أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مهند طلال الاخرس - عيدنا عودتنا















المزيد.....



عيدنا عودتنا


مهند طلال الاخرس

الحوار المتمدن-العدد: 7690 - 2023 / 8 / 1 - 13:37
المحور: سيرة ذاتية
    


#عيدنا_عودتنا
#مهند_طلال_الاخرس

الو .. سلامات خالتي ام العز
-اهلا وسهلا
نور موجود..
-لا والله،
بتعرفي وين بلاقيه خالتي؟
-والعلم عندالله انه عند الحلاق... منتا عارف الليلة ليلة عيد، وهاظ صاحبك بفطنش يحلق شعراته الاّ آخر وقت.
ماشي خالتي.. سلمتِ ودمتِ، وكل سنة وانت سالمة.
-وانت سالم ومن العايدين ان شاء الله.

وما هي الا ساعة حتى التحقت بنور عند الحلاق، كانت جملة "والعلم عندالله انه عند الحلاق" تعني شيئا واحدا؛ ان صديقي ورفيقي جاهز للمهمة وهو بانتظاري في احد الخيارين؛ صالون الحلاق رياض او بدران.

قادتني قدماي نحو الخيار الاول، صالون رياض. ذلك الصالون القابع على احد مفارق الطرق الرئيسية في المخيم، والرابط بين جامع القدس وجامع نابلس، وعند مثلث حارة ابو السيد تماما، كان نور في الانتظار يمارس عادته التي ادمنها كثير من ابناء جيلنا، تمضية ما امكن من ليلة العيد مجتمعين يتسامرون في كل صالونات الحلاقة في المخيم، كان المخيم فقيرا من كل وسائل الترفيه! لم يكن امام شباب المخيم إلاّ صالونات الحلاقة؛ يلتجؤون اليها لتمضية الوقت، والولوج الى عالم الشباب واهتماماتهم، في محاولة لاستراق شيء من وقت الفرح والشعور بحلول العيد.

كان شباب المخيم يمضون الوقت بالتسامر والحديث ومشاهدة التلفاز وشرب القهوة والتدخين بنهم، الى ان ياتي دور كل واحد منهم في الحلاقة، فيتزين ويحلق شعر راسه والذقن ويتعطر بالكالونيا كدليل على مكان سهرته وتواجدهم، ثم يمضي كل في سبيله.

وصلت الصالون، لكني لم ادخل اليه. سرت من امامه ذهابا باتجاه حارة ابو السيد حتى طلوع عرب عين الديوك والعرايشة. لم اتأكد اذا كان نور قد لمحني من داخل الصالون، إذ انه تاخر عن اللحاق بي، مما اضطرني للعودة نزولا باتجاه شارع عيادات الوكالة والسوق حيث صالون ماهر واستوديو اشرف ومحلات طالب الكوع ، وعند مفرق الطرق لم استطع المكوث مطولا بانتظار صديقي نور، فثمة مجموعة من شباب التنظيم يتوشحون بالكوفية على اكتافهم، كانوا متحملقين حول موقد النار [التنكة] على باب المحل يتسامرون ويغنون اغنية ابو عرب الشهيرة " يا يما لو جاني العيد...كان سماع هذه الاغنية في جنبات المخيم احد اهم طقوس المخيم في ليلة العيد..طبعا بعد الطقس الاثير الذي يمارسه اطفال المخيم وهم يرددون اغنيتهم الاثيرة:" بكرة العيد وبنعيد، وبنذبح بقرة السيد، والسيد ماعنده بقره، بنذبح بنته هالشقرة، والشقرة مافيها الدم، بنذبح بنت العم".

من على مثلث السوق حيث محلات "الكوع" كان من السهولة بمكان تمييز صوت محمد هويدي وهو يصدح بموال اغنية ابو عرب "يايما لو جاني العيد" بصوت عذب وحزين، وبحة تحمل في طياتها كل اوجاع الحنين، تلك البحة في صوت هويدي كانت ومازالت ذات وقع واثر لا يزول:
قالوا إجا العيد
قلت العيد لأصحابوا
شو بينفع العيد للي مفارق حبابوا .. آآخ يا يما
العيد يا يما لما بلادنا بتعود
وأرجع عأرض الوطن وأبوس ترابه

كانت كلمات الموال المنبعثة بصوت هويدي المبحوح تاخذ طريقها الى اذان كل من يسترق السمع من على باب المحل، وليس الاذان وحسب، بل العيون والروح ايضا؛ فللعيون مآقيها؛ إذ انّ أكثر حبات الدمع وجعا في هكذا حالات لم تكن تخرج من العين، بل من مآقي الروح. تماما كصوت الناي المقطوع من الغاب.

اما بقية كلمات الاغنية كانت تتجاوز مدى الباب الى افق اوسع وارحب...فصوت المجموعة المرافقة لهويدي ولفرط حماستها كان صوتها يطغى على صوت المغني...
كان صوت هديرها قد سمح لي ان اشترك بالغناء معهم عن بعد...كنت اردد واغني معهم:

يايما لو جاني العيد يما يا يما،
ومافي عيد بيسعدني
وآني عن دياري بعيد يما، يا يما
ومالي حدا يعايدني

يايما لو جاني العيد إسألتو وين الغوالي
الناس بتلبس ثوب جديد يمايا يما
وشيلي من الردم اطفالي

ويا يما لو جاني العيد،
وعيدي يما على حدودي
الناس تعيد إيد بإيد يما، يا يما
وانا بمسح باوردي

ويايما لو جاني العيد، ومافي عيد يفرحني
آي وآني عن دياري بعيد يما، يا يما
وبعد حبابي جارحني

ويا عيد ايش جاباك اليوم،
ومالي قلب يضحكلك
وكنت عليي مابتلوم يما يا يما
ولو متلي مفارق اهلك

كنت اعرف جيدا سبب اجتماع تلك المجموعة عند محلات الكوع، واستأنست بصوت غنائهم وبقيت استرق السمع لاصوات غنائهم وانا اذرف الارض ذهابا وايابا تحت متعة حبات المطر ولوعة الانتظار.

ورغم الفرح والأُلفة التي غمرتني جراء غنائهم ، إلا انني إنزعجت لامرهم، فهم لم يتقيدوا بتوزيع المجموعات على مناطق المخيم المحددة اولا، وثانيا كانت تشير التعليمات الى توزيع المجموعات الى فردين فقط، وثالثا كانت التعليمات صارمة بعدم الخروج لشوارع المخيم قبل الثانية فجرا، ورابعا تقتضي طبيعة المهمة لبس الكوفية كغطاء للراس مع اخفاء الوجه؛ وخامسا يستلزم لنجاح المهمة ان يرقب احد افراد المجموعة الشوارع الرئيسية لمنطقته ذهابا وايابا قبل الشروع بتنفيذ المهمة، بينما هؤلاء الاحبة جالسين ومجتمعين ويغنون بشكل يسترعي الانتباه ويلفت النظر، وفي مكان معروف جدا، حتى انه اشهر من نار على علم، فهو احد امكنة وملتقيات ابناء التنظيم الرئيسية في المخيم، وصاحب المحلات احد مرجعيات التنظيم وقياداته المعروفة والمشهورة والتي يشار اليها بالبنان...

وصل نور ولكنه لم يصل!؟ تمسمر نور عند عمارة سليمان العجوري، واستظل بنورها حتى اراه، او ربما لاستمتاعه او اضطرابه من سماع اغنية ابو عرب " يايما لو جاني العيد"..
كان من السهل رؤيته، فقد كان الشارع خاليا إلا من اصوات حبات المطر على الواح الزينكو وصدى العيد القادم من اغنية ابو عرب.

لمحته سريعا واشرت اليه بالمسير باتجاهي وانطلقت باتجاه مثلث المدارس/الصيدوني/الجاعورة. لحق بي نور عند مخيطة الراعوش بالتمام.

سرنا بخطوات متلازمة حتى وصلنا محلات تغاريد للافراح ومحلات طرطر، كان المحلان اشهر من نار على علم؛ تغاريد كان يبيع مطبقانيات وكروت الافراح، وطرطر اشهر من باع البوت الصيني في تاريخ المخيم، وما ان وقفنا مقابل المحلات حتى بدات بالغناء بصوت مرتفع :" ياعيد ايش جابك اليوم" فجاء الينا احد الملثمين بالكوفية وطرح علينا السلام واتبعها ب" عيدنا عودتنا"، كان غنائي ب" ياعيد ايش جابك اليوم" يشكل الشطر الاول من كلمة السر، وكان لطرحه السلام علينا والرد بشعار " عيدنا عودتنا" يمثل الشطر الثاني من كلمة السر، وكان من جملة ما يعني هذا اللقاء وتلك الرموز ان كل شيء على مايرام، وان الخطة تسير كما ينبغي، واخرج من داخل سترته كيسين اسودين، فسلمنا اياهما ومضى حتى غابت خطواته في الطريق.

سريعا زلفنا بشارع فرعي يقع خلف محلات فيديو فاتن وصيدلية البس، تفقدنا محتويات الكيسين، كان احدهما يحتوي اربعة علب دهان "رش سبريه" ومسدس!!، والكيس الاخر ماعون ورق كبير [مناشير] ، كانت المهمة تقضي ان اخذ علب الرش والمسدس، بينما يتولى نور امر المناشير.

لم اكن اهوى حمل المسدس ولا اقوى على ذلك، وكان صديقي نور يعرف السر في ذلك، فاودعته المسدس ومضينا بتنفيذ مهمتنا.

تحاشينا المرور من امام محلات الكوع، وابتعدنا عن مفرق الطرق ذاك، وولجنا من شارع فرعي موازي للشارع الرئيسي، تفقدنا الشوارع وامكنة المهمة المتعددة والمرصودة مسبقا[ وهذا ما نسميه التشييك النهائي]، ساعدتنا زخات وصوت قرقعة الزينكو من جراء تساقط حبات المطر على توفير الاجواء المثالية لتنفيذ المهمة.

شرعت بتنفيذ مهمتي بكتابة مجموعة من الشعارات على الجدران، وكذلك الامر مع نور. كانت مهمة نور معقدة اكثر، فقد كانت مهمته تقتضي بتوزيع المناشير على ثلاثة امكنة وبشكل متكرر، بحيث تغطي جميع المنطقة الموكلة الينا بتنفيذ المهمة فيها؛ تعليق المنشور على زجاج السيارات تحت المساحة، والثانية قذفه داخل منازل ومحلات تجارية معينة، والثالثة نثر مجموعة كبيرة من المناشير على الارض عند كل مفرق طرق رئيسي.

وفي اجواء ماطرة كهذه كانت المهمة الثانية والثالثة ضرب من العبث، ومع ذلك فعلها نور، وتفرغ لمرافقتي، بدات اخط الشعارات بخط جميل ومتعوب عليه، كانت الشعارات تقول من جملة ماتقول:"عيدنا عودتنا، الفكر ينبع من فوهة البندقية، البندقية الغير مسيسة قاطعة طريق، العمل العسكري يزرع والعمل السياسي يحصد، الوحدة الوطنية طريق النصر، لسنا يمين ولسنا يسار كلنا ابو عمار، نعم لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، نعم ل م.ت.ف، القدس عاصمتنا الابدية، فتح ديمومة الثورة والعاصفة شعلة الكفاح المسلح، يشهد الله جراحنا من جراحك يا عمان، نعم للكفاح المسلح، فلسطين ليست بعيدة ولا بالقريبة... انها مسافة الثورة، بدفتري وقلمي ونار بندقيتي سارفع العلم، ابو جهاد: اول الرصاص اول الحجارة، بالروح بالدم نفديك يا فلسطين، ابو عمار صرح تصريح... يا جبل ما يهزك ريح، عهدا للشعب والقائد ان يكون عيدنا يوم عودتنا، المجد والخلود لشهدائنا الابرار، الانتفاضة مستمرة، الفتح لا ينسى دماء رجاله وغدا ستثأر لي عمالقة الجبال، نموت ليعيش شعبنا ولتحيا فلسطين، نموت واقفين ولن نركع، الفكر ينبع من فوهة البندقية، الارض للسواعد الثورية التي تحررها، اللقاء فوق ارض المعركة، لا للحل السلمي لا ... نعم للبندقية، لن نركع مادام فينا طفل يرضع، لا نامت اعين الجبناء، كل شبل كل زهرة... في صفوف الشعب ثورة، نعم للوحدة الوطنية، فتح من الله ونصر قريب، انا فتحنا لك فتحا مبينا، اذا جاء نصر الله والفتح، نعم للقيادة الوطنية الموحدة، ما اخذ بالقوة لا يسترد إلاّ بالقوة، نعم للدولة الفلسطينية المستقلة، حين يبتسم المخيم ...تعبس المدن الكبيرة، ثورة حتى النصر. فتح مرت من هنا....".

كان لزاما علينا في العيد ان نكثر من كتابة شعار "عيدنا عودتنا" وبالذات على مفارق الطرقات وعلى جدران ملعب النادي حيث مصلى العيد الاثير والمثالي، كان هذا الشعار [عيدنا عودتنا] قصيرا وكثيف المعنى وسهلا وسريعا يملأ جنبات المكان، والمهم انه كان يعني دائما ان فتح مرت من هنا، وفي ذلك رسائل كثيرة، اهمها: ان رصاص فتح يمكن ان يصل حيث تصل الكلمات!!؟؟.

**

كم هي طويلة وجميلة ليلة العيد في المخيم؛ فمع بداية ليلها تفوح من بيوتها رائحة كعك العيد، والذي ما يلبث ان يغزو المخيم بكامله، ومع تلك الرائحة ينبعث الحنين وينتشر الفرح ليطوف حواري المخيم بلا استئذان معلنا عن انطلاقة اولى مراسم وطقوس العيد، هذا طبعا بالنسبة لعيد الفطر[رمضان] اما عيد الاضحى فله ميزة اخرى تضاف على اجواء العيد؛ رائحة الاغنام واصوات ثغائها قبل الذبح والتضحية.

المخيم ومع تعاقب السنين لم تختلف طقوسه ومراسيمه، وبقي وفيا اكثر لذكرياته وسيرته الاولى، فرائحة الكعك مازالت فواحة، وحكايا صالونات الحلاقة بازدياد، واضيف عليها المقاهي والنوادي، والاقدام في الاسواق لا تكل ولا تمل حتى طلوع الفجر، وصلاة العيد على حالها وان غادرت ملعب النادي الى بقاع شتى، وبعد الفراغ منها الزيارات للاهل والاصحاب والمقابر لا تنتهي، والمراجيح والعاب الاطفال وبسماتهم تملأ الشوارع، وصوت مفرقعاتهم وطلقات بنادقهم البلاستيكية المزعجة على حالها، لكن لا معنى ولا طعم للعيد بدونهم اوبدونها، فهم وحدهم من يعطون للعيد معنى الفرح.

المخيم ومع كل هذه السنين مازالت حاراته تزدحم وتكتظ اكثر واكثر، إلاّ انه ورغم اتساع الاسى مازال يحتضن كل ذلك الحنين الذي تفيض به السنة اللاجئين في المخيم، فتجد فلسطين متقدة وحاضرة دائما على السنتهم، بل ان اسمها يملأ قلوبهم على الدوام، وليس هذا وحسب بل ان اسمها ومشتقاته ودلالاته تجده محمولا على اسماء ابنائهم ومحلاتهم وذكرياتهم ، وبالتأكيد صحيفتهم الوحيدة؛ جدران المخيم.

تلك الجدران وعلى مدى سنوات المخيم بقيت وفية مع امنياتنا واحلامنا واتسعت اكثر لتحمل شعاراتنا في ليلة العيد، لم تتعب ولم تيأس، وبقيت شعاراتها تحرس الحلم وتحمي الامل وتحمل المعنى والمغزى حتى وان ضاقت العبارة واتسع المدى.

في ليلة العيد ومع وتعاقب الاحداث وكثرة النكبات والنكسات وتعددالمناسبات، اصبحت جدران المخيم تتحمل العبء الاكبر من احلامنا وشعاراتنا. غدت تتسع اكثر واكثر، لتحتمل كل هذا الاسى. لم يعد يكفيها اربعة علب رش للترحيب بتلك الليلة الطويلة!؟

مع مضي الوقت اخذت بالتفنن والتخطيط اكثر بكتابة الشعارات على جدران المخيم، ومازال نور يحثني على الاسراع، فالوقت اخذ يداهمنا والمنطقة المناط بنا تغطيتها كبيرة... والاصعب والانكى مازال مخبئا وينتظرنا في المهمة الاخيرة!؟

ورويدا رويدا بدات الشعارات تظهر وتتزايد، واصبحت تزين جداران المخيم، ولتتزين مناسبة العيد بشعار "عيدنا عودتنا"، ولنعطي معها العيد اللمسة التي نحب ونهوى، تلك اللمسة التي تُحدثها الشعارات على جدران المخيم لها وقع وتأثير خاص، فأثرها كأثر الفراشة يبقى ولا يزول.

فمن تلك الشعارات والصور والملصقات التي تزين بيوت المخيم، تشكلت اولى لبنات وعينا؛ تلك الصور والشعارات -والتي دُشن بانطلاقتها النسخة الفلسطينية لما اصطلح على تسميته عالميا بادب الجدران-، تلك الشعارات والصور والملصقات تكفلت بأسر وتأطير الجميع، فعلى جدران المخيم واينما وقعت عيناك تجد شيئا من فلسطين وعن فلسطين.

تلك الصور والملصقات والشعارات؟ ان زِدنا عليها الاغاني، والمظاهرات وهتافاتها، والمناشير وكلماتها، اكتملت اولى ابجديات المخيم، وسرت في اولى الخطوات نحو الوطن.

كان بحوزتنا رزمة من الشعارات المكلفين بكتابتها بناء على اوامر وتعليمات التنظيم، كنت انتقي منها ما احب واطرح مالا يعجبني جانبا، وكنت ابرر للقيادة اسباب عدم كتابة اخرى، كنت مثلا اتذرع بعدم كتابة شعار" السلم يندلع من فلسطين والحرب تندلع من فلسطين" كنت اتذرع بقولي لست متاكدا من صوابية هذه المقولة؛ فانا لا اعرف حقيقة ايهما اولا: السلم ام الحرب!! وكنت ابرر عدم كتابة شعار اخر بانه كبير ولا يتسع له الجدار، وفي تبرير ثالث كنت اتذرع بان علبة الرش فرغ محتواها [خلصت] وفي تبرير رابع وهو كالسلاح النووي بيدي ولا استخدمه الاّ عندما تستشيط القيادة غضبا بسؤالها لي: لماذا لم تلتزم بالقائمة الموضوعة لديك؟

كنت اجيب: كنت على وشك كتابتها، واسألوا صديقي في الخلية نور، لكن داهمنا صوت سيارة الفوكس[المخابرات]، عند هذه الاجابة بالذات كانت القيادة تلوذ بالصمت لبرهة ثم تقول: الله يعطيكم العافية: ماقصرتوا ، وفي الحقيقة كان مدعاة صمتهم على افعالي المتكررة جمالية الخط الذي اكتب به على الجدران ... او هذا ما كنت اعتقده على الاقل، لكن صديقي نور وعلى مدى عشر سنوات كاملة كان يهمس باذني دائما: دعك مما تعتقد واذهب الى ما لا تعتقد.. كانت هذه جملة نور المالوفة والمعهودة .. وكانت تعني شيئا واحدا :" ان القيادة يعجبها ذلك الشعار المكتوب بعناية على جدار مكتب مخابرات المخيم والذي يقول:" يشهد الله جراحنا من جراحك يا عمان، ومن تحته توقيع يقول "فتح مرت من هنا".

كنت دائما اسأل نور؟ ايهما بالضبط يعجب القيادة؟ الشعار:
"يشهد الله جراحنا من جراحك ياعمان"،
ام التوقيع[فتح مرت من هنا]؟
كان نور يجيبني دائما: اصوات طلقات الرصاص!؟

***

بعد عشر سنوات تركت المهمة لاخرين، خفتت الشعارات واصبحت شحيحة، ورويدا رويدا لم نعد نرى تلك الشعارات على جدران المخيم إلاّ ما ندر، وبعد عشر سنوات اخرى انزلق الوضع اكثر، فلم يعد احد يكتب او يخط حرفا على جداران المخيم، اصبحت الجدران مبولة شباب المخيم.

ومع الايام اصبحت الجدران يُنظم لها حملات تطوعية، لطلائها وتزيينها برسومات لا معنى لها في المخيم: اعمدة واثار وزهور وطيور وسماء زرقاء صافية وشمس ساطعة واشجار لا نعرف اسمها، واطفال وطلاب غادرت البسمة وجوههم وهم يصطفون لتحية العلم...

طال زمن المخيم وطال حلم العودة، فقررت ان اعود لابجدياتي القديمة واولها ان امارس قصتي الاثيرة مع جدران المخيم، لكن حدث مالم يكن متوقعا؛ جاء اخرون واطلقوا الرصاص على اكثر جدار يمقته المخيم!!؟؟.

****

سلامات سلامات.
-هلا بالحبيب
كيفك يانور
-مشتاقلك يا استاذ...ياه والله زمان عنك يا استاذ، وين هالغيبة، وين بلادك، طمني عنك وعن احوالك: فلسطين ان شاء الله بخير؟

فلسطين بتبيض الوجه يانور وبترفع الراس..
اول نبارح فازت بمسابقة طلابية على مستوى اللواء في فن الالقاء والخطابة. وقبل شهرين فازت بالبرلمان الطلابي المدرسي وحصلت الاولى على مدرستها، ثم تاهلت للمحافظة وفازت بعضوية الهيئة الادارية واصبحت امينة سر البرلمان الطلابي.

-اي لواء واي خطابة ومدري الشو يازلمة، !؟
مالك يانور،ايش في،؟

-استاذ الدنيا عياد ، واحنا على المقبرة، والدنيا الصبح، ولا انا من صحن المعمول والكعك اللي اكلته على هالصبح بطلت اجمع؟!
مالك يانور ايش في؟

-يسعد صباحك يا استاذ، انا بسأل عن فلسطين ...
واخذ يشير بيده نحو الغرب....قائلا:
هناك هناك، ان بسألك عن هناك، عن لبلاد...شو برلمان وطلاب وخطابة ومدري اشو..
اه..حبيبي يانور، راح بالي والله انك بتسأل عن بنتي فلسطين واخبارها...
وانطلق نور باه عالية بعيدة وعميقة وتبعته بمثلها..
ثم سألني:
- عندك فلسطين، ما شاء الله، قديش عمرها؟
فاجبت: فلسطين اللي هناك في الغرب عمرها الان ٧٥ سنة، وفلسطين اللي هان في الشرق عمرها الان ١٦ عام.

ضحك نور وقهقه عاليا وتبعته بمثلها، تعانقنا ولم تنقطع ضحكاتنا وصوتها المبحوح القادم من وجع السنين وحنين الذكريات الاّ صوت الشيخ عزالدين...

ايش هاذ، شو في انت واياه، والله ما تقول غير قاعدين ابصر وين، احنا في مقبرة ياجماعة، اطلعوا ، الله لا يجبركم على هالصباحية، اطلعوا خزتونا كل الناس بتطلع عليكم، وحدو الله واستغفروا...وتعانقنا...

الشيخ عزالدين شقيق نور الدين واخاه الكبير قدرا ومقدارا من احب الناس على القلوب، لكنها السنين وسننها تاخذ الاحبة في غير دروب احبتهم الى ان يلتقيا ولو بعد حين...

ياه ؛ ياشيخ عز قديش اللي مش شايفك.؟
-]عزالدين] لا مش زمان يا استاذ، شفتك اخر مرة في معرض الكتاب انا والشباب ...

تدخل نور ويدي مازالت تتوسط ذراعه، قائلا: اي هذا عز اموره هينة، واردف قائلا: عارف يا شيخ عز قديش الي مش شايف الاستاذ؟ كعادته تمتم عز بكلمات لم نفهم منها شيئا، وتلك عادته عندما يزدحم الكلام على لسانه، لكن تلك ايماءة مصاحبة لفرط الفرح واقصى درجات السعادة لدى الشيخ عز.

ايامك واحوالك واخبارك، عاد نور مستفسرا ...
يارجل اللي اكثر من عشرين سنة مش شايفك، بس بتابع اخبارك، وبشوف شو بتسوي؛ ووين بتروح، ووين بتيجي... ايه دنيا دوارة..

اصطهج عزالدين ومرة اخرى ازدحم الكلام على لسانه...
فقهقهنا جميعا...واضطرنا الحال باشارة من الشيخ عز ان نبتعد عنه وعن زوار المقبرة، وان ننهي ضحكاتنا عند اخر المقبرة بعيدا عن اعين الناس واستهجانهم لصوت ضحكاتنا...

وحسنا فعلنا، اخذتنا الخطوات والذكريات حتى اخر المقبرة، وسرنا متلاصقي الاكتاف مثل تلك الايام الخوالي...
عاد نور واطلق تلك التأوهات ...
كان نور يتفنن باستدعاء تلك التأوهات .... والذكريات،
- ياه، والله زمان عنك يا استاذ..
وبدا نور ينهل من خابية الحنين، وبدا يغرف منها الذكريات الواحدة تلو الاخرى، وينثر عطرها على صباحات العيد الذي نعيشه مجددا في 22/4/2023.

ومع كل تأوه واه يذكرني نور بفعلة او موقف او واقعة او حادثة او يوما ما كنا قد اشتركنا فيها معا... وما اكثر تلك الايام والذكريات.

كانت اجمل الذكريات التي انثالت عليه وشملتنا، ما فجره لقائنا في صباح هذا العيد... كنت ونور وعلى مدى سنوات طوال اعضاء خلية تنظيمية واحدة، جمعتنا الصداقة والاخوة فيما بعد، لكن كانت فتح صاحبة السبق والسبب في كل شيء بيننا فيما بعد.

بدا نور تعود به الذكريات، وبدات الاه لديه تاخذ مداها، ومعها بدى وكأنه يمد يده الى خابية الحنين، يغرف منها ما يريد ...ومع كل سطر او حكاية تعود الاه المصاحبة دوما لهذا النوع من الذكريات..

[نور]- ذاكر وعلى مدى اكثر من عشر سنين وين كنا بنكون زي هسة في صباحية العيد؟.
بسرعة عرفت مقصد نور وسعة السؤال وضيق وقت الاجابة.

فعلى مدى سنوات طوال ولفرط تلاحق الاحداث وازدحام الايام لم املك الفرصة حتى لعدها، لكن حنين الذكريات الذي تفجره الايام، حتى ولو في المقابر، كفيل بان يهزنا ليسقط اخر ماتبقى فينا من دموع، ويسترجع ما يستطيع من اجمل الذكريات، فأنا كنت ومازلت من الحالمين دوما ان احلام الرجال الرجال تصنعها سواعد القابضين على جمر الحقيقة رغم مرارة الايام وكثرة الالام، الحافظين للعهد والسائرين على الدرب ..
"لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك.
قالوا: يا رسول الله! وأين هم؟
قال: «ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس"

كان نور يقصد من جملة ما يقصد ياسادة ياكرام، تلك الليلة الطويلة التي اصبحت من اختصاصنا حصرا؛ ليلة العيد.

تلك الليلة التي تبدأ اولى تفاصيلها عند الساعة الواحدة ليلا حين اتصالي على هاتفهم الارضي وتجيب ام العز والدة نور ويبدا الحوار التالي:
الو .. سلامات خالتي ام العز
-اهلا وسهلا
نور موجود..
-لا والله،
بتعرفي وين بلاقيه خالتي؟
-والعلم عندالله انه عند الحلاق... منتا عارف الليلة ليلة عيد، وهاظ صاحبك بفطنش يحلق شعراته الاّ آخر وقت...
بدات الاه تعلوا وتاخذ مداها، تارة مني، وتارة من نور حتى غادرنا سور المقبرة باتجاه الذكريات..

سالني نور، ماذا تفعل هذه الايام في ليلة العيد؟
اجبت: كما كنت يانور.
نظر الي شذرا وقال: مش فاهم ، يعني انت اللي بترسم شجر وسما وولاد وبنات على حيطان المدارس وبتكتب وبتقول العلم نور!؟

عند العلم نور كان من الطببعي ان ننفجر من الضحك، لكن هذه المرة لاباس ولاداعي لان يأنبنا عز احتراما لامواتنا وللاعين التي ترصدنا، فقد غادرت اقدامنا سور المقبرة منذ مدة ليست بالقصيرة حتى تهنا في بحر الذكريات.

سألني نور ثانية: بصدق ماذا تفعل هذه الايام في ليلة العيد، واضاف، وبالتحديد في مثل هذا الوقت من صباحية العيد؟

وكأن نور يختبر مقدرتي على استرجاع الذكريات. كان نور من اخبر الناس فيّ، وفي معرفة مدى قدرتي على الاحتفاظ بتفاصيل تفاصيل الذكريات.
قلت لنور، انا اتذكر الاسى والفرح، كلاهما سيان لدي، فيهن جرت سنوات عمري، ومنهن تشكلت احلى واجمل الاحلام، ولا فضل لواحدة على اخرى، سوى ان واحدة اعطتنا لقادم الايام احلى حلم والثانية كسرت ذلك الحلم ، والاثنين يشتركن في النهاية نفسها، لم نصنع من احلامنا جسرا للفرح .

لم يجد نور بُدا من استجرار الحديث معي سوى ان يبدا هو باستجرار الذكريات؛ متذكر يا استاذ ولا اذكرك..متذكر؟
كيف بقينا نرش على الحيطان ليلة العيد.

متذكر نهفاتك في الرش على الحيطان، ذاكر كيف كنت تصر على الرش على حيطان مكتب المخابرات ومركز الامن. متذكر ولا اذكرك..

متذكر كيف مرة ليلة العيد وانت بترش على الحيط وانا براقبلك واسمعنا صوت سيارة المخابرات الفوكس قادمة نحونا ونسيت ان تحط نقط على شعار ابصر اشو دينه، واشار اليّ موضحا ومحاولا استذكار ذلك الشعار الذي لم يعد نور يتذكر منه إلاّ ان من كان يقرأه يصاب بالخنب[كانه يتنفس من انف واحد ويتكلم بصوت اخنب نابع من الانف وليس الفم] ومرد ذلك الامر كان بسبب نسيان وضع النقطة الثانية في كلمة [المحتلة] والتي اصبحت مع نسيان النقطة الثانية تلفظ [المحنلة]:" ذكرته بذلك الشعار ونطقت به بصوت اخنب : "كل الارض العربية محنلة الاّ الارض المحنلة" ضحك نور وقهقه عاليا وهو يقول شو شو، عيدها بالله، امتثلت لرغبته لكني اعدت ترديد الشعار على مسامعه بالطريقة الصحيحة:" كل الارض العربية محتلة؛ الاّ الارض المحتلة".

عاد نور يستجر الذكريات وكانت خطواتنا قد اخذتنا بعيدا في بحر السنين..
متذكر يا استاذ كيف مرة كنا مارين من شارع المخفر ايش صار... متذكر كيف اول ما وصلنا بين مكتبة الامل ومحلات الصيدوني ولا هالشباب اللي بيطلعوا من على سور المدرسة ويبداوا طخ ورشق بهالكلاشينات على اكثر جدار يمقته المخيم.
...متذكر..

اه متذكر يانور، كنا يوميتها نوكل كنافة في السهل الاخضر في جبل الحسين، وكنا في سيارة فراس المرسيدس اللف، وكان معنا اسماعيل وسمرين، وحضرت جنابكوا اصريتو نيجي طريق ابو نصير باتجاه مسجد الحجر ونمر من شارع المخفر، قال ايش؟ بقينا ايامها بنحب نطمن على المخيم.

ياه على هذيك الايام. هذه المرة خرجت الآه الطويلة من اعماقي...

عاد نور وقال: طيب متذكر كيف مرة لحقتنا [الفوكس] ووقعت انا في الوادي اللي في حارة دار ابو السيد.
متذكر ولا اذكرك..

متذكر كيف مرة صاحبنا ايمن كان يخط الشعارات في منطقة ثانية، وعلى صوت علبة الرش خرج له صاحب الدار من الشباك وصرخ فيه، مين هناك؟ بتتذكر ولا اذكرك...

اجبته، هذه بالذات ذاكرها يا نور، هذه كانت دار استاذ الفيزياء، وكان عدا على انه استاذ الاّ انه كان مَلما لمجموعة من الافكار الشاذة؛ فقد كان شيوعيا ومن جماعة ابو نضال ومع كل جماعة ضد فتح. الا انه كان صديقي وسبق ان اهداني ميدالية لجماعة ابو نضال فرأها مسئولي التنظيمي وسألني عنها، فاجبته بكيفية حصولي عليها، وبعلاقتي الطيبة مع الاستاذ صاحب الافكار المتعددة والحاقدة والشاذة في آن، وحصل ان صادر التنظيم الميدالية الهدية خاصتي، وطُلب اليّ ان اكتب تقريرا لجناح الامن في التنظيم عن هذا الاستاذ، فرفضت، حاولوا مرة اخرى فرفضت، واصريت على موقفي وعلى تقدير علاقة الثقة بيني وبين الاستاذ وعدم ادخالها في تلك الاتون، تطور الامر وخضعت لعقوبة تنظيمية وكانت مالية مقدارها نصف دينار على ما اذكر، .. لكن والحق يقال يانور: باني كنت مخطأً هذه المرة وكان التنظيم على صواب.

لكن النهفة يانور في الموضوع: انه ايمن كان حدق عن صحيح. فالاستاذ يوم صرخ من الشباك من هناك، كان ايمن سريع البديهة، ولم يكن ملثم في حينها فقد كان الجو صيفا...الحلو في الموضوع انه صاحبنا ايمن لبد تحت الشباك مباشرة، ولما شاف الاستاذ ممكن يلقط شكله ويعرفه عاجله بالرش في عينيه... واكمل على الجدار شعارنا الازلي:" فتح مرت من هنا".

*****

نور ..
-اه يا استاذ..
شامم معي ريحة عاطلة؟
- اه والله شامم، عاد غريبة، المنطقة كلها بيارات ومزارع والخضار معبي الدنيا ماشاء الله ، منين جاية هذه الريحة؟

نور، بتعرف احنا وين صرنا ياحبيب؟
-شو وين، احنا جنب المقبرة.
نور، اي مقبرة، اطلع وراك وين المقبرة؟
- يابيييي شو هذا، كل هالمسافة قاطعين؟
اه يا حج ، لدرجة انه احنا صرنا بالقرب من مصفاة التنقية عند السليحي....
-يابيييي.

رن جرس هاتف نور. كان المتحدث شقيقه عز، بعد جدل اخبره نور ان الاستاذ سيتكفل بتوصيله، شدد عليه عز بعدم التاخر كي يلتحق به لزيارة الارحام، تمتم نور بالاجابة وانهى الاتصال.

عدنا الى المقبرة عبر طريق استهلكناه في الذكريات..
لطول المسافة او لشيء اخر لا اعرف تماما.

سألني نور هل في هذه المقبرة شهداء، اجبته بالنفي على حد علمي طبعا.
وكان هذا السؤال مدعاة لاستجرار الذكريات مجددا..

طيب ذاكر يا استاذ شو كنا نعمل صباحية العيد...ذاكر ولا اذكرك..ذاكر كيف كنا من الصبح نروح نزور المقبرة القديمة،
نظرت اليه مبتسما وهو مازال يذكرني بموقع المقبرة القديمة [الاولى] قائلا: المقبرة القديمة يازلمة مغيرها اللي عند الحسبة، اللي فيها قبور الشهداء الاربعة اللي مع بعض"محمد يونس ابو شيشيه وجلال محمد يوسف عفانة المحسيري وسعيد ابو شقره ومحمود المصري والذين استشهدوا معا في خربة الوهادنه ١٩٧١و شيعوا و دفنوا معا في المخيم" وتبعهم في نفس الفترة محمد اعشيش ولاحقا خليل وشاح ...متذكر ولا اذكرك كمان؟!

ذاكر المقبرة [الثانية] اللي في اخر المخيم من عند منطقة نابلس وسوق الحلال، اللي فيها قبر الشهداء [ نضال ابو زر وباسم سعادة ومحمود ابوزيد الحارثي وعمر العوفي وابو نادر الحجة .. وايمن ابو رداحة وعلي ابو رداحة ومحمود شاهين وغالب غانم ، وامين فندي التلاوي وجهاد جبريل مناصرة، وعبد المنعم اخو موسى نسيب ابو خالد المولد ومعه محمد العربيد من بيت نتيف وثالثهم لا اذكره الان استشهدوا في صافوط] صافوط يا استاذ صافوط!؟ تصور يا استاذ حتى صافوط النا فيها شهدا، تصور يا استاذ...الله وكيلك يا استاذ هؤلاء طلعت عليهم الدبابة وفرمتهم فرم...

ذاكر كيف كنا لازم نزور قبور الشهداء صباحية كل عيد ونلتقي في كل الشباب وكل التنظيمات ...

ذاكر يا استاذ كيف كنا نكون اول ناس عند قبور الشهداء ونوكل حلقوم وغريبة ومطبق وكعك ومعمول... ذاكر، ذاكر ولا اذكرك...

اكيد، بطلت تيجي هسة، ولا كان بشوفك، منت عارف مقبرة الحسبة وراء بيتي...متذكر ولاناسي..

متذكر يانور متذكر يخوي..
بس القصة مش هيك، القصة انه انا من هذيك الايام تركت هالمشوار في مخيمنا وصرت اروح صباحية كل عيد على مقبرة الشهداء..
-مقبرة مين يا استاذ؟
مقبرة الشهداء يخوي.
-بتحكي عن جد يا استاذ.
اه والله جد يخوي.
-يعني مقبرة كاملة مكملة كلها شهداء.
اه والله يخوي كاملة كاملة ومكملة، وبتجنن، ومزروعة شجر وورد بتحس انها فعلا مقبرة شهداء..

-الان [هسة] احكيلي يعني شهداء شهداء كثير كثيرر، ومش من المخيم...
اه يانور؛ الثورة طلعت اكبر من المخيم، واكبر من كل المخيمات.

-يعني ؟
يعني ايش؟
يعني تقريبا قديش عددهم؟
ماعديتهم بس كثار كثار، وفيهم معظم شهداء معركة الكرامة، وشهداء ايلول الاسود، وشهداء عمليات الارض المحتلة، وقادة وضباط وشهداء جيش التحرير الفلسطيني على مدى عقود ، وشهداء الحرب الضروس مع الموساد في كثير من عواصم العالم كسعيد حمامي وعصام السرطاوي وفهد القواسمة وفتحي البحرية وعبدالرزاق اليحيى... ، وفيها ايضا قبر اول شهيد للجنة المركزية لحركة فتح عبد الفتاح حمود وقبر والد ابو علي اياد...
-كل هؤلاء [غاد] هناك
اه [غاد] هناك مش هون يانور..
-ودخلك يا استاذ وين هاي المقبرة؟
في الوحدات، عند دوار الشرق الاوسط وبجنب مجمع الجنوب..السور بالسور.
-بتعرف، اول مرة بسمع فيها...
مش مشكلة، انا بعرف قديش ناس بتتفاجأ لما احكي عن هذه المقبرة.

لم اتردد بتلبية طلب نور؛ وسريعا اخذتنا خطواتنا باتجاه مقبرة الشهداء في الوحدات، وما ان وصلنا بعد عناء مع زحام الطرقات المعهودة في هكذا اوقات من ايام العيد حتى ترجلنا من السيارة وولجنا باب المقبرة بالسيارة ، ترجلنا وبدأ حديث الروح من جديد...سرنا نستطلع اضرحة الشهداء ونقرا اسمائهم على الشواهد...فرت من عيني دمعة بغير ميعاد واتبعتها ببيتين من الشعر :" #عيدنا_عودتنا
#مهند_طلال_الاخرس

الو .. سلامات خالتي ام العز
-اهلا وسهلا
نور موجود..
-لا والله،
بتعرفي وين بلاقيه خالتي؟
-والعلم عندالله انه عند الحلاق... منتا عارف الليلة ليلة عيد، وهاظ صاحبك بفطنش يحلق شعراته الاّ آخر وقت.
ماشي خالتي.. سلمتِ ودمتِ، وكل سنة وانت سالمة.
-وانت سالم ومن العايدين ان شاء الله.

وما هي الا ساعة حتى التحقت بنور عند الحلاق، كانت جملة "والعلم عندالله انه عند الحلاق" تعني شيئا واحدا؛ ان صديقي ورفيقي جاهز للمهمة وهو بانتظاري في احد الخيارين؛ صالون الحلاق رياض او بدران.

قادتني قدماي نحو الخيار الاول، صالون رياض. ذلك الصالون القابع على احد مفارق الطرق الرئيسية في المخيم، والرابط بين جامع القدس وجامع نابلس، وعند مثلث حارة ابو السيد تماما، كان نور في الانتظار يمارس عادته التي ادمنها كثير من ابناء جيلنا، تمضية ما امكن من ليلة العيد مجتمعين يتسامرون في كل صالونات الحلاقة في المخيم، كان المخيم فقيرا من كل وسائل الترفيه! لم يكن امام شباب المخيم إلاّ صالونات الحلاقة؛ يلتجؤون اليها لتمضية الوقت، والولوج الى عالم الشباب واهتماماتهم، في محاولة لاستراق شيء من وقت الفرح والشعور بحلول العيد.

كان شباب المخيم يمضون الوقت بالتسامر والحديث ومشاهدة التلفاز وشرب القهوة والتدخين بنهم، الى ان ياتي دور كل واحد منهم في الحلاقة، فيتزين ويحلق شعر راسه والذقن ويتعطر بالكالونيا كدليل على مكان سهرته وتواجدهم، ثم يمضي كل في سبيله.

وصلت الصالون، لكني لم ادخل اليه. سرت من امامه ذهابا باتجاه حارة ابو السيد حتى طلوع عرب عين الديوك والعرايشة. لم اتأكد اذا كان نور قد لمحني من داخل الصالون، إذ انه تاخر عن اللحاق بي، مما اضطرني للعودة نزولا باتجاه شارع عيادات الوكالة والسوق حيث صالون ماهر واستوديو اشرف ومحلات طالب الكوع ، وعند مفرق الطرق لم استطع المكوث مطولا بانتظار صديقي نور، فثمة مجموعة من شباب التنظيم يتوشحون بالكوفية على اكتافهم، كانوا متحملقين حول موقد النار [التنكة] على باب المحل يتسامرون ويغنون اغنية ابو عرب الشهيرة " يا يما لو جاني العيد...كان سماع هذه الاغنية في جنبات المخيم احد اهم طقوس المخيم في ليلة العيد..طبعا بعد الطقس الاثير الذي يمارسه اطفال المخيم وهم يرددون اغنيتهم الاثيرة:" بكرة العيد وبنعيد، وبنذبح بقرة السيد، والسيد ماعنده بقره، بنذبح بنته هالشقرة، والشقرة مافيها الدم، بنذبح بنت العم".

من على مثلث السوق حيث محلات "الكوع" كان من السهولة بمكان تمييز صوت محمد هويدي وهو يصدح بموال اغنية ابو عرب "يايما لو جاني العيد" بصوت عذب وحزين، وبحة تحمل في طياتها كل اوجاع الحنين، تلك البحة في صوت هويدي كانت ومازالت ذات وقع واثر لا يزول:
قالوا إجا العيد
قلت العيد لأصحابوا
شو بينفع العيد للي مفارق حبابوا .. آآخ يا يما
العيد يا يما لما بلادنا بتعود
وأرجع عأرض الوطن وأبوس ترابه

كانت كلمات الموال المنبعثة بصوت هويدي المبحوح تاخذ طريقها الى اذان كل من يسترق السمع من على باب المحل، وليس الاذان وحسب، بل العيون والروح ايضا؛ فللعيون مآقيها؛ إذ انّ أكثر حبات الدمع وجعا في هكذا حالات لم تكن تخرج من العين، بل من مآقي الروح. تماما كصوت الناي المقطوع من الغاب.

اما بقية كلمات الاغنية كانت تتجاوز مدى الباب الى افق اوسع وارحب...فصوت المجموعة المرافقة لهويدي ولفرط حماستها كان صوتها يطغى على صوت المغني...
كان صوت هديرها قد سمح لي ان اشترك بالغناء معهم عن بعد...كنت اردد واغني معهم:

يايما لو جاني العيد يما يا يما،
ومافي عيد بيسعدني
وآني عن دياري بعيد يما، يا يما
ومالي حدا يعايدني

يايما لو جاني العيد إسألتو وين الغوالي
الناس بتلبس ثوب جديد يمايا يما
وشيلي من الردم اطفالي

ويا يما لو جاني العيد،
وعيدي يما على حدودي
الناس تعيد إيد بإيد يما، يا يما
وانا بمسح باوردي

ويايما لو جاني العيد، ومافي عيد يفرحني
آي وآني عن دياري بعيد يما، يا يما
وبعد حبابي جارحني

ويا عيد ايش جاباك اليوم،
ومالي قلب يضحكلك
وكنت عليي مابتلوم يما يا يما
ولو متلي مفارق اهلك

كنت اعرف جيدا سبب اجتماع تلك المجموعة عند محلات الكوع، واستأنست بصوت غنائهم وبقيت استرق السمع لاصوات غنائهم وانا اذرف الارض ذهابا وايابا تحت متعة حبات المطر ولوعة الانتظار.

ورغم الفرح والأُلفة التي غمرتني جراء غنائهم ، إلا انني إنزعجت لامرهم، فهم لم يتقيدوا بتوزيع المجموعات على مناطق المخيم المحددة اولا، وثانيا كانت تشير التعليمات الى توزيع المجموعات الى فردين فقط، وثالثا كانت التعليمات صارمة بعدم الخروج لشوارع المخيم قبل الثانية فجرا، ورابعا تقتضي طبيعة المهمة لبس الكوفية كغطاء للراس مع اخفاء الوجه؛ وخامسا يستلزم لنجاح المهمة ان يرقب احد افراد المجموعة الشوارع الرئيسية لمنطقته ذهابا وايابا قبل الشروع بتنفيذ المهمة، بينما هؤلاء الاحبة جالسين ومجتمعين ويغنون بشكل يسترعي الانتباه ويلفت النظر، وفي مكان معروف جدا، حتى انه اشهر من نار على علم، فهو احد امكنة وملتقيات ابناء التنظيم الرئيسية في المخيم، وصاحب المحلات احد مرجعيات التنظيم وقياداته المعروفة والمشهورة والتي يشار اليها بالبنان...

وصل نور ولكنه لم يصل!؟ تمسمر نور عند عمارة سليمان العجوري، واستظل بنورها حتى اراه، او ربما لاستمتاعه او اضطرابه من سماع اغنية ابو عرب " يايما لو جاني العيد"..
كان من السهل رؤيته، فقد كان الشارع خاليا إلا من اصوات حبات المطر على الواح الزينكو وصدى العيد القادم من اغنية ابو عرب.

لمحته سريعا واشرت اليه بالمسير باتجاهي وانطلقت باتجاه مثلث المدارس/الصيدوني/الجاعورة. لحق بي نور عند مخيطة الراعوش بالتمام.

سرنا بخطوات متلازمة حتى وصلنا محلات تغاريد للافراح ومحلات طرطر، كان المحلان اشهر من نار على علم؛ تغاريد كان يبيع مطبقانيات وكروت الافراح، وطرطر اشهر من باع البوت الصيني في تاريخ المخيم، وما ان وقفنا مقابل المحلات حتى بدات بالغناء بصوت مرتفع :" ياعيد ايش جابك اليوم" فجاء الينا احد الملثمين بالكوفية وطرح علينا السلام واتبعها ب" عيدنا عودتنا"، كان غنائي ب" ياعيد ايش جابك اليوم" يشكل الشطر الاول من كلمة السر، وكان لطرحه السلام علينا والرد بشعار " عيدنا عودتنا" يمثل الشطر الثاني من كلمة السر، وكان من جملة ما يعني هذا اللقاء وتلك الرموز ان كل شيء على مايرام، وان الخطة تسير كما ينبغي، واخرج من داخل سترته كيسين اسودين، فسلمنا اياهما ومضى حتى غابت خطواته في الطريق.

سريعا زلفنا بشارع فرعي يقع خلف محلات فيديو فاتن وصيدلية البس، تفقدنا محتويات الكيسين، كان احدهما يحتوي اربعة علب دهان "رش سبريه" ومسدس!!، والكيس الاخر ماعون ورق كبير [مناشير] ، كانت المهمة تقضي ان اخذ علب الرش والمسدس، بينما يتولى نور امر المناشير.

لم اكن اهوى حمل المسدس ولا اقوى على ذلك، وكان صديقي نور يعرف السر في ذلك، فاودعته المسدس ومضينا بتنفيذ مهمتنا.

تحاشينا المرور من امام محلات الكوع، وابتعدنا عن مفرق الطرق ذاك، وولجنا من شارع فرعي موازي للشارع الرئيسي، تفقدنا الشوارع وامكنة المهمة المتعددة والمرصودة مسبقا[ وهذا ما نسميه التشييك النهائي]، ساعدتنا زخات وصوت قرقعة الزينكو من جراء تساقط حبات المطر على توفير الاجواء المثالية لتنفيذ المهمة.

شرعت بتنفيذ مهمتي بكتابة مجموعة من الشعارات على الجدران، وكذلك الامر مع نور. كانت مهمة نور معقدة اكثر، فقد كانت مهمته تقتضي بتوزيع المناشير على ثلاثة امكنة وبشكل متكرر، بحيث تغطي جميع المنطقة الموكلة الينا بتنفيذ المهمة فيها؛ تعليق المنشور على زجاج السيارات تحت المساحة، والثانية قذفه داخل منازل ومحلات تجارية معينة، والثالثة نثر مجموعة كبيرة من المناشير على الارض عند كل مفرق طرق رئيسي.

وفي اجواء ماطرة كهذه كانت المهمة الثانية والثالثة ضرب من العبث، ومع ذلك فعلها نور، وتفرغ لمرافقتي، بدات اخط الشعارات بخط جميل ومتعوب عليه، كانت الشعارات تقول من جملة ماتقول:"عيدنا عودتنا، الفكر ينبع من فوهة البندقية، البندقية الغير مسيسة قاطعة طريق، العمل العسكري يزرع والعمل السياسي يحصد، الوحدة الوطنية طريق النصر، لسنا يمين ولسنا يسار كلنا ابو عمار، نعم لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، نعم ل م.ت.ف، القدس عاصمتنا الابدية، فتح ديمومة الثورة والعاصفة شعلة الكفاح المسلح، يشهد الله جراحنا من جراحك يا عمان، نعم للكفاح المسلح، فلسطين ليست بعيدة ولا بالقريبة... انها مسافة الثورة، بدفتري وقلمي ونار بندقيتي سارفع العلم، ابو جهاد: اول الرصاص اول الحجارة، بالروح بالدم نفديك يا فلسطين، ابو عمار صرح تصريح... يا جبل ما يهزك ريح، عهدا للشعب والقائد ان يكون عيدنا يوم عودتنا، المجد والخلود لشهدائنا الابرار، الانتفاضة مستمرة، الفتح لا ينسى دماء رجاله وغدا ستثأر لي عمالقة الجبال، نموت ليعيش شعبنا ولتحيا فلسطين، نموت واقفين ولن نركع، الفكر ينبع من فوهة البندقية، الارض للسواعد الثورية التي تحررها، اللقاء فوق ارض المعركة، لا للحل السلمي لا ... نعم للبندقية، لن نركع مادام فينا طفل يرضع، لا نامت اعين الجبناء، كل شبل كل زهرة... في صفوف الشعب ثورة، نعم للوحدة الوطنية، فتح من الله ونصر قريب، انا فتحنا لك فتحا مبينا، اذا جاء نصر الله والفتح، نعم للقيادة الوطنية الموحدة، ما اخذ بالقوة لا يسترد إلاّ بالقوة، نعم للدولة الفلسطينية المستقلة، حين يبتسم المخيم ...تعبس المدن الكبيرة، ثورة حتى النصر. فتح مرت من هنا....".

كان لزاما علينا في العيد ان نكثر من كتابة شعار "عيدنا عودتنا" وبالذات على مفارق الطرقات وعلى جدران ملعب النادي حيث مصلى العيد الاثير والمثالي، كان هذا الشعار [عيدنا عودتنا] قصيرا وكثيف المعنى وسهلا وسريعا يملأ جنبات المكان، والمهم انه كان يعني دائما ان فتح مرت من هنا، وفي ذلك رسائل كثيرة، اهمها: ان رصاص فتح يمكن ان يصل حيث تصل الكلمات!!؟؟.

**

كم هي طويلة وجميلة ليلة العيد في المخيم؛ فمع بداية ليلها تفوح من بيوتها رائحة كعك العيد، والذي ما يلبث ان يغزو المخيم بكامله، ومع تلك الرائحة ينبعث الحنين وينتشر الفرح ليطوف حواري المخيم بلا استئذان معلنا عن انطلاقة اولى مراسم وطقوس العيد، هذا طبعا بالنسبة لعيد الفطر[رمضان] اما عيد الاضحى فله ميزة اخرى تضاف على اجواء العيد؛ رائحة الاغنام واصوات ثغائها قبل الذبح والتضحية.

المخيم ومع تعاقب السنين لم تختلف طقوسه ومراسيمه، وبقي وفيا اكثر لذكرياته وسيرته الاولى، فرائحة الكعك مازالت فواحة، وحكايا صالونات الحلاقة بازدياد، واضيف عليها المقاهي والنوادي، والاقدام في الاسواق لا تكل ولا تمل حتى طلوع الفجر، وصلاة العيد على حالها وان غادرت ملعب النادي الى بقاع شتى، وبعد الفراغ منها الزيارات للاهل والاصحاب والمقابر لا تنتهي، والمراجيح والعاب الاطفال وبسماتهم تملأ الشوارع، وصوت مفرقعاتهم وطلقات بنادقهم البلاستيكية المزعجة على حالها، لكن لا معنى ولا طعم للعيد بدونهم اوبدونها، فهم وحدهم من يعطون للعيد معنى الفرح.

المخيم ومع كل هذه السنين مازالت حاراته تزدحم وتكتظ اكثر واكثر، إلاّ انه ورغم اتساع الاسى مازال يحتضن كل ذلك الحنين الذي تفيض به السنة اللاجئين في المخيم، فتجد فلسطين متقدة وحاضرة دائما على السنتهم، بل ان اسمها يملأ قلوبهم على الدوام، وليس هذا وحسب بل ان اسمها ومشتقاته ودلالاته تجده محمولا على اسماء ابنائهم ومحلاتهم وذكرياتهم ، وبالتأكيد صحيفتهم الوحيدة؛ جدران المخيم.

تلك الجدران وعلى مدى سنوات المخيم بقيت وفية مع امنياتنا واحلامنا واتسعت اكثر لتحمل شعاراتنا في ليلة العيد، لم تتعب ولم تيأس، وبقيت شعاراتها تحرس الحلم وتحمي الامل وتحمل المعنى والمغزى حتى وان ضاقت العبارة واتسع المدى.

في ليلة العيد ومع وتعاقب الاحداث وكثرة النكبات والنكسات وتعددالمناسبات، اصبحت جدران المخيم تتحمل العبء الاكبر من احلامنا وشعاراتنا. غدت تتسع اكثر واكثر، لتحتمل كل هذا الاسى. لم يعد يكفيها اربعة علب رش للترحيب بتلك الليلة الطويلة!؟

مع مضي الوقت اخذت بالتفنن والتخطيط اكثر بكتابة الشعارات على جدران المخيم، ومازال نور يحثني على الاسراع، فالوقت اخذ يداهمنا والمنطقة المناط بنا تغطيتها كبيرة... والاصعب والانكى مازال مخبئا وينتظرنا في المهمة الاخيرة!؟

ورويدا رويدا بدات الشعارات تظهر وتتزايد، واصبحت تزين جداران المخيم، ولتتزين مناسبة العيد بشعار "عيدنا عودتنا"، ولنعطي معها العيد اللمسة التي نحب ونهوى، تلك اللمسة التي تُحدثها الشعارات على جدران المخيم لها وقع وتأثير خاص، فأثرها كأثر الفراشة يبقى ولا يزول.

فمن تلك الشعارات والصور والملصقات التي تزين بيوت المخيم، تشكلت اولى لبنات وعينا؛ تلك الصور والشعارات -والتي دُشن بانطلاقتها النسخة الفلسطينية لما اصطلح على تسميته عالميا بادب الجدران-، تلك الشعارات والصور والملصقات تكفلت بأسر وتأطير الجميع، فعلى جدران المخيم واينما وقعت عيناك تجد شيئا من فلسطين وعن فلسطين.

تلك الصور والملصقات والشعارات؟ ان زِدنا عليها الاغاني، والمظاهرات وهتافاتها، والمناشير وكلماتها، اكتملت اولى ابجديات المخيم، وسرت في اولى الخطوات نحو الوطن.

كان بحوزتنا رزمة من الشعارات المكلفين بكتابتها بناء على اوامر وتعليمات التنظيم، كنت انتقي منها ما احب واطرح مالا يعجبني جانبا، وكنت ابرر للقيادة اسباب عدم كتابة اخرى، كنت مثلا اتذرع بعدم كتابة شعار" السلم يندلع من فلسطين والحرب تندلع من فلسطين" كنت اتذرع بقولي لست متاكدا من صوابية هذه المقولة؛ فانا لا اعرف حقيقة ايهما اولا: السلم ام الحرب!! وكنت ابرر عدم كتابة شعار اخر بانه كبير ولا يتسع له الجدار، وفي تبرير ثالث كنت اتذرع بان علبة الرش فرغ محتواها [خلصت] وفي تبرير رابع وهو كالسلاح النووي بيدي ولا استخدمه الاّ عندما تستشيط القيادة غضبا بسؤالها لي: لماذا لم تلتزم بالقائمة الموضوعة لديك؟

كنت اجيب: كنت على وشك كتابتها، واسألوا صديقي في الخلية نور، لكن داهمنا صوت سيارة الفوكس[المخابرات]، عند هذه الاجابة بالذات كانت القيادة تلوذ بالصمت لبرهة ثم تقول: الله يعطيكم العافية: ماقصرتوا ، وفي الحقيقة كان مدعاة صمتهم على افعالي المتكررة جمالية الخط الذي اكتب به على الجدران ... او هذا ما كنت اعتقده على الاقل، لكن صديقي نور وعلى مدى عشر سنوات كاملة كان يهمس باذني دائما: دعك مما تعتقد واذهب الى ما لا تعتقد.. كانت هذه جملة نور المالوفة والمعهودة .. وكانت تعني شيئا واحدا :" ان القيادة يعجبها ذلك الشعار المكتوب بعناية على جدار مكتب مخابرات المخيم والذي يقول:" يشهد الله جراحنا من جراحك يا عمان، ومن تحته توقيع يقول "فتح مرت من هنا".

كنت دائما اسأل نور؟ ايهما بالضبط يعجب القيادة؟ الشعار:
"يشهد الله جراحنا من جراحك ياعمان"،
ام التوقيع[فتح مرت من هنا]؟
كان نور يجيبني دائما: اصوات طلقات الرصاص!؟

***

بعد عشر سنوات تركت المهمة لاخرين، خفتت الشعارات واصبحت شحيحة، ورويدا رويدا لم نعد نرى تلك الشعارات على جدران المخيم إلاّ ما ندر، وبعد عشر سنوات اخرى انزلق الوضع اكثر، فلم يعد احد يكتب او يخط حرفا على جداران المخيم، اصبحت الجدران مبولة شباب المخيم.

ومع الايام اصبحت الجدران يُنظم لها حملات تطوعية، لطلائها وتزيينها برسومات لا معنى لها في المخيم: اعمدة واثار وزهور وطيور وسماء زرقاء صافية وشمس ساطعة واشجار لا نعرف اسمها، واطفال وطلاب غادرت البسمة وجوههم وهم يصطفون لتحية العلم...

طال زمن المخيم وطال حلم العودة، فقررت ان اعود لابجدياتي القديمة واولها ان امارس قصتي الاثيرة مع جدران المخيم، لكن حدث مالم يكن متوقعا؛ جاء اخرون واطلقوا الرصاص على اكثر جدار يمقته المخيم!!؟؟.

****

سلامات سلامات.
-هلا بالحبيب
كيفك يانور
-مشتاقلك يا استاذ...ياه والله زمان عنك يا استاذ، وين هالغيبة، وين بلادك، طمني عنك وعن احوالك: فلسطين ان شاء الله بخير؟

فلسطين بتبيض الوجه يانور وبترفع الراس..
اول نبارح فازت بمسابقة طلابية على مستوى اللواء في فن الالقاء والخطابة. وقبل شهرين فازت بالبرلمان الطلابي المدرسي وحصلت الاولى على مدرستها، ثم تاهلت للمحافظة وفازت بعضوية الهيئة الادارية واصبحت امينة سر البرلمان الطلابي.

-اي لواء واي خطابة ومدري الشو يازلمة، !؟
مالك يانور،ايش في،؟

-استاذ الدنيا عياد ، واحنا على المقبرة، والدنيا الصبح، ولا انا من صحن المعمول والكعك اللي اكلته على هالصبح بطلت اجمع؟!
مالك يانور ايش في؟

-يسعد صباحك يا استاذ، انا بسأل عن فلسطين ...
واخذ يشير بيده نحو الغرب....قائلا:
هناك هناك، ان بسألك عن هناك، عن لبلاد...شو برلمان وطلاب وخطابة ومدري اشو..
اه..حبيبي يانور، راح بالي والله انك بتسأل عن بنتي فلسطين واخبارها...
وانطلق نور باه عالية بعيدة وعميقة وتبعته بمثلها..
ثم سألني:
- عندك فلسطين، ما شاء الله، قديش عمرها؟
فاجبت: فلسطين اللي هناك في الغرب عمرها الان ٧٥ سنة، وفلسطين اللي هان في الشرق عمرها الان ١٦ عام.

ضحك نور وقهقه عاليا وتبعته بمثلها، تعانقنا ولم تنقطع ضحكاتنا وصوتها المبحوح القادم من وجع السنين وحنين الذكريات الاّ صوت الشيخ عزالدين...

ايش هاذ، شو في انت واياه، والله ما تقول غير قاعدين ابصر وين، احنا في مقبرة ياجماعة، اطلعوا ، الله لا يجبركم على هالصباحية، اطلعوا خزتونا كل الناس بتطلع عليكم، وحدو الله واستغفروا...وتعانقنا...

الشيخ عزالدين شقيق نور الدين واخاه الكبير قدرا ومقدارا من احب الناس على القلوب، لكنها السنين وسننها تاخذ الاحبة في غير دروب احبتهم الى ان يلتقيا ولو بعد حين...

ياه ؛ ياشيخ عز قديش اللي مش شايفك.؟
-]عزالدين] لا مش زمان يا استاذ، شفتك اخر مرة في معرض الكتاب انا والشباب ...

تدخل نور ويدي مازالت تتوسط ذراعه، قائلا: اي هذا عز اموره هينة، واردف قائلا: عارف يا شيخ عز قديش الي مش شايف الاستاذ؟ كعادته تمتم عز بكلمات لم نفهم منها شيئا، وتلك عادته عندما يزدحم الكلام على لسانه، لكن تلك ايماءة مصاحبة لفرط الفرح واقصى درجات السعادة لدى الشيخ عز.

ايامك واحوالك واخبارك، عاد نور مستفسرا ...
يارجل اللي اكثر من عشرين سنة مش شايفك، بس بتابع اخبارك، وبشوف شو بتسوي؛ ووين بتروح، ووين بتيجي... ايه دنيا دوارة..

اصطهج عزالدين ومرة اخرى ازدحم الكلام على لسانه...
فقهقهنا جميعا...واضطرنا الحال باشارة من الشيخ عز ان نبتعد عنه وعن زوار المقبرة، وان ننهي ضحكاتنا عند اخر المقبرة بعيدا عن اعين الناس واستهجانهم لصوت ضحكاتنا...

وحسنا فعلنا، اخذتنا الخطوات والذكريات حتى اخر المقبرة، وسرنا متلاصقي الاكتاف مثل تلك الايام الخوالي...
عاد نور واطلق تلك التأوهات ...
كان نور يتفنن باستدعاء تلك التأوهات .... والذكريات،
- ياه، والله زمان عنك يا استاذ..
وبدا نور ينهل من خابية الحنين، وبدا يغرف منها الذكريات الواحدة تلو الاخرى، وينثر عطرها على صباحات العيد الذي نعيشه مجددا في 22/4/2023.

ومع كل تأوه واه يذكرني نور بفعلة او موقف او واقعة او حادثة او يوما ما كنا قد اشتركنا فيها معا... وما اكثر تلك الايام والذكريات.

كانت اجمل الذكريات التي انثالت عليه وشملتنا، ما فجره لقائنا في صباح هذا العيد... كنت ونور وعلى مدى سنوات طوال اعضاء خلية تنظيمية واحدة، جمعتنا الصداقة والاخوة فيما بعد، لكن كانت فتح صاحبة السبق والسبب في كل شيء بيننا فيما بعد.

بدا نور تعود به الذكريات، وبدات الاه لديه تاخذ مداها، ومعها بدى وكأنه يمد يده الى خابية الحنين، يغرف منها ما يريد ...ومع كل سطر او حكاية تعود الاه المصاحبة دوما لهذا النوع من الذكريات..

[نور]- ذاكر وعلى مدى اكثر من عشر سنين وين كنا بنكون زي هسة في صباحية العيد؟.
بسرعة عرفت مقصد نور وسعة السؤال وضيق وقت الاجابة.

فعلى مدى سنوات طوال ولفرط تلاحق الاحداث وازدحام الايام لم املك الفرصة حتى لعدها، لكن حنين الذكريات الذي تفجره الايام، حتى ولو في المقابر، كفيل بان يهزنا ليسقط اخر ماتبقى فينا من دموع، ويسترجع ما يستطيع من اجمل الذكريات، فأنا كنت ومازلت من الحالمين دوما ان احلام الرجال الرجال تصنعها سواعد القابضين على جمر الحقيقة رغم مرارة الايام وكثرة الالام، الحافظين للعهد والسائرين على الدرب ..
"لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك.
قالوا: يا رسول الله! وأين هم؟
قال: «ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس"

كان نور يقصد من جملة ما يقصد ياسادة ياكرام، تلك الليلة الطويلة التي اصبحت من اختصاصنا حصرا؛ ليلة العيد.

تلك الليلة التي تبدأ اولى تفاصيلها عند الساعة الواحدة ليلا حين اتصالي على هاتفهم الارضي وتجيب ام العز والدة نور ويبدا الحوار التالي:
الو .. سلامات خالتي ام العز
-اهلا وسهلا
نور موجود..
-لا والله،
بتعرفي وين بلاقيه خالتي؟
-والعلم عندالله انه عند الحلاق... منتا عارف الليلة ليلة عيد، وهاظ صاحبك بفطنش يحلق شعراته الاّ آخر وقت...
بدات الاه تعلوا وتاخذ مداها، تارة مني، وتارة من نور حتى غادرنا سور المقبرة باتجاه الذكريات..

سالني نور، ماذا تفعل هذه الايام في ليلة العيد؟
اجبت: كما كنت يانور.
نظر الي شذرا وقال: مش فاهم ، يعني انت اللي بترسم شجر وسما وولاد وبنات على حيطان المدارس وبتكتب وبتقول العلم نور!؟

عند العلم نور كان من الطببعي ان ننفجر من الضحك، لكن هذه المرة لاباس ولاداعي لان يأنبنا عز احتراما لامواتنا وللاعين التي ترصدنا، فقد غادرت اقدامنا سور المقبرة منذ مدة ليست بالقصيرة حتى تهنا في بحر الذكريات.

سألني نور ثانية: بصدق ماذا تفعل هذه الايام في ليلة العيد، واضاف، وبالتحديد في مثل هذا الوقت من صباحية العيد؟

وكأن نور يختبر مقدرتي على استرجاع الذكريات. كان نور من اخبر الناس فيّ، وفي معرفة مدى قدرتي على الاحتفاظ بتفاصيل تفاصيل الذكريات.
قلت لنور، انا اتذكر الاسى والفرح، كلاهما سيان لدي، فيهن جرت سنوات عمري، ومنهن تشكلت احلى واجمل الاحلام، ولا فضل لواحدة على اخرى، سوى ان واحدة اعطتنا لقادم الايام احلى حلم والثانية كسرت ذلك الحلم ، والاثنين يشتركن في النهاية نفسها، لم نصنع من احلامنا جسرا للفرح .

لم يجد نور بُدا من استجرار الحديث معي سوى ان يبدا هو باستجرار الذكريات؛ متذكر يا استاذ ولا اذكرك..متذكر؟
كيف بقينا نرش على الحيطان ليلة العيد.

متذكر نهفاتك في الرش على الحيطان، ذاكر كيف كنت تصر على الرش على حيطان مكتب المخابرات ومركز الامن. متذكر ولا اذكرك..

متذكر كيف مرة ليلة العيد وانت بترش على الحيط وانا براقبلك واسمعنا صوت سيارة المخابرات الفوكس قادمة نحونا ونسيت ان تحط نقط على شعار ابصر اشو دينه، واشار اليّ موضحا ومحاولا استذكار ذلك الشعار الذي لم يعد نور يتذكر منه إلاّ ان من كان يقرأه يصاب بالخنب[كانه يتنفس من انف واحد ويتكلم بصوت اخنب نابع من الانف وليس الفم] ومرد ذلك الامر كان بسبب نسيان وضع النقطة الثانية في كلمة [المحتلة] والتي اصبحت مع نسيان النقطة الثانية تلفظ [المحنلة]:" ذكرته بذلك الشعار ونطقت به بصوت اخنب : "كل الارض العربية محنلة الاّ الارض المحنلة" ضحك نور وقهقه عاليا وهو يقول شو شو، عيدها بالله، امتثلت لرغبته لكني اعدت ترديد الشعار على مسامعه بالطريقة الصحيحة:" كل الارض العربية محتلة؛ الاّ الارض المحتلة".

عاد نور يستجر الذكريات وكانت خطواتنا قد اخذتنا بعيدا في بحر السنين..
متذكر يا استاذ كيف مرة كنا مارين من شارع المخفر ايش صار... متذكر كيف اول ما وصلنا بين مكتبة الامل ومحلات الصيدوني ولا هالشباب اللي بيطلعوا من على سور المدرسة ويبداوا طخ ورشق بهالكلاشينات على اكثر جدار يمقته المخيم.
...متذكر..

اه متذكر يانور، كنا يوميتها نوكل كنافة في السهل الاخضر في جبل الحسين، وكنا في سيارة فراس المرسيدس اللف، وكان معنا اسماعيل وسمرين، وحضرت جنابكوا اصريتو نيجي طريق ابو نصير باتجاه مسجد الحجر ونمر من شارع المخفر، قال ايش؟ بقينا ايامها بنحب نطمن على المخيم.

ياه على هذيك الايام. هذه المرة خرجت الآه الطويلة من اعماقي...

عاد نور وقال: طيب متذكر كيف مرة لحقتنا [الفوكس] ووقعت انا في الوادي اللي في حارة دار ابو السيد.
متذكر ولا اذكرك..

متذكر كيف مرة صاحبنا ايمن كان يخط الشعارات في منطقة ثانية، وعلى صوت علبة الرش خرج له صاحب الدار من الشباك وصرخ فيه، مين هناك؟ بتتذكر ولا اذكرك...

اجبته، هذه بالذات ذاكرها يا نور، هذه كانت دار استاذ الفيزياء، وكان عدا على انه استاذ الاّ انه كان مَلما لمجموعة من الافكار الشاذة؛ فقد كان شيوعيا ومن جماعة ابو نضال ومع كل جماعة ضد فتح. الا انه كان صديقي وسبق ان اهداني ميدالية لجماعة ابو نضال فرأها مسئولي التنظيمي وسألني عنها، فاجبته بكيفية حصولي عليها، وبعلاقتي الطيبة مع الاستاذ صاحب الافكار المتعددة والحاقدة والشاذة في آن، وحصل ان صادر التنظيم الميدالية الهدية خاصتي، وطُلب اليّ ان اكتب تقريرا لجناح الامن في التنظيم عن هذا الاستاذ، فرفضت، حاولوا مرة اخرى فرفضت، واصريت على موقفي وعلى تقدير علاقة الثقة بيني وبين الاستاذ وعدم ادخالها في تلك الاتون، تطور الامر وخضعت لعقوبة تنظيمية وكانت مالية مقدارها نصف دينار على ما اذكر، .. لكن والحق يقال يانور: باني كنت مخطأً هذه المرة وكان التنظيم على صواب.

لكن النهفة يانور في الموضوع: انه ايمن كان حدق عن صحيح. فالاستاذ يوم صرخ من الشباك من هناك، كان ايمن سريع البديهة، ولم يكن ملثم في حينها فقد كان الجو صيفا...الحلو في الموضوع انه صاحبنا ايمن لبد تحت الشباك مباشرة، ولما شاف الاستاذ ممكن يلقط شكله ويعرفه عاجله بالرش في عينيه... واكمل على الجدار شعارنا الازلي:" فتح مرت من هنا".

*****

نور ..
-اه يا استاذ..
شامم معي ريحة عاطلة؟
- اه والله شامم، عاد غريبة، المنطقة كلها بيارات ومزارع والخضار معبي الدنيا ماشاء الله ، منين جاية هذه الريحة؟

نور، بتعرف احنا وين صرنا ياحبيب؟
-شو وين، احنا جنب المقبرة.
نور، اي مقبرة، اطلع وراك وين المقبرة؟
- يابيييي شو هذا، كل هالمسافة قاطعين؟
اه يا حج ، لدرجة انه احنا صرنا بالقرب من مصفاة التنقية عند السليحي....
-يابيييي.

رن جرس هاتف نور. كان المتحدث شقيقه عز، بعد جدل اخبره نور ان الاستاذ سيتكفل بتوصيله، شدد عليه عز بعدم التاخر كي يلتحق به لزيارة الارحام، تمتم نور بالاجابة وانهى الاتصال.

عدنا الى المقبرة عبر طريق استهلكناه في الذكريات..
لطول المسافة او لشيء اخر لا اعرف تماما.

سألني نور هل في هذه المقبرة شهداء، اجبته بالنفي على حد علمي طبعا.
وكان هذا السؤال مدعاة لاستجرار الذكريات مجددا..

طيب ذاكر يا استاذ شو كنا نعمل صباحية العيد...ذاكر ولا اذكرك..ذاكر كيف كنا من الصبح نروح نزور المقبرة القديمة،
نظرت اليه مبتسما وهو مازال يذكرني بموقع المقبرة القديمة [الاولى] قائلا: المقبرة القديمة يازلمة مغيرها اللي عند الحسبة، اللي فيها قبور الشهداء الاربعة اللي مع بعض"محمد يونس ابو شيشيه وجلال محمد يوسف عفانة المحسيري وسعيد ابو شقره ومحمود المصري والذين استشهدوا معا في خربة الوهادنه ١٩٧١و شيعوا و دفنوا معا في المخيم" وتبعهم في نفس الفترة محمد اعشيش ولاحقا خليل وشاح ...متذكر ولا اذكرك كمان؟!

ذاكر المقبرة [الثانية] اللي في اخر المخيم من عند منطقة نابلس وسوق الحلال، اللي فيها قبر الشهداء [ نضال ابو زر وباسم سعادة ومحمود ابوزيد الحارثي وعمر العوفي .. وايمن ابو رداحة وعلي ابو رداحة ومحمود شاهين وغالب غانم ، وامين فندي التلاوي وجهاد جبريل مناصرة، وعبد المنعم اخو موسى نسيب ابو خالد المولد ومعه محمد العربيد من بيت نتيف وثالثهم لا اذكره الان استشهدوا في صافوط] صافوط يا استاذ صافوط!؟ تصور يا استاذ حتى صافوط النا فيها شهدا، تصور يا استاذ...الله وكيلك يا استاذ هؤلاء طلعت عليهم الدبابة وفرمتهم فرم...

ذاكر كيف كنا لازم نزور قبور الشهداء صباحية كل عيد ونلتقي في كل الشباب وكل التنظيمات ...

ذاكر يا استاذ كيف كنا نكون اول ناس عند قبور الشهداء ونوكل حلقوم وغريبة ومطبق وكعك ومعمول... ذاكر، ذاكر ولا اذكرك...

اكيد، بطلت تيجي هسة، ولا كان بشوفك، منت عارف مقبرة الحسبة وراء بيتي...متذكر ولاناسي..

متذكر يانور متذكر يخوي..
بس القصة مش هيك، القصة انه انا من هذيك الايام تركت هالمشوار في مخيمنا وصرت اروح صباحية كل عيد على مقبرة الشهداء..
-مقبرة مين يا استاذ؟
مقبرة الشهداء يخوي.
-بتحكي عن جد يا استاذ.
اه والله جد يخوي.
-يعني مقبرة كاملة مكملة كلها شهداء.
اه والله يخوي كاملة كاملة ومكملة، وبتجنن، ومزروعة شجر وورد بتحس انها فعلا مقبرة شهداء..

-الان [هسة] احكيلي يعني شهداء شهداء كثير كثيرر، ومش من المخيم...
اه يانور؛ الثورة طلعت اكبر من المخيم، واكبر من كل المخيمات.

-يعني ؟
يعني ايش؟
يعني تقريبا قديش عددهم؟
ماعديتهم بس كثار كثار، وفيهم معظم شهداء معركة الكرامة، وشهداء ايلول الاسود، وشهداء عمليات الارض المحتلة، وقادة وضباط وشهداء جيش التحرير الفلسطيني على مدى عقود ، وشهداء الحرب الضروس مع الموساد في كثير من عواصم العالم كسعيد حمامي وعصام السرطاوي وفهد القواسمة وفتحي البحرية وعبدالرزاق اليحيى... ، وفيها ايضا قبر اول شهيد للجنة المركزية لحركة فتح عبد الفتاح حمود وقبر والد ابو علي اياد...
-كل هؤلاء [غاد] هناك
اه [غاد] هناك مش هون يانور..
-ودخلك يا استاذ وين هاي المقبرة؟
في الوحدات، عند دوار الشرق الاوسط وبجنب مجمع الجنوب..السور بالسور.
-بتعرف، اول مرة بسمع فيها...
مش مشكلة، انا بعرف قديش ناس بتتفاجأ لما احكي عن هذه المقبرة.

استجبت صاغرا لطلب نور بزيارة مقبرة الشهداء في الوحدات وسريعا اخذتنا عجلات السيارة باتجاه الوحدات، اعاقنا الزحام المعهود على الطرقات خاصة في هكذا اوقات من ايام العيد...

بعد عناء مع الطريق والزحام وتزاحم الذكريات وصلنا مقبرة الشهداء في الوحدات...ولجنا بالسيارة باب المقبرة وعند النصب التذكاري لشهداء الثورة ترجلنا من السيارة واخذنا بالتجوال بين اضرحة الشهداء، كان نور الدين يقرا اسماء الشهداء وتاريخ استشادهم واسماء تنظيماتهم المثبتة على الشواهد حين كان احد زوار المقبرة يقرأ على النصب سورة الفاتحة فأنصتنا له ومنا معه وختمنا بالدعاء، لم يكتفي هذا الزائر بما تلا وابتهل من ادعية بل واتبعها ببيتين من الشعر بقيت اثارهما عالقة على لساننا طوال العيد؛ كان بيتا الشعر يطابقان الحال بالتمام والكمال وخير عنوان لما نحن فيه، كان الزائر يشعر يقول :
"مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيته بأرض
فليس يموت بأرض سواها "

رن هاتف نور مجددا ، كان شقيقه عز يستحثه ويستعجله، عاجله نور قائلا: انا طلعلت ، انا طلعت انا مش في المقبرة، قصدي في المقبرة، بس مش مقبرة البقعة، انا في مقبرة الشهداء في الوحدات....!!

انفجر صديقي غضبا واخذ يصرخ يا شيخ عز تعال شوف وين احنا...يا عز هذه المقبرة مليانة شهداء..ياعز هذه المقبرة مزينة بالورد ومسيجة بشجر السرو؛ ليحميها او يغطيها او يخفيها والله ما بعرف شو القصد... بس المهم إنها مليانة شُهدا، والشواهد مرسوم عليها العلم، وتحته محفور اسماء كل الشًهدااا ...



#مهند_طلال_الاخرس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قضية فلسطين والادب؛ يحي يخلف نموذجا
- مهر البومة؛ حنا ابو حنا
- قوات ال 17 سيرة ومسيرة؛ فؤاد معمر
- خلف الاسم تختبيء الحكاية
- عيدنا عودتنا ]1/6[
- باجس ابو عطوان -مات البطل، عاش البطل- معين بسيسو
- عن امل لا شفاء منه؛ فواز طرابلسي
- اطول يوم في حياة الزعيم؛نبيل عمرو
- الشياح؛ اسماعيل فهد اسماعيل
- ابو جهاد [اسرار بداياته واسباب اغتياله] محمد حمزة
- خواطر فلسطينية [دهاليز الوطن] عبدالفتاح القلقيلي
- الرواية الصهيونية الاسرائيلية الملفقة وانتهازية الربط بالتور ...
- ذكرياتي مع ياسر عرفات؛ بكر عبدالمنعم
- صراع الفدائيين ]الفدائيون العرب في حرب فلسطين 1948[ ؛ محمد ح ...
- فلسطين في قلبي؛ بكر عبدالمنعم
- اولاد الغيتو/اسمي ادم؛ الياس خوري
- ذكريات مع الشهيد هايل عبد الحميد
- انبياء الله في فلسطين؛ نبيل خالد الاغا
- قبل ضياع الجنَّة؛ صادق عبد القادر
- احزان الفلسطيني الاخير؛ طالب ابو عابد


المزيد.....




- أسير إسرائيلي لدى حماس يوجه رسالة لحكومة نتنياهو وهو يبكي وي ...
- بسبب منع نشاطات مؤيدة لفلسطين.. طلاب أمريكيون يرفعون دعوى قض ...
- بلينكن يزور السعودية لمناقشة الوضع في غزة مع شركاء إقليميين ...
- العراق.. جريمة بشعة تهز محافظة نينوى والداخلية تكشف التفاصيل ...
- البرلمان العراقي يصوت على قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي ...
- مصر.. شهادات تكشف تفاصيل صادمة عن حياة مواطن ارتكب جريمة هزت ...
- المرشحة لمنصب نائب الرئيس الأمريكي تثير جدلا بما ذكرته حول ت ...
- الاتحاد الأوروبي يدعو روسيا إلى التراجع عن قرار نقل إدارة شر ...
- وزير الزراعة المصري يبحث برفقة سفير بيلاروس لدى القاهرة ملفا ...
- مظاهرات حاشدة في تل أبيب مناهضة للحكومة ومطالبة بانتخابات مب ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مهند طلال الاخرس - عيدنا عودتنا