أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - الموت البطئ .. ! ( قصة قصيرة )















المزيد.....

الموت البطئ .. ! ( قصة قصيرة )


جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)


الحوار المتمدن-العدد: 7407 - 2022 / 10 / 20 - 12:02
المحور: الادب والفن
    


في بداية الخمسينات من القرن الماضي ، وفي حي صغير محافظ مثل حيّنا .. لم تكن لدينا من وسيلة لنتسقط بها أخبار المجتمع ، وبالخصوص المجتمع النسوي الذي يحيط نفسه بجدار سميك من السرية .. سوى النميمة .
صادف أن وفدت على حينا سيدة في الاربعينات من العمر تعمل في مجال التمريض ، واستأجرت بيتا صغيراً جميلاً مبنياً من الطابوق ، وهي ظاهرة نادرة في حيّنا الفقير الذي كانت معظم بيوته من الطين والصرائف المبنية من القصب الرخيص ، والتي لا تقي من حر ، ولا تحمي من برد .. ورغم مرور أكثر من عام على وجودها بيننا ، إلا أننا لم نكن نعرف عنها شيئاً ، فهي قليلة الاختلاط .. كثيرة الريبة .. لا تزور ولا تُزار !
تقول النميمة أن ( أم رمزي ) ، وهذه كنيتها أما اسمها الحقيقي ، فهو ( نيران ) .. كانت شابة جميلة في الاربعينات من نفس القرن ، وكان لها في بيتها في المدينة التي جائتنا منها .. صالوناً أدبياً مشهوراً تستقطب اليه فتيات ، ونساء الطبقة المخملية في المجتمع المتنفذ في ذلك الزمان .. زوجات وبنات الشيوخ والباشاوات وشقيقاتهم .. وكانت بعض النسوة والفتيات ممن يتهافتن على الصالون لا يحركهن شيء سوى أجسادهن الجائعة ، ورغباتهن المتقدة المكبوتة !
وكانت مهمة الصالون المعلنة هي نشر الثقافة العربية النسوية الحديثة التي انطلق نورها من مصر الكنانة ، وتبعها انتشار ظاهرة الصالونات الأدبية على غرار صالون الاديبة اللبنانية مي زيادة .. وباطنيا كان للصالون مهمة أخرى .. فهو ملتقى العشاق والعاشقات ، ويجري في كواليسة كل شيء - من حفلات وخمور وعهر - إلا الثقافة !
وكانت نيران تقوم بدور المنسق ، والمشرف العام على كل ما كان يجري في الصالون .. وإن حدث وسقطت فتاة ضحية لنزق باشا ، أو ابن باشا .. تقوم نيران بواجبها في تفريغ رحمها مما علق به من قاذورات !
وذات ليلة هادئة من ليالي شهر نيسان .. شهر الحب والعشق والغرام ، وعند حلول المساء ، وفي هدأت الليل ، وسكونه الخادع .. يتسلل عدد من الرجال المتلهفون ، والنساء العاشقات كما كل ليلة من الأبواب الخلفية للصالون لاقتناص اللذة المحرمة ، ويتوزعون على الغرف الصغيرة حوله .. وفي غضون لحظات ينبض المكان كله بالحركة ، ويستمر طقس حيواني جامح لا تسمع منه سوى التأوهات ، والآهات ، وصرخات اللذة المكبوتة … !
وكانت نيران تقوم بجولات تفقدية بين الغرف في أوقات غير محددة لتطمئن بأن كل شيء يسير على ما يرام .. فكانت تسمع في طريقها .. همس الحسرات ، وطرقعة القبلات .. تكاد تحس بمذاقها يلامس شفتيها فتبتسم ، وازيز الأسِّرة وصريرها ، وهي تأن تحت أحمالها الثقيلة .. إلا غرفة واحدة لم يصدر منها شئ .. كأنها فارغة لا أحد يشغلها .. استغربت .. راجعت الكشوفات .. تأكد لها بانها محجوزة لرشاد إبن الباشا عبد القادر … !
توقفت وهي تضع أذنها لصق الباب .. تنصت لعل حركة ، أو اشارة تدل على وجود أحد في الداخل .. لم يصدر شيء .. طرقت على ألباب طرقا خفيفا .. لم تسمع رداً .. أزدادت استغرابا وقلقا .. فاضطرت الى استخدام الماستر كي ، وفتحت الباب بهدوء وبحذر شديد .
خطت الى داخل الغرفة الخافتة الإضاءة ، وبمجرد أن اعتاد بصرها على عتمة المكان حتى كتمت صرخة كادت أن تنطلق من فمها .. فتحت فمها مذهولة ، وهي ترى ابن الباشا ( رشاد ) عاريا ، وراكعا أمام جسد شبه عارٍ مسجى أمامه مضرجاً بدمائه !
تمالكت نفسها ، واقتربت منه واحتضنته .. ارتمى الشاب في أحضانها كأنه يلوذ بها .. يبكي ويضرب على رأسه ، وجبهته بعنف .. عيناه يملأهما الرعب .. يلتقط أنفاسه بصعوبة ، وكأنها آخر أنفاس له في الحياة .. مخنوقاً باحساسه الفظيع بالذنب ، ويهمهم بكلمات غير مفهومة كأنها .. خائنة .. مجرمة .. حقيرة !
تتأمله في حيرة ، وهي ترى نصل السكين الحاد مطروحاً على الأرض يلمع في الظلام ! قامت مترنحة ، وأقتربت من الجسد الذي يشع منه وهجاً حتى وهو ميت ، وأمعنت النظر رغم الضوء الشحيح ، فأصابها الهلع .. تنتفض ثم تشهق دون إرادة منها .. تعرفها شابة حسناء لها ملامح الفرنجة .. يسمونها الأنجليزية .. شعرها الاشقر متناثر فوق جسد كأنه مفعم بحياة أخرى .. بنت شيوخ ، وعندها أخوة بلا عدد .. يتصبب جسدها عرقاً ، وتصيبها قشعريرة .. تشم رائحة الموت تقتحم انفها حتى كادت أن تفرغ ما في معدتها من بقايا طعام !
— رباه .. أي غباء هذا ؟ أيموت مثل هذا الجمال .. أحمق .. ؟ ( تهز رأسها في أسف ) لم فعلت ذلك .. بحق الجحيم .. ماذا فعلت لك المسكينة ؟ ألم تجد مكاناً غير هذا لترتكب فيه جريمتك ؟ ويلك يا نيران .. يا ويلي .. ربي رحماك !
تخرط خدودها باظافرها فيسيل الدم .. ثم أخذت تولول كأنها على وشك أن تفقد عقلها .. خوف غريب يدب في أعماقها .. ماذا يمكنها أن تفعل ؟ لقد ضاقت بها الدنيا على رحبها .. ليس لها من حل سوى أن تجلس على الارض بجانب هذا المجنون كذبيحة مستسلمة لمصيرها !
سرعان ما انتقل صدى الجلبة الى الغرف الأخرى .. يعم الأرتباك وتسود العجلة .. تتردد أصوات مختلطة .. صراخ مخنوق .. بكاء صامت .. وعيون جاحظة من الفزع .. يفر الرجال والنساء شبه عرايا ، وهم يتدافعون بالمناكب ، ويحملون ملابسهم بأيديهم ، وعلى اكتافهم .. لا وقت لارتدائها .. عليهم أن يولوا هاربين .. لحظات ووجدوا أنفسهم خارج المبنى .. الحمد لله .. لقد نجوا بأنفسهم كأنهم بعثوا من جديد ..
هدأت الاصوات ، وانطفأت النيران في القلوب ، وساد صمت لا يقطعه سوى زعيق رجال الشرطة ، وخطواتهم التي داست كل جحر في الصالون ، وتعالت صيحات الضابط .. الواقف في شموخ زائف ، وهو يشير لرجاله أن ينتشروا في كل مكان ، ويحثهم على السرعة حتى لا يفر أحد ، وأن يحافظوا على كل شئ كما هو .. حفاظا على سير التحقيق .. كان جواً معبأً بالتوتر والانفعال .. وكانت الحصيلة توقيف من لم يسعفه الوقت من الهرب من ابناء الباشوات ، وصغار الإقطاعيين .
لم يستسلموا .. يلوحون بأيديهم ، ويتوعدون ، ويصرخون في وجه الشرطة والضابط .. يطلبون منهم السماح لهم بمغادرة المكان ، فهم لم يرتكبوا ذنباً .. والضابط يأمرهم بالسكوت ، وان يجلسوا على الارض خافضي الرؤوس حتى ينتهي التحقيق !
انفجر الخبر في الوسط الاجتماعي انفجار القنبلة ، وانتشرت شظاياه في كل مكان ، وعمت رائحته كعطر رخيص فاسد في الاجواء .. ولم تنتظر الصحافة طويلا حتى دست انفها في الموضوع .. فبدأت التقارير تنهال تباعا .. تعري المستور ، وصاحبته نيران وصالونها .. أُلقي القبض فورا على نيران ورشاد ، وقيل أن رشاد حكم عليه بالاعدام ، وعلى نيران بعشر سنوات سجن .. المكان الآمن الوحيد لها في هذا ألعالم .. وبعد خروجها من السجن تنقلت في احياء المدينة الكبيرة حتى حطت الرحال في حينا المهمل المنزوي كأنها تتوارى فيه من شئ ما .. ! كانت شديدة التوجس ، والحذر من شئ لا نعرفه .. تسير وهي تتلفت كالمفزوعة .. !
وفي يوم تقدمت ببلاغ الى الشرطة تدعي فيه بأن شخصا يراقبها ، وأحيانا يتبعها ، وعندما استدعاها الضابط للتحقيق قالت :
— أشعر بأن شخصاً يتبعني ، ويريد قتلي .. !
ينظر اليها الضابط حائراً ، فيسألها :
— هل لك أعداء .. ؟
— هنا في هذا الحي .. لا .. الناس طيبون ، وعلاقتي بهم جيدة ..
— وفي مكان آخر غير هذا الحي .. ؟
اجابت ببرود وبصوت خافت :
— ربما .. !
— ما معنى ربما .. ؟
تهمهم بصوت خافت :
— لا أدري ..
لم يرغب الضابط في الدخول بتفاصيل خارجة عن نطاق الشكوى ، فقال كأنه يريد انهاء الموضوع :
— نحن هنا .. سيدتي .. لا نمشي بالشعور ، ولا بالاحساس .. عملنا يسير وفق الأدلة المادية .. نريد مشتكي ومشتكى عليه .. اذا تعرفين هذا الشخص اعلمينا .. ودلينا عليه ، ونحن سنقوم بواجبنا .. ومع ذلك ، وزيادة في الاحتياط سأعين نفر من شرطتنا السرية ليحميك .. لكن لفترة مؤقتة ، وليس للابد .
خرجت .. وهي غير مقتنعة بالقرار الذي اتخذه الضابط ..
لم يسبق لأم رمزي هذه أن تزوجت في حياتها ، وما هذه الكنية إلا للتغطية على اسمها الذي كان أشهر من نار على علم .. ولم تمضي سوى فترة ليست بالطويلة حتى أختفت من الحي ، ولم يعرف لها مصيراً .. هل فرت الى مكان آخر .. ؟ هل قتلها من كان يتبعها ودفنها .. ؟ لا احد يعرف ، والشرطة لم تعر الموضوع أي أهمية ، ولم تفسره على انه اختفاء ، وانما أمر عادي من حق أي مواطن أن يغير محل اقامته متى شاء .. !!

( تمت )
القصة لا تؤرخ لفترة معينة .. انها في حبكتها ، وفي شخوصها من نتاج خيال كاتبها .



#جلال_الاسدي (هاشتاغ)       Jalal_Al_asady#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رستم .. ! ( قصة قصيرة )
- بعيد عن العين بعيد عن القلب … ! ( قصة قصيرة )
- سجين داخل أسوار الحياة … ! (قصة قصيرة )
- الخوض في أرض موحلة .. ! ( قصة قصيرة )
- تنهدات زوج تعيس … ! ( قصة قصيرة )
- جِراح لا تزال تنزف .. ! ( قصة قصيرة )
- هذيان في براغ .. الجزء الثاني .. ( قصة قصيرة )
- هذيان في براغ … الجزء الأول ! ( قصة قصيرة )
- عزيزتي .. لا تتوقعي من الزوج أن يكون ملاكاً .. ! ( قصة قصيرة ...
- أم ياسين … ! ( قصة قصيرة )
- زليخة … ! ( قصة قصيرة )
- الخادمة .. ( ناني ) … ! ( قصة قصيرة )
- الفروسية .. أيام زمان … ! ( قصة قصيرة )
- الشقيقتان … ! ( قصة قصيرة )
- يا طالع النخلة .. مهلاً … ! ( قصة قصيرة )
- شحاذ .. رغماً عنه … ! ( قصة قصيرة )
- المسافة بين القرية والمدينة … ! ( قصة قصيرة )
- مثلما تُكيلون يُكال لكم … ! ( قصة قصيرة )
- التنور … ! ( قصة قصيرة )
- العين الحمرة … ! ( قصة قصيرة )


المزيد.....




- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - الموت البطئ .. ! ( قصة قصيرة )