أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - عودة الغائب .. ! ( قصة قصيرة )















المزيد.....

عودة الغائب .. ! ( قصة قصيرة )


جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)


الحوار المتمدن-العدد: 7648 - 2023 / 6 / 20 - 09:30
المحور: الادب والفن
    


فيما كان النهار ينسحب ببطء نحو الغروب .. دخلت ( حيّنا ) فجأةً سيارة ( كاديلاك ) فارهة بلونها الأحمر القاني ..
ضج الصبية بوجوههم الطفولية المرحة التي أذواها الشقاء ، ثم هرعوا خارج أكواخهم يتراكضون ويتدافعون ، وقد استلب منظر السيارة الجذاب ألبابهم ، فراحوا يطاردونها جذلين .. حاملاً كل منهم ذيل دشداشته بيده ، أو عاضاً عليه بالنواجذ ، وهم يتواثبون كعصافير حائرة ، ويشرئبون بأعناقهم مستطلعين بفضول ما بداخلها من غرائب .. !
هذا لم يمنع أيضاً كوكبة من كلاب الحي السائبة من أن تحف بالموكب الراكض وراء السيارة ، وهي تعوي بصوت مبحوح .. ! ولم تمضي سوى لحظات حتى أصبح الحي عن آخره تقريباً في الشارع .. !
كان يمكن أن تثير السيارة وراءها كالعادة زوبعة من الغبار لولا أن الأمطار الخفيفة التي هطلت هذا الصباح قد أنامت التراب ، فتماسك الشارع ، وبدا وكأنه مرصوص ..
أكملت السيارة على أي حال سيرها الوئيد ، وهي تستعرض جمالها وفخامتها ، ولدهشة الجميع توقفت على بعد خطوتين من كوخ ( أم نجم العمشة ) .. المتروك منذ سنين طويلة تحت رحمة يد الدهر تعبث به كما تشاء ، فأحالته الى خرابة لا نفع منها .. !
ترجل صاحب السيارة يتحلق حوله جمع من أهل الحي ، وهم يدمدمون بصوت واحد . كان الرجل يرتدي ثياب أهل الخليج .. دشداشة ناعمة وغترة بيضاء وعقال ، ونعلين من الجلد الطبيعي ، ويضع على عينيه نظارات ملونة .. جال ببصره بين وجوه الحاضرين .. يسمع ضجيج أصواتهم ، ورنين ضحكاتهم ، وتعليقاتهم الهامسة ، وترهات أخرى ، ثم شَخَصَ ببصره نحو الكوخ المتهرئ أمامه بنظرة فيها من معاني الحزن والمرارة الكثير .
انها البقعة من الأرض الأغلى على قلبه التي ولد عليها ، وعاش فيها طفولته وصباه ، وباكورة شبابه .
صهل صوت متضايق في مؤخرة الحشد :
— يا جماعة .. انه نجم .. ألم تعرفوه بعد ..؟
وعلق آخر ، وفي قلبه ثمة حسد :
— ما هذا التغيير .. ؟! ما شاء الله .. ! يرزق الله من يشاء بغير حساب .. !
وقبل أن يدلف ( نجم ) الى داخل الكوخ ..
نادى على أحد الواقفين ، ونفحه مبلغاً من المال ، وطلب منه أن يحرس السيارة كيلا يعبث بها الاولاد ، وأن لا يسمح لأحد بالدخول عليه ، ثم تقدم ودفع الباب المتداعي ، فاستجاب له على الفور ..
وبمجرد ما خطى أولى خطواته الى الفناء الفارغ الموحش حتى استقبله جو من التأسي والحنين . كانت الغرف تختنق برائحة العفن التي تفوح عادة من الأماكن المهجورة ، وحفيف فئران تتراكض وتصيء مذعورة ، وهمسُ ريح خجلى خلل ثقوب الكوخ الكثيرة ، وهي ترسل صريراً خفيفاً كأنه نواح مكتوم يبعث في النفس مزيداً من الوحشة .
لم يكن في الكوخ ما يصلح لأن يجلس عليه سوى جذع نخلة يابس .. أخرج منديله ، وفرشه ثم جلس ، وكان التأثر باديا عليه .. استل سيجارة وأشعلها ، وسحب منها نفسا عميقاً ، ثم اجتاحته لجة من الذكريات البعيدة المؤلمة ، والحزن يعتصر فؤاده .
لا تزال ذكرى تلك الليلة الأليمة عالقة في ذهنه لم تغادره .. مستشعراً حتى اللحظة آلامها .. عندما جاء صديقه ( ياسر ) حسب موعد مسبق بينهما ، وكان بادي الاستعجال .. بادره بلهجته الجنوبية الصادقة :
— لقد آن أوان الرحيل ، يا صديقي .. هيا قم ، فليس أمامنا وقت نضيعه ..
قال نجم بإحساس المذنب بعد صمت قصير :
— ماذا عن أمي .. ؟ كيف أتركها وحدها ، وهي في هذا العمر ، وهذا الوهن .. ؟!
— لا وقت للعواطف ، يا صديقي .. أُقدر موقفك هذا ، لكن ما باليد حيلة .. ما على المضطر إلا ركوبها ، ثم هل تتوقع أن تأتينا الحياة بما هو أفضل على هذه الارض التي لم نرى منها سوى الشقاء والعذاب والمصائب ..؟ هل ترضيك حياتنا التي نعيشها ، ونحن نصف جياع .. ؟ هيا تحرك .. لقد اتفقنا ، ولا مجال للتراجع ، ولا حتى للنقاش ..
قال نجم متوجساً :
— ألا ترى ، يا صديقي بأننا نجازف كثيراً باعتمادنا على الحظ الذي لا يؤتمن جانبه دائماً .. ؟
يرد ياسر :
— نجم .. عزيزي .. نحن شباب ، وكما يقولون .. من يريد يستطيع ، وانشاء الله سنوفق .. انهم بحاجة الى عمالة من كل نوع ، ولكل مجتهد نصيب ، فالبلد في باكورة نهضة كبرى بعد اكتشاف النفط .. اطمئن .. لقد حسبت لكل شيء حسابه .. بمجرد ما نصل الى ( الزبير ) سيكون في استقبالنا ( القچقچي ) الذي سينقلنا الى ( سفوان ) ، ومنها الى ( الكويت ) ، وهناك كما قلت لك عندي أقارب سيساعدونا لنبدأ حياة جديدة في بلد نفطي غني واعد .. هيا بلا تلكؤا .. تحرك أرجوك .. أما عن أمك فقد اتفقت مع أختي ( رقية ) أن تزورها كل يوم ، وتلبي كل احتياجاتها ، وعليك مني إن وفقنا الله ، وابتسمت لنا الحياة لن نتركها بالتأكيد .. انها أمي كما هي أمك .. لا فرق .. !
يقول نجم مستسلماً :
— هذه خمسة دنانير .. هي كل ما أملك .. أرجع الى بيتكم ، وأتركها مع أختك لتصرف منها على أمي الى أن يفرجها الله ..
— هات .. خلصني .. رغم أني لا أرى داعٍ الى ذلك .. ( يخطفها من يده ، وهو يتأفف ) .. سأعود بعد خمس دقائق بالضبط .
وعندما عاد صديقه ، وازفت الساعة ..
قام نجم ، وقد اجتاحت قلبه موجة عارمة من الحنان .. احتوى يد أمه بين يديه ، وهو يمسح عليها بحب ، ثم انحنى ، ولثمها دامع العينين ، وقال بصوت أقرب الى الهمس :
— سامحيني ، يا أمي .. !
ردت بلغة الأم العفوية :
— لا تتأخر ، يا ولدي ..
— نامي أمي .. لا تنتظريني ..
تضببت عيناه بالدموع ، وارتجفت شفتاه لرؤية أمه تقوم ، وهي تدفع يديها أمامها متلمسةً طريقها الى غرفتها بصعوبة .. !
زجره صديقه :
— كفاكَ نحيباً .. أسرع .. لكل لحظة قيمتها ..
— اتظنني بدون قلب .. ؟ .. انها أمي . أنا الانسان الوحيد لها على هذه الأرض .. صدقني ، يا ياسر . فراقها مثل فراق الروح . هناك مشاعر ، يا صديقي لا تكفيها الكلمات مهما امتدت .. !
— أعرفك جيداً ، يا صديقي .. لهذا تراني أتمسك بك طول عمري .. إن لك قلباً لو وزعناه على كل الأرض لكفاها وزاد ، والآن الى العمل .. هيا بنا .. فأمامنا طريق طويل ، وليلة أطول .. خلي ثقتك بي بعد الله سبحانه وتعالى .. صدقني لن تندم .. هيا هيا .. !
قام نجم ، وهو يكبح جماح نفسه في مشقة ، ثم هرول خارجاً .. لاهب الأنفاس .. بعيون ندية ، ووجه مكفهر مهدود شوهه الحزن والقلق .. !
لم يكن يعرف وقتذاك أن القضاء كان ينتظر على الأبواب .. إذ لم تمضي على وجودهم في الكويت سوى أشهر قليلة حتى وصله نعي أمه .. !
آه .. كم بكى وكم تعذب .. !
والذي زاد من ألمه انه لم يكن في وداعها الأخير لحظة رحيلها ، وعلم بعد ذلك بأن مؤذن الجامع هو من قام بدفنها .. !
سمع طرقة خفيفة على الباب .. أيقظته من سيل خواطره .. أطلق تنهيدة ، وأنفاسه تتلاحق بانفعال .. انتصب واقفا ، وقفل راجعاً ، وعندما أصبح خارج الكوخ كان عقد الناس قد انفرط ، وشمس الغروب ملقيةً بآخر شعاعها كي تخلد الى الراحة بعد مشقة سفر يوم طويل .
قاد سيارته ..
وما كاد يدخل على المؤذن في بيته حتى خف الرجل لاستقباله بوجه ودود بشوش .. شكره نجم على موقفه النبيل ، واعتذر له عن التأخير كل تلك السنين ، فالأمر كان خارج إرادته ، ودفع له مصاريف الجنازة ، والفاتحة رغم رفض الرجل قائلا بأن صندوق الجامع هو من تكفل بكل شيء .. لكن نجم أصر ، وقال بوّد بأن الخير كثير والحمد لله ، وتبرع أيضا بمبلغ مجزي الى صندوق الجامع الخيري ، وأعطاه مبلغاً يكفي لترميم الكوخ ، وتهيئته لمن يستحقه من فقراء الحي .. ما أكثرهم .. !
ثم غادر بيت المؤذن ، والحي .. عائداً من حيث أتى .. !!

( تمت )



#جلال_الاسدي (هاشتاغ)       Jalal_Al_asady#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- راوية .. ! ( قصة قصيرة )
- دردشة على عَتبة الدار .. ! ( قصة قصيرة )
- الطلاق الصامت .. ! ( قصة قصيرة )
- لقاء بعد طول غياب .. ! ( قصة قصيرة )
- استفاقة متأخرة .. ! ( قصة قصيرة )
- زوجة منزوعة الدسم .. ! ( قصة قصيرة )
- حكايتي مع الخدامة .. ! ( قصة قصيرة )
- ثمن الاندماج في الحياة الأمريكية .. ! ( قصة قصيرة )
- إختفاء فاطمة .. ! ( قصة قصيرة )
- الماضي يُطل من جديد … ! ( قصة قصيرة )
- عطر الخيانة .. ! ( قصة قصيرة )
- ذكرى بلا تاريخ .. ! ( قصة قصيرة )
- مصادفة غريبة .. ! (قصة قصيرة )
- الموت البطئ .. ! ( قصة قصيرة )
- رستم .. ! ( قصة قصيرة )
- بعيد عن العين بعيد عن القلب … ! ( قصة قصيرة )
- سجين داخل أسوار الحياة … ! (قصة قصيرة )
- الخوض في أرض موحلة .. ! ( قصة قصيرة )
- تنهدات زوج تعيس … ! ( قصة قصيرة )
- جِراح لا تزال تنزف .. ! ( قصة قصيرة )


المزيد.....




- ثبتها الآن.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على نايل سات واستمت ...
- عروض لأفلام سوفيتية وروسية في بوينس آيرس
- -مصر القديمة.. فن الخلود-.. معرض لقطع أثرية مصرية في سيبيريا ...
- آخر ما نشره -نعم.. الموت حلو يا أولاد-.. كتاب وفنانون ينعون ...
- مطالبات واسعة في مصر لإلغاء حفل مطربة كندية شهيرة لهذا السبب ...
- ناشرون تحت المقاطعة: سوق الترجمة الإسرائيلي في مهب الحرب على ...
- سيلين ديون تتحدث عن معاناتها مع مرض نادر وتعد بالعودة إلى ال ...
- الفرقة البريطانية -كولد بلاي- توقف حفلها بأثينا بسبب ممثل إس ...
- فرنسا تحيي التراث عبر أولمبياد يجمع بين الرياضة والفنون
- في أول ظهور إعلامي له.. ضحية صفعة الهضبة يكشف لماذا لم يرد ب ...


المزيد.....

- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد
- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - عودة الغائب .. ! ( قصة قصيرة )