عن بقية السكان فشلت بدورها، فهي الأكذوبة الكبرى، كما هي أمرٌ منافٍ للمنطق والعقل، فاليهودية في نهاية المطاف دين وليست قومية.

إن ما يجري داخل الخارطة السياسية الإسرائيلية بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة يدلل بوضوح على أن هناك إعادة تشكيل بطيئة ووئيدة لمجمل الخارطة "الإسرائيلية "، وهي بكل الحالات لا تعني أن المجتمع الاستيطاني اليهودي سائر نحو أي من التفكك أو التماسك، ففي الجانب "الإسرائيلي" الداخلي الخاص من هذه العملية نلمس الحجم الكبير من التناقضات والتداخلات.
إن ملاحظة هذه التطورات ورؤية التناقضات والتعارضات في بنية المجتمع "الإسرائيلي" اليهودي (الجذور والمنابت القومية، الإثنية، الطبقية الاقتصادية، الأيديولوجية/الفكرية والسياسية والثقافية…إلخ) عامل مهم ومؤثر في رسم وتخطيط الأداء الفلسطيني والعربي في السياسة اليومية والإستراتيجية، ولإعمال العقل حول ما يجري داخل إسرائيل وفي سياق مواجهة السياسة التوسعية "الإسرائيلية" الصهيونية، وأيديولوجية إسرائيل العنصرية الصهيونية التي تعد نفسها دولة اليهود فقط وليست دولة كل مواطنيها.

تجليات الأزمة البنيوية
ومن أبرز مظاهر تلك الأزمة البنيوية هو عدم وجود دستور، وتعدّ مسألة وضع دستور لكيان المستجلبين من أكثر المسائل التي اختلفت ولا تزال تختلف¬ حولها آراء العديد من الأطراف الحزبيّة والسياسيّة والعقائديّة, ولهذا لا يمكن النظر إليها في إطار صراع العلمانيين والمتديّنين فحسب. فلقد كان لهذا الخلاف جذور داخل الحركة الصهيونية قبل قيام الدولة المنشودة.
وكان زعيم الحركة الصهيونية, تيودور هرتزل, يرى أن على الحركة الصهيونية أن تكلّف لجنة من رجال القانون لصياغة “أفضل دستور عصري ممكن, بشرط أن يكون ذا طبيعة مرنة ومعتدلة” .
ويرى يوسي ميلمان، المعلق الإسرائيلي الخبير بالشؤون الأمنية والاستخباراتية، في مقال بصحيفة "هآرتس"أن "إسرائيل تتفكك كدولة وكمجتمع؛ الشروخ، الانقسام، الكراهية، الاشمئزاز المتزايد من قيم ليبرالية والانقسامات السياسية وغيرها بين اليمين وبين الوسط–يسار، بين العلمانيين والمتدينين، بين الشرقيين والأشكناز، كل ذلك يهدد النسيج الدقيق للوجود هنا"..."هذا النسيج المشترك الذي وحد إسرائيل، آخذ في التآكل".
وأبرز التناقضات التي تهدد مجتمع المستجلبين الصهاينة بالانهيار هي:
1- أنه مجتمع مبني على الهجرة المتواصلة والصراع الدائم مع البيئة المحيطة به.
2- الصراع الدائم بين اليهود الغربيين (الاشكيناز) واليهود الشرقيين (السفارديم).
3- تراجع خطر التهديد الخارجي الذي كانت الحكومات الإسرائيلية تلوح به دائماً من أجل تأجيل البت في القضايا الداخلية لحساب التهديد بالإبادة من قبل الدول العربية، وبما أن الدول العربية أقدمت على مصالحة إسرائيل فقد زال الخطر الذي يوحّد اليهود، لذلك سيكون من الصعب تأجيل انفجار التناقضات الداخلية.
4- يقول الأستاذ عبد الوهاب المسيري من جامعة عين شمس: إنه عندما انتقل المهاجرون اليهود إلى إسرائيل (لاستئناف التاريخ اليهود وتحقيق الثقافة اليهودية) اكتشفوا أنه لا توجد ثقافة يهودية واحدة ولا يوجد تاريخ يهودي واحد، وإنما توجد ثقافات مختلفة لمجموعات يهودية متباينة في اللغة والعادات والتقاليد، فهناك ثقافة يهود أميركا، وثقافة يهود أوروبا الشرقية، وثقافة يهود الهند، وثقافة يهود الحبشة… إالخ.
5-ظهرت مشكلة أخرى تتلخص في الإجابة عن سؤال: من هو اليهودي؟ ولم يستقر الرأي بعد بشأن هذا التعريف بغض النظر عن القرار الغامض الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا في إسرائيل وهو أن اليهودي «هو كل من يستقر في قرارة نفسه بأنه كذلك» وهو تعريف لطيف على حد قول الكاتب ولكنه لا يجدي في مجال التمييز والتصنيف.
6- «اللغة الإنجليزية أخذت تحل محل اللغة العبرية إذ تبين للمثقفين اليهود أن قراء اللغة العبرية لا يزيدون عن خمسة ملايين، بينما تقرأ اللغة الإنجليزية النسبة الكبرى من مثقفي العالم،
كل ذلك جعل (الأمركة) تسري في الكيان الإسرائيلي بخطى سريعة على حساب الهوية اليهودية والثقافة اليهودية».
7- «خطر العرب الذين يعيشون داخل إسرائيل والذين يتطلعون دائماً لأصولهم الثقافية» بعد المفاوضات والحلول المرسومة.
8- «إن تلك الدولة ليس لها حتى الآن دستور يحكم تشريعاتها. وتتعامل مع القضايا الرئيسية من خلال أحكام وقرارات المحكمة الدستورية العليا لكل حالة».
9- حجم المعونات الأميركية لإسرائيل يصل إلى 11 بليون دولار سنوياً، وهذا المبلغ هل سيدوم بعد الحلول المرسومة، وما مدى استقلال القرار الإسرائيلي المرتبط بهذا القدر من العون المالي؟
10- المؤسسة العسكرية الإسرائيلية هي التي تحكم إسرائيل فقد حكمها منذ قيامها 10 رؤساء وزراء منهم 7 عسكريون.
التصدع الاجتماعي الأخطر في إسرائيل الذي يصل أحياناً إلى مستويات من الصراع، هو التصدع الديني داخل التجمع اليهودي نفسه، ويتعلق بدرجة التدين، فبسبب التفاوت الكبير في درجة وشكل التدين بين اليهود الشرقيين (السفارديم) والغربيين (الأشكناز)، تعزز التصدع الإثني بين الطائفتين، حتى إن تعريف الهوية الأشكنازية والسفاردية صار على أساس مذهبي ديني. إلى جانب التصدعات بين المتدينين الصهاينة والمتدينين غير الصهاينة، وبين اليهود الروس والفلاشا وغيرها من الجماعات ذات الخلفيات المتباينة.
ويمتد هذا التصدع وبصورة أعمق في مواجهة التيار العلماني، علماً أنه ليس هناك فصل واضح بين الدين والدولة في إسرائيل، فكثير من مظاهر ورموز الدولة هي ذات مصدر ديني، فالأعياد الوطنية مثلاً هي بذاتها أعياد دينية، وكذلك تصنيف المواطنين يتم على أساس ديني في الهويات الشخصية.
وقد أشار تقرير "مدار" الإستراتيجي 2018، إلى أنواع أخرى من التصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي، منها ما له علاقة بالتوترات والتصدعات الطبقية الناشئة ما بين الشرائح السكانية، ذات الصلة بالتطورات الديموغرافية والتغيرات الاقتصادية والفجوات الاجتماعية، فضلاً عن التصدع (الصراع) القومي الأهم بين اليهود وسكان البلاد الأصليين، وهذا النوع من الصراع يخلق إشكالية كبيرة في تعريف "الإسرائيلي"، و"الأمة الإسرائيلية"، وتحديد حقوق المواطنة.
إضافة إلى التصدعات الدينية بين الحريديم والمتدينين الصهاينة والعلمانيين، هنالك التصدع الطائفي بين المهاجرين اليهود من أصول مختلفة (خاصة بين الأشكناز والسفارديم)، وأيضاً التصدعات السياسية الأيديولوجية بين تيار حزب العمل ومن يدور في فلكه، وبين اليمين الإسرائيلي الذي يسعى للسيطرة اليهودية الكاملة على ما يسمونها أرض إسرائيل التوراتية.
والتصدع الاجتماعي/ الديني الذي نتناوله هنا، هو التصدع القائم في المجتمع اليهودي بين المتدينين والعلمانيين، وانطلاقاً من هذا البعد، يقسم بعض الدارسين مستويات التدين في المجتمع الإسرائيلي اليهودي إلى ثلاث فئات أساسية هي: المتدينون المتزمتون، وهم الذين يلتزمون بالتعاليم الدينية بصفة مستمرة في كل جوانب حياتهم. والفئة الثانية يطلق عليها التقليديون، وهم من يلتزمون بالتعاليم الدينية التي لها جانب اجتماعي مثل الاحتفال بالأعياد الدينية، وتقاليد الزواج، وعادات الأكل، ومراسيم الدفن وفق الشريعة اليهودية، والذهاب إلى الكنيس في المناسبات. والفئة الثالثة تتكون من العلمانيين غير الملتزمين بالدين، وهم يتفاوتون في موقفهم من الديانة اليهودية من عدم المبالاة بالطقوس الدينية إلى معارضتها. يضاف إليهم فئة الملحدين.
وحسب تصنيف بعض الباحثين، تنقسم فئة المتدينين إلى مجموعتين أساسيتين هما: المتدينون الصهيونيون، وهم أكثر انفتاحاً وتقبلاً للمجتمع، والمتدينون الحريديم غير الصهيونيين، وهم أكثر انعزالاً وتشدداً عن بقية المجتمع. وهؤلاء لا يعترفون بالصهيونية، ويتفاوت اعترافهم بدولة إسرائيل بين منكر لها، وبين معترف بحكم الواقع، دون منحها الشرعية الدينية، وكلا الفئتين كانتا تشكلان أقلية في المجتمع اليهودي، وحسب الباحثة هنيدة غانم، كانت نسبة المتدينين بإسرائيل في بدايات تأسيس الدولة لم تكن تتعدى الـ 10%، وهم اليوم يشكلون حوالى نصف المجتمع.
ولأن الحركة الصهيونية لم تفصِل أصلاً الانتماء الديني عن الانتماء القومي، لذا، ومنذ وقت مبكر لنشوئها، برزت مشكلة الصراع بين العلمانيين والمتدينين، وهذا الصراع المستمر حتى اليوم صراع حقيقي، ولم يكن خداعاً أو تمثيلاً، وهو صراع لم يفضِ حتى اللحظة إلى الفصل بين الأمة والدين، وبين الدين والدولة.
اليوم، وبسهولة، يمكن رصد حالة من التصدع والاستقطاب والصراع بين المتدينين والعلمانيين، تزداد مع الوقت، وهذه الحالة تولد مزيداً من التوتر بين المجموعتين. وتبدو أكثر مظاهر التوتر هذه في التحالف الوثيق بين المتدينين والمستوطنين المتطرفين، ضد مؤسسات الدولة التي ما زالت تحتفظ ببعض الطابع العلماني، حيث يحاول بعض الحاخامات التحريض على الدولة وعلى الجيش، وعلى رفض أوامر الإخلاء من بعض البؤر الاستيطانية، حتى لو وصل الأمر حد الاشتباك مع الجنود وتوجيه الإهانات لهم.
أكثر ما تخشاه إسرائيل أن يعمّ السلام الحقيقي، لأنه سيُفقدها سلاحَها الأهم في تمتين جبهتها الداخلية، وهو سلاح التخويف من خطر خارجي، في هذه الحالة ستبدأ تلك التناقضات والتصدعات بالظهور والتفاعل، وقد تؤدي إلى انشقاقات عامودية في المجتمع الإسرائيلي.

قال مخرج فيلم؛ حمل عنوان "2048" وهو يحمل الجنسية الإسرائيلية، ويدعى كفتوري لصحيفة "الجروزاليم بوست" الإسرائيلية: "أشعر أننا نسير في الاتجاه الخاطئ ونهدد بتدمير إسرائيل وهذا لا يأتي بموجب تهديد خارجي، بل من الداخل"، لأنه لاحظ وجود تناقضات كبيرة داخل التجمع الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يضم مجموعات يهودية غير متجانسة تعود أصولهم إلى أكثر من (100) دولة في العالم.
وهي وصفه من شأنها..القول أن المشروع الصهيوني قد قارب النهاية يعزز ذلك الجزم بأن هناك تناقضات جوهرية داخل التجمع الاستيطاني الإسرائيلي ستدفع إلى الاعتقاد بزوال إسرائيل بعد انتهاء دورها الوظيفي. نتيجة وجود تناقضات كبيرة داخل التجمع الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يضم مجموعات يهودية غير متجانسة تعود أصولهم إلى أكثر من (100) دولة في العالم.
ومن هذه التناقضات، تلك المتعلقة بالإثنية بين اليهود أنفسهم: شرقيين وغربيين وفالاشا، الاختلاف على تعريف هوية من هو اليهودي، التناقضات الطبقية، التفرقة العنصرية بين اليهود أنفسهم، الخلاف بين المؤسستين الحاخاميتين في إسرائيل: الشرقية والغربية، وغيرها الكثير. كل الأسباب السابقة تساهم بفعالية في تسارع وتعاظم المأزق الوجودي الاستراتيجي الإسرائيلي بشكل عام.
أزمة في الهوية والانتماء
وأضاف أن معطيات الاستطلاع تدل على وجود مشكلة بالشعور بالهوية، والارتباط والانتماء للكيان المحتل لدى جمهور آخذ بالازدياد في الكيان الإسرائيلي وهذا "واقع يخلق شرخا وانقساما في المجتمع الإسرائيلي".

المشروع الصهيوني .. نحو إقامة كيان مستجلبين
لما كان المشروع الصهيوني في فلسطين قد قام على جلب مادته البشرية بالكامل عبر الهجرة، لأنه وجود كولنيالي إحلالي، وأن بقاءه يعتمد على استمرار هذه الهجرة، كونه في الأساس كيان مهاجرين، لذلك كان استقطاب المهاجرين على الدوام عاملا مقررا في النمو السكاني، لمواجهة التحدي الديمغرافي لأصحاب الأرض، بعد انكشاف أكذوبة "أن فلسطين أرض بلا شعب".
ولذلك فإن بقاء هذا الكيان بالمعنى الاستراتيجي يعتمد على استمرار هذه الهجرة، فيما يؤكد أصحاب الأرض أنهم كانوا وما زالوا الثابت البشري الوحيد في فلسطين، وأن وجود المستجلبين اليهود في وطنهم هو وجود قسري طارئ وسينتهي.
ولأنه كيان مستجلبين تظل الهجرة اليهودية هاجساً قوياً لأصحاب القرار في "إسرائيل"، كونها حجر الأساس في تأمين المادة البشرية اليهودية لتحقيق أحلامها التوسعية في المنطقة العربية وتحقيق التفوق الديموغرافي الدائم على الفلسطينيين، ولذلك أولى قادة الحركة الصهيونية و"إسرائيل" أهميةً كبيرةً لموضوع هجرة اليهود من بقاع الأرض كافة باتجاه فلسطين، وذلك لتأمين المادة البشرية التي تلزم لتنفيذ حلقات المشروع الصهيوني المتصلة والممرحلة، ولوحظ أن الهجرة اليهودية لم تتخذ طابع الجذب والطرد وفق العوامل الموضوعية، وإنما اتخذت طابعاً منظماً تقف وراءه المؤسسات الصهيونية، ومنذ مؤتمر بال استطاعت الحركة الصهيونية وإسرائيل استغلال الظروف الدولية لجذب مزيد من يهود العالم وإسرائيل، فكانت بريطانيا المؤسس الأول لدفع المادة البشرية اليهودية إلى فلسطين أثناء انتدابها على فلسطين خلال الفترة (1922-1948) فحصلت كبرى الهجرات اليهودية إبان تلك الفترة حتى وصل مجموع اليهود عشية الإعلان عن إقامة "إسرائيل" في 15 مايو/أيار 1948 إلى نحو (650) ألف يهودي ارتفع نتيجة الهجرة بشكل أساسي، وبفعل استمرار الهجرة ليصل إلى (5.5) ملايين يهودي في العام 2009.
إلا أن منسوب هذه الهجرة تراجع بسبب تراجع عوامل الجذب إلى فلسطين المحتلة من جانب، وعوامل الطرد من دول المنشأ، باستثناء فترة انهيار الاتحاد السوفيتي السابق .
لكنها بعد ذلك عادت للتراجع مما أدى إلى حدوث خلل في الميزان الديمغرافي داخل فلسطين المحتلة، سينتهي قريباً إلى فجوة رقمية لمصلحة الفلسطينيين، في وقت يخشى معه اليهود أن يتحوَّلوا إلى أقليَّة حاكمة لأكثرية فلسطينية متزايدة باستمرار.

نضوب الهجرة اليهودية
ويعود التراجع في منسوب استجلاب اليهود إلى نضوب مخزون الهجرة اليهودية، إلى أن معظم يهود العالم (خارج فلسطين المحتلة) يتركزون حاليًّا في الولايات المتحدة (نحو 5.5 ملايين) وفي أوروبا الغربية، وهو ما يجعل هجرتهم أمرًا مستبعدًا. بل إن فلسطين المحتلة باتت على ضوء جملة من الظروف بيئة طاردة لليهود فيما يسمى (الهجرة العكسية) حتى أخذ عدد المهاجرين اليهود من "إسرائيل" يقترب من عدد اليهود المستجلبين إليها، بل تجاوزه في سنة 2007.
ويمكن القول إنه بعد سبعة عقود وصل مسار استجلاب اليهود إلى فلسطين إلى نهايته، ارتباطا بالشروط التي طالما حكمت عملية الاستجلاب من وجود خزان بشري مستعد لذلك، ثم انكشاف أكذوبة أن الكيان الصهيوني هو مكان الأمن وتحقيق الأحلام، لتنتهي بذلك فترة الهجرة المزدهرة.

انتهاء موسم الاستجلاب المزدهر
وتكشف فترة انتهاء الهجرة المزدهرة لليهود السوفييت مطلع التسعينيات من القرن الماضي، أنّ ثمة عوائق أساسية تحول، اليوم، دون تدفق موجات المهاجرين اليهود إلى "إسرائيل"، وفي مقدَّمها يأتي عدم توافر عوامل طاردة من المصدر وجاذبة في كيان الاحتلال من أجل تحقق تلك الهجرة، فأكثرية يهود الخارج هم في مستويات معيشية مرتفعة في دخل الفرد والرفاه الاجتماعي، والتأقلم مع بيئات دولية من الصعوبة التخلي عنها من أجل الدخول إلى بيئة إسرائيلية مختلفة، تشهد تراجعاً في مؤشرات النمو والرفاه داخل مجتمع المستجلبين اليهود، يضاف إلى ذلك عامل الكفاح الفلسطيني الذي يجعل الكيان الصهيوني في حالة استنفار، بعد أن فجر الشعب الفلسطيني الانتفاضة الأولى والثانية جعلت الكيان الصهيوني يعيش واقعا أمنيا غير مسبوق ومن ناحية أخري، كشفت انتفاضة كانون أول/ يناير 1987 وانتفاضة الأقصى أيلول/سبتمبر 2000، أن لا أمان لأي مستجلب إلى فلسطين، ناهيك أنها رسالة تقول أن مستقبل الكيان الصهيوني في حد ذاته محل شك..
تلك العوامل أدت إلى نمو سلبي لمعدلات الهجرة الوافدة إلى فلسطين المحتلة، فالعام 2003 لم يتعدَّ عدد المهاجرين 25 ألفاً، وتراجع العام 2007 إلى 19700 مهاجر فقط بعد أن كان هذا العدد يقترب من هامش الـ 100 ألف سنوياً خلال العقد الأخير من القرن الماضي .
إن تراجع منسوب استجلاب المهاجرين اليهود يعود إلى عاملين أولهما يتعلق بتراجع عوامل جذب الكيان الصهيوني لليهود إلى فلسطين المحتلة، والثاني تراجع مؤشرات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي في كيان المستجلبين الصهاينة إسرائيل مقارنة بالسنوات السابقة، وفي الوقت نفسه لا توجد عوامل طاردة لليهود باتجاه فلسطين المحتلة في بلدانهم سواء في الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة الأميركية.
ويشار أيضا إلي تراجع عوامل الطرد لليهود من دول الأصل باتجاه فلسطين المحتلة، خاصة أن أكثر من نصف مجموع اليهود في العالم موجودون حاليا في دول أكثر جذبًا من الاقتصاد الإسرائيلي، مثل الجالية اليهودية في الولايات المتحدة وهي 5.6 ملايين يهودي، ونحو 600 ألف يهودي في فرنسا.
مما تقدم يتضح أنه بعد مرور عقود على نكبة الفلسطينيين الكبرى عام 1948، أن ثمة صراع ديمغرافي صارخ يحصل بين العرب والمستجلبين اليهود على أرض فلسطين، وهو لصالح أصحاب الأرض في المدى الاستراتيجي للأسباب المذكورة آنفًا. هنا تبرز أهمية وضرورة دعم الفلسطينيين فوق أرضهم ماديا وسياسيا وخاصة في مدينة القدس.
وفي نفس الوقت تدل الكثير من المؤشرات على أن "إسرائيل" لم تعد مكانا جاذبا لليهود في أرجاء العالم، فحسب المعطيات التي كشف عنها المكتب المركزي للإحصاء في كيان المستجلبين اليهود، فقد تدنت معدلات الهجرة اليهودية إليه بشكل كبير، لتصل إلى 18.129 مهاجرا يهوديا في العام، وهو أقل عدد منذ عام 1988.
فمع أن الولايات المتحدة تضم أكبر تجمع لليهود في العالم، فإن متوسط من يهاجر من اليهود الأميركيين لا يتجاوز 2600 مهاجر في العام، في حين أن عدد اليهود في الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي الذين يهاجرون إلى إسرائيل قد انخفض إلى 6600 مهاجر، مع العلم بأنه كان يعول على هؤلاء تحديداً كمصدر لتعزيز الواقع الديمغرافي اليهودي في أرض فلسطين.
ومما ساهم في هذا الإحجام عن الهجرة إلى فلسطين المحتلة، وجود مؤشرات على تدني مكانة "إسرائيل" في نظر يهود العالم وتحديدا في الولايات المتحدة الأميركية، إذ أن نتائج دراسة أجريت لصالح ديوان رئاسة الوزراء في كان المستجلبين كشفت أن 50% من الشباب اليهودي الأميركي لا يهمهم أن تتوقف "إسرائيل" عن الوجود، في حين أن 20% فقط من اليهود في الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي يتعرضون لمضامين يهودية.
ويعود تدني مكانة الكيان الصهيوني لدى يهود الخارج، إلى الحرب الإسرائيلية على غزة في 27 كانون أول 2008 وما تخللها من جرائم ارتكبت ضد المدنيين الفلسطينيين، مثلت نقطة تحول فارقة بالنسبة لمعظم الشباب اليهودي الأميركي.
ومن المؤشرات على مظاهر فك الارتباط بين اليهود وإسرائيل هو المؤتمر الذي عقده في موسكو في أبريل/نيسان 2010 بحضور مئات من الشباب اليهود الروس الذين سبق أن هاجروا إلى إسرائيل أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وقرروا بعد ذلك مغادرتها والعودة مجدداً إلى روسيا بعد تحسن الأوضاع الاقتصادية والأمنية فيها.
وقد كان من اللافت أن أهم استنتاج صدر عن المؤتمرين هو أنه بإمكان اليهود في أرجاء العالم العيش بدون "إسرائيل"، وذلك بعد أن عددوا مظاهر خيبات الأمل الشخصية التي صدموا بها خلال تجربة وجودهم في فلسطين المحتلة.

فشل سياسة الاستجلاب
إن أحد تجليات المأزق البنيوي الاستراتيجي للمشروع الصهيوني في فلسطين، أن الحركة الصهيونية لم تستطع أن تستجلب إلا نحو ستة ملايين يهودي إلى فلسطين، في حين بقي ما يُقارِب مليون يهودي يعيشون مواطنين في بلدان خارج فلسطين حسب تقديرات مكتب الإحصاء الإسرائيلي في نيسان من العام ٢٠١٨. وهذا يعني أنه عاجزة عن جلب عدد أكبر من يهود العالم إلى فلسطين.
وهذا يعني أنها فشلت في جلب مهاجرين يهود إلى فلسطين غير العدد الذي نجحت في تحقيقه ( ٦،٣ مليون يهودي)، مع كل ما تقدمه دولة الكيان الصهيوني العنصري من إغراءات لتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين. إن هذا الفشل هو أحد مظاهر المأزق الذي يعيشه المشروع ويفاقم من مأزق المشروع الصهيوني في فلسطين أنَّ عدد الفلسطينيين في فلسطين في حدودها ما بين البحر والنهر، بَعد التّطهير العِرْقي في العام ١٩٤٨، والنزوح في العام ١٩٦٧، والهجرة الطوعية والقسرية للفلسطينيين إلى خارج فلسطين خلال قرن من الزمان، يبلغ نحو ٦،٥ مليون فلسطيني، أي ما يزيد عن عدد اليهود الحالي في فلسطين–نِصفهم تقريباً من اللاجئين الفلسطينيين الذين طُرِدوا من دِيارِهم الواقِعة في المناطق التي احتلتها وسيطرت عليها دولة الكيان الصهيوني في العام ١٩٤٨.

من الاستجلاب إلى التعزيز
عجز الكيان الصهيوني عن جلب المزيد من المادة البشرية جراء العزوف عن الهجرة وتدني مكانة كيان المستجلبين دفعت الوكالة اليهودية المسؤولة بشكل مباشر عن تهجير اليهود في العالم إلى إسرائيل لاتخاذ قرار غير مسبوق وتاريخي يتمثل في تعديل سلم أولوياتها، حيث إن مجلس إدارة الوكالة قرر أن يكون على رأس أولويات الوكالة العمل على تعزيز العلاقة بين اليهود في العالم وإسرائيل، بعد أن كان تهجير اليهود إلى إسرائيل على رأس هذه الأولويات.

أسباب العزوف عن الهجرة
لما كان فقراء اليهود يميلون إلى الذوبان حيث يقيمون في المجتمعات الأخرى، والتجمعات اليهودية في طوابقها السفلية "الفقيرة" تميل إلى عملية "الذوبان" والاندماج مع الجار في الوطن، و"من هنا أُخذ أساس القوة الديمغرافية للمؤسسات اليهودية ينسحق ويتآكل على نحو ثابت"،يُضاف إلى ذلك، أنّ "تأييد الغرب القويّ لإسرائيل لم يعد مكفولًا".

هروب المستجلبين
إن مأزق هروب المستجلبين يمثل أحد أبرز تجليات الأزمة البنيوية للمشروع الصهيوني التي تتعلق بمادته البشرية، بعودة أولئك المستجلبين إلى بلدانهم الأصلية أو الهجرة إلى دول أخرى، وذلك لأسباب عديدة منها:
أن الكيان الصهيوني بات بيئة طاردة بسبب عدم الأمان والثقة في المستقبل، مع أن حكومة المستجلبين توفر كل الإغراءات من مال وسكن وعمل وترفيه، مقابل البقاء، واحتلال أرض "اللبن والعسل ".
إن الإحصائيات بدأت تُسجل أرقاماً مخيفة لهروب اليهود من أرض فلسطين، في تهديد مباشر لحلم "المشروع الصهيوني الكبير". لم تنفع معه محاولات دولة الاحتلال نزع الهوية الفلسطينية عن أبناء هذا البلد، وإعطاءها لليهود من خلال الجرائم والتهويد والنزعة الدينية المتطرفة، والاستيطان وسرقة الحقوق والأراضي الفلسطينية، لم تحقق النتائج المطلوبة لدعم المشروع "الصهيوني الكبير" بالأغلبية اليهودية، فالوجود الفلسطيني باقٍ يدافع عن هويته، في حين بدأ اليهود يسلكون طريق الهجرة، للبحث عن هوية وبلد آخر ينتمون إليه.

ومن بين أكثر الأسباب التي تذكر كمبرر لمغادرة الكيان الصهيوني، القول إنّ المسألة ليست "لماذا غادرنا؟"، وإنما "لماذا بقينا كل هذه المدة قبل أنْ نغادر؟"، علاوة على ذلك، بيّنت استطلاعات أن حوالي نصف سكان الكيان الشباب يفضلون العيش في مكان ما في الخارج لو أتيحت لهم الفرصة. وأكثر الأسباب التي يذكرونها كمبرر للرغبة في الهجرة أن الوضع في الكيان "ليس جيداً"؛ وثمة عامل آخر مهم يساهم في تدفق الصهاينة إلى الخارج، وهو الخبرة في الهجرة.
ومن الأمور التي تزيد من ضغوط الهجرة أن صهاينة كثيرون قد اتخذوا إجراءات تمهيدية للمغادرة في نهاية الأمر، وأظهرت إحدى عمليات المسح أن ما يقرب من 60% من الصهاينة، قد اتصلوا أو عازمون على الاتصال بسفارة أجنبية ليطلبوا الجنسية أو جواز سفر، ولدى ما يقرب من 100 ألف صهيوني جوازات سفر ألمانية، بينما يقدم المزيد طلبات لجوازات على أساس أنهم من نسل ألمان، ولدى عدد كبير من الصهاينة، جنسية مزدوجة بما في ذلك نصف مليون صهيوني يحملون جواز سفر الولايات المتحدة (مع ما يقرب من ربع مليون طلب قيد النظر).
والتحدي الذي يواجه المشروع الصهيوني في مادة الأساسية هي الهجرة على نطاق واسع كونها تمثل إشكالية خاصة بالنسبة إلى "إسرائيل" بالنظر إلى عدد سكانها الصغير نسبيًّا، وتشكيلتها العرقية الفريدة والسياق السياسي الإقليمي.
ليس هذا فحسب وإنما تساهم مغادرة المستجلبين اليهود في تقويض الأيديولوجية الصهيونية، "فإذا كانت أعداد كبيرة من "الإسرائيليين" اليهود تختار الهجرة إلى الخارج، فلماذا يهاجر يهود مندمجون اندماجًا جيدًا ومقبولون في بلدان أخرى إلى "إسرائيل"؟، يضاف إلى هذا أن ربع" الإسرائيليين" الشبان في أوروبا يتزوجون بأشخاص غير يهود، علاوة على ذلك، لا ينتمي غالبية هؤلاء إلى وسط يهودي، كما أنهم لا يشاركون في أي نشاطات يهودية، وكما هو الحال بالنسبة إلى مجموعات المغتربين الآخرين في الدول الغربية، فإن "الإسرائيليين" في الخارج كثيرًا
ما يعلنون نيتهم العودة، إلا أنّه من المرجح أنْ يبقى المهاجرون "الإسرائيليون" في البلدان التي تبنوها بالنظر إلى أنهم أصبحوا هم وعائلاتهم مستقرين ومندمجين في مجتمعات تلك البلدان بنجاح".
وقد اعتبرت الحكومات الصهيونية أن مستويات المهاجرين إلى الكيان منخفضة أكثر من اللازم، بينما نسبة المهاجرين إلى الخارج أعلى مما ينبغي، ولدى الكيان -بالإضافة إلى سياسات التشجع على الهجرة للاستقرار الدائم- برامج وحملات إعلامية تروج بنشاط لعودة الصهاينة الذين يعيشون في الخارج.
وجاء في دراسة أنه بناءً على الاتجاهات في الماضي وفي الوقت الحاضر، فإن حوافز الكيان لن تكون كافية لعودة المليون صهيوني المفقودين، وأخطر ما في هذا الهروب من مشروع الحركة الصهيونية على نطاق واسع ليس حالات الاختلال الديموغرافية والاجتماعية، والاقتصادية في البلاد، وإنما في التحديات السياسية الخطيرة وتعرض الطابع اليهودي "لإسرائيل" للخطر.
وهناك دلالة ذات مغزى كبيرا له علاقة بغياب الانتماء للمشروع الصهيوني الدولة والهوية، كشفها استطلاع رأي أظهر أن 36% من اليهود العلمانيين يرغبون في الهجرة منها، كما أن 7% من اليهود المتدينين يرغبون في الهجرة أيضاً. والأمر الأشد وقعاً على حكومة بنيامين نتنياهو( آنذاك)، أن الراغبين في الهجرة هم من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 23 عاماً و29 عاماً.

خلاصة
قال كاتب إسرائيلي إن البيانات الخاصة بميزان الهجرة اليهودية في عام 2020، تظهر أن ثلثهم من اليهود فقط، وفي كل عام تتقلص الأغلبية اليهودية في إسرائيل، في ضوء العدد الهائل من غير اليهود الذين يستقدمون.
وأضاف كالمين ليبسكيند في مقاله بصحيفة معاريف، أن "الخلافات الإسرائيلية الداخلية لم تتوقف حول العديد من القضايا: اليمين مقابل اليسار، الرأسماليون ضد الاشتراكيين، المحافظون أمام الليبراليين، لكن موضوعا واحدا وحدنا دائمًا نحن الإسرائيليين وهو ضرورة الحفاظ على الأغلبية اليهودية في إسرائيل، وهو أمر بات موضع تشكيك وتساؤل".
وأوضح ليبسكيند، وهو صاحب عمود دوري في الصحيفة، ومقدم برامج سياسية، أن "انقضاء السنة الأخيرة 2020 شكل مناسبة لأن ينشر المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي سلسلة من البيانات التي حدثت في الأشهر الـ12 الماضية على الإسرائيليين، ومنها ميزان الهجرة الدولي الذي يحسب الفرق بين عدد الأشخاص الذين يدخلون إسرائيل ويغادرونها، ويكشف تحليل هذه البيانات عن صورة مهتزة".

غير يهود
وأشار إلى أنه "في 2020، بلغ رصيد الهجرة الإيجابي إلى إسرائيل 24,344 ألفاً، أي أن عدد من انضموا إليها أكبر ممن غادروها، لكن إجراء مزيد من الفحوصات يكشف أن ثلثهم فقط (8,224 ألفا) من اليهود، أما الثلثان الآخران، فهناك 2506 من الفلسطينيين، الذين انضموا كجزء من إجراءات لم شمل الأسرة، و13,614 يعرفون بأنهم آخرون، ومنهم المسيحيون من غير العرب، ومن تم تصنيفهم في سجل السكان أنهم بدون دين".
وأكد أن "هذه المجموعة تشمل المهاجرين لإسرائيل من غير اليهود بموجب قانون العودة، وحقيقة أن نسبة اليهود فيها انخفضت لأقل من 74% في 2020، يعني أننا نتحرك في اتجاه واضح للغاية، والملاحظة المهمة أن النماذج على ذلك كثيرة، ومنها من هاجروا من روسيا، ورغم أنهم ليسوا يهودا، فإن أجدادهم كذلك، وهناك من جاءت من مدينة جنين شمال الضفة الغربية بعد زواجها من أحد سكان مدينة أم الفحم شمال إسرائيل".

انخفاض نسبة اليهود من المستجلبين
وأوضح أن "عام 2020 لم يكن استثنائيًا، بل شكل نقطة أخرى في هذه السلسلة التي تفيد بتراجع الطابع اليهودي لإسرائيل، لأنه منذ عام 2017 انخفضت نسبة اليهود من المهاجرين إلى 52%، وفي 2019 وصلت النسبة إلى 40%، وفي 2010 انخفضت نسبتهم إلى 33%، مع أن هذه التراجعات الجارية في دولة يهودية كان يجب أن تؤدي إلى عقد مؤتمر خاص للكنيست، ومائدة مستديرة مع الرئيس، لكن ذلك لم يحصل".
وأكد أن "تراجع نسبة اليهود في إسرائيل يعود في بعض أسبابه إلى زيادة معدلات المتسللين إليها، خاصة من القارة الأفريقية، وهؤلاء وسواهم ممن يأتون عبر الطائرات في هجرات رسمية يغيرون التوازن الديموغرافي، ويخفضون نسبة اليهود في إسرائيل عاما بعد عام، والغريب أن ذلك يتم عبر بوابة دخولها الرئيسية، وبناء على دعوتها هي نفسها".
وأضاف أن "الصور التي يتم تداولها بين الحين والآخر في وسائل الإعلام للمهاجرين اليهود الذين يهبطون بمطار بن غوريون، هي صور مرحة، لكنها ليست سوى وهم، لأن الحقائق تظهر أن اليهود بين هؤلاء المهاجرين هم أقلية، لذلك يمكن لأي منا أن ينظر إلى البيانات الصادرة، ويتجاهلها، ومن يدعي أن نسبة غير اليهود بين هؤلاء المهاجرين، نسبة صغيرة، فإنه سيرتكب خطأ فادحًا".
وزعم أن "الاتجاه السلبي واضح، لأننا أمام 15- 20 ألفا من المهاجرين من غير اليهود في كل عام، وهذه كتلة كبيرة تأتي إلى إسرائيل بشكل تدريجي، وإذا كانت الجهود المبذولة من الحكومة الإسرائيلية لتشجيع الهجرات اليهودية من الخارج، فإنها تنتهي للأسف بجلب المهاجرين من غير اليهود، وهذا أمر خطير يستحق التوقف، وسؤال أنفسنا عن ما إذا كان هناك أي فائدة من الاستمرار في تشجيع هذه الهجرات".
وأوضح أن "الرقم السائد الذي اعتاد عليه الإسرائيليون منذ سنوات، بمن فيهم الخبراء، عن وجود 300 ألف من غير اليهود الموجودين في الدولة، وهذا الرقم المتداول منذ سنوات على ألسنة كل المعنيين، وكأنه غير قابل للتغيير، ربما آن الأوان لإعادة النظر فيه".
وشرح قائلا إنه "في عام 2019 تزايد عدد اليهود في إسرائيل إلى 1.6%، فيما ازداد عدد العرب بنسبة 2.2%، والمجموعة التي نتحدث عنها من غير اليهود وغير العرب نمت بنسبة 5.7%، وهذه هي النسبة التي لديها أعلى معدل نمو سنوي في إسرائيل، وفي غضون عام أو عامين، سيتجاوز عدد أولئك المصنفين من غير العرب وغير اليهود حاجز النصف مليون نسمة".
وأكد أنه "إضافة إلى الـ465 ألفاً المذكورين أعلاه، فهناك أكثر من 200 ألف مهاجر غير يهودي يعيشون في إسرائيل، نصفهم من العمال الأجانب الشرعيين، ونصفهم الآخر من غير الشرعيين، وبعدد أجمالي يقترب من 700 ألفاً، يشكلون 8% من سكان إسرائيل، هكذا يجب أن ينظر الإسرائيليون إلى الصورة الكاملة في نهاية العام، لأن هناك عددا كبيرا آخر من الفلسطينيين الذين يأتون إلينا كجزء من حملات لم شمل الأسرة".
وأوضح أن "قرارات لم الشمل الفلسطينية أوقفتها الحكومة الإسرائيلية منذ 2003، لكن البيانات تظهر أنه منذ ذلك الأمر المؤقت، تم تقديم 22 ألف طلب للم شمل الأسرة من الفلسطينيين، وتم قبول أكثر من نصفهم، ووفقًا لبيانات سلطة السكان والهجرة، فإن متوسط طلب لم شمل الأسرة من الفلسطينيين يحتوي على 4 أشخاص، وهذا العدد قابل لأن يتضاعف".
وأشار إلى أنه "قبل عدة أشهر، رفض الكنيست مشروع قانون قدمه بيتسلئيل سموتريتش أحد زعماء البيت اليهودي لتعديل قانون العودة الخاص باليهود، لمعالجة بند الحفيد، لأن الأحفاد لم يعودوا يهودًا، ما يخلق استغلالًا من قبل من قطعوا العلاقات مع الشعب اليهودي، وعملياً يفرغ القانون من محتواه لأنه هدف أساساً لفتح أبواب إسرائيل أمام يهود الشتات، هذه مسألة حساسة ومتفجرة، وتعود إلى جذور بطاقة هوية الدولة اليهودية".
وختم بالقول إن "هذه المسألة يجب الحسم فيها من خلال مناقشة وتفكير وموافقة الجمهور الإسرائيلي العام، لأنه لم يعد من الممكن إغماض أعيننا عن الأرقام، بعد أن أصبحت إسرائيل دولة هجرة غير يهودية، ومعظم من يدخلون أبوابها ليسوا يهوداً، والأغلبية اليهودية في إسرائيل تتضاءل كل عام".





انكشاف المشروع الصهيوني
أكدت العقود الماضية من زرع كيان المستجلبين اليهود في فلسطين أن كيانا عنصريا طائفيا بمثل هذه المواصفات لا يمثل حالة نفي مع الفلسطينيين أصحاب الأرض فقط، وإنما تتوفر فيه أيضا أسباب للتناحر وعدم الإجماع داخليا. ومن بين مظاهر هذا التنافر العلاقة المتوتّرة وغير المستقرّة عموماً ما بين رئاسة الحكومة ورئاسة أركان الجيش الإسرائيلي (مثلما حصل في أواخر عهد نتنياهو ما بينه وبين أمنون شاحاك الذي كشف عن وجود مشاريع عدوانية بعيدة المدى لدى رئيسه ضد سوريا ولبنان بشكل خاص بما يتجاوز حدود اللعبة الدوليّة الإقليمية المسموح بها).
ومن بين هذه المظاهر أيضاً العلاقة بين المتديّنين والعلمانيين, ويبدو أن نقطة الصراع بين الجانبين وصلت إلى ذروة جديدة بتدخّل محكمة العدل الإسرائيلية لصالح العلمانيين للمرّة الأولى في تاريخ الكيان, الأمر الذي أدّى إلى اضطرار الكنيست للتعامل مع قضيّة تجنيد طلاب المدارس الدينية اليهودية من خلال رؤى ونظريّات متناقضة, سواء لجهة تنفيذ ما سمّي “قانون طال” الذي ينظّم عمليّة تجنيد هؤلاء الطلاّب, أو لجهة إلغاء مشروع هذا القانون. وفي هذا المجال ترى الجهات العلمانية أن الامتيازات التي يحظى بها المتديّنون اليهود تشكّل انتهاكاً لمعايير الديمقراطية, فيما أنّ الجهات الحريدية المتعصّبة دينيّاً ترى أن موقف الأحزاب العلمانية من هذا القانون إنّما يدلّ على موقفها النهائي من المتديّنين ككلّ في المجتمع الإسرائيلي.
وهناك التناقضات الإثنية بين اليهود أنفسهم: شرقيين وغربيين وفلاشا، الاختلاف على تعريف هوية من هو اليهودي، التناقضات الطبقية، التفرقة العنصرية بين اليهود أنفسهم، الخلاف بين المؤسستين الخاميتين في إسرائيل: الشرقية والغربية، وغيرها الكثير. كل الأسباب السابقة تساهم بفعالية في تسارع وتعاظم المأزق الوجودي الاستراتيجي الإسرائيلي بشكل عام.
وثمّة مظهر آخر أيضاً من مظاهر انكشاف النّظام الصهيوني في إسرائيل وهو انعدام الإجماع في اليمين أو اليسار على حدّ سواء, على زعامة واضحة ومقبولة.
ويزيد من حالة انكشاف المشروع الصهيوني مظاهر الفساد والترهل في المجتمع الإسرائيلي،مما يفاقم من أزمته. ولا يخلو الوسط السياسي من فضائح مالية وأخلاقية كما هو الحال مع أولمرت وموشيه كاتساف وشارون ونتنياهو وغيرهم.
كما يعاني المجتمع الإسرائيلي من غياب الطراز الأول من القادة، ومن غياب جيل التأسيس. ويعاني من ظهور أجيال جديدة من الشباب تريد الاستمتاع بحياتها، وتفتقد إلى الروح "الرسالية" والأيديولوجية التي تمتع بها الجيل الأول، وهو ما انعكس سلبًا على الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية، التي تواجه مشاكل في الحصول على عناصر "نوعية" تستطيع تحمل المسؤولية.
كما ظهرت مظاهر سلبية في الجيش الإسرائيلي من حيث حالات الهروب من الجيش، ومستوى الجاهزية القتالية لعناصره، وتوفّر إرادة القتال. وفضلاً عن ذلك فقد أصاب المجتمع الإسرائيلي ما أصاب المجتمع الغربي من ثقافة الجنس والمتعة وانتشار اللواط، وتعاطي المخدرات، والجريمة المنظمة، والتفكك الأسري، وغير ذلك.
ويمكن القول أن المشروع الصهيوني يعاني من عدد من التحديات والأزمات التي توَفّر لمن يقف في مواجهته مجموعة من الفرص يمكن أن تؤثر في معادلة الصراع، إن جرى توظيفها بشكل منهجي ومدروس.
إن المراهنة على عامل الزمن قد تكون أمرًا مغريًّا للجانب الإسرائيلي على المدى القريب، بسبب الخلل الهائل في موازين القوى، ولكنها مراهنة تحمل مخاطر كبيرة على المدى البعيد. وهو ما حمل عددًا من الباحثين الإسرائيليين على الحديث عن انعدام آفاق استمرار الكيان الصهيوني.


الفلسطينيون.. والعامل الديمغرافي
إن أي قراءة لمشروع الحركة الصهيونية والمسيحية الصهيونية والدول الاستعمارية الأوروبية في زرع كيان لليهود في فلسطين، سيجد أن ذلك المشروع قد ارتكز على ثنائية الأرض واستجلاب مادة بشرية من الخارج.
ولذلك كان دائما يتمحور الصراع حول الأرض كأساس لإقامة هذا المشروع الإحلالي، ولكن الأرض الخالية من أهلها وهو ما لم تنجح فيه الحركة الصهيونية وبريطانيا تماما، وإن كانت قد سيطرت على ما يقارب 78% من مساحة فلسطين التاريخية عام 1948، ثم احتلت كل المساحة الفلسطينية بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967.
لكنها لم تنجح في إبادة كل سكان فلسطين وفق نموذج الإبادة الأمريكي والاسترالي والنيوزلندي لسكان البلاد التي احتلوها. ووفق خرافة "الأرض التي بلا شعب"، واستمر الشعب الفلسطيني حاضرا رغم حملات التطهير وهدم القرى والمجازر، كون وجوده هو بمثابة رد على شعار أرض بلا شعب لشعب بلا أرص، وأن هذا الوجود وتناميه هو نفي للوجود الصهيوني اليهودي في فلسطين.
ومن المفارقات أن هناك "حمى" أصابت النخب الصهيونية وهي تصل حد الهوس السياسي والفكري، عندما يقارنون بين نضوب خزانات الهجرة اليهودية وزيادة عدد الفلسطينيين بشكل عام؛ وفي فلسطين التاريخية بشكل خاص، أي في الضفة والقطاع والمناطق المحتلة عام 1948، وإنما وصل الأمر ليس في القدرة على استجلاب مهاجرين جدد وإنما في إمكانية الحفاظ على الموجودين الذين يتسربون خارجا عبر ما يسمى الهجرة العكسية، التي أعتبر أنها ليست هجرة بل عودة المهاجرين الذين خدعنهم الحركة الصهيونية إلى أوطانهم كونهم رعايا دول أخرى.
وعن أسباب هذه الأرقام المخيفة، تحدثت وسائل إعلام عبرية بأن اليهود يعيشون حالة من النفور داخل "إسرائيل"، لعدد من الأسباب، منها أن حياتهم معرَّضة للخطر، خصوصاً أن هذه المستوطنات تقع خارج نطاق الجدار العازل الذي تبنيه دولة الاحتلال، وعدم شعورهم بالانتماء إلى الأرض والبلد، وشعورهم بسيطرة الهوية العربية على الأرض؛ وهو ما يدفعهم إلى النظر في مغادرة "تل أبيب" إلى أي جهة أخرى.
ولمواجهة هذه الهواجس، تسعى "الحركة الصهيونية" -التي تقدِّر أن 43% فقط من يهود العالم يقيمون في "إسرائيل"- إلى تكثيف حملات الهجرة، لجذب نحو 300 ألف يهودي من الأرجنتين وأمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا وإثيوبيا والهند، لتوطينهم في فلسطين التاريخية.
ولذلك عملت الحركة الصهيونية على استجلاب قطعان من أتباع الديانة اليهودية من مختلف الإثنيات لملء الفراغ الذي نجم جراء المجازر التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني عام 1948، تحت مسمى الشعب اليهودي وهي الخرافة التي دحضها مؤرخون يهود يعيشون في فلسطين المحتلة.
ومما فاقم هاجس المادة البشرية هو الوجود الفلسطيني النشط والفاعل على الصعيد الديمغرافي، وصولا لتقليص الفجوة بين أصحاب الأرض والمستجلبين اليهود، وصولا لتفوق العددي، ولذلك عندما تتدنى معدلات الهجرة فإن القدرة في السيطرة على الأرض تتقلص، وليس هذا فحسب، بل إن تدني معدلات الهجرة يعني جعل الكيان الصهيوني مرتبطا تحديدا بالجماعات اليهودية غير المنتجة، لاسيما أتباع التيار الديني الحريدي الذين يتسمون بميزتين أساسيتين، وهما زيادة معدلات التكاثر الطبيعي، وفي نفس الوقت هجر سوق العمل والعيش على المساعدات التي تخصصها لهم الدولة بفعل الضغوط التي تمارسها أحزابهم المشاركة في الائتلافات الحاكمة، علاوة على أن معظم هؤلاء لا يؤدون الخدمة العسكرية.
وما يثير ذعر الكيان الصهيوني هو أن النمو السكاني الفلسطيني يتزايد باطراد على طريق سد الفجوة السكانية بين أصحاب الأرض والمستجلبين اليهود، بل وتسجيل زيادة سكانية فلسطينية،
وقد ذكر لجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن عـدد الفلسطينيين المُقدر فـي نهاية عام 2020 حوالي 13.7 مليون فلسطيني؛ 5.2 مليون فـي "دولة فلسطين"، وحوالي 1.6 مليون فلسطيني في أراضي الـ 1948، وما يقارب 6.2 مليون في الدول العربية ونحو 738 ألف في الدول الأجنبية؛ وذلك وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
وتشير تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن عدد السكان الفلسطينيين في فلسطين التاريخية بلغ حوالي 6.80 مليون نهاية عام 2020، في حين من المتوقع أن يبلغ عدد اليهود 6.88 مليون مع نهاية عام 2020، وسيتساوى عدد السكان الفلسطينيين واليهود مع نهاية عام 2022، وسيصبح عدد الفلسطينيين واليهود حوالي 7.1 مليون لكل منهم.
فيما قُدّر عدد السكان في دولة فلسطين بحوالي 5.2 مليون فرداً؛ حوالي 3.1 مليون في الضفة الغربية و2.1 مليون في قطاع غزة.
إن الهاجس الديموغرافي هو من أكثر ما يقلق الإسرائيليين. وقد عمَّقت إحصاءات «الإحصاء الفلسطيني» السجال في إسرائيل حول التوازن الديموغرافي بين العرب واليهود بفلسطين التاريخية، حيث سارع مؤيدو «حل الدولتين» للتأكيد مجددا على ضرورة الانفصال عن الفلسطينيين للحفاظ على يهودية الدولة، فيما أتى الرفض من اليمين الحاكم الذي كذَّب هذه الأرقام ملوِّحا من جديد بفزاعة «الخطر الديموغرافي»، لتبرير موقفه الرافض لمنح الفلسطينيين دولة مستقلة. وفى هذا، يرد المحلل السياسي «عكيفا الدار» بالقول: «بالتوازي مع تكثيف الاستيطان واستقدام المزيد من اليهود، ستتعمد حكومة بنيامين نتنياهو مزيدا من شيطنة الطرف الفلسطيني، وتوظيف الشيطان الديموغرافي للتهرب من استحقاقات أي تسوية مستقبلية، لكن بالاحتلال والتمييز العنصري والآبارتايد». ثم يضيف: «المشاريع الاستيطانية واستقدام اليهود، ما عادت لتحسم صراع الديموغرافيا، إذ يعمل الشيطان الديموغرافي جنبا إلى جنب مع توأمه، شيطان العنصرية، لإثبات أن الهوية اليهودية الصهيونية لا تسير جنبا إلى جنب مع الديمقراطية والمساواة».
ومن ثم فإن الشعور الملازم للمستجلبين اليهود بأنهم سيكونون أقلية سكانية في فلسطين التاريخية، بكل النتائج التي تترتب عليه يقاربها المؤرخ الصهيوني بيني مورس في حديث لصحيفة هآرتس" من أن " "الفلسطينيين متمسكون برغبتهم في السيطرة على أرض إسرائيل كلها واجتثاث الصهيونية". بل وينعى الدولة اليهودية ديمغرافيا عندما يقول إن "الوضع فيما يتعلق باستمرار وجود إسرائيل كدولة يهودية لا أعرف ما سيؤول إليه، فاليوم يوجد بين البحر والنهر عرب أكثر من اليهود. والبلاد كلها تتحول بشكل لا يمكن منعه، إلى دولة واحدة توجد فيها أغلبية عربية. وما زالت إسرائيل تسمي نفسها دولة يهودية، لكن وضعا نسيطر فيه على شعب محتل وليس لديه حقوق لا يمكن أن يستمر في القرن الـ21، وفي العالم المعاصر. وعندما يصبح لديهم حقوق، فالدولة لن تبقى يهودية".
هذا الإحساس بالخطر على الكيان الصهيوني جعلت المؤرخ الصهيوني بيني موري بقول إن "هذا المكان سيرسب كدولة شرق أوسطية مع أغلبية عربية. والعنف بين المجموعات السكانية المختلفة، داخل الدولة، سيتصاعد والعرب سيطالبون بعودة اللاجئين واليهود سيبقون أقلية صغيرة داخل بحر عربي كبير من الفلسطينيين. وأقلية ملاحقة أو مذبوحة، مثلما حدث عندما عاشوا في الدول العربية ومن سيكون قادرا بين اليهود، سيهرب إلى أميركا أو الغرب والفلسطينيون ينظرون إلى كل ذلك نظرة واسعة ولسنوات طويلة. إنهم يرون أنه يوجد هنا الآن 5 أو 6 أو 7 ملايين يهودي محاطين بمئات ملايين العرب. وليس لديهم سبب كي يتنازلوا، لأن هذا لن يطول. إنهم ملزمون بالانتصار. بعد 30 إلى 40 عاما سيتغلبون علينا، مهما حدث.
ولما كان المشروع الصهيوني قد فشل في نفي الوجود الفلسطيني أصحاب الأرض، فإن فوبيا العامل الديمغرافي لم تعد عامل قلق وحسب للكيان الصهيوني، بل إن هذا الوجود الفلسطيني بات يشكل عامل نفي متصاعد لكل المشروع الصهيوني في فلسطين، التاريخية، ولم تكن محاولة الحركة الصهيونية استهداف المادة البشرية في فلسطين عبر التطهير العرقي والمجازر إلا بهدف اجتثاث ذلك لتمكين المستجلبين اليهود أن يحلوا محلهم، لكن النجاح الجزئي في طرد معظم الفلسطينيين من فلسطين، لم يمكن توفير الأمان الديمغرافي الاستراتيجي للكيان المحتل، من ذلك أنه في عام 1948، طردت العصابات الصهيونية 800 ألف فلسطيني يمثلون آنذاك (53.6%) من مجموع الشعب الفلسطيني البالغ مليون وربع فلسطيني، وتركز معظم اللاجئين الفلسطينيين إثر نكبة عام (1948) في المناطق الفلسطينية الناجية من الاحتلال، أي في الضفة وقطاع غزة 80.5%. في حين اضطر (19.5%) من اللاجئين الفلسطينيين إلى التوجه إلى الدول العربية الشقيقة، سوريا والأردن ولبنان ومصر والعراق، بينما توجه العديد إلى مناطق جذب اقتصادية في أوروبا وأمريكا وكذلك إلى دول الخليج العربية.
وبعد 67 عامًا تزايدت أعداد الشعب الفلسطيني في بلادهم أو الدول التي هاجروا إليها إلى تسعة أضعاف، الأمر الذي يثير حفيظة "إسرائيل" ويسترعي انتباهها ويدق ناقوس الخطر في ما بات يعرف بالصراع الديموغرافي بين "إسرائيل" وفلسطين.
وتشكل نسبة اللاجئين الفلسطينيين في الضفة وغزة 43.1% من مجمل السكان الفلسطينيين المقيمين في فلسطين، بواقع حوالي 4.6 مليون نسمة، هم 2.8 مليون في الضفة، و1.8 مليون في غزة. ويعد قطاع غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، كذلك إن نسبة التزايد الديموغرافي مرتفعة بشكل كبير، ورغم العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع وما خلّفه من خسائر بشرية شملت الأطفال واليافعين، إلا أنه يبدو أن القطاع لم يفقد الكثير من بنيته السكانية، لذا ينظر العدو بتوجس إلى المسألة الديموغرافية للفلسطينيين التي يعتبرونها بمثابة القنبلة الموقوتة التي يجب التعامل معها بكل حيطة، وخاصة أنهم يدركون جيدًا أن نسبة التزايد لديهم أضعف من أن تُقارَن بتزايد الفلسطينيين.
والملاحظ هنا أن الصراع الديموغرافي بين العرب الفلسطينيين واليهود في إسرائيل، هو لصالح العرب في المدى البعيد، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار معدلات النمو العالية بين العرب مقارنة بمثيلاتها بين اليهود، فضلا عن تراجع أرقام الهجرة اليهودية باتجاه فلسطين المحتلة، بفعل استمرار أعمال الانتفاضة بأشكال مختلفة.
وفضلاً عن تراجع عوامل الجذب المحلية لليهود إلى فلسطين المحتلة وتراجع مؤشرات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي في إسرائيل مقارنة بالسنوات السابقة، وفي الوقت نفسه لا توجد عوامل طاردة لليهود باتجاه فلسطين المحتلة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى.
مما تقدم يتضح أنه بعد مرور عقود على نكبة الفلسطينيين الكبرى ثمة صراع ديمغرافي صارخ يحصل بين العرب واليهود على أرض فلسطين، وهو لصالح العرب في المدى الاستراتيجي. للأسباب المذكورة آنفًا.

















الفصل السادس: المشروع الصهيوني في فلسطين .. سيرورة التداعي.

انهيار نظرية الوعد الرباني.
فقدان الثقة في استمرار وجود الكيان(من..أفواههم)
فلسطينيو 48: مسمار نعش الكيان الصهيوني.
معركة سيف القدس.. متغيرات استراتيجية هائلة.
خلاصة














انهيار نظرية الوعد الرباني.

اعتبرت الحركة الصهيونية أن كتابهم الديني هو الأساس الأيديولوجي الذي أسسوا عليه مشروعهم الكولنيالي في فلسطين، وأن ما جاء فيه هو وعد إلهي يتعدى كل القوانين البشرية، وسواء كان ذلك لدى البعض تعبيرا عن قناعة دينية أو هو رخصة ربانية من أجل التغطية على حقيقة مشروعهم اللا إنساني في فلسطين، كونه جاء على حساب شعب آخر؛ ولا نتصور أن أي إله يمكن أن يكون ظالما بهذا القدر، ليمنح فيه مجموعة بشرية أرض شعب آخر هكذا ظلما.
وضمن ما يمكن القول أنها أكبر عملية كذب وتزوير في التاريخ، أضفت الحركة الصهيونية ودافيد بن غوريون رئيس أول حكومة للمستجلبين اليهود على فلسطين، بأن جرى التعامل مع كتاب التوراة كأساس فكري لإقامة الدولة اليهودية، لذلك نفذت عملية فكرية واسعة لتعميق مفاهيم هذا الكتاب في الذهن الصهيوني، وتحويله من مجرد كتاب ديني إلى برنامج عمل، بعد أن كان المتدينون اليهود وطوال قرون يركزون على التلمود الذي يحوي التشريعات والشرائع الدينية ويخلو تقريبا من الأبعاد التاريخية.
ويبرهن المؤرخ اليهودي شلومو ساند أن الصهيونية هي التي اخترعت أسطورة "أرض إسرائيل"، بالتوافق مع الاختراع الآخر وهو "شعب إسرائيل"! فأكد على أن الصهيونية لم تكن استمرارًا لليهودية، بل كانت نقيضًا لها. فعمل ساند على تفكيك ركام أساطير الصهيونية حول ادعائها بأن ثمة "وطنًا يهوديًا- أرض إسرائيل" يعود إلى "الشعب اليهودي"، وبهذه المقولات الزائفة، مارست الصهيونية غزوها وعدوانها باعتبارها "حربًا وطنية عادلة"، وقد قوّض في كتابه أسطورة
"أرض إسرائيل". وهو مصطلح ديني في الأساس، حوّلته الصهيونية إلى مفهوم جيو– سياسي، وهو لم يكن شائعًا لدى يهود فلسطين، قبل أن يطلق الرومان اسم فلسطين على يهودا، عقب تمرد اليهود عام 1342 الميلادي، فظهرت في الأدبيات اليهودية عبارة "أرض إسرائيل" كلقب للمكان الأكثر قداسة. ويقول ساند إنه "لم يكن هذا اللقب الجغرافي قوميًّا في تلك الفترة، ولم يكن من الممكن أن يكون كذلك، بل كان مصطلحًا لاهوتيًا - دينيًا. اعتُبر خلال مئات الأعوام بنظر اليهود نقطة انطلاق لبداية الخلاص الغيبي الذي سيحلّ على العالم بقدوم المسيح". الصهيونية هي من حوَّل هذا المفهوم الديني إلى مفهوم قومي سياسي، ليستُخدم بعد ذلك من قبل الغرب الاستعماري كمشروع كولونيالي استيطاني لحل المسألة اليهودية في أوروبا على حساب العرب. ولهذا يقول ساند: "ليست الأشواق اليهودية إلى وطنٍ مُتخيل، هي التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل، بل وقبل كل شيء، وبشكل خاص، محنة اليهود هي التي قادت جزءًا منهم إلى فلسطين. .وطالما أن أبواب الهجرة إلى الولايات لم تغلق، فقد تدفق المهاجرون إليها" .
وعملت المسيحية الصهيونية والحركة الصهيونية على تبني مبدأ الحق التاريخي والروايات القومية المرافقة له التي كانت تهدف إلى منح الشرعية الأخلاقية للاستيلاء على الحيز الجغرافي، بالادعاء أنها (أرض إسرائيل) باعتبارها حقائق ربانية، لتبرير سرقة أرض فلسطين في سياق تبريرها لاستعمارها عبر استخدام الديانة اليهودية بهدف إقناع اليهود بأن أرض فلسطين هي الأرض التي تركها أجدادهم اليهود عنوة قبل ألفي سنة، وبأن لهم الحق في العودة إليها، وتحريرها من الفلسطينيين، وقد احتاجت هذه الحركة العلمانية منذ بداية مشروعها الاستيطاني إلى حلة دينية للعثور على "أرض الآباء"، ولحفظ وصيانة الحدود الجغرافية للمشروع الاستعماري. الذي جرت عملية زرعه في غير بيئته في فلسطين.
وظهر مصطلح (أرض إسرائيل) كمصطلح مسيحي ديني حولته الصهيونية إلى مصطلح جيو سياسي مفتوح، ويرى المؤرخ شلومو ساند أن الحركة الصهيونية قد استخدمت المصطلح الديني "أرض إسرائيل" الذي ظهر على يد المسيحية، وحولته إلى مصطلح سياسي لا تعرف إلى الآن ما هي حدوده، ولا ما هي تطلعاته المستقبلية.
وفي سياق عملية الكذب تلك جرى الادعاء أن التوراة هو مصدر للتاريخ، وفيه تكمن كل الحقائق التي تبرر الادعاء اليهودي بالحق التاريخي في فلسطين.

ولذلك اعتبر الجمهور اليهودي، في غالبيته الساحقة، أن معطيات هذا الكتاب هي حقائق تاريخية غير مشكوك فيها، لدرجة أنهم اعتبروا الباحثين الانتقاديين مجرد معادين للسامية.
لكن هناك عددا من الباحثين الشجعان من علماء الآثار والمؤرخين الذين انحازوا لضميرهم العلمي وللحقائق العلمية بعيدا عن تدليس وكذب المسيحية الصهيونية. ولاحقا الحركة الصهيونية، ومن أوائل من دحضوا "ربانية" التوراة، وهجمة المسيحية الصهيونية وقبل ميلاد الحركة الصهيونية هو الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوزا الذي كتب في القرن السابع عشر أن من، "الواضح كالشمس في عز الظهيرة أن خمسة أخماس التوراة لم تكتب على أيدي موسى، وإنما بيد شخص عاش بعده بسنوات كثيرة"، وعلى غرار سبينوزا بدد لاحقا علماء آثار ومؤرخون يهود تلك الخرافات.
فقد تصدى علماء آثار ومؤرخين يهود ممن يعيشون داخل فلسطين المحتلة وكانوا جزءا من الكيان، خرافات هذا الكتاب التي لا تعدو أن تكون أساطير نسجها خيال بعض حاخامات اليهود بعد قرون من السبي، وهم بذلك دحضوا مقولة الوعد الرباني في التوراة، بنفي أساسه الإلهي، ونسفوا كل المبررات التي استندت إليها الحركة الصهيونية، والمسيحية الصهيونية، والدول الأوروبية وأمريكا في زرع المستجلبين اليهود في فلسطين ليحلوا محل الشعب الفلسطيني صاحب الأرض. في حين رأى أغلبية الباحثين في هذا الحقل أن ما جاء في هذا الكتاب هي مجرد أساطير لا يمكن الاستناد إليها، لا في كتابة التاريخ القديم لفلسطين، ولا في منح الحق لليهود في فلسطين.
ومن تلك الأساطير الدينية للصهيونية ادعاء أن فلسطين هي (أرض الميعاد)، وأن اليهود هم "شعب الله المختار"، وأنّ القدس في أدبياتهم هي "مركز تلك الأرض"، وأنها "عاصمة الآباء والأجداد"، وأنها "مدينة يهودية بالكامل". لكن تلك الرواية، يُبطلها بالكامل عالمُ الآثار الإسرائيلي الشهير (إسرائيل فنكلشتاين) من جامعة تل أبيب بنفيه وجود أيّ صلةٍ لليهود بالقدس، عندما أكد في تقرير نُشر بتاريخ 5 أغسطس 2011م "أنّ علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تدعم بعض القصص الواردة في التوراة.."
بل ذهبت الحقائق العلمية بعالمُ الآثار الإسرائيلي الشهير (إسرائيل فنكلشتاين) من جامعة تل أبيب إلى أبعد من ذلك، بأن شكك في قصة داوود، وهي الشخصية التوراتية الأكثر ارتباطاً بالقدس حسب معتقدات اليهود، موضحًا أنه: "لا يوجد أساسٌ أو شاهدُ إثبات تاريخي على وجود هذا الملك الذي اتخذ من القدس عاصمة له..".
وأكد عالمُ الآثار إسرائيل فنكلشتاين، "أنّ شخصية داوود كزعيمٍ يحظى بتكريم كبير لأنه وَحّد مملكتي يهودَا وإسرائيل هو مجرد وَهْم وخيال لم يكن له وجودٌ حقيقي."، و"أنّ ما يتعلق بهيكل سليمان، لا يوجد أيُّ شاهدٍ أثري يدلّ على أنه كان موجودًا بالفعل.".
كما أكد عالم الآثار زئيف شيف بشكل علمي موضوعي ومن موقعه كيهودي يقيم في فلسطين المحتلة، أنه "بعد سبعين عاما من الحفريات الأثرية المكثفة في أرض فلسطين، توصل علماء الآثار إلى استنتاج مخيف،" هذا الاستنتاج المخيف في نظر عالم الآثار اليهودي، هو أمر يتعلق بالتوراة، مفاده أن ما سماها "أفعال الآباء هي مجرد أساطير شعبية، ونحن لم نهاجر لمصر، ولم نرحل من هناك. ولم نحتل هذه البلاد وليس هناك أي ذكر لإمبراطورية داوود وسليمان، والباحثون والمختصون يعرفون هذه الوقائع منذ وقت طويل، ولكن المجتمع لا يعرف...) .
ويأسف عالم الآثار هرتسوغ، كابن لما سماه الشعب اليهودي، وكتلميذ للمدرسة التوراتية، إدراكه عمق الإحباط النابع من الفجوة بين التوقعات وإثبات التوراة كمصدر تاريخي وبين الوقائع المكتشفة على الأرض.
ويستذكر هرتسوغ مدرسة انتقاد التوراة، التي نشأت في ألمانيا ابتداء من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وشككت في تاريخية القصص التوراتية التي قالت إن التوصيف التاريخي التوراتي صيغ، وبقدر كبير "اختلق" في أيام النفي البابلي. وقال الباحثون في التوراة، وخصوصا الألمان منهم، إن تاريخ شعب "إسرائيل" كاستمرار أحداث، بدءا من أيام إبراهيم، وإسحق ويعقوب، مرورا بالهجرة إلى مصر، والاستعباد والخروج من مصر وانتهاء باحتلال البلاد واستيطان أسباط "إسرائيل" - ليست إلا استذكارا متأخرا للماضي، ذا هدف ديني".
هذه الحقائق العملية التي تستند إلى وقائع موضوعية تكشف زيف ما سمى بالوعد الإلهي، التي بنت عليها الحركة الصهيونية مشروع احتلال فلسطين، لتتهاوى تلك أمام موضوعية الحقائق التي جرى كشفها بعد زرع الكيان الصهيوني، في وقت شهدت فيه الكثير من المواقع في فلسطين حمى بحث عن شواهد لتأكيد مزاعم التوراة، لكن ما حدث كان عكس ما تمنى الصهاينة، فالاكتشافات الكثيرة قوضت المصداقية التاريخية للوصف التوراتي، بدلا من أن تعززه" بمعنى أن كل ما روجت له الحركة الصهيونية والمسيحية الصهيونية.. كان خرافة.
وفي تفاصيل دحض الوقائع لهذا التزييف، أي لما سمي بالوعد الإلهي، عجزت تلك الحفريات والبحث المحموم لأكثر من سبعين عاما أن تكشف أي شهادة يمكن أن تؤكد هذا التسلسل التاريخي كما جاء في التوراةـ .
بل وردا على مزاعم أولبرايت في مطلع الستينات بأنه يمكن مقارنة فترة ترحال إبراهيم بالعهد البرونزي (أي القرن العشرين- الثاني والعشرين قبل الميلاد). بما قاله بنيامين ميزار، أب الفرع "الإسرائيلي" من علم الآثار التوراتي الذي اقترح أن تشخص الخلفية التاريخية لعهد الآباء، بألف سنة بعد ذلك، أي في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، في أثناء "فترة الاستيطان". ولكن آخرين رفضوا تاريخية هذه القصص ورأوا فيها مجرد أساطير عن الآباء رويت في مملكة يهودا.
ولتأكيد ما ذهب إليه علماء الآثار من عدم عثورهم على أي شاهد يؤكد أساطير التوراة استحضر البرفسور زئيف هرتسوع الوثائق المصرية بقوله إن هذه الوثائق الكثيرة المعروفة لنا لا تذكر البتة مكوث بني "إسرائيل" في مصر، أو حادث الخروج من مصر. وتذكر هذه الوثائق فعلا العادة المعهودة عند الرعاة الرحل (الذين تسميهم شاسو) بالدخول إلى الأراضي المصرية في أوقات القحط والجوع والاستيطان على هوامش دلتا النيل. ولكن لم يكن هذا حدثا فريدا، فأحداث كهذه تقع كثيرا طوال آلاف السنين ولم تكن ظاهرة استثنائية.
ويخلص إلى القول أنه مع كل تلك الأبحاث الحثيثة لم يجري اكتشاف ولو موقع واحد يمكن أن يتناسب مع الصورة التوراتية، وقد حاولت أجيال من الباحثين اكتشاف موقع جبل سيناء ومحطات أسباط "إسرائيل" في الصحراء.
ولكن دون جدوى، ليبقى ما جاء في التوراة كأكبر أكذوبة جرى التعامل معها كحقيقة ربانية دحضتها وقائع علم الآثار والتاريخ في فلسطين التي عجزت أن تأتي بشاهد واحد يؤكد خرافات التوراة.
وفي سياق دحض الأسس التي استند عليها المشروع الصهيوني بأن شعبا يهوديا يعود إلى وطنه بعد ألفي عام يفند المؤرخ اليهودي شلومو ساند ذلك في كتابة بعنوان "خرافة الشعب اليهودي"ويقول إنّ القومية اليهودية خرافة، وأنّ اليهود الذين يعيشون اليوم في (إسرائيل) ليسوا على الإطلاق أحفاد (الشّعب العتيق) الذي عاش في مملكة يهودا، وأنّ اليهود لم يُطرَدوا من الأراضي المقدسة، ومعظم يهود اليوم ليست لهم أيّ أصول عرقية في فلسطين التاريخية.
ومن التوراة نفسها يورد ساند الأدلة التي تثبت أن اليهود الأوائل لم يكونوا مقيمين في أرض فلسطين وإنما كانوا مهاجرين وغرباء كلياً عن البلاد التي أتوا إليها، فموسى نبي اليهودية الأول، وإبراهيم أبو الأمة اليهودية وأبناؤه وأحفاده كانوا من المهاجرين إلى أرض كنعان، ولم يقيموا فيها لفترات طويلة، بل على العكس فضلوا الانعزال عن السكان المحليين وعدم الاختلاط بهم لأنهم يدينون بالوثنية، إضافة إلى ذلك حرّم اليهود على أنفسهم الزواج من الكنعانيات، وأمروا من تزوج منهم بتطليق زوجاتهم. وبذلك يكون الكتاب قد استطاع استعراض تاريخ الأدبيات اليهودية على مدار 1700 عام الذي لم يتحدث عن وجوب الحج إلى المدينة المقدسة أو ضرورة الإقامة فيها.
ويرى ساند أن الصهيونية تعيَّن عليها اختراع أسطورتها القومية واختراع الشعب نفسه تحت اسم "الشعب اليهودي"، وأضيفت إليه "الدولة اليهودية". إلى جانب ذلك، لاحظ أن هذه القومية "اليهودية"، التي وُلدت في شرقي أوروبا "المتخلّف" قياسًا لغربيّ أوروبا، كان "نجاحها" مشروطًا بمساندة "الأغيار"، فظلَّت الصهيونية ما بين العام 1897؛ منذ تاريخ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، تيارًا هزيلًا للغاية في صفوف الجاليات اليهودية في العالم. فلجأت إلى تحويل فلسطين إلى وطن قومي لكل يهود العالم. واستدعت الميثة التاريخية لتبني أيديولوجية "علمية" ملائمة؛ "فالوعد الإلهي لم يعد كافيًا لدعاة القومية العلمانيين. وإذا كان العدل لا يكمن في الميتافيزيقا الدينية، فعليه أن يكون مخبوءًا في البيولوجيا". وقد قال فيلسوفهم بيرنباوم: "ليست اللغة أو الثقافة هي التي يمكن أن تفسِّر نشوء القوميات، وإنما فقط البيولوجيا". وأكد ماكس نورداو، رجل هرتزل المخلص، على الأمر نفسه، إذ قال "إن اليهود يشكلون بوضوح، شعبًا ذا أصل بيولوجي متجانس..تشده رابطة الدم". وأصبح العرق والأعراق النقية لدى جابوتنسكي، مصطلحين علميين. وقد استهدفت تلك البيولوجيا اليهودية تشجيع نزعة، الانعزال عن الآخرين بغية الحفاظ على الهوية القديمة، وللتطهير العرقي لاحقًا. وهذا التفسير يصبح مقبولًا عند حديث ساند عن طرد الفلسطينيين أثناء حرب 1948.





فقدان الثقة في استمرار وجود الكيان(من..أفواههم)
يكاد يكون هناك اتفاق في النتيجة مهما اختلفت مواقع وأسباب هذا الإجماع الصهيوني على أن المشروع الصهيوني في فلسطين هو حالة مؤقتة، وأن مصيره مهما اختلفت مقارباتهم في توصيف السبب أو الأسباب وراء هذه تلك النتيجة، هو الزوال سواء ذكرت بشكل مباشر أو غير مباشر لأن المعنى واحد في كل الحالات..أي أن النهاية اقتربت.
لكن اللافت أن هذا الهاجس (فقدان الثقة في ديمومة الكيان) قد رافقته منذ البداية، وكأن عدم الثقة في المستقبل هو مكون أصيل في شخصية ووعي وذاكرة الصهاينة كبارا وصغارا، ليصبح من غير المستغرب أن يبدي الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي أحد مؤسسي الكيان الصهيوني تشاؤمًا تجاه إسرائيل، لأن الكيان الوليد آنذاك "يُذكره بالممالك الصليبية، إذ يقول "إنّ مستقبل هذه ’المملكة الصليبية’ الجديدة، وكيلة العالم الغربي في قلب الشرق، يكتنفه الشك". ويعترف بواقع أن أغلبية المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفياتي، لو سُمح لهم اختيار الولايات المتحدة لاختاروها، وأن 40% من اليهود الإسرائيليين، "يدرسون بصورة جادة الهجرة منها". كان ذلك بالطبع منذ سبعون عاما، فيا تفاقمت أزمات الكيان طول تك السنوات.
عدم الثقة في مشروع الحركة الصهيونية عبر عنه عام 1956 دافيد بن غوريون أحد أهم رجالات الحركة الصهيونية، وأبرز من لعب دورًا في إنشاء "إسرائيل" وأول رئيس لوزرائها، الذي تحدث إلى ناحوم غولدمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية (1956 – 1968)، قائلاً إن "الدولة اليهودية ستستمر في العشر أو الخمس عشرة سنة القادمة، ولكن احتمالات وجودها بعد ذلك هي 50%".
ولم تفت الزعيم الصهيوني الكبير ناحوم غولدمان مقولة بن غوريون وهو يكتب مقالته التي نشرها في مجلة "الفورين أفيرز" سنة 1975، إذ نبه غولدمان إلى أنه "لا يوجد لإسرائيل مستقبل على المدى الطويل دون تسوية سلمية مع العرب"،
وعندما طالب الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي الأب الروحي للسفاح بيغن وشارون ونتنياهو بإقامة جدار حديدي،كان ذلك لأنه يعتقد بأن المشروع الصهيوني مشروع استعمار استيطاني، ولذلك توقع بأنه سيواجه بمقاومة من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وأن هذه المقاومة سوف تستمر إلى أن يستولي اليأس على النفوس. وشرح الجدار الحديدي الذي طالب بإقامته وقال بأنه ذلك النهج الذي يجب أن تسير عليه الحركة الصهيونية لحماية مشروعها. وأكد جابوتنسكي أن ما من شعب احتل غزاة أرضه إلا وقاوم الاحتلال واستمر في هذه المقاومة إلى أن تحرر من الغزاة وأفشل مشروع الاستعمار الاستيطاني ما لم يبلغ هذا الشعب حد اليأس المطلق.
ورأى جابوتنسكي أن الجدار الحديدي هو لحماية المشروع الصهيوني عن طريق التفوق الدائم في القوة كي لا يستطيع العرب هزم المشروع الصهيوني ، وذلك عن طريق:-
أولا : التحالف باستمرار مع دولة عظمى قادرة على فرض إرادتها وحماية المشروع الصهيوني.
ثانيا : بناء القوة الذاتية التي يكون بمقدورها مواجهة المقاومة المنتظرة .
فيما يستشرف المؤرخ شلومو ساند مؤلف كتاب "خرافة الشعب اليهودي مستقبل الكيان فيقول إن التناقض والخراب متأصل في هذا الكيان فالخراب كما يقول" كامن في قلب هذا الكيان المغمور بالميثولوجيا، ويبدو له مصيره معلقًا على الهاوية، "فميثولوجيا "الشعب/ العرق" اليهودي التي ترى فيه جسمًا تاريخيًّا مُنع على الدوام، ولذلك يستمر في منع دخول الأجانب إليه، فترتد هذه "الميثولوجيا" إلى نحر دولة إسرائيل، إذ في مقدور هذه الميثولوجيا تقويضها من الداخل؛ فالمحافظة على كيان "إثني" مغلق، وإقصاء ربع سكان مواطني الدولة، يولّدان احتقانًا يمكن أن يتحول إلى شرخ وتصدعات عنيفة، سيكون من الصعب رأبها، لذلك يزداد تصلبًّا في أوساط "عرب 48"، الموقف الرافض لوجود إسرائيل"
ويحذر ساند مما يعتبره أدهى وأعظم، أي من انفجار الجليل الفلسطيني:"إن السيناريو الكارثيّ مثل اندلاع تمرّد في الجليل، وما يمكن أن يجره من قمع دموي، لا يُعد ضربًا من خيال جامح لا أساس له. وإذا تحقق مثل هذا السيناريو، فإنه يمكن أن يشكل تحولًا حاسمًا في تاريخ الوجود الإسرائيلي في الشرق الأوسط" لكن الملفت هو عندما يشكك في استمرار الكيان رئيس وزراء سابق كونه كان الرجل الأول في الكيان بكل ما لديه من معلومات وقدرات وبالضرورة من مشكلات، وذلك عندما يعلن رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق إيهود باراك عن مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدا في ذلك بـ"التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين".
تشكيك رئس الوزراء الأسبق بكل دلالاته جاء في مقال له في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، قال فيه "على مرّ التاريخ اليهودي لم تعمر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين: فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككها في العقد الثامن".
ويخشى باراك أن تنزل بالكيان الصهيوني، لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقتها. وضرب أمثلة بالدول التي أصابتها لعنة العقد الثامن كأمريكا، التي نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن من عمرها، وإيطاليا تحولت إلى دولة فاشية في عقدها الثامن، وألمانيا تحولت إلى دولة نازية في عقدها الثامن وكانت سببا في هزيمتها وتقسيمها، وفي العقد الثامن من عمر الثورة الشيوعية تفكك الاتحاد السوفياتي وانهار وانفرط عقده".
ووجود مملكة بيت داود التي انقسمت إلى يهودا وإسرائيل، وبوصفنا كيانا وصلنا إلى العقد الثامن ونحن كمن يتملكنا العصف، في تجاهل فظ لتحذيرات التلمود".
وكان رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو قد قال بدوره عام 2017، "إنه حريص أن تبلغ إسرائيل المئوية الأولى، لكن التاريخ يخبره أنه لم تعمّر لليهـود دولة أكثر من 80 سنة في كل تاريخها إلا مرة واحدة هي دولة الحشمونائيم.".
ولم يقف أمر التشكيك في استمرار الكيان الصهيوني عند المسؤولين السياسيين الكبار بل تعداه إلى المثقف اليهودي الأمريكي بنجامين شوارتز، الذي كتب منذ بضعة أعوام مقالا لافتا بمجلة أتلاتنك منثلي، بعنوان: هل تعيش إسرائيل مائة عام؟ شكك فيه الكاتب بإمكانية نجاح أي تسوية على أساس حل الدولتين، وطرح التهديدات والأخطار التي تحول دون أن تكمل إسرائيل عامها المائة. تضم هذه التهديدات الخطر الديموغرافي الفلسطيني، والخطر الإيراني، والمقاطعة الاقتصادية والثقافية والأكاديمية، والصراع العلماني الديني بإسرائيل، وخطر تمرد المتدينين الصهاينة على خطط الدولة تجاه الاستيطان ورسم الحدود أحاديا.
بل إن شوارتز رأى أنه حتى لو أمكن الوصول إلى تسوية شاملة، فإن آفاق إسرائيل بعيدة المدى تبدو بائسة، ويعلل ذلك بأن دولة فلسطينية مستقبلية محشورة بين الخط الأخضر والأردن وفي قطاع غزة ستواجه نموا سكانيا فلكيا. فسكان غزة يتضاعفون كل جيل، ويبدو مؤكداً حدوث تدفق هائل للاجئين يعيشون في البلاد العربية، معظمهم الآن في الأردن وسوريا ولبنان، إضافة إلى ندرة المياه والظروف الاقتصادية الصعبة. وستغلق تماما وبالقوة فرص وصول العمالة الفلسطينية لإسرائيل؛ وإلا ستطيح الهجرة الفلسطينية الزاحفة، على نمط الهجرة المكسيكية للولايات المتحدة، بجهود الحفاظ على يهودية الدولة. بل إن بعض المراقبين للشأن الإسرائيلي،
ومنهم الجنرال غيورا إيلاند مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، يتشكّكون بوجود ما يكفي من الأرض والموارد بين نهر الأردن والبحر المتوسط، لاستدامة دولتين سياديتين قابلتين للحياة.
واليوم يشعر الصهاينة كما يقول شوارتز" بخوف (مفهوم) من أن تُسترَد منهم فلسطين، قطعة قطعة عن إرادة وتصميم أو استجابة للضرورات.
وتوقع البروفيسور ديفيد باسيج، في حوار مع هيئة البث العبرية "كان" أن يشهد الكيان حالة من التفكك والانهيار بعد ثلاثة أجيال، على المدى القريب، وبعدها تعدد حالات الاغتيال لشخصيات يهودية بارزة، ثم انتفاضة داخلية بين الإسرائيليين أنفسهم، وهو ما يؤدي في النهاية إلى الهجرة العسكرية للنخب اليهودية والكفاءات الإسرائيلية إلى الخارج. وأشار إلى أن "أعداد متزايدة من الإسرائيليين، يعبرون عن الخوف والذعر على وجودها، وهذا ليس حنين مصحوب بالشفقة على الذات، بل قلق أصيل وحقيقي، وصرخة تنطلق من القلب".
وتحدث المؤرخ اليهودي المعروف بيني موريس إلى صحيفة "هآرتس" إن الفلسطينيين "ملزمون بالانتصار. بعد 30 إلى 40 عاما، مؤكدا أن الفلسطينيين سيتغلبون عليهم مهما حدث واليهود سيبقون أقلية صغيرة داخل بحر عربي كبير من الفلسطينيين. وأقلية ملاحقة أو مذبوحة، ومن سيكون قادرا بين اليهود، سيهرب إلى أميركا أو الغرب. والفلسطينيون ينظرون إلى كل ذلك نظرة واسعة ولسنوات طويلة. إنهم يرون أنه يوجد هنا الآن 5 أو 6 أو 7 ملايين يهودي محاطين بمئات ملايين العرب. وليس لديهم سبب كي يتنازلوا، لأن هذا لن يطول. إنهم ملزمون بالانتصار. بعد 30 إلى 40 عاما سيتغلبون علينا، مهما حدث".
إن حالة عدم الثقة لدي هذه النخب اليهودية في المستقبل، وأن مشروع الحركة الصهيونية وصل إلى نهايته المحتومة، وهي ليست ضربا في الرمل أو تنبؤا، لكنها وعي بحقيقية مآلات مشروعهم في الوجود، وقد كتب الصحافي المعروف يارون لندن في مذكراته، الذي صدرت نهاية العام 2014: "إنني أعدّ نفسي لمحادثة مع حفيدي لأقول له إن نسبة بقائنا في هذه الدولة لن يتعدى50%.ولمن يغضبهم قولي هذا فإنني أقول له إن نسبة 50% تعتبر جيدة، لأن الحقيقة أصعب من ذلك".
وفي سياق حالة اليأس وانعدام الثقة في المستقبل كتبت صحيفة هآرتس في 14مايو 2021 "طالما أن تل أبيب ذاقت صواريخ المقاومة، فمن الأفضل أن نتخلَّى عن حلمنا الزائف بإسرائيل الكبرى، ويجب أن تكون للفلسطيني دولة جارة تُسَالمنا ونُسالمها، وهذا فقط يطيل عمر بقائنا على هذه الأرض بضع سنين؛ وأعتقد أنه ولو بعد ألف عام هذا إن استطعنا أن نستمر لعشر أعوام قادمة كدولة يهودية، فلا بد أن يأتي يوم ندفع فيه كل الفاتورة"
وشكك البروفيسور يسرائيل أومان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2006 باستمرار وجود إسرائيل على المدى البعيد.
ونشر المُحلِّل الإسرائيليّ روغل ألفر، مقالاً في صحيفة (هآرتس) العبريّة، أكّد فيه على أنّ إسرائيل قد وقعّت على شهادة وفاتها (زوالها)، وما علينا إلّا الانتظار لمعرفة التوقيت، على حدّ تعبيره. وعدّدّ المُحلِّل أسباب خراب وزوال إسرائيل عن الخارطة، وقال إنّ العامل الأوّل أنّها دولة عزل عنصريّ (أبارتهايد)، ودولة ثنائية القوميّة، إذْ أنّ اليهود يُشكّلون فيه الأغلبيّة الساحقة وسوادهم الأعظم يؤيّد استمرار احتلال المناطق الفلسطينيّة، كما أنّ معظم الإسرائيليين، أكّد المحلل، لا يؤيّدون الاحتلال فحسب، بلْ يتعاونون معه من أجل تكريسه، مُشدّدًا على أنّهم سيُواصِلون دعم الاحتلال نظريًا وعمليًا، كما قال. ووصف الكاتب إسرائيل بأنّها دولة بربريّة وهمجيّة، وتوقفت منذ زمنٍ طويلٍ عن كونها دولةً يهوديّة وصهيونيّةً، على حدّ وصفه.
أمّا السبب الثالث لزوال الكيان بحسب الكاتب الإسرائيليّ تكمن فيما سماها منطقة الحكم الذاتيّ لليهود المُتشددين دينيًا وعقائديًا داخل كيان الاحتلال، لافِتًا إلى أنّ هؤلاء لا يعملون ولا يُنتِجون، فيما تقوم الدولة العبريّة بتمويلهم، ووصفهم بالعبء على الدولة اليهوديّة.
ورأى الكاتب الإسرائيليّ أنّ السبب الرابع الذي سيؤدّي أيضًا إلى زوال إسرائيل عن الخارطة يمكن في معضلة جودة البيئة، وعلى حدّ وصفه فإنّ إسرائيل هي دولة مكتظة، مليئة بالنفايات والتلويث، حارّة أكثر من اللازم، عصبية للغاية، وهذه الأمور، أضاف الكاتب، تُشكّل بيئةً حاضِنةً لمؤيديّ نتنياهو الفاشيين، وفق قوله.
أمّا السبب الخامس، وفق ما رأى الكاتب الإسرائيليّ، فيكمن في صراع الثقافات في المجتمع الصهيونيّ، وانفلات الحوار داخل المجتمع الإسرائيليّ، وعلى نحوٍ خاصٍّ في وسائط التواصل الاجتماعيّ، كما أنّ سيطرة البرامج الترفيهيّة الهابطة في قنوات التلفزيون بإسرائيل يُضيف إلى سوداوية الصورة، حيث اختفت تقريبًا نهائيًا ظاهرة الانتقاد والنقد، على حدّ قوله.
وخلُص الكاتب إلى القول إنّ السبب السادس يكمن في اندلاع حربٍ، تسقط خلالها آلاف الصواريخ على إسرائيل من قبل حزب الله وإيران وحركة حماس الفلسطينيّة، على حدّ قوله. وكتب أفراييم هليفي رئيس جهاز الموساد السابق على تويتر في 11/6/2020، "نحن على أبواب كارثة. إنه ظلام ما قبل الهاوية". وقال كارمي غيلون، رئيس جهاز الشاباك السابق: "إن استمرار السياسات المتطرفة ضد المسجد الأقصى ستقود إلى حرب يأجوج ومأجوج ضد الشعب اليهودي وستقود إلى خراب إسرائيل".
وعبر روني دانييل المحلل العسكري في القناة 12 الثانية قائلا: "أنا غير مطمئن أن أولادي سيكون لهم مستقبل في هذه الدولة، ولا أظن أنهم سيبقون في هذه البلاد".
وقال المحلل السياسي المعروف في قناة 12 أمنون أبراموفيتش، بعد تشييع جنازة ، وكان قد قال في 9/4/2019: "إن أخطر ملف تواجهه إسرائيل هو ليس ملفات فساد نتنياهو، وإنما الأخطر منها هو ملف خراب إسرائيل الثالث" .
فأبدى تشاؤمًا تجاه إسرائيل، فهي تُذكره بالممالك الصليبية، إذ يقول "إنّ مستقبل هذه ’المملكة الصليبية’ الجديدة، وكيلة العالم الغربي في قلب الشرق، يكتنفه الشك". ويعترف بواقع أن أغلبية المهاجر.
إن حديث المسؤولين الصهاينة عن نهاية الكيان تعكس واقعا هم يعيشونه، أي أن له أساسه الموضوعي الذي لا يتعلق بالنوايا والرغبات الذاتية لهؤلاء المستجلبين في فلسطين، وإنما أيضا بحالة النفي الكفاحية والديمغرافية التي يمثلها الشعب الفلسطيني للوجود الصهيوني في فلسطين كعامل مقرر في وضع خاتمة لهذه الخرافة، بتخليص فلسطين من كل ما يتعلق بهذا الكيان، منذ أن تآمرت بريطانيا والغرب الإمبريالي على فلسطين وأهلها نهاية القرن التاسع عشر مرورا بزرع هذا الكيان المستجلب وحتى تاريخ إزالته.

فلسطينيو 48: تأكيد الوجود ونفي النفي
بين نظرة الشك من قبل البعض من الفلسطينيين والعداء من عدوهم القومي تحمل الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948 ما لم يتحمله أحد من الشعب الفلسطيني، غذت ذلك الدعاية الصهيونية، حتى أكدوا للعدو قبل غيرهم أنهم هم أيضا الرقم الصعب، وهو ما مثلته نضالاتهم اليومية، حول الهوية والثقافة والحقوق، عبر كوكبة من المثقفين من الأدباء في شتى فروع الأدب بحضورهم وتأكيد هويتهم وروايتهم العربية الفلسطينية في مواجهة رواية الاحتلال، وهي الكوكبة التي رسمت الصورة الأكثر إشراقا وعطاء وقوة للفلسطينيين في مناطق الـ 48 وللمجموع الفلسطيني، وقد أكدوا وجودهم من خلال كفاحهم اليومي ضد المحتل خطل الأساس التي بنيت عليه مقولة " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وفي مسار تلك الصيرورة التي كانت ذروتها في يوم الأرض عام 1976، عندما هبت الجماهير الفلسطينية ضد قرار الاحتلال مصادرة مئات الدونمات من أملاك المواطنين الفلسطينيين دفاعا عن الأرض فقدموا 6 شهداء، وجعلوا من يوم 30 مارس/ آذار يوما وطنيا فلسطينيا لكل فلسطيني أينما كان.
ومع أن نضالهم مستمر دفاعا عن حقوقهم المشروعة وعن القدس والأقصى ضمن شرط وجودهم تحت احتلال استيطاني إحلالي عنصري، ولكن مع الوقت بات المشهد معكوسا، بأن باتوا هاجسا ديمغرافيا للكيان في ظل محدودية إمكانيات زيادة سكانه، لذلك أطلق عليهم توصيف القنبلة الديمغرافية كونهم يشكلون21 % من السكان في فلسطين المحتلة..
لكن نضالهم في الجانب الديمغرافي كان مستمرا، والـ156 ألف فلسطيني في عام 1948، أصبحوا وفقًا لدائرة الإحصاء في كيان الاحتلال، في عام 2019 بحوالي 1,890,000،يمثلون 21% من سكان البلاد..غالبية هؤلاء يعرّفون أنفسهم بأنهم عرب أو فلسطينيون حاملين الجنسية الإسرائيلية.
لكن ما مثل كيا لوعي الصهاينة هو ما اعتبر على نطاق واسع فشل عملية الدمج وظهر ذلك واضحا خلال معركة سيف القدس في أيار/مايو2021. فقد أكدت الأحداث ومشاركة فلسطينيين 48 فيها انتصارا للقدس في مواجهة قرار اقتلاع سكان حي الشيح جراح أن الاحتلال لم يتمكن طوال 72عاما من طمس الهوية ووحدة الحال الفلسطينية والشعور القومي لدي الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1948.
وربما يكشف ما قاله والد الشهيد محمد كيوان تجربته بهذه الكلمات في إحدى مقابلاته: ”لقد كنت من جماعة دولتين لشعبين، الآن أنا مع كل فلسطين..هذه كلها فلسطين”! ، وهو بذلك يعكس مزاجا متسعا لدى الفلسطينيين في مناطق الـ48، الذين انتقلوا من مربع حل الدولتين إلى تحرير كامل فلسطين التاريخية، وهذا ليس معزولا عن مشكلات الكيان الصهيوني الوجودية والوعي بدورهم في معادلة، الحرية للكل الفلسطيني، فيما هم على معرفة تامة بحالة عدم اليقين لدي شرائح واسعة من نخب المستجلبين السياسية والفكرية والعسكرية أنهم لن يعمروا طويلا في هذه الأرض.
ولذلك لم يغب مشروع التحرر الوطني عن عقل وجدان فلسطينيي الـ48، بل كان في صلب مبادئهم وعقيدتهم الوطنية، وذلك على الرغم من فرض السلطات الإسرائيلية الحكم العسكري عليهم بعد النكبة.
وهذا فرض عليهم أن تكون معركتهم في مواجهة مخططات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الهادفة لاقتلاعهم والتضييق عليهم ودفعهم إلى الهجرة القسرية ممتدة، فدفعوا ضريبة الدم في يوم الأرض وأيضا في تفجير الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أكتوبر/تشرين الأول 2000 .
إن وعيهم لذاتهم كفلسطينيين تحت الاحتلال وأن لهم دورا في مواجهته ضمن شرط واقعهم مع الاستعداد للعطاء والمشاركة ودفع كلفة ذلك، كانت الهبة الشعبية الواسعة التي شهدتها مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 تضامنًا مع العائلات الفلسطينية التي حاولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إخلاء منازلها قسرًا من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية وإحلال مستوطنين فيها، وتضامنًا مع المدافعين عن الأقصى ضد الاقتحامات المتكررة من طرف المستوطنين والقوات الإسرائيلية. وتصاعدت هذه الاحتجاجات وتوسعت مع رد جيش الاحتلال الإسرائيلي على صواريخ المقاومة التحذيرية ضد اقتحامات الأقصى بحرب عسكرية شاملة على قطاع غزة. وقد دفع اتساع رقعة المظاهرات في المدن والبلدات داخل الخط الأخضر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في 12 أيار/ مايو 2021، إلى إعلان حالة الطوارئ، خاصة في مدينة اللد التي شهدت صدامات واسعة بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود، ومنح المفتش العام للشرطة الإسرائيلية حق الاستعانة بالجيش الإسرائيلي للمساعدة في وقف الاحتجاجات .
تلك الهبة الشعبية الفلسطينية في مناطق الـ48 صعقت المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية. وقد جاءت هذه الهبّة في سياق سياسي مركب عاشه الفلسطينيون داخل الخط الأخضر منذ انتفاضة الأقصى أواخر أيلول/ سبتمبر 2000، عندما خرجوا في احتجاجات شبيهة واسعة تضامنًا مع إخوانهم في الأراضي المحتلة عام 1967 تصدّت لها القوات الأمنية والشرطية الإسرائيلية بعنف شديد أدى إلى مقتل 13 مواطنًا فلسطينيًا.
وقد دفعت هذه الأحداث إسرائيل إلى تبنّي مجموعة من سياسات العصا والجزرة، الترهيبية والاحتوائية، من أجل منع انتفاضة أو هبّة شعبية مماثلة مستقبلًا، وإضعاف التنظيم الفلسطيني في الداخل. وقد حملت الانتفاضة آنذاك في طياتها معانيَ تؤشر إلى أن قضية فلسطينيي الـ 48 تمثّل جزءًا لا يتجزأ من جوهر القضية الفلسطينية.
تمثّلت السياسات الإسرائيلية في ملاحقة التنظيمات والقيادات السياسية التي اعتبرتها المؤسسة الإسرائيلية سببًا أو عاملًا في الانتفاضة من خلال عملها وخطابها السياسي .
ويدرك الصهاينة أن بيئة فلسطينيي الداخل يمثلون التحدي الوجودي والنفي الموضوعي للمشروع الكولونيالي في فلسطين وقد لفت الخبير السكاني في الجامعة العبرية، البروفيسور «سيرجيو ديلا فيرغولا» إلى أنه اعتمادا على التوقعات الديموغرافية لـ«الإحصاء الإسرائيلى»، سيصل «عدد اليهود بين النهر والبحر إلى 16 مليونا بحلول العام 2065، وعرب(1948) إلى 13 مليونا، ما يعنى أن عدد السكان في هذه المنطقة سيصل إلى قرابة 30 مليونا. لكن في حال أصبح نمو الحريديم أكثر اعتدالا، نتيجة لزيادة مشاركتهم فى المجتمع وسوق العمل، فإن وتيرة نمو السكان اليهود ستتباطأ ونسبة السكان العرب(1948) سترتفع» .
لكن الخبيرُ بحذر: «الصورة ستتغير إذا شملت المناطق الفلسطينية وسكانها. فإذا أضفنا كل منطقة الضفة الغربية وكل سكانها إلى إسرائيل، ستتقلص الأغلبية اليهودية إلى 60%، ما يجعل مصطلح (دولة يهودية ديمقراطية) فاقدا لمعناه عمليا، وإذا أضفنا سكان غزة، فإن الأغلبية اليهودية ستتقلص إلى 50% وسيصل مشروع الدولة اليهودية إلى نهايته».
من جانبها، قالت عضو «الكنيست» «تسيبى ليفنى»، من حزب «المعسكر الصهيوني»، إنه «حان الوقت لكي يدرك الإسرائيليون عواقب المساواة الديموغرافية. إذا لم تستيقظ إسرائيل من أوهام ضم الضفة الغربية، كما ينادى اليمين، فستخسر الأغلبية اليهودية». أما زميلها «نحمان شاى» فقال: «إن تساوى عدد اليهود والعرب بين نهر الأردن والبحر المتوسط، هو بمثابة إنذار أخير لكل القلقين على مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية».
ففي معركة سيف القدس (سمَّاها الصهاينة حارس الأسوار)، جرى التركيز على موضوع السعي الصهيوني لتهجير أحد أحياء مدينة القدس وهو حي الشيخ جراح، أو التركيز على الانتهاك الاستيطاني للأماكن المقدسة. غير أنه لا يجب تغييب جوهر الصراع ألا وهو “الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين”، الذي أدى إلى جعل المنطقة العربية من أعلى مناطق العالم في مؤشرات عدم الاستقرار السياسي سواء بطريقة مباشرة (بالحروب والتي تتكرر بمعدل كل 4.5 أعوام)، أم غير مباشرة عبر العمليات الخاطفة أو الاغتيالات…إلخ. وعند تحليل أسباب كل من هذه الحروب منذ سنة 1948، سنجد “حدثاً” فجَّر الصراع الكامن بكيفية أو أخرى، وعليه فإن جولات الصراع المستمرة منذ 1948 ستتواصل إلى حين اجتثاث سبب هذا الصراع التاريخي، وهو الاحتلال.
وذلك يعود إلى أن الكيان الصهيوني جزء من ظاهرة الاستعمار ومحكومة بقوانينها، فالتاريخ المعاصر يشير إلى أن 62 دولة مستقلة حالياً كانت مستعمرات (استيطانية وغير استيطانية)، ونالت استقلالها خلال القرن العشرين ومن الضروري هنا التنبيه إلى أن المستعمرات الاستيطانية التي نالت استقلالها هي التي بقيت نسبة السكان الأصليين فيها أعلى من نسبة المستوطنين الغرباء، فإذا نقلنا الظاهرة إلى فلسطين، يتبين أن عدد الفلسطينيين حالياً في فلسطين التاريخية يزيد بنحو ربع مليون نسمة عن مجموع عدد اليهود فيها، وهذا هو المأزق الأكبر لـ”إسرائيل”، وهو التفسير الأعمق لما جرى في حي الشيخ جراح، وما قد يحدث في أحياء ومدن وأرياف فلسطينية أخرى
ولا شك أن من الأسباب الجوهرية لعدم اليقين والثقة في المستقبل لدي المستجلبين الصهاينة، تمسّك الشعب الفلسطيني بهويته الوطنية، وصموده أمام آلة الإرهاب والقتل والتهجير، وتمسّكه بعاداته، وتقاليده، ومقدّساته، ورموزه السياسية والحضارية.
وارتفاع وتيرة المقاومة، وصعود مشروع المقاومة والتحرير والعودة، وتحوّل المقاومة في فلسطين وخارجها إلى ثقافة عامة، وأسلوب نضال جماعي، كالذي تقوم به القوى السياسية والأجنحة العسكرية، وأسلوب نضال فردي مثل عمليات الدهس والطعن.
ولعب التطور السريع النوعي في قوى المقاومة في فلسطين، من خلال تشكيل الكتائب العسكرية المسلحة، وامتلاكها قدرات عسكرية، وتكتيكات قتالية، وقدرة على التصنيع والاقتحام والهجوم، الذي بلغ مراحله في اقتحام مواقع "ناحل عوز" و"زيكيم"، وتسيير طائرات، والإعلان عن قصف "تل أبيب" على الهواء مباشرة، ووصول صواريخ المقاومة إلى القدس ويافا، دورا في ذلك.
في حيت فشلت خيارات التسوية السياسية، وتراجع نظرية الحل السلمي مع الاحتلال، حيث أظهرت الاتفاقيات الموقعة أن الحكومات الإسرائيلية غير قادرة على التخلي عن الأراضي والمصادر الحيوية، وأنها تستشعر الخطر لأن أي تنازل سيؤدي إلى تعاظم خسائرها مستقبلاً.
كما أن ضعف قدرة الاحتلال على الانتصار في الحروب، وعلى امتلاك القدرة على إحداث تغييرات إستراتيجية وسياسية وجغرافية، كما كان يفعل طوال 50 عاماً الماضية، حين احتل الأراضي، وطرد السكان، وأعاد تركيب المنطقة. فقد فشل الاحتلال في حروب 2008_ 2009، و2012، و2014، وانسحب قبلها من لبنان عام 2000، وفشل في عدوان تموز/يوليو 2006 على لبنان أحد هذه العوامل المهمة.
لذلك، فإن الاعتقاد بأن الكيان الصهيوني في طريقه نحو التفكّك والزوال هو الاعتقاد الأقوى .
وكتب ميشكا بن دافيد أحد قادة جهاز الموساد، في مقاله بصحيفة يديعوت أحرونوت، أنه “على خلفية الاشتباكات في القدس، والقتال ضد حماس في غزة، ظهرت الأزمة العربية اليهودية في إسرائيل، وتجلت كراهيتهما لبعضهما، لأن العرب يرون أنفسهم شعبًا محتلًا ومحرومًا، بل يطلب منهم قبول إسرائيل كدولة يهودية، ولذلك ما زال إحساسهم بالغربة شعورا وطنيا، بجانب مشاعر التمييز المدني أو الاقتصادي”.
وأوضح أن “مظاهر الكراهية بين الجيران العرب واليهود تغذيها دوافع وطنية ودينية، فيما يريد اليمين اليهودي الديني رؤية عرب إسرائيل وأراضيهم ليس فقط تحت الحكم اليهودي، ولكن أيضًا بدون حقوق مدنية متساوية، وهو حل لا يقبله أي كيان ديمقراطي، مما يتطلب أن يكون الحل الممكن، وإن كان صعبًا، هو الفصل الوطني والمدني للفلسطينيين”.
وسرد الكاتب “أسبابًا لاندلاع العديد من الاشتباكات بين العرب واليهود في إسرائيل، سواء بسبب أحداث خارجية في الأراضي الفلسطينية، أو مواجهة مع حماس، أو أحداث دينية مثل الأقصى والقدس، أو عوامل داخلية مثل يوم الأرض أو ذكرى النكبة، والحل في مثل هذه الحالة إقامة دولتين لكلا الشعبين، بحيث تسيطر الدولة الفلسطينية على معظم السكان العرب في الضفة الغربية، ونقل الأحياء العربية في القدس إليها”.




معركة سيف القدس.. متغيرات استراتيجية هائلة
من التبسيط المخل القول أن معركة سيف القدس هي وحدها من أحدث الزلزال الفكري والسياسي والأمني داخل الكيان الصهيوني،نقطة التراكم الأعلى في صيرورة الكفاح الوطني الفلسطيني بكل أشكاله فليست أهمية معركة سيف في كتلتها النارية، ولكن في دلالاتها في سياق معادلة الصراع، وتكامل أشكال النضال الفلسطيني وكل موقع فلسطيني يضع أبجدية نضاله وفق شروط المكان واللحظة في حركتها المستمرة.
إن زلزال معركة سيف القدس بكل أطرافها الفلسطينية التي جاءت ردا على قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بشأن إخلاء فلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جراح بمدينة القدس، الاعتداء على المدنيين الفلسطينيين في القدس، وإغلاق الحكومة الإسرائيلية لباب العامود، اقتحام الشرطة الإسرائيلية للمسجد الأقصى،الاعتداء على المصلين الفلسطينيين في المسجد الأقصى عمدًا .
المبادرة الفلسطينية لغرفة العمليات المشتركة وتوحد موقف الكل الفلسطيني في فلسطين التاريخية، خلق متغيرا جديدا جعل صحيفة “هارتس” الإسرائيلية المشهورة، تقول “إننا نتعرض لحرب لسنا من نديرها..وبالتأكيد لسنا من ينهيها خاصة أن المدن العربية في فلسطين النحتلة عام 1948 ، فاجأت الجميع بهذه الثورة العارمة ضدنا بعد أن كنا نظن أنهم فقدوا بوصلتهم الفلسطينية ..”
إن بوصلة فلسطينيي الـ 48 جعلت الصحيفة تكتب "على غير كل حروب الكيان الصهيوني تقول هأرتس إنهم يتعرضون لحرب لم يقرروها ومن ليسو هم من ينهيها، بما يعنيه أن المبادة لم تعد في يد الكيان الصهيوني، فيما تبلغ مفاجأة الصحيفة ذروتها عندما تعترف أن هناك ثورة عارمة ضدهم ومن جيل ظن الصهاينة أنه فقد بوصلته الفلسطينية جراء ثلاثة وسبعون عاما من الاحتلال". هذا الاكتشاف الصادم هو ما جعل الصحيفة تعتبر أن هذا الواقع الجديد هو ” نذير شؤم على الدولة التي تأَكّد سياسِيُوها أن حساباتهم كانت كلها مغلوطة،
لتستخلص الصحيفة أن ما جري خلال الأحد يوما من الحرب عندما أجبرت المقاومة أكثر من 70% من المستجلبين الصهاينة على البقاء في الملاجئ وتعطيل كل مناحي الحياة في الكيان الصهيوني، هو نذير شؤم على الكيان المحتل.
إن الصدمة التي أحدثتها معركة سيف القدس في أيار/ مايو 2021 إن على صعيد الكتلة النارية، أو على صعيد صدمة الوعي الصهيوني منعطفاً مهماً في الصراع المستمر مع الاحتلال الإسرائيلي.
لكن من أبرز إيجابيات معركة سيف القدس على الصعيد الفلسطيني أن المقاومة الفلسطينية أكدت وحدة الموقف الفلسطيني سياسياً وعسكرياً، بعد أن امتلكت ساعة الصفر لأول مرة في تاريخ الصراع مع "إسرائيل"، وسجلت أنها صاحبة الكلمة العليا، ورسخت معادلات جديدة كسرت فيها هيبة "إسرائيل"، وهشمت صورتها، وتآكلت قوة الردع الإسرائيلية بصورة غير معهودة، وفرضت معادلة ردع عنوانها القدس محور الصراع وصاعق التفجير في المنطقة. ومن مفاجآت تلك المعركة، أن غرفة العمليات المشتركة لقوى المقاومة الفلسطينية التي تتكون من 12 جناحا عسكريا، وهي: كتائب الشهيد عز الدين القسام، سرايا القدس، كتائب شهداء الأقصى- لواء العامودي، كتائب الشهيد عبد القادر الحسيني، ألوية الناصر صلاح الدين، كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية، كتائب أبو علي مصطفى، كتائب الشهيد جهاد جبريل، كتائب الأنصار، كتائب المجاهدين، مجموعات الشهيد أيمن جودة، وجيش العاصفة. هي التي حددت ساعة الصفر، بهدف ردع سلطات الاحتلال عن السماح للمستوطنين المتطرفين باقتحام المسجد الأقصى، وتنفيذ مخطط لإخلاء عائلات فلسطينية قسراً من منازلها في حي الشيخ جراح في شرقي القدس وإحلال مستوطنين مكانهم، بأن ردت المقاومة برشقات صواريخ دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى، ليبدأ بعدها جيش الاحتلال عدوانه العسكري على القطاع.
وخلال تلك المعركة نقلت غرفة العمليات المشتركة لكل مطارات “إسرائيل” ووقف كل خطوطها الجوية لأيام مع وصول صواريخ المقاومة في قلب تل أبيب العاصمة، أوقع أسطورة “إسرائيل” الأمنية بما فيها القبة الحديدية. كان لهذه الحرب تداعيات وآثار سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي، نتيجة استهداف المقاومة الفلسطينية لمطارَي “بن جوريون” و”رامون” وبعض الموانئ، حيث تمّ عزله عن العالم، وكشفت معركة سيف القدس هشاشة الوضع الداخلي الصهيوني وضعف دولة الاحتلال، وأن صواريخ المقاومة قادرة على الوصول إلى أي مكان في جغرافية فلسطين، وتجاوز القبّة الحديدية.
بل إن معركة "سيف القدس" أحدثت ضربات لمفاهيم ارتكز عليها الأمن القومي الإسرائيلي طيلة سنوات مضت، تمثلت بضرب مفهوم الردع، ومفهوم الحسم، ومفهوم الإنذار المبكر، ومفهوم حماية الجبهة الداخلية الإسرائيلية، والتي باءت جميعها بالفشل.









وبعـــد..
وهكذا يبدو المشهد، ففي الوقت الذي تسجل فيه حالة الصبر الاستراتيجي للشعب الفلسطيني، تفاؤلا أكيدا بالمستقبل، يشكك أصحاب المشروع الصهيوني في استمراره، بكل تاريخه الأسود المحمل بكل ذلك السيل من الجرائم التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور وحتى الآن.

لكن المؤكد ومن أفواههم أنه بعد 104 سنوات من وعد بلفور، و124 سنة من المؤتمر الصهيوني الذي عقد في بازل، فإن "مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين" باعتراف صهيوني يعيش مأزقا وجوديا، كون أصحاب الأرض ما يزالون هم الثابت المستمر، فيما المتغير الذي اقتربت نهايته هو هذا الكيان الكولنيالي( الهيمنة والسيطرة) العنصري، وترجمة ذلك، مفادها أن نهاية الخرافة (أي وجود الكيان الصهيوني في فلسطين) قد اقتربت.
وهذا ليس تحليلا أو تنجيما، ولكنه من واقع ما أكده مؤرخون وعلماء آثار وسياسيون صهاينة وغيرهم، ومن ثم إذا كان صحيحا أن بريطانيا من خلال وعد بلفور قد تمكنت من استجلاب معتنقي الديانة اليهودية واحتلال فلسطين، فإن الصحيح الذي سيضع حدا لجريمة بريطانيا هو الشعب الفلسطيني الصامد الذي استخدم طوال عقود كافة أشكال النضال (وصلت حد تحرير النطف من الأسر لتستمر دورة الحياة بمفهومها الفلسطيني)، من أجل استعادة كامل وطنه ووضع حد لهذه الخرافة، وهو الأمر الذي استشرفه الكثير من نخب المستجلبين الصهاينة.
ولعل أحد أهم تلك المؤشرات على ذلك المآل الذي سينتهي إليه المشروع الصهيوني، هو الوجود الفلسطيني في ذاته كمقرر في تفكيك المشروع الصهيوني في فلسطين، خاصة في مناطق الـ48 الذي شكل دورهم النضالي صدمة بالمعني السياسي والفكري والنفسي لعتاة المستجلبين اليهود، وهي ظاهرة صدمت أغلب الخبراء والقيادات السياسية الصهيونية إلى الحد الذي حذر معه الرئيس الصهيوني رؤوفين ريفلين ReuvenRivlin من حرب أهلية.
فيما يندم المؤلف والباحث الإسرائيلي ياكوف شاريت ابن موشي شاريت أحد مؤسسي الكيان، "على المشروع الصهيوني بأكمله" ويكشف أنه من الناحية النفسية كان ثمة ترقب ليوم سيئ سوف يأتي ويضطرون للمغادرة مع حقائبهم .
وكتب منذ بضعة أعوام، المثقف اليهودي الأميركي، بنجامين شوارتز، مقالا لافتا بمجلة أتلاتنك منثلي، بعنوان: هل تعيش إسرائيل مائة عام؟

بل إن رئيس الكنيست الإسرائيلي الأسبق أبراهام بورج تحدث في كتابه الشهير "مواجهة هتلر" عن النهاية حيث يقول بورج: في تاريخ اليهود الوجود الروحي أزلي بينما الوجود السياسي مؤقت وإسرائيل مؤقتة .
ويكشف افيغدور ليبرمان وزير الأمن السابق ورئيس حزب (إسرائيل بيتنا) عما اعتبرها حقيقة صادمة، وهي أن ما يعتبرونه أقوى جيش في المنطقة، المفتوح على الترسانة العسكرية الأمريكية والبريطانية والألمانية قد هزمته المقاومة المحاصرة في غزة بقدراتها المحدودة نتيجة الحصار، فكيف سيكون المصير في حال الحرب مع حزب الله أو إيران) .
فيما يكشف بعض رجال الأمن السابقين عبر تويتر، عن شعور اليأس والخوف فيقول أفراييم هليفي، رئيس جهاز الموساد السابق "نحن على أبواب كارثة. إنه ظلام ما قبل الهاوية".
أما مئير دغان، رئيس جهاز الموساد السابق فيصرح: "إنني أشعر بخطر على ضياع الحلم الصهيوني".
ويتحدث كارمي غيلون، رئيس جهاز الشاباك السابق عن "خراب إسرائيل"، إذا استمرت ما سماها" السياسات المتطرفة ضد المسجد الأقصى التي ستقود إلى حرب يأجوج ومأجوج ضد الشعب اليهودي" .
وقال روني دانييل المحلل العسكري في القناة 12 الثانية: "أنا غير مطمئن أن أولادي سيكون لهم مستقبل في هذه الدولة، ولا أظن أنهم سيبقون في هذه البلاد".
وبدورة قال المحلل السياسي المعروف في قناة 12 أمنون أبراموفيتش، "إن أخطر ملف تواجهه إسرائيل هو ليس ملفات فساد نتنياهو، وإنما الأخطر منها هو ملف خراب إسرائيل الثالث" .
وينقل ناحوم برنييع، المحلل السياسي في صحيفة يديعوت أحرونوت كيف وصف صديقه المؤرخ اليهودي الأمريكي من أن "إسرائيل قصة قصيرة".
وقال المؤرخ اليميني ابيني موريس: "إنه وخلال سنوات سينتصر العرب والمسلمون، ويكون اليهود أقلية في هذه الأرض إما مطاردة أو مقتولة، وكتب الصحافي المعروف يارون لندن في كتاب مذكراته، الذي صدر نهاية العام 2014: "إنني أعدّ نفسي لمحادثة مع حفيدي لأقول له إن نسبة بقائنا في هذه الدولة لن يتعدى50%.ولمن يغضبهم قولي هذا فإنني أقول له إن نسبة 50% تعتبر جيدة، لأن الحقيقة أصعب من ذلك".
ويعود افيغدور ليبرمان الوزير اليميني ليؤكد فشل المشروع الصهيوني في عمليات التهويد الفكري والسياسي والمجتمعي بطمس الهوية الوطنية الفلسطينية والشعور القومي لدي الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948.
ولعل في سؤال ليبرمان الذي وجهه بعد معركة سيف القدس والهبة الفلسطينية الشاملة، إلى كل
مستجلب من الخارج، وهو منهم؛ في مقاله له في صحيفة معاريف، عندما كتب:"أقترح على كل مواطنٍ في إسرائيل أن يسأل نفسه: إذا كان هذا هو وضعنا في مواجهة حماس، فما هو موقفنا في مواجهة حزب الله وإيران؟ ما يشير إلى أن المستقبل في الكيان يسير نحو النهاية الحتمية، وهي بالضرورة نهاية كل مشروع أسس على الكذب والخداع، كون المقدمات هي التي تحدد النتائج سلبا أو إيجابا، والمشروع التوراتي الصهيوني بني على الخرافة، ومصيره بالتأكيد سيكون كذلك.
سؤال ليبرمان المحمل بكل الخوف من المستقبل المشكوك فيه، يمكن بلورته في سؤال" مآل خرافة استمرار زرع الكيان الصهيوني في فلسطين" بعد مئة وأربعة سنوات من وعد بلفور، وهنا نستحضر إجابة السؤال مما قاله أو كتبه مؤرخون وعلماء آثار ورجال فكر وسياسيون وأصحاب رأي يهود ويهود إسرائيليون وصهاينة يهود وغيرهم ومن الوقائع التاريخية التي تؤكد نهاية الخرافة، وربما يلخص ما كشفه وسائل إعلام الكيان الصهيوني لتلك السيرورة لمشروع الحركة الصهيونية في فلسطين. وهي أن ثلث الشبان في الكيان لا يعتقدون بأنَّ “إسرائيل” ستكون موجودة بعدَ 25 عاماً. ووفقاً لنتائج استطلاع للرأي أجراه “ائتلاف الحركات الشبابية” في كيان الاحتلال، ونقلته “القناة 12″، فإنّ ثلث الشبان الإسرائيليين لا يريدون أن يجري تجنيدهم، واعتبرت القناة، أنّ “هذه المعطيات خطرة وتدمي القلوب”.
إن شرط الوصول إلى الإجابة العلمية الموضوعية لسؤال "مآل خرافة المشروع الصهيوني في فلسطين" ولتحصين الذاكرة وشحذ الوعي، فيما يسمى بـ"المسألة اليهودية" التي هي صناعة أوروبية، في حين أن أتباع الديانة اليهودية في الوطن العربي كانوا يعيشون حياتهم كمواطنين في بلدانهم كغيرهم، دون تمييز إثني أو ديني، إلى أن نجح المشروع الصهيوني الغربي من زرع مستجلبيه الأوروبيين في فلسطين عام ،1948، هو في أن خرافات التوراة لا تنشئ حقا، وأن فلسطين كانت وستبقى أرضا فلسطينية.
وأن الوجود الفلسطيني الذي حافظ على طبيعة التناقض بين مجموعة بشرية مستجلبة وبين الشعب صاحب الأرض، هو العامل المقرر في إنهاء الخرافة، وهو ما بدا واضحا في رد المقاومة على العدوان الصهيوني على غزة في مايو 2021، الذي صدم الصهاينة على كل المستويات، الذي هو نتاج فعل تراكمي ممتد منذ النكبة عام 1948 وحتى تاريخه؟ مما جعل العديد من المستجلبين الصهاينة يتساءل: هل اقتربت نهاية خرافة المشروع الصهيوني في فلسطين؟
إن نخبهم تقول إن ساعتهم اقتربت، لكن في المقابل لابد من التنبيه إلى أن الوضع الفلسطيني ليس في أحسن حالاته في ظل الانقسام وبحث البعض عن مصالحه على حساب القضايا الأساسية، وهو أمر من شأنه أن يجعل الشعب الفلسطيني يدفع الثمن أكثر من مرة، في الوقت الذي يعيش فيه مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين، حالة من الشك وعدم اليقين في المستقبل، ولذلك يجب أن يرتقي الكل الفلسطيني إلى المستوى الذي يمثله الشعب المشتبك مع الاحتلال عبر فرسانه من الشباب في كل مدن الضفة، بأن يعاد إلى منظمة التحرير دورها ووجهها بعد أن اختطفتها جماعة أوسلو لثلاثة عقود، وفي ظل بحث البعض عن بدائل لها، وذلك في سياق رؤية سياسية وتنظيمية وكفاحية بوصلتها التحرير الكامل وعودة اللاجئين لا غير. لأن نهاية الخرافة موضوعيا قد حانت..





















المصـــادر:
1-رجا إغبارية، شعبنا يقرر أنه انتصر لم يبقى للعدو وللمحللين أي اجتهاد!، https://www.raialyoum.com/.
2-رأفت مرة، عناصر انهيار وتفكّك الكيان الصهيوني تتزايد، https://www.albayan.co.uk.
3- زهير أندراوس، مسؤولٌ إسرائيليٌّ بارِزٌ يدعو لفصلٍ كاملٍ مع فلسطينيي الداخل، رأي اليوم الإلكتروني،https://www.raialyoum.com/.
4- أ.صالح الحاج حسن، ورقة علمية: معركة سيف القدس في الميزان (رمضان 1442هـ – أيار/ مايو 2021)، https://www.alzaytouna.net/.
5- عدنان أبو عامر،غرفة العمليات المشتركة للمقاومة في غزة نواة لـ"جيش التحرير" 28/5/2021، https://www.aljazeera.net/.
6- شرحبيل الغريب عام على "سيف القدس"..تحول استراتيجي في إدارة الصراع، https://www.almayadeen.net/.
7- أنس أبو عريش، عرض وتحليل كتاب "اختراع أرض إسرائيل" لشلومو ساند انقلاب على الأساطير التي اختلقتها الصهيونية، 25 /4/2017، https://www.madarcenter.org/.
8- وكالات، باسيج: إسرائيل قد تشهد حربا أهلية واغتيالات وهجرة معاكسة، 30/5/2021، https://www.amad.ps/.
9- وديع عواودة، المؤرخ إيلان بابيه: هكذا اكتشفت أكاذيب الصهيونية وهكذا كفرت بروايتها،
10- عدنان عدوان، التشكيك الأمريكي بوجود "إسرائيل" في المستقبل القريب!!السنة الحادية عشر ـ العدد133، كانون أول 2012، https://www.wahdaislamyia.org
11- عدنان أبو عامر، تحذير "إسرائيلي": ميزان الهجرة يختل وسنفقد الأغلبية اليهودية، 11/1/2021، https://arabi21.com/

12- مفاجأة مؤرخ إسرائيلي..لا مستقبل لإسرائيل واليهود سيهربون،11 يناير 2019، https://arabi21.com
13- نادر الصفدي، الصراع الديموغرافي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. من سينتصر؟ https://www.noonpost.com/
14-صالح النعامي،إسرائيل ويهود العالم..مؤشرات فك الارتباط، https://www.aljazeera.net/
15- عبدالرحمن البيطار، المأزق البنيوي الاستراتيجي للمشروع الصهيوني في فلسطين، 2/3/2020، الحوار المتمدن-العدد: 6504، https://www.ahewar.org/
16- شمس الدين الكيلاني، ثلاثية شلومو ساند: في حال إسرائيل: التاريخ والمصير، https://www.arab48.com/
17- د. ميساء شقير https://www.arab48.com/
18- إحسان مرتضى، أزمة النظام الصهيوني وتجلّياتها البنيويّة والموضوعية،نيسان/أبريل 2001،العدد 36 - نيسان2001، https://www.lebarmy.gov.lb/
19-نبيل السهلي، إسرائيل بين مكامن القوة والضعف، 26/06/2020، https://arabi21.com/
20- علي بدوان، إسرائيل وأزمة الهوية،30/9/2014، https://www.aljazeera.net/
21-عبدالمجيد فريد، التناقض داخل إسرائيل، 17/06/1994، http://www.al-waie.org
22- عبدالغني سلامة، تناقضات المجتمع الإسرائيلي، صراع أم تصدّع؟ عبد الغني سلامة، 08 يوليو 2019، /https://samanews.ps
23- فايز رشيد، مأزق الوجود الإسرائيلي وتوقعات صهيونية بنهايته، 3/7/ 2019، https://www.alquds.co.uk/
24- وديع عوواده، تقرير “مدار” الاستراتيجي 2021: إسرائيل “قوة إقليمية“ لكنها مأزومة داخليا، 13/4/2021، https://www.alquds.co.uk

25-محسن صالح، أزمة المشروع الصهيوني، 21/5/2008، https://www.aljazeera.net.
26- أحمد صقر، خبير أمني بارز: "إسرائيل" هشة ونسيجها الداخلي يتآكل، 18 أكتوبر 2020، https://arabi21.com/
27- مازن النجار، استمرار المأزق الوجودي للمشروع الصهيوني الاستيطاني بعد 66 عاما على قيامه، https://fairforum.org/
28- ياكوف شاريت نجل مؤسس إسرائيل، 16/1/2020، في حوار مع موقع ميدل إيست البريطاني، https://www.aljazeera.ne
29- سامح عودة، صراع اليهودية والصهيونية.. هل تتفكك إسرائيل من الداخل؟ 4/5/2021،
30- ناصر حمدادوش، الأساطير الدّينية المؤسِّسة لإسرائيل، 13/02/2020، https://www.echoroukonline.com
31- نبيل عودة، أساطير االتوراة تسقط،https://www.sotaliraq.com/
32- زهير أندراوس، عالم آثار إسرائيليٍّ ينفي قصة خروج اليهود بقيادة النبي موسى من مصر، https://www.raialyoum.com//
33- د.صالح حسين الرقب، المرتكزات العقائدية للصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية، 26/04/2018، https://www.drsregeb.com/
34- محمد بن المختار الشنقيطي، المسيحية الصهيونية والسياسة الأميركية، 3/10/2004،https://www.aljazeera.net/
35- عبدالمجيد الصغير، منزلة الدين من السياسة الأمريكية ودوره في استراتيجيتها الخارجية، http://www.qatarconferences.org/
36-الصهيونية..رحلة إقامة دولة يهودية،29/5/2016، https://www.aljazeera.net/
37-رائف زريق، إسرائيل: خلفية أيديولوجية وتاريخية، 18/6/2020، https://www.palestine-studies.orghttps://www.aljazeera.ne

38- أ.د.محمد مراد، "الدولة اليهودية": إشكاليات الهوية، الجغرافيا السياسية، الديمغرافيا، العدد75 - كانون الثاني 2011"، https://www.lebarmy.gov.lb
39- علاء البرغوثي، خيوط المؤامرة من نابليون إلى بلفور،3/11/2016، https://www.aljazeera.net/
40- عدنان أبو عامر، غرفة العمليات المشتركة للمقاومة في غزة نواة لـ"جيش التحرير"، 28/5/2021، ttps://www.aljazeera.net/
41- شمس الدين الكيلاني، ثلاثية شلومو ساند: في حال إسرائيل: التاريخ والمصير، 16/10/2020، https://www.arab48.com/
42- أسعد عبدالرحمن، إسرائيل و«الخطر الديموغرافى»!، 14/7/2018، الاتحاد ــ الإمارات
43- د. غازي حسين، المشروع الصهيوني إلى أين !، 9/8/2014، https://kanaanonline.org
44- البروفيسور زئيف هرتسوغ ، علم الآثار يكشف زيف الحق التاريخي "الإسرائيلي" هآرتس 28/11/1999 https://www.facebook.com
45- أمل عيسى، عشر خرافات عن إسرائيل، 30/5/2017، https://www.aljazeera.net/
46- أ.د.عدنان عياش،دحض ادعاءات اليهود بأحقيتهم في أرض فلسطين، https://jilrc.com/
47- زهير أندراوس: وثائق تسميم آبار المياه،16/10/2022، https://www.raialyoum.com.
48- الموسوعة الحرة ويكيبديا.
49- عالم إسرائيلي حائز على نوبل يشكك باستمرار وجود الكيان/16/10/2006، https://www.raialyoum.com
50- د. ادليت وايزمان، الاعتراف بالذنب فضيلة، صحيفة إسرائيل اليوم، ttps://ida2at.org/news
صحف ومواقع تواصل
- صحيفة معاريف 14/5/2021.
- https://www.almayadeen
- .https://www.madarcenter.org/
- https://www.alaraby.co.uk/
- https://www.palestinapedia.net/
- هآرتس 28/11/1999 https://www.facebook.com
- https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=4071,
- https://www.maan-ctr.org/magazine/article/ /
- هآرتس، 14/5/2021،https://www.klyoum.com/
- Jun 11, 2020•Twitter
- http://www.dci.plo.ps/article/
- https://www.raialyoum.com













الفهرس

مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين.. نهاية الخرافة
إهداء
تمهيد
الفصل الأول: مقدمات أسست لوهم عودة اليهود إلى فلسطين
مدخل
الذرائع الدينية والسياسية وراء مشروع زرع اليهود في فلسطين
ذريعة.. "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
دور أوروبا في بعث فكرة الكيان اليهودي في فلسطين.
الصهيونية المسيحية .. ودوافع تبني أسطورة عودة اليهود.
الفصل الثاني : بلورة مشروع صهيوني استعماري
مناخ أوروبي ساهم في نشأة الحركة الصهيونية
ثانيا:" شعار الصهيونية.. لربط ذلك بالعودة لفلسطين.
ثالثا: مؤتمر بازل وبلورة مشروع صهيوني كولنيالي.
رابعا: المشروع الصهيوني رأس حربة للقوى الإمبريالية.

الفصل الثالث:علماء ومؤرخين يهود يدحضون أساطير التوراة
أولا: الوعد الإلهي "ميثولوجيا" ..والتوراة تزوير للتاريخ
ثانيا: مؤرخون يدحضون أسطورة الشعب اليهودي وخرافة العودة.
ثالثا: دحض مقولة شراء الأرض.
رابعا: مشروع كولنيالي إحلالي على حساب الشعب الفلسطيني صاحب الأرض.

الفصل الرابع: الدور الأوروبي في زرع الكيان الصهيوني في فلسطين
مدخل
مشروع استعماري غربي بذريعة دينية
الدور اليهودي في الحصول على الوعد
جريمة وعد بلفور
نص الوعد
النظرة الميثولوجية ( الأسطورة)
التمكين البريطاني للصهاينة
بريطانيا دولة الانتداب تشرف على تمكين الحركة الصهيونية من فلسطين
عمليات التطهر وتدمير المدن والإحلال(الاستجلاب)
موجات الهجرة إلى فلسطين

الفصل الخامس.. المشروع الصهيوني وأزمة الوجود
مقدمة
الكيان الصهيوني..أزمة بنيوية مستمرة.
مصطلح الحرب الأهلية
خرافة القومية اليهودية
تجليات الأزمة البنيوية
أزمة في الهوية والانتماء
المشروع الصهيوني .. نحو إقامة كيان مستجلبين
نضوب الهجرة اليهودية
انتهاء موسم الاستجلاب المزدهر
فشل سياسة الاستجلاب
من الاستجلاب إلى التعزيز
أسباب العزوف عن الهجرة
هروب المستجلبين
خلاصة
غير يهود
انخفاض نسبة اليهود من المستجلبين
انكشاف المشروع الصهيوني
الفلسطينيون.. والعامل الديمغرافي

الفصل السادس: المشروع الصهيوني في فلسطين .. سيرورة التداعي.

انهيار نظرية الوعد الرباني.
فقدان الثقة في استمرار وجود الكيان(من..أفواههم)
فلسطينيو 48: تأكيد الوجود ونفي النفي
معركة سيف القدس.. متغيرات استراتيجية هائلة
وبعـــد..

المصـــادر:
صحف ومواقع تواصل
ا



#سليم_يونس_الزريعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشاكسات الاستجداء بالكذب..صهينة فلسطينية إسلامية!!
- مشاكسات... إسلام صهيوني.. قلق على التطبيع
- صدقية حماس .. بين أبو مرزوق والسنوار
- خطاب حماس والجهاد.. عندما تفارق الأقوال الأفعال
- الكيان الصهيوني.. مقولة التفكك.. كتظهير لأزمته البنيوية
- الاتفاق الثلاثي.. والتمهيد لتعدد الأقطاب
- لا ديمقراطية مع الاحتلال.. ونهاية مرحلة الوهم
- مع عودة جريمة التنسيق الأمني.. من تُمثل سلطة رام الله؟!!
- مشاكسات .. احتلال خمسة نجوم..! حلال علي..حرام عليهم..
- نتنياهو.. عندما يتبجح -اللص-!
- بوصلة كنس الاحتلال.. فلسطينية
- مشاكسات / إنسانية.. اليانكي! .. متى تستفيق؟
- مشاكسات.. العراق.. توطن الفساد / أشبعتهم إدانات.. !!
- زلزال تركيا يعري لا إنسانية قانون قيصر الأمريكي
- استشراف صهيوني لنهاية كيان الاحتلال في فلسطين
- السلطة الفلسطينية.. فقدان القدرة على الرؤية والقراءة
- وهم حل الدولتين .. والخيار البديل
- وجود الكيان الصهيوني المحتل.. هو العار
- مشاكسات / سلطة تساوي التنسيق..! ذروة التهافت
- مشاكسات / لغة كي الوعي!!.. أمريكا..سارقة..!


المزيد.....




- -نيويورك تايمز-: عائلات العسكريين الأوكرانيين القتلى تفشل من ...
- مدفيديف يتحدث عن العلاقات بين روسيا ولاوس
- وسائل إعلام: بولندا تفتح قضية تجسس ضد القاضي شميدت الهارب إل ...
- البرلماني الجزائري كمال بن خلوف: بوتين أعاد لروسيا هيبتها ال ...
- مصر تحذر من -تصعيد خطير- إثر استمرار سيطرة إسرائيل على معبر ...
- النازحون بالقضارف السودانية.. لا غذاء ولا دواء والمساعدات قل ...
- الأسد وانتخابات -البعث-.. -رسائل للعرب-
- الشرطة تفكك مخيم اعتصام موالٍ للفلسطينيين بجامعة جورج واشنطن ...
- بيان إماراتي بعد سيطرة القوات الإسرائيلية على معبر رفح
- -طلائع التحرير- المجهولة تتبنى قتل إسرائيلي في مصر.. ومصادر ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سليم يونس الزريعي - مشروع الحركة الصهيونية في فلسطين..نهاية الخرافة