بهلول الكظماوي
الحوار المتمدن-العدد: 1713 - 2006 / 10 / 24 - 11:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
( رمضانيات )
( الرحلة الشاميّة _ الحلقة الخامسة و الأخيرة )
لا يسعني أنا و بقية المسلمين و قد ودّعنا شهر رمضان المبارك قبل يو مين الاّ وأن أتقدّم بخالص تهانييّ وتبريكاتي بعيد الفطر السعيد سائلاً الله جلّ و على أن يتقبّل أعمال الشعوب الاسلامية عامّة و بالاخص شعبي العراقي , يتقبل اعماله من صيام و قيام و مكابدة و مصابرة على ما تحمّل و ما مرّ و يمرّ به من فتن و قتل و تفجير و أزمات أمنية و اقتصادية , مهنّئاً نفسي و ايّاهم ببروز أمل جديد و نور انبثق و سطع من جبل فاران المقدّس معلناً التوقيع على وثيقة العهد وايقاف سيل الدماء الزكية في العراق المقدّس .
هذا العهد الذي كان موجوداً بالاصل في العراق و موقّع عليه من قبل جميع مذاهب و طوائف و اديان و قوميات العراقيين جميعاً , ولم يتعطّل في يوم من الايام , الا أن ما حدث قبل يومين في مكة المكرّمة ما هو الا توضيح الى الغرباء الدخلاء على العراق و العراقيين و للبعض القليل من العراقيين الذين انجرّوا اليهم ( للغرباء ) و لمخطّطاتهم الخبيثة في زحمة فلتان النظام و الغشاوة التي خلفتها فوضى السقوط المفاجئ .
راجين من بعض دول الجوار الذين يتدخلون بالشأن العراقي أن يكفواعن هذا التدخّل السافر بحجّة الادعاء لتحرير العراق من القوات الغازية و المحتلّة .
هذا الاحتلال الذي لم يكن وليد اليوم , بل بدأ بأستلام الدكتاتورية العفلقية الصدامية للحكم في العراق بواسطة و بمساعدة من الاجني المحتل و استمر لحد هذا اليوم , وان العراقين ليسوا بقاصرين في الدفاع عن أنفسهم و عن وطنهم و مصالحهم الوطنية و استقلالهم , الا أن لكل وقت أذانه و لكل مهمة أوانها , سائلين الله جل و على في هذه الايام المباركة ان يحمي العراق و شعبه من اشقائة , واما اعدائه فان العراقيين بأذن الله تعالى كفلاء بدحرهم , فهم كفؤ لذلك .
عود على بدء في ( الرحلة الشاميّة ) :
و أنا الزم نفسي بالتوقّف عن الاستطراد في حلقاتي ( الرحلة الشامية ) حتّى لا أقع في المحذور و اتطرّق في أمور من المفروض أن لا تسرد بكلّ هذا الوضوح , وذلك لو أننا سلّطنا الأضواء على شخص استأثر لنفسه ما هو لعامّة المسلمين أو لعامة الناس , أو تاجر بالدين و بالناس لكنّا قد ظلمناه حتماً اذا استمعنا لجهة نظر احادية ولم نستمع لجهة النظر الاخرى .
هذا أولاً , أمّا ثانياً نكون قد سلّطنا الاضواء عليه ( و هو واحد من كثير ) بدون أن نكشف و نسلّط الأضواء على أمثاله لتعذّر حصرهم جميعاً , اذ ما أكثر الذين يتاجرون في الدين و القضايا الوطنية و ينتهزون الفرض فيحقّقوا مكاسبهم الخاصة على حساب مآسي و محن العامة .
و ثالثاً : أكون بتوقـّفي هذا قد احسنت الختام حينما اسلّط الضوء على الجوانب المشرقة لمن انعقد له لواء الزعامة الدينية ( و أنا أتحدّث هنا عن الشام ) فأحسن اداء هذه الزعامة و ادّى تكليفه الشرعي و الوطني كما يحب الله و يرضى .
فأذكر منهم مروراً بالسيد عبد الحسين شرف الدين و الشيخ محمد جواد مغنية رحمهم الله , والذين دعموا المجاهدين المقارعين للاستعمار الفرنسي لبلاد الشام آنذاك , بل كانوا نقطة التقاء الامّة و بيضة القبّان في وحدتها و التفافها حول القواسم الوطنية المشتركة , اذ ما أحوج المسلمون في تلك الايّام العصيبة الى أن يجتمعوا و يتوحّدوا على قواسم مشتركة فيما بينهم كمسلمين, وفيما بينهم و بين الطوائف و الاديان الاخرى كمواطنين .
أنا شخصيّاً كاتب هذه السطور مدين بما أملك من ثقافة اسلامية بسيطة , أدين لكتب الشيخ محمد جواد مغنية , اذ كلما استعصى عليّ فهم موضوع فقهي في العبادات و المعاملات و التبس عليّّ مفهوماً لمذهبين اسلاميين مختلفين التجأت الى كتاب الفقه على المذاهب الخمسة للشيخ مغنية رحمه الله , و كلّما وسوس اليّ شياطين التكفير بنشراتهم الالكترونية المأجورة و الواسعة الانتشار هذه الايام التجأت لكتاب ( المراجعات ) للسيد عبد الحسين شرف الدين رحمه الله , لأجد ثوابت ولاء الامّة بجميع طوائفها لكتاب الله و سنّة نبيه و عترته الطاهرة ( آل بيت نبيه (ص) , عندها أجد أن الاسلام رقم صعب لا يقبل القسمة الاّ على نفسه مهما حاول تقسيمه التكفيريون طلاّب الدنيا المتحجّرون , عملاء الاجنبي و مهما بذلوا من جهد جهيد .
حقّاً انّ ما نلاحظه اليوم من وعي ديني و تلاحم وطني و ذكر طيب لآل البيت (ع) في عاصمة بني امية , حقّاً انها لمعجزة و نتاج بركة دعاء عقيلة بني هاشم ( السيدة زينب ) عليها السلام , حين تضرّعت الى الله تعالى و هي تخاطب الطاغية المتغطرس يزيد بن معاوية في مجلسه وهي اسيرة لديه قائلة له :
( يا يزيد فوالله لا تمحوا ذكرنا , ولا تميت وحينا , فما هي ايامك الاّ عدد وما ملكك الا الى بدد ) , فأستجاب الله لها ما ارادت .
السيد محسن الأمين :
السيد محسن العاملي الأمين رحمه الله , هو ذلكم العلم العظيم , الطود الشامخ و المصلح الكبير , مجدّد فكر أهل بيت الرحمة (ع) في بلاد الشام سكن . في منطقة الشاغور في الشام و الذي اتخذ الحي الذي سكن فيه اسمه , حيث سمى بـ ( حي الأمين ) فيما بعد .
هو ذلك العالم الثائر في علمه , الغير مجامل في دينه و عقيدته و اجتهاده , تحمّل الأذى في جنب الله وفي مرضاته من أقرب الناس اليه , حيث حاربه أبناء جلدته من تجّار المذهب .
كبار السن و الشيبة يذكرون أيامها حينما كانت تجوب مواكب العزاء الحسيني شوارع النجف الاشرف آنذاك , هذه المواكب التي كانت تتألّف من اناس غوغاء غرّر بهم وغسلت أدمغتهم و شحنوا بالحقد الدفين على السيد محسن الأمين (رح ) , فهم كالببغاوات التي لا تفقه ما تقول , كانت هذه المواكب تكيل السباب الرخيص و الكلام البذيئ على السيد الأمين , و ( الذي ليس بوسعنا أن نذكره لما فيه من بذائة و قذارة ) .
أمّا قصيدة ما يسمّى بأمير المنبر الحسيني بالنجف ألأشرف فنذكر مطلعها لأنها نشرت في أدبيات تجار المذهب و هي مشهورة المطلع حيث يقول :
( يا راكبا واذا مرّرت بجلّق .... فابصق بوجه أمينها المتزندق ) . والعياذ بالله .
كل ذلك الحقد الدفين لأن السيد محسن الأمين رحمه الله كان قد حارب البدع , وحارب الاتجار في الدين , فكان السيد الأمين يأكل من كدّ يمينه و عرق جبينه , كان قد نصب نولاً للنسيج في داره في الشام , تلك الدار الصغيرة التي لا تتعدّى الغرفتين , فكانت الغرفة الاولى لعمله بالنسيج و الثانية لمعيشته , كان السيد ينسج بنفسه القماش الدمشقي ( الصاية ) و يأكل من أرباح اتعابه , ثم يدفع بالزكاة و الخمس المتأتيين من وارد عمله هذا الى الجمعية ( جمعية الاحسان ) التي أنشأها من أخيار و ثقاة دمشق حاله حال بقية تجار و كسبة دمشق , وبذلك كان بعيداً عن الاتجار بالدين .
السيد محسن الأمين هو ذلكم الرجل الذي أرسل في طلبه الحاكم العسكري الفرنسي بالشام , الإ ان السيد الأمين أبى أن يمتثل بين يديه , وأجاب على طلب االحاكم الفرنسي :
بأننا علماء الدين الاسلامي لا نقف على أبواب السلاطين و الملوك و الحكام , مّما حدى بالحاكم الأجنبي أن يأتيه بنفسه الى ( دكانة يوسف ) حيث دار السيد الأمين صغيرة و تتألّف من غرفتين , غرفة للمعيشة و غرفة أخرى للعمل اذ نصب بها نول النسيج , ولا تتسع الدار لأستقبال الضيوف , ولذلك كان السيد الأمين يستقبل ضيوفه و مريديه في محل يوسف الحلاّق ( دكّانة يوسف ) الواقعة قرب الدار في بداية سوق مدحت باشا من جانب الشاغور و التي تقع المدرسة المحسنية اليوم قبالتها .
قدم الحاكم العسكري الفرنسي الى السيد و معه مشروع يسلّم الحكم فيه الى الشيعة في الشام , ويكون السيد محسن الأمين فيه على رأس الدولة السورية .
و بعد طرح المشروع امام الناس , اذ رفض السيد الامين أن يكون اللقاء سرياً أو بعيداً عن الملأ . وبمجرّد سماع ذلك انتفض السيد الأمين بوجه الحاكم الفرنسي قائلاً له :
اننا مسلمون , ولا فرق عندنا بين الشيعة والسنة , فكلّنا اخوة , وأنني أتشرّف بأن أكون من رعايا دولة مسلمة سنيّة وأضع كلّ امكانياتي في خدمتها و تحت تصرّفها , ولا أتشرّف باستلام حكماً من الاستعمار الفرنسي . واذا كان لنا طلب من فرنسا , فالمطلوب منها أن تخرج من الشام بدون قيد أو شرط .
أمّا الجمعية الخيرية ( جمعية الاحسان ) التي انشأها السيد الأمين بالشام و اسند ادارتها و رعايتها الى وجهاء و سعاة خير و اصلاح , انتجت هذه الجمعية عدة مدارس للاولاد و البنات , ومن المراحل الابتدائية حتى الثانوية العامة و نادي للرابطة الادبية و مجموعة من المؤسسات الاجتماعية التي ترعى شؤون المواطنين و التي لا مجال لحصرها جميعاً.
يروي كبار السن في الشام قصة انشاء مستشفى المجتهد بدمشق فيقولوا :
لم تكن في عموم الشام غير مشفيّين احدهما يسمّى المشفى الايطالي و الثاني هو المشفى الفرنسي .
و أبان حكومة شكري القوتلي , دعى رئيس الوزراء شكري القوتلي مشايخ الدين الى مأدبة أفطار في أحد أيام شهر رمضان الكريم فلبّى المشايخ طعام الافطار على مائدة رئيس الوزراء .
و بعد النتهاء من الافطار طلب منهم رئيس الوزراء أن يطلبوا ما يشاؤوا من طلبات يقدر أن يخدمهم في تلبيتها لهم , فطلب أحدهم قرض لشراء دار , وطلب الثاني على سبيل المثال مطلباً شخصيّاً ....الخ .
وكان السيد الأمين آخر المتحدثين , فطلب من رئيس الوزراء أن يخصّص لهم قطعة أرض و أجازة ( رخصة ) في أنشاء مستشفى عام للناس في الشام , وابلغه بأن كل الاطباء و الكادر الطبي أضافة للمبالغ المالية التي يتكلفها المشروع موجودة تبرعاً من الحقوق الشرعية المخصصة اساساً لمثل هكذا مشاريع للنفع العام .
فرح رئيس الوزراء بهذا الاستعداد العملي عند السيد الامين و اجابه على الفور بموافقته و فعلاً بوشر بالايام التي تلتها بالموافقات الرسمية , ثم العمل للتنفيذ , وما هي الاّ اشهر و يكتمل البناء , وتجهّز المستشفى احدث تجهيز و يستعد العاملون على افتتاحها ثم يحين يوم الافتتاح و يأتي رئيس الوزراء شكري القوتلي بصحبة السيد محسن الامين , ليتفاجأ السيد الأمين بأن أسمه قد وضع على أعلى بوابة المستشفى حفراً على المرمرة التي لصقت فوق البوابة ومكتوب عليها ( مستشفى الأمين ) , عندها تراجع السيد الأمين و لم يرضى أن يقص الشريط و يبدأ العمل في المستشفى الاّ بعد أن يرفعوا أسمه من على بوابتها .
و بالفعل ارضاءاً له سميت المستشفى بمستشفى المجتهد تيمناً بمجتهد الشام ( السيد محسن الامين رحمه الله ) .
يشهد الله بأن ما سأذكره سمعته من يهودي شامي و من مسيحي شامي , كانوا يشاهدون معي فلماً وثائقياً بالابيض و الاسود و بطريقة التصوير القديم لموكب تشييع السيد الأمين و توديعه الى مثواه الأخير , وكان جاري بسام الراعي ( صاحب محل تسجيلات و فيديو ) في زقاق المدار هو الذي يعرض علينا هذا الفيلم الوثائقي الذي يظهر فيه القسسه المسيحيين و رجال دين يهود يشاركون المسلمسن في تشييع فقيدهم السيد محسن الامين رحمه الله .
فرووا لي ( المسيحي و اليهودي ) سر بكاء ابناء طوائفهم مع المسلمين فقيدهم السيد الامين .
و ذلك لأنهم أكلوا الخبز من يديه ايام المجاعة التي خلفت نهاية الحرب العالمية الثانية و ضغطت هذه المجاعة على ابناء الشام جميعاً لولا نجدة السيد الامين لهم مسلمين و نمسيحيين و يهود من غير تمييز .
السيد الأمين الذي ما ان مرّ على الحرب العالمية الا بعض الوقت ليدرك بفطنته و حدسه ما ستئول اليه الاوضاع مستقبلاً , و بدأ بشراء الحبوب و القمح من الاسواق العالمية ومن المزارعين , ودفع اثمانه من الحقوق الشرعية التي كانت قد جبتها الجمعية الخيرية , و خزن هذا الطعام في المخازن و البيوت و الخانات المملوكة للجمعية .
و حينما اصيبت الشام بالقحط آخر و بعد الحرب العالمية انشأ السيد الأمين فرناً للخبز ( و لا يزال الفرن قائماً لحد ألآن و أسمه فرن الهب الحسينية ) مجاوراً لمسجد وجامع الزهراء في شارع مدحت باشا .
أمر حينها السيد الأمين باخراج تلك الحبوب المخزونة و طحنها و خبزها و توزيعها على عموم الناس في الشام من دون تفريق بين مسلم أو يهودي أو مسيحي .
ختاماً عزيزي القارئ الكريم :
أنا كاتب هذه السطور لم يربطني بالشام و لا باهلها اي نسب أو مصاهرة , كما لم يربطني بالسادة الكرام الذين وردت أسمائهم في مديحي لهم اية قرابة أو معرفة مسبقة , ولا حتى اية استفادة أو منفعة مادية لي معهم , و لكنها كلمة حق يجب أن تقال في حق خير الناس الذين هم انفعهم للناس .
هؤلاء أصحاب المروئة الذين وجدت فيهم ارواح آبائنا و أجدادنا في النخوة و الشهامة و الكرم و الاباء والاخلاق الحميدة , و الذين حين اقارنهم بتجار الدين و الدنيا في أيامنا هذه لا يسعني الا أن اصرخ بوجوههم بما قاله الفرزدق لجرير :
اؤلئك آبائي فجئني بمثلهم ..... اذا جمعتنا يا جرير المجالس .
و دمتم لأخيكم
.
امستردام في 23-10-2006
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟