|
الأصل والنسخة
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7658 - 2023 / 6 / 30 - 13:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قضى جان-كلود رومان طوال الليل في الطريق من باريس إلى قريته الهادئة على الحدود السويسرية، وربما توقف مرة أو مرتين في المحطات الخاصة لراحة المسافرين على الطرق السريعة، لشرب القهوة وأكل ساندويتش، وربما نام ساعة أو ساعتين في سيارته في أحدى هذه المحطات. لقد وصل أخيرا إلى بيته في الصباح، في حدود التاسعة يوم الأحد ١٠ يناير١٩٩٣ وهو منهك تماما من آثار الرحلة وكذلك من ثقل الأحداث التي مرت به اليوم السابق. نفترض أنه تناول طعام إفطاره ثم أخذ حماما دافئا وبعد ذلك قضى اليوم وهو يشاهد البرامج المختلفة على قنوات التلفزيون العديدة، وربما نام عدة ساعات، ولكنه حسب قوله قضى طوال اليوم وهو يشرب القهوة ويشاهد التلفزيون دون أن يخرج من البيت. نستطيع أن نتخيل هذا الرجل المنهك وهو يتحرك في بيته الكبير من مكان لآخر في شبه غيبوبة، أو جالسا على الكنبة في الصالون يحدق في شاشة التلفزيون دون أن يتابع حقيقة البرامج العائلية الغبية ليوم الأحد، وهو يعلم أن جثة زوجته وجثة إبنه وإبنته ترقد في صمت رهيب ومروع في الطابق العلوي منذ ٢٤ ساعة. ربما أخذه النوم لدقائق أو لعدة ساعات وهو أمام شاشة التلفزيون، وربما لم يغمض عينيه إطلاقا، وإنما كان يفكر في تنفيذ خطته والإعداد للخطوة الأخيرة والتي لا يستطيع تنفيذها إلا في وقت محدد، أي في حدود الساعة الرابعة صباحا من يوم الإثنين، حيث كان قد صب كمية كبيرة من البنزين على جثة زوجته وأطفاله وفي كل الطابق الثاني، ثم أخذ كمية كبيرة من سم الباربيتوريك Barbiturique ثم أشعل النار في البيت. وفي هذه اللحظة، أو بعد ذلك بوقت قصير مرت سيارة جمع القمامة، وأدرك العمال خطورة الحريق، ورؤوا رجلا في ملابس النوم - بيجاما - عند النافدة المفتوحة في الطابق الأعلى يلوح بيديه ويصرخ. واتصلوا بفرقة المطافيء، ولولا مرور سيارة القمامة لأحترق البيت بكامله، وربما مات جان-كلود بدوره محترقا مع عائلته. غير أن الدكتور الطبيب له حظ عجيب، هو الذي له سمعة النجاح في كل ما يقوم به، إلا إذا كان هذا الحظ هو مجرد مسرحية أخرى، أو الفصل الأخير من مسرحية قام بإعدادها وتمثيلها وإخراجها للجمهور. بعد خروجه من المستشفى، وأثناء محاكمته سنة ١٩٩٦، سألته المدعية العامة عن الأسباب التي جعلته يشعل النار في البيت في الساعة الرابعة صباحا، علما بأنه بقي في بيته طوال يوم الأحد، وأخبرته المدعية العامة بأنه كان يعرف موعد مرور سيارة القمامة، كما أن مادة الباربيتوريك التي تجرعها كانت منتهية الصلاحية منذ عشر سنوات، وأنه في حقيقة الأمر لم يكن يريد الإنتحار كما يدعي. وحكمت عليه المحكمة بالسجن المؤبد، و ٢٢ عاما كمدة أمنية لا يستطيع قبلها الخروج من السجن. من الواضح أن جان-كلود رومان شخص يحب الحياة وفكرة الإنتحار لم تكن في مشاريعه في أية لحظة على الإطلاق. هذه هي الأحداث بإختصار شديد حسب ما نقلته الصحافة في ذلك الوقت مستندة إلى تقارير الشرطة وإعترافات جان-كلود نفسه وشهادة معارفه وأصدقاءه. الهدف من التوقف طويلا لمعاينة هذه الجريمة وسرد هذه الأحداث المتعلقة بهذا المواطن، والذي يوجد مثله آلاف وآلاف النماذج المشابهة، ذلك ليس للأحداث في حد ذاتها، الجرائم من هذا النوع للأسف الشديد تملأ أعمدة الصحف اليومية والأسبوعية، الجريمة في حد ذاتها لا تهمنا هنا، وإنما الذي يهمنا هو شخصية القاتل. ذلك أن الدكتور جان-كلود رومان، الطبيب المحاضر والباحث وإخصائي القلب لا وجود له على الإطلاق، إنه مجرد شخصية وهمية وخيالية، دور مسرحي أجاد تمثيله وإعادته يوما بعد يوم طوال عشرين عاما. ومنذ الأيام الأولى للتحقيق في ظروف وحيثيات هذه المجزرة العائلية، أكتشفت الشرطة أن منظمة الصحة العالمية ليس لديها أي باحث أو طبيب أو موظف أو حتى غفير بإسم جان-كلود رومان، وأن هذا الإسم ليس مسجلا في سجل الأطباء. وعند معاينة ملفه في كلية الطب في جامعة ليون، أكتشفوا بأنه مسجل في السنة الثانية وأنه لم يجتاز الإمتحانات النهائية لهذه السنة. الدكتور جان-كلود رومان ليس طبيبا، ولم ينل أية شهادة جامعية، وطوال حياته لم يشتغل ولو ساعة واحدة في أية وظيفة مهما كان نوعها. ومع ذلك فقد نجح نجاحا باهرا في خلق شخصية الدكتور جان-كلود رومان الباحث والمتخصص في أمراض القلب، ويعيش في جلد وثياب هذه الشخصية الوهمية مع زوجته وأطفاله وعائلته وأقاربه وأصدقاءه وجيرانه، وأغلبهم من الجيل الشاب المتعلم، ومن عائلات غنية من الأطباء والمهندسين والكوادر ورجال الأعمال والسياسة، فكيف تمكن جان-كلود الحقيقي، طالب السنة الثانية في كلية الطب من إختلاق هذه النسخة الوهمية لتنال الشهادات الطبية والوظائف والتقديرات مكانه، ولكن في نهاية الأمر من هو الحقيقي ومن هو المزيف، من هو الأصل ومن هو النسخة ؟
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأسلاك الشائكة
-
قتل مع سبق الإصرار
-
تفاصيل المجزرة
-
في إنتظار الفجر
-
القفص
-
تخلصوا من العسكر
-
مقطع من سفر المسامير
-
التربية الإسلامية
-
عن التراث والتقاليد وأزمة االعقل
-
سياسة الترويض
-
الإسلام وشريعة القتل
-
الأسماك العارية
-
الجنة، مصيَدة البسطاء
-
القلعة وشيخ الجبل والحشيش
-
شكسبير والإغتيال السياسي
-
الدولة وكر الجريمة
-
الإغتيال السياسي
-
إيزيس وأوزيريس
-
الذئاب
-
القتل الجماعي
المزيد.....
-
الجزائر.. مديريات الحملة الانتخابية للمترشحين الثلاثة للرئاس
...
-
في بيان مشترك.. تبون يندد بـ-ضبابية- و-غموض- إعلان نتائج الا
...
-
تبون رئيسا للجزائر لولاية ثانية
-
الولايات المتحدة.. موجة حرائق تجتاح عدة ولايات أمريكية والسل
...
-
مقتل 4 أشخاص وإصابة 15 جراء الهجوم الإسرائيلي على سوريا
-
يتضمن سبع ركائز.. -سدايا- السعودية تصدر تقرير حالة الذكاء ال
...
-
واشنطن مهنئة بانتخابات الرئاسة: الجزائر شريك قيم في تعزيز ال
...
-
-حزب الله- اللبناني ينشر ملخص عملياته ضد الجيش الإسرائيلي يو
...
-
نيجيريا.. 48 شخصا ماتوا حرقا جراء انفجار صهريج نفط بشاحنة لل
...
-
إثيوبيا تتوعد بأن -تذل- أي دولة تهدد سيادتها وسط توترات مع م
...
المزيد.....
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
المزيد.....
|