أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - رستم .. ! ( قصة قصيرة )















المزيد.....

رستم .. ! ( قصة قصيرة )


جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)


الحوار المتمدن-العدد: 7405 - 2022 / 10 / 18 - 09:43
المحور: الادب والفن
    


كان الناس في حيّنا يعرفون بأن ( رستم ) قد ولدته أمه سفاحاً من عابر سبيل أغواها في لحظة ضعف ، وفعل فعلته ، وزرع بذرته في أحشاءها ، ثم استدار ، وانصرف كأنه لم يفعل شيئاً ، وبقيت الأم وابنها يصارعان الحياة ، والمجتمع الذي لا يعترف بشرعية هكذا علاقات ، ولا بنتائجها .. حتى بدأت الحكاية بمرور السنين وتتابعها تفقد دهشتها ، ولم يعد أحد يلوكها .. لكنها مع ذلك بقيت حبيسة النفوس .. تطل برأسها البشع بين الحين والآخر .. وبقي رستم يعاني من تهميش ، وظلم المجتمع له ولأمه .
وعندما كبر ، وصلب عوده أدرك حقيقة وجوده اللاشرعي .. فبدأت تتشكل عنده عقدة نقص بسبب نسبه العائم ، والغير معروف .. فكان يلقي باللوم على أمه ، ويعتبرها المسؤولة الأولى عن معاناته ، فتولدت لديه رغبة عدوانية مؤجلة في الانتقام منها ، ومن الدنيا ، ومن المجتمع .. أما الناس فكانوا يستغربون من اسمه ، ويعتبرونه دخيلاً ، وليس عربياً ، وغير مألوف في وسط معظمه من العرب .. والبعض حاول أن يستدل على أصله ، ونسبه من اسمه ، ومن ملامحه التي بدأت تنضج ، وتتوضح شيئا فشيئا .. حتى تدخل الاستاذ محمود معلم التأريخ من سكنة حيّنا ، وجزم بأن أصل الأسم بدون أدنى شك .. فارسي !
لقد كان حيّنا كوكتيلاً غريباً ، ونادراً من البشر من مختلف الأعراق والأجناس والأديان والطوائف .. ففيهم الهندي والفارسي والباكستاني والبلوشي والأرمني والكردي والتركماني ، وحتى الإنجليزي …. الخ .. فلا أحد كان يعرف حتى أمه نفسها الى أي عرق من هذه الأعراق المختلفة ينتمي الرجل الذي زرع بذرته في رحم أم رستم .. وبقيت الحقيقة كغيرها غائبة في تيه الغيب اللامحدود .. !
كان وهو لا يزال طفلاً لا يكف عن سؤال أمه عن أمور يثيرها زملاءه في المدرسة ، وباتت تحز في نفسه ، وتشكل له هاجساً بدأ يؤثر على تكوينه النفسي ، ويغير مساره الطبيعي :
— أمي ..
— نعم حبيبي ..
— ما معنى رستم ؟ ولماذا رستم ؟ ومن أطلق عليَّ هذا الاسم أنتِ أم بابا أم جدي .. ؟
فتصده أمه المهمومة دوما وتقول :
— لا أدري بني .. لا تشغل بالك بصغائر الامور هذه .. انه اسم مثل باقي الاسماء ، وأنا أراه جميلا على أي حال .. ( وكأنها تريد الهرب من اسئلته ) .. أبوك هو من أطلق عليك هذا الاسم .. ارتحت .. اهتم بدروسك حبيبي ..
— وأين هو أبي .. ؟
— قلت لك الف مرة يا صغيري يا حبيبي أن أبيك مسافر ، وربما لن يعود ..
صمتْ وصمتت .. ثم :
— لماذا اسم أبوكِ صالح ، واسم أبي هو الآخر صالح .. هل أنتِ أمي أم شقيقتي .. ؟
إن أسئلته باتت أنصال حادة تمزق في أحشاءها ..
— الصدفة بني جمعت بين اسم أبيك وأسم أبي .. لا تتعب رأسك الصغير .. حبيبي !
— لم تعزفين عن التحدث معي ؟
قامت وعانقته بحنان وقبلته ، وعندما لم يجد منها غير الصمت .. تركها لحالها ، وانفرد بنفسه ، وانساق وراء أفكاره ، وأطلق العنان لخياله الطفولي .. يحاول أن يرسم صورة كاملة لنفسه .. يحاجج بها زملائه في المدرسة وقت الحاجة ..
وفي يوم .. عاد من المدرسة .. وجهه أصفر شاحب ، وهو يبكي وينشج .. جزعت الأم ، وأقبلت على وحيدها بلهفة وقلق وعانقته ..
— ماذا بك حبيبي .. هل ضربك أحد ؟
ينظر اليها نظرات غريبة من خلال دموعه ونشيجه ، وشفتاه ترتعشان ، وكلماته المتعثرة تتمزق على أطراف لسانه :
— هذا خليل .. يقول انتم كفار .. هل نحن كفار .. أمي ؟
— قطع لسانه هذا الكلب .. نحن مسلمون بني .. لا تعيره أهمية .. ( تحاول صرف انتباهه ) تعال لترى ما اشتريته لك ..
— هذا خليل يقول علي نغل .. ما معنى نغل .. أمي .. ؟
كادت أن تجن ، وتفقد صوابها :
— فلينتظر هذا الكلب ابن الكلب .. سأهدم المدرسة والبيت على رأسه ورأس الخلفوه .. !
تذهب لتجلب له الدراجة التي اشترتها له .. لم يبدو عليه الفرح الذي توقعته منه ، وعاد الى اسئلته التي لا تنتهي :
— لماذا لا تصلين مثل أم صديقي حمزة .. ؟
— أف .. ( كأنها توشك على الانفجار ) أُصلي حبيبي وحدي في الغرفة ..
— لم أراك تصلين … ( ثم ببراءة … ) نادي علي عندما تصلين مرة أخرى لأراك ، وأصلي معك !
تجيبه في استسلام ، وفي صوت مخنوق النبرات :
— حاضر حبيبي ..
— وقال أيضاً إن أمك رخيصة ، وكلمة أخرى نسيتها ..
— يوه .. أرحمني بني .. غداً سأشتكيه عند مدير المدرسة ..
ثم استرد طفولته فجأةً عندما رأى الدراجة الحمراء وبريقها ، وبدأ الغضب يزايله .. مسح دموعه ، ولانت ملامحه ، وهدأت أحزانه ، وأقبل على الدراجة بفرح .. قفز عليها ، وقادها سعيداً مرحاً ..
أما أمه .. فانزوت بعيداً عنه تبكي بكاء حاراً .. احساس بالأسى والندم بات يفتت روحها كلما أيقظ أحد جروحها التي يبدو أنها لن تندمل ، ثم رفعت رأسها الى السماء ، وهمست في استجداء صادق :
— ربي ارحمني .. أتوسل اليك .. خذ أمانتك وريحني !
وعندما غادر رستم مرحلة الطفولة ، وبدأ مرحلة الصبا .. لم يخص نفسه بدين معين ، ولا الناس خصوه بدين معين ، فكما كانوا يجهلون نسبه كانوا أيضا يجهلون ديانة أبيه ، فبقي هذا الجزء من شخصيته مهملاً ، ومفتوحا على كل الاحتمالات .. الى النهاية .. وهو لم يكن يبالي أبداً ، فعاش بعد ذلك عندما أصبح رجلاً .. انساناً منحلاً لا يلتزم بتعاليم معينة سوى غرائزه الطبيعية التي أطلقها لأقصى طاقاتها كأنه يستعجلها أن ترتوي من كل شيء .
وكبر رستم ..
وبلغ السادسة عشرة من عمره .. وبدأت ملامحه تتضح أكثر وتنضج .. طول فارع ، وملامح متناسقة ، ووجه جميل .. نظرات رجولية توحي بفحولة صاحبها .. البعض قال بأنه هندي ، والبعض قال بأنه فارسي ، ولم يتفقوا في النهاية على عرق واحد محدد .. اما هو فلم يكن يبالي بهذه الامور ، وكل ما كان يهمه هو أن يعيش هو وأمه بسلام .
لقد كبر وبات يعرف بأن أمه كانت تبيع جسدها لتقيم البيت الذي يعيشون فيه ، وإلا من أين تأتي بكل هذه الاموال التي ينفقونها على حياتهم المتنعمة نسبياً .. ؟
طالما أمه تزاول أقدم مهنة في الوجود ، وما يمكن أن تجلبه من مشاكل صحية لمن يزاولها .. فلن تكون الأم استثناءً من الوقوع ضحية أمراض زهرية خطيرة قد تودي بها الى حتفها ، وهذا ما حصل .. فلم يمهل القدر الأم طويلا ، فسبقها بخطوة ، وجاء الموت سريعا يحمل السلام والسكينة لهذه المعذبة ، ويحررها من أتون الدنيا وقسوتها وشقاءها ، وماتت الام ودفنتها البلدية في مقابر المجهولين في أطراف الحي .. لم يمشي رستم في جنازتها عندما حملتها سيارة الحكومة .. وبقي وحيداً حزيناً يحصد نتائج مأساة قاسية لم يكن طرفا فيها .. !
حتى التقى بها .. رجاء .. سيدة جميلة وفدت الى الحي .. لا يعرف عنها شيء سوى انها أرملة فقدت زوجها في الحرب .. ولم يعرف أيضا لماذا قاطعتها نساء الحي .. أما هو فقد وجد فيها ما يعوضه عن أمه .. أحس أن فيها شيئاً من أمه .. جمالها رقتها وحنانها .. فالقى بنفسه في أحضانها .. فوجد الدفء والعطف والحنان .. أحس بها تضفي عليه من حبها ، وعطفها أكثر مما تضفيه أي أم على ولدها .. تشتري له ما يريد .. تسهر عليه اذا مرض ، تطبطب عليه إذا حزن .. وتسأل عنه اذا غاب ..
وعندما تقترب منه .. يشعر بانفاسها تفح وصوتها يتكسر .. وفي يوم ضمته بين ذراعيها .. يعذبها الشوق ، وعيناها تبرقان ببريق الرغبة ، ثم وبشكل مفاجئ لم يتوقعه انقضت عليه ، وهي تفح فحيح الأفاعي كأنها تهم في التهامه ، وأطبقت شفتيها على شفتيه .. قاوم .. حاول أن يبتعد .. يهرب .. لكن مقاومته سرعان ما ذابت ، واستسلم أخيراً لأحضانها !
وكانت البداية .. كأنها لمساتُ خَلقٍ جديد .. رستم جديد .. شباب ووسامة وفحولة .. حيوان جامح مفكوك الوثاق .. مطلق السراح .. يبصق في وجه المجتمع الذي ظلمه ، ويسحق كل من يقف في طريقه ..
وبعد أن علمته أصول المعاشرة وفنونها التي تتقنها .. عاش في كنفها سنين منعماً مدللاً .. حتى جاء يوم وقد ملَّ منها ، فلم يعد يكتفي بها بل طمع بالمزيد ، ولم يكن هذا بالامر العسير عليه بسبب ما يمتلكه من وسائل قوة تجعل النساء تتهافت عليه .. فانطلق كحجر أسود ملوث قُذف في مياه صافية رقراقة فأفسدها .. انتشرت روائح فضائحه تزكم الأنوف .. توسعت علاقاته ونفوذه وسط العائلات الفاسدة ، وتشابكت وأصبح لاسمه رنة مخيفة تسري في الاجساد كقشعريرة الحمى ، فقد أصبح بامكانه سحق ، وتدمير أي شخص مهما كان إن تجرأ ، ووقف في طريقه !
وجَّهَ كل شياطين انتقامه المؤجل الذي كان يشحنه لأمه الى المجتمع الذي يعتبره المسؤول الثاني عن معاناته .. فتساقطت ضحاياه الواحدة تلو الأخرى .. حتى بات يشكل خطراً على المجتمع ، وقيمه في بيئة عشائرية قبلية شديدة الصرامة خاصةً في ألأمور الخطيرة وأهمها .. الشرف .. وكانت غلطته المميتة عندما سقطت بنت المتصرف .. السلطة الأعلى ، واليد الطولى في المدينة .. ضحية من ضمن ضحاياه ..
جن جنون الأب .. ضرب كفاً بكف ، وهو يقطع الغرفة ذهاباً ومجيئاً .. ويعظ على أصبعه كاد أن يدميه .. ثم ضم قبضته ، وأشهرها في وجه الهواء ، وأخذ يدمدم كريح هائجة .. متوعداً بتقطيع رستم الى أشلاء بيديه العاريتين هاتين ، وأخذ يصرخ كأنه نسي نفسه .. مدينتنا طول عمرها ناسها طيبين .. من أين جاء هذا البلاء ، هذا الكلب المسعور ؟ وزوجته واقفة ترتعش .. تتنفس في صعوبة .. تبكي ، وهي صامتة ، وكانت هذه بداية نهاية رستم .. إذ إختفى بعدها بيومين من على سطح الأرض .. كأنه لم يكون .. والى ألابد .. !
تنفس فجر جديد على الحي .. وأنطلق صوت المؤذن من فوق مأذنة الجامع العتيق معلناً تباشير يوم جديد .. ليس فيه رستم .. ! فاحتار الناس في سر اختفائه المفاجئ .. مثلما احتاروا في اسمه ، وفي نسبه .. !!

( تمت )



#جلال_الاسدي (هاشتاغ)       Jalal_Al_asady#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعيد عن العين بعيد عن القلب … ! ( قصة قصيرة )
- سجين داخل أسوار الحياة … ! (قصة قصيرة )
- الخوض في أرض موحلة .. ! ( قصة قصيرة )
- تنهدات زوج تعيس … ! ( قصة قصيرة )
- جِراح لا تزال تنزف .. ! ( قصة قصيرة )
- هذيان في براغ .. الجزء الثاني .. ( قصة قصيرة )
- هذيان في براغ … الجزء الأول ! ( قصة قصيرة )
- عزيزتي .. لا تتوقعي من الزوج أن يكون ملاكاً .. ! ( قصة قصيرة ...
- أم ياسين … ! ( قصة قصيرة )
- زليخة … ! ( قصة قصيرة )
- الخادمة .. ( ناني ) … ! ( قصة قصيرة )
- الفروسية .. أيام زمان … ! ( قصة قصيرة )
- الشقيقتان … ! ( قصة قصيرة )
- يا طالع النخلة .. مهلاً … ! ( قصة قصيرة )
- شحاذ .. رغماً عنه … ! ( قصة قصيرة )
- المسافة بين القرية والمدينة … ! ( قصة قصيرة )
- مثلما تُكيلون يُكال لكم … ! ( قصة قصيرة )
- التنور … ! ( قصة قصيرة )
- العين الحمرة … ! ( قصة قصيرة )
- خيوط العنكبوت … ! ( قصة قصيرة )


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - رستم .. ! ( قصة قصيرة )