أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عباس عبيد - هشاشة العالم: تأمل في كارثة الزلزال















المزيد.....

هشاشة العالم: تأمل في كارثة الزلزال


عباس عبيد
أكاديمي وباحث.

(Abbas Obeid)


الحوار المتمدن-العدد: 7534 - 2023 / 2 / 26 - 23:13
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


يبقى غضب الطبيعة هو الأبرز من بين كل الموضوعات التي لا نمنحها وقتاً كافياً للتفكير، إلى أن تحل بساحتنا. كأننا نهرب من تخيل جموحها المفاجئ، نرتعب من قسوتها الهائلة حين تبطش في لحظات الكوارث. ربما لأنها ستكشف لنا عن ضعفنا الميتافيزيقي، عن حقيقة عالمنا كما لم نعرفه من قبل، تجعلنا ندرك مدى هشاشته، وكم هو فاقد للمعنى.
نحن البشر متشابهون في أشياء كثيرة، سواء أكنا من كهرمان مرعش التركية، حيث فتك الزلزال بكل ما على فوق الأرض، أم من حلب السورية التي أكمل فيها جبروت الطبيعة تدمير ما نسيته الحرب الأهلية، أو من بغداد، أو بيروت، أو حتى بورت/ برنس عاصمة هايتي، لا فرق أبداً. نطلب من مهندس البناء تدعيم أسس بيوتنا بمزيد من الحديد والخرسانة. نحلم بأن تصمد، وأن تبقى صالحة لسكن الأحفاد. إن أسوء الكوابيس التي يمكن تخيلها هو أن تأتي لحظة غير متوقعه لتجعل فردوسنا الآمن جحيماً، أن يقوم زلزال ما بتحويل بيت طفولتنا الموروث من آبائنا، أو الذي لم ندخر جهداً ومالاً لتشييده بأنفسنا إلى قبر ينهار فوق رؤوس أحبتنا وهم أحياء.
ذلك الإنسان الذي كان خارج البيت لحظة انهياره هل نعتبره إنساناً محظوظاً أم سيء الحظ للغاية؟ لنتخيل أن عائلته السعيدة طلبت منه أن يشتري لها من السوبر ماركت القريب خبزاً، أو بضع علب الكوكاكولا، وحين عاد بعد دقائق، وجد أسرته تحت الأنقاض. لحظتها سيتمنى لو أنه لم يطلب تدعيم بيته بالإسمنت والحديد، بل سيتمنى لو لم يقم ببنائه أصلاً، لو كان البيت مجرد خيمة، كل ما يقوى عليه الزلزال هو أن يوقعها، خيمة بسيطة من قماش، لا يحتاج التعامل معها لفريق إنقاذ ولا معدات، خيمة يرفعها بنفسه، بيد واحدة فقط، ليجد أفراد عائلته بصحة، وأمان تام.
هل ما أكتبه هنا هو تأمل فلسفي؟ لا أعرف، فالفلسفة برغم تراثها الباذخ ذي المسحة الإعجازية تبقى هشَّة هي الأخرى. ولعل إحدى مآسيها هو في كونها غير قادرة على تعريف المأساة، ربما لأن معناها لا يحتاج إلى شرح أصلاً. المأساة فلسفة بحد ذاتها، فلسفة تهزأ -لفرط بساطتها- بتكهنات المثاليين والماديين. إنها مؤقتة مثل الزلزال، تباغت ثم تنسحب، لكنها مثله أيضاً تترك خلفها آثار الخراب، في النفوس، كما في المباني. نعم. ستخلف لنا جوهرها، أو فحوى شعريتها، إن جاز لنا تذكر نماذج التراجيديا، تلك التي لم يعد لها مكان في أدب الحداثة، وما بعد الحداثة. ما استمر منها فقط هو جذرها الأكثر إيلاماً، الحزن الذي ينتاب الروح بين حين وآخر، حتى وهي في أوج لحظاتها سعادة وأمنا. مع ذلك. لا شيء مثل الكارثة يمنحك فرصة للتأمل.
بالمناسبة، لا يوجد أبطال فرديون في المآسي الناتجة عن كوارث الطبيعة، فهذه الأخيرة بخلاف نماذج الفن، غير عضوية، ولا مترابطة. التراجيديا الكونية لا تحاكي فعلاً نبيلاً، ليس فيها نبلاء، ولا سوقة. هناك آلاف، وأحياناً عشرات الآلاف من الضحايا، وملايين المشردين فحسب. نحن، لحظتها، ولتعزية أرواحنا المستباحة سنقوم بالتفتيش عن بطل فردي، حتى لو لزم الأمر اختراعه، أو صنعه على عجل.
وهنا، علينا أن نستبعد من تفكيرنا جميع نجومنا الأكثر شهرة: الساسة، رجال الدين، لاعبي كرة القدم، فناني السينما والغناء، صناع المحتوى في اليوتيوب والفيسبوك. نريد بطلاً يكون قريباً جداً من ركام ما نتج من خراب، أو خارجاً من أنقاضه/رماده بالأحرى.
لا أفضل من صور الصمود الاستثنائي لأحد الناجين، كمثال الطفل الرضيع الذي صمد لستة أيام متواصلة تحت أنقاض مبنى إنهار فوق جسده الصغير في مدينة هاتاي التركية، أو كمثال المتطوعين، وفرق الإنقاذ، وبعض منهم غامر بحياته لينقذ روحاً إنسانية، أو قطة، أو حتى كلباً دفنته الحجارة. ببساطة، كلما كان وقع المأساة ثقيلاً اشتدت حاجتنا لعزاء روحي، ليد رحيمة تربت على أكتافنا، لمصدر إلهام يقول لنا بصوت مليء بالثقة: يمكن إنقاذ المستقبل.
كيف نبدأ من جديد مع 36 ألف قتيل حتى الأن، مع 26 مليون إنسان تضرروا في تركيا وسوريا؟ في سوريا وحدها شرَّد الزلزال ما يزيد على خمسة ملايين من بيوتهم. لا جدال في أن العواقب المحتملة لكارثة بحجم ما حصل ستتعدى الحدود الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، ستمس بالصميم حدود علاقة الذات بالكون، حتى وإن لم ينتبه لذلك الضحايا لفرط ذهولهم، ستخترق كل ما يغذي سرديات الأخلاق، وخطاب الوعظ الديني، حيث تحقق الوعد بالخلاص يتوقف على ازدياد نسبة المآسي، وحيث الزلزال -كما سائر صور الكوارث الطبيعية- ليس سوى جندي من جنود الرب. جندي مرعب، مخيف للغاية، تقع تحت سيطرته أسلحة فتاكة تهزأ بأقوى القنابل النووية "فاق عدد ضحايا زلزال هايتي في العام 2010 مئتي ألف ضحية"، سيطال فتكه كلاً من الإنسان الطيب والشرير معاً. برغم ذلك، فعدالة السماء لن تُمس. ثمة حل جاهز في متناول اليد دائماً: الزلزال عقاب للأشرار، واختبار/ ابتلاء للأخيار، وموعظة لنا، نحن الذين نرقب هول ما يفعله عن بعد، مستريحين أمام شاشات الفضائيات في بيوتنا الدافئة، الآمنة ولو إلى حين!
لكن العوائل التي افترشت في أجواء البرد القارص ثلاثة كيلومترات من قارعة طريق في حلب، المرأة السورية المتشحة بالسواد تحديداً، تلك التي كانت تحتضن رضيعاً، وتلوذ بها ثلاث فتيات أكبرهن بحدود الثامنة من العمر لا تمتلك رفاهية لحظة التأمل، مثل التي نمتلكها نحن الآن، لا للإرث الفلسفي أو الديني. تعبت وبناتها طوال ما يزيد على عقد من تقاتل عشرات الآلاف من المحاربين، أولئك الذين أمعنوا في تدمير سوريا الجميلة، وكلهم يدعون أنهم "جنود الرب" أيضاً. كانت قد بدأت بعد ليلتين باردتين انخفضت فيهما درجة الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي بحرق بعض قطع الملابس في علبة صفيح، لتوفر الدفء لبناتها. لم يكن بقربها أي بديل آخر، لا حطب، ولا حتى نفايات.
من المؤكد أيضاً أن المرأة الحلبية لم يسبق أن سمعت شيئاً عن التفسير الأسطوري لحدوث الزلازل كما يقدمه الفلكلور الياباني، ذاك الذي تروي حكاياته أن هناك سمكة سلور/ قرموط عملاقة، تعيش في جوف الأرض، وأن أدنى حركة مفاجئة لها ستتسبب بزلزال أرضي هائل. ربما لو كانت قد سمعت بالحكاية، لو خطرت ببالها وهي ترقب حال بناتها جائعات مرتجفات لكان التداعي قد قادها لتخيل السمكة وجبة غذاء تعدها لصغيراتها، حتى وإن كانت بحجم سمكة الزينة التي نزين بها غرفة المعيشة، فهي قد ذكرت لمراسل إحدى الفضائيات الشهيرة أن عائلتها لم تحصل طوال اليومين الماضيين إلا على "ربطة خبز" واحدة. وحين سألها إن كانت تريد أن تناشد الدول والمنظمات، أجابت بجملة واحدة فقط: أريد خيمة لبناتي.
من جديد، تعود الخيمة لتصبح أمنية غالية. وقد كانت كذلك لآلاف وملايين المرات. كأننا عدنا بدائيين. السياسيون، سلطة ومعارضة، ومعهم المرابون، وتجار الأزمات لن يوفروا لأحد خيمة بالمجان. بابا نويل وحده هو من يهدينا في ليلة رأس السنة الباردة هي الأخرى هدايا بلا فواتير. أما منطق أولئك فهو يقوم على المقايضة المباشرة، في أيام الكوارث، كما في سواها، وعلى خبث انتهازي لا يتورع عن استثمار المأساة نفسها بجشع غير إنساني بالمرة.
لا بأس أيتها السيدة الفاضلة. ستحصلين على ما صار حلماً. لن يعجز ضمير العالم عن تدبير خيمة لك، قبل أن تجبري على تدفئة بناتك بآخر قطعة ملابس، خيمة ترممين فيها هشاشة عالمك، عالمنا برمته، ريثما تعودين لتدعيم أساسات بيتك المهدم. السر الذي سيهبك القوة هو نفسه الذي لا يزال يدفع حتى الآن بنبلاء حقيقيين لمواصلة البحث عن ناجين، برغم مرور ستة أيام على حصول الكارثة، بآخر ما تبقى في صندوق باندورا الذي انطلقت منه كل الشرور إلى العالم، بأقوى ما واجه به الإنسان كوارث الطبيعة، وتلك التي صنعها توحش الطغاة: الأمل.



#عباس_عبيد (هاشتاغ)       Abbas_Obeid#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا لو حدث زلزال في العراق؟
- دولارات وسيارات: من أحرز كأس خليجي 25، ومن وضعه في خزائنه؟
- حياة أخرى عند جذع النخلة: رسائل خليجي 25
- كأس العالم المقدسة: كرة القدم بوصفها ديناً
- حكمة نابليون: هل يمكننا جعل التعليم ممتعاً؟
- زقورات وغناء وسَرديّات مؤسِّسة: عن هوية العراق وأور التي زار ...
- امتحان بلا مراقبة: عن التعليم الإلكتروني في زمن الكورونا
- هل كان إلكترونياً حقا؟ عن التعليم في زمن الكورونا
- من الألواح الطينية إلى الوسائط الذكية: عن التعليم في زمن الك ...
- فيصل الأول: أنْ تبني دولة من نقطة الصفر 1 – 2
- فيصل الأول: أنْ لا يحتفي بمئوية الدولة التي أقمتها أحد 2 – 2
- المتحف العراقي بعد سباته الطويل: كيف ندير تراثنا الثقافي؟
- كيف أنصتُّ وأصدقائي الثمانية لأغاني عشتار: عن لميعة عباس عما ...
- الملياردير الذي أكل لوحة الموناليزا عن جيف بيزوس ورحلاته الف ...
- الملياردير الذي أكل لوحة الموناليزا عن جيف بيزوس ورحلاته الف ...
- كلكامش في الهوبي لوبي: من سرق لوح الحلم، وكيف عاد إلى العراق ...
- أخطاء النخبة وفن التسامح: من يحزر أين أور؟
- ألو، هل يوجد محتفلون؟ عن مئوية الدولة العراقية


المزيد.....




- السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية تسوق للحج التجاري با ...
- اسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت إلى كييف ومركبات مدرعة ودب ...
- السعودية.. إغلاق مطعم شهير في الرياض بعد تسمم 15 شخصا (فيديو ...
- حادث جديد يضرب طائرة من طراز -بوينغ- أثناء تحليقها في السماء ...
- كندا تخصص أكثر من مليوني دولار لصناعة المسيرات الأوكرانية
- مجلس جامعة كولومبيا الأمريكية يدعو للتحقيق مع الإدارة بعد اس ...
- عاجل | خليل الحية: تسلمنا في حركة حماس رد الاحتلال على موقف ...
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيّرة أمي ...
- بعد الإعلان التركي عن تأجيلها.. البيت الأبيض يعلق على -زيارة ...
- ما الذي يحمله الوفد المصري إلى إسرائيل؟


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عباس عبيد - هشاشة العالم: تأمل في كارثة الزلزال