أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله (2)















المزيد.....

سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله (2)


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 7554 - 2023 / 3 / 18 - 14:26
المحور: الادب والفن
    


قصة البقلاوة والقضاء المستعجل
كل ذلك كان في صيف 1983، قبل أن يعرف العالم ما يعرفه اليوم من تواصل رقمي يمكن للإنسان بواسطته أن ينقل في غضون ثوان، كتاباً من طرف الدنيا إلى طرفها الآخر. ما حدث في ذلك التاريخ أن جلال حاول، بتكليف من الحزب، أن ينقل علبتي بقلاوة ملغومتين بالمنشورات، من دمشق إلى حمص. البقلاوة الشامية متميزة ولا غرابة أن يأخذها مسافر من دمشق إلى حمص. لن يثير هذا انتباه موظفي بولمانات النقل العسكري. لكن سارت الأمور على غير ذلك.
هل ظهر على جلال ارتباك أثار ريبة الموظف؟ هل كانت هناك وشاية ما؟ هل لأن علب البقلاوة كانت مشبوهة حينها بوصفها وسيلة لتهريب المنشورات؟ مهما يكن، فقد كانت تلك الحادثة هي البداية المشؤومة، أو هي نقطة التحول في حياة دزينة من الأشخاص مع عائلاتهم. كل شيء بدأ حين طلب الموظف من جلال أن يريه قاع علبة البقلاوة. في لحظة تخيل ذلك الشاب العشريني التتمة "الطبيعية" للقصة: اكتشاف المنشورات، الاعتقال، التعذيب ... الخ، فاختار أن يترك كل شيء، على الفور، وينطلق هارباً بأقصى ما يستطيع من سرعة. لحق به بضعة موظفين ولكنه كان الأسرع، فهو شاب معافى في العشرين. فقط لولا أن هويته سقطت من جيب قميصه، وعاد لالتقاطها. هكذا تقلصت المسافة التي تفصله عن مطارديه، فتمكنوا منه. نضارة التجربة جعلته يخسر ما أكسبته إياه نضارة الجسم. انتهى به الأمر في فرع التحقيق المباشر في الميسات، التابع لشعبة الأمن السياسي. سوف نسخر في السجن مراراً من سوء التقدير هذا: "هويتك معروفة من حجز البولمان يا رجل، ما الغاية من عودتك لالتقاطها، لو أكملت ركضك لما كنا محشورين هنا الآن، يلعن أبو الهويات"، "يا لك من حريص، ألم تجد مكاناً تضع فيه الهوية سوى جيب القميص المفتوح"؟
كان جلال ضمن دائرة الأصدقاء الذين قرروا قراءة الكتب ومناقشتها معاً، ولكنه سقط معتقلاً لأمر لا يتصل بما اتفقنا على تسميته "مجموعات ثقافية". والحقيقة أن السياط لم تستطع فك صمته. فذهب المحققون إلى بيت أهل "مهرب البقلاوة" واستفسروا من أهله عن أصدقائه، فلا بد أن يكون أصدقاؤه من محبي البقلاوة أيضاً. وهكذا انتشرت الدوريات الأمنية في كل مكان، كالقضاء المستعجل. في معسكرات التدريب الجامعي، في القرى، في المدن، في كل مكان.
القضاء المستعجل أدرك وائل وناصر ونبيل في بيوتهم واقتادهم إلى الفرع، الفرع الذي يمتد إلى كل مكان ويجد أصله في القصر (غير) الجمهوري، كما كان يقول زميلنا في السجن، الشاعر الراحل عدنان مقداد الذي كتب مرة عن اعتقاله: "فقط حين تعلق الأمر بي، كان كل شيء جاهزاً، السيارات والبواريد والعناصر وأجهزة الاتصال ... كل شيء، فقط حين تعلق الأمر بي".
القضاء المستعجل أدرك أيضاً برهان وعبد الحميد في معسكر التدريب الجامعي في الديماس، (الموضوع كله سؤال وجواب وتعودان لإكمال المعسكر). قبل سنة من هذا، أي في 1982، وقبل قصة البقلاوة، كنت في المعسكر الجامعي نفسه، واستيقظنا على حركة سيارات شاحنة عسكرية مترافقة مع صراخ مسؤولي المعسكر: "الكل يضب اغراضه بسرعة ويتجه إلى السيارات على الحارك. بسرعة". كان هناك قضاء مستعجل آخر اسمه إسرائيل، يحاصر بيروت وتحتل طائراته السماء، وخشية أن يقصف المعسكر الجامعي في الديماس لقربه من الحدود اللبنانية، جرى نقل المعسكر إلى الضمير (الضاد ساكنة لكي لا يختلط الأمر).
أما نور الدين، وكان في التاسعة عشرة من عمره، فقد كبست عليه الدورية بينما كان في بيته ساهياً عن كل هذه الأمور، بل كان يتشاجر حينها مع أخيه لسبب ما. تضاءل شأن الشجار وانطفأ على وقع خطى عناصر مسلحة تدخل البيت. عاد العناصر إلى السيارة ومعهم نور المدهوش وتحت أنظار أهله المذهولين. لكن ما حدث بعد قليل كان غريباً. فقد توقفت فجأة سيارة الدورية التي اعتقلته، وطلب رئيس الدورية من نور أن ينزل من السيارة ويعود إلى بيته. أفرجوا عن نور قبل أن يصلوا به إلى الفرع. كانوا قد ابتعدوا مسافة لا بأس بها عن البيت، وسأله رئيس الدورية: هل تستطيع أن تعود وحدك إلى بيتكم؟
عاد نور إلى البيت وهو بين دهشتين، دهشة اعتقاله ودهشة الإفراج المفاجئ عنه. استوى الأمر في نفسه على أن خطأ ما قد وقع ثم جرى تصحيحه. ولكن في المساء عادت الدورية لاقتياده ثانية إلى الفرع دون توقف هذه المرة. إلى اليوم لا يعلم نور سر تلك الحركة. هل هي تكتيك لمراقبته مثلاً، من أجل كشف الصلات واعتقال المزيد من الناس؟ أم أنها بالفعل قرار مفاجئ بالتراجع عن اعتقاله، ثم جرى التراجع عن التراجع، أم ماذا؟
امتد فرع التحقيق بعيداً، فوصل إلى السويداء على شكل سيارات تويوتا عالية نصفها العلوي بلون أبيض والسفلي بلون أحمر، سيارات عادت إلى دمشق بعد أن قطفت صديقين هما حسن وخير، قطفتهما من الأرض حيث كانا يساعدان الأهل في العمل. وامتد الفرع بعد ذلك إلى حمص، وعادت السيارات بصديقين آخرين هما محمد وعلي، وبعد ذلك امتد الفرع إلى أبعد من ذلك، فوصل إلى ريف اللاذقية، حيث أخذتني سيارة تويوتا بلون العلم البولوني أيضاً، سلمتني إلى دورية أخرى في اللاذقية، وهذه بدورها قطعت 400 كم، وسلمتني إلى دورية في دمشق.
بادرني رئيس دورية دمشق، الذي يبدو أنه يعرف قصة البقلاوة، ولديه شيء من حس الفكاهة، بادرني بالسؤال هل أنت ممن يحبون البقلاوة أم ما تحت البقلاوة؟ وأتبع سؤاله بضحكة صاخبه تنم عن إعجاب بالذات، وجاراه بالضحك عناصر المفرزة دون أن يعرفوا، على الأغلب، شيئاً عن القصة.
كانت أيام عيد الفطر، وكنت في تلك اللحظة المشؤومة التي وصل فيها عناصر الدورية إلى بيتنا في القرية، في سهرة عامرة مع أهلي وأخوتي المجتمعين بمناسبة العيد. كنت في لباس الخروج، فأنا لا أحب لبس البيجاما إلا في النوم. قميص أزرق غامق يميل إلى البنفسجي (كان القميص في الحقيقة لأخي أكرم وقد أعارني إياه رغم حبه له، فمن أين له أن يعلم أنه سيخسره إلى الأبد)، مع بنطلون جديد أسود، وحذاء رمادي اللون دون رباط، مزين على مشط القدم بخيطين ناعمين من الجلد يخرجان من نقطة واحدة وينتهي كل منهما بكرة رمادية صغيرة (شيء يشبه أحذية الأطفال ولكنها كانت أحد مذاهب الموضة حينها). كان يكفي إذن أن أنهض وأرافق مندوبي القضاء المستعجل إلى سيارتهم. لا يستوجب الأمر أي شيء آخر، فأمام ثقل حضورهم، تختل الموازين، وتخرج بلا وداع ولا حتى التفاتة إلى الخلف لن يكون لها من قيمة سوى إثقال قلوب الأهل، وإثقال قلبك بما سترى من نظرات مكسورة في عيونهم. حتى أمي التي كانت غافية بجانبنا على أصوات سهرتنا، لم تدرك ما جرى إلا بعد أن احتوتني تلك السيارة ذات اللونين.
في غرفة في قبو، بينما هم يصادرون ما تجب مصادرته مني (ساعة اليد، بضع قطع من النقود، حزام البنطلون، لا يوجد شيء آخر)، يصل عنصر وبيده حقيبة نسائية ويقول للمحقق: "تم إحضار المدعوة سناء وهي فوق سيدي". وعندما أفرغ الحقيبة على المكتب، بناء على طلب المحقق، خبط على المكتب، إلى جانب المحتويات العادية الأخرى، مسدس عسكري. فوجئ المحقق، وحين استفسر علم أن سناء هي من المظليات اللواتي يحظين بعناية خاصة من "القائد"، حينها كانت هذه الكلمة تحيل إلى شخص واحد واسع السلطات والتطلعات اسمه (رفعت الأسد) الذي سيقوده طموحه بعد أكثر من سنة إلى القيام بتمرد فاشل على أخيه (حافظ الأسد).
صمت المحقق لحظات ثم قال: "لا بأس، أعد الحقيبة إلى صاحبتها وافرجوا عنها. أما "الدكتور" (قال الكلمة بسخرية ونظر إلي مع ابتسامة متوعدة) فضعوه في المنفردة رقم 8.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب في أوكرانيا، سياسة -بناء- الأزمات المستعصية
- فشل الانفتاح العربي على دمشق
- إسكوبار في -ناركوس-، تاجر مخدرات بعقلية صاحب قضية هل يمكن لل ...
- رفع العقوبات الأمريكية والعقوبات الأسدية
- الزلزال بين السياسة والوجدان
- سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله
- بين سلطتين، الاحتلال والاستبداد
- عن تزايد العمليات الفلسطينية الفردية
- عن ثلاثة حروف منفصلة تتصل بحياتنا
- ملاحظات على الاحتجاجات في فرنسا
- هل يكون الفشل السوري منطلقاً للنجاح؟
- في امتناع وجود معارضة سورية
- عقدة المرحلة الانتقالية في تونس
- الرياضة بوصفها غشاً وسنداً
- احتجاجات السويداء، ليس لدى الأسد سوى الرصاص
- أين هم شيوعيو الأمس؟
- تفكيك الاستبداد في السودان
- عن تماسك معسكر النظام في سورية
- -العاقل-، إله تائه يبحث عبثاً عن الرضا
- مأزق الجيش في السودان


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله (2)