أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عباس عبيد - الملياردير الذي أكل لوحة الموناليزا عن جيف بيزوس ورحلاته الفضائية (2 – 2)















المزيد.....


الملياردير الذي أكل لوحة الموناليزا عن جيف بيزوس ورحلاته الفضائية (2 – 2)


عباس عبيد
أكاديمي وباحث.

(Abbas Obeid)


الحوار المتمدن-العدد: 7226 - 2022 / 4 / 22 - 00:00
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


موجة الإدانة الغربية: نفي الرأسمالي الشرير
لعل موجة الإدانة الشعبية الكبيرة ضد رحلتي جيف بيزوس هي أول ما يمكن تأشيره في وسائل التواصل الاجتماعي الغربية. كانت تلك الموجة قد سبقت يوم الرحلة الأولى بما يقرب من شهرين. إذ بدأت مع الإعلان الأول عنها. وقتها حدد جيف بيزوس اليوم الموعود، وأعلن أنَّ أخاه مارك هو واحد من ثلاثة سيكونون رفقاء له. لكنه لم يعلن عن الاسمين الآخرين. وكأنَّه بذلك يتعمد إثارة التكهنات ليكسب رحلته زخماً إعلامياً مؤثراً. وسرعان ما راحت ردود الأفعال المعارضة لها تتزايد. في البداية، جاءت أولى الردود وأكثرها شهرة من موقع "change.org" آخذة شكل عرائض مناهضة، تم الترويج لها، وحثُّ الناس للتوقيع عليها. حملتْ العريضة الأولى التي ظهرت مطلع شهر يونيو عنواناً مثيراً: "لا تسمحوا لجيف بيزوس بالعودة إلى الأرض". وجاء فيها: "يجب أنْ لا يتواجد أصحاب المليارات على الأرض أو في الفضاء. وفي حال اختاروا أنْ يكونوا في الفضاء فيجب أنْ نتركهم هناك". نجحت العريضة باستقطاب الكثير من المؤيدين، وراحت أعداد الموقعين عليها تتزايد يوماً بعد يوم، حتى بلغت عشرات الآلاف، لتصبح بذلك أكثر العرائض التي تم تبنيها من قبل رواد الموقع المعروف بميوله اليسارية واهتمامه بثقافة البوب.
إنَّ ردود الأفعال الغربية تجاه رحلة بيزوس تبدو فعلاً مقاوماً، له سمات شعبية. فعلاً يندرج في إطار وعي إيجابي، يحارب الميل للاحتكار، والتغول في الثراء لدى جيف بيزوس. لقد كان هناك هدف محدد، يتمثل بالرغبة بتحسين شروط الحياة للشرائح الشعبية الفقيرة، لاسيما تلك التي تعمل في شركات جيف بيزوس، ولا تتقاضى من الأجور ما يتناسب والجهد الكبير الذي تقدمه. بعض التعليقات قالت بصراحة إنَّهم يُعامَلون كالعبيد، وإنَّ جيف بيزوس لم يكن لينجح بالصعود إلى الفضاء لولا أنه قد صعد على أكتافهم أولاً. وقد تناقل رواد موقعي فيسبوك وتويتر رسوماً كاريكاتورية تجسد ذلك.
ولأنَّ فن السخرية خير وسيلة لمواجهة ما يبدو خصماً صلباً فقد كانت هي السبيل الأمثل لتوجيه نقد ممض ومؤثر، عبر وضع الحدث وصاحبه في سياق تغريبي جسَّدته العريضة المتقدمة. والأمر ذاته تكرر في عريضة ثانية، ضمن الموقع ذاته، جاءت تحت عنوان (نريد أن يشتري جيف بيزوس الموناليزا ويأكلها). كان مَنْ أسَّس لها رجل من ولاية ماريلاند الأمريكية يدعى كين باول. وهو يصف فكرته عن المحتوى الغريب للعريضة بالقول: "لم يسبق أنْ أكل الموناليزا أحد ما. نشعر بأنَّ جيف بيزوس بحاجة لاتخاذ موقف وتحقيق ذلك".
كأنَّ العريضة بمزاجها السريالي هذا تريد القول إنَّ النيوليبرالية الأمريكية قد أتاحت للأثرياء امتلاك سلطة تفوق كل الحدود، سلطة تقوِّض المعاني الأخلاقية لقيم المساواة والعدل الاجتماعي، وجميع ما حلمت به الإنسانية لآلاف السنين. الفن والجمال سيدخلان ضمن قائمة الخسائر بالتأكيد. وبالحديث عنهما، ستكون رائعة ليوناردو دافنشي هي أقرب ما يستحضره الذهن. تتذكرون جريدة الواشنطن بوست بلا شك "تأسَّستْ في العام 1877، وحصلت على 47 جائزة من جوائز بوليتزر" لقد صارت تابعة لإمبراطورية جيف بيزوس. اتصل به أحدهم، ليخبره إنَّ الواشنطن بوست معروضة للبيع، وإنَّ عليه أنْ يشتريها. فأجابه بأنه يوافق على شرائها. هذا ما حدث ببساطة قبل ثمانية أعوام. دفع جيف بيزوس مبلغ ربع مليار دولار برغم إنَّ الاستثمار في الصحافة لم يكن من ضمن اهتماماته. مع ذلك، فقد كانت صفقة رابحة، أقلّ من نصف تكلفة اليخت الأسطوري الذي يملكه. بعد هذا كله، وفي حال فكَّرَتْ فرنسا بيع لوحة الموناليزا، وراحت تمعن في المبالغة بسعر البيع فمَنْ الذي سيكون مستعداً لِتَحَمُّل ثمنها الباهظ؟ بالتأكيد إنَّ فرنسا تعتبر الموناليزا ثروة وطنية باعثة على الفخر. لكن لو تخيلنا أنها تحت تأثير ظرف ما قرَّرَتْ بيعها مقابل خمسين مليار دولار، أو حتى مئة مليار، فستستقر الموناليزا في مكانها الجديد خلف طاولة مكتب بيزوس، وستبقى في خزائنه مئة مليار تتزايد بالدقائق. بصراحة، لقد حاولت، لكني لم أستطع أن أتخيل جيف بيزوس وهو يزدرد اللوحة الشهيرة لتستقر في معدته. مع ذلك، فقد كانت المزحة بنَّاءة، ونادرة في بلاغتها النقدية.
ستتزايد التعليقات موجهة نقداً شديداً لرحلتي جيف بيزوس. وقد كانت تواصل السخرية مما فضَّلت أنْ تشبهه بعرض سينمائي هدفه الإثارة، وكسب الأموال، بشيء يشبه المسلسل الهزلي الشهير "ساينفلد"، أو "فلاش غوردن"، أو أي فيلم معد لصغار السن "أنيميشن". ومن عالم الفن السينمائي المتخيل الذي تمت الاستعانة به، سيقوم المتفاعلون الناقمون بدور المخرج، وسيمنحون جيف بيزوس دور الرجل الشرير المضحك، كما صورته الكتب والمجلات الهزلية. وهكذا سيصبح بيزوس "دكتور إيفل/ الشرير". وهو الدور الذي لعبه "مايك مايرز" بإتقان بالغ في سلسلة أفلام "أوستن باورز". أما وجه الشبه بين جيف بيزوس ودكتور إيفل فلا يتحقق بالهيئة فقط، أو بشكل الصاروخ في المثالين، وهو ما صار باعثاً على ظهور تلميحات جنسية ساخرة، بل بالرغبة في غزو الفضاء، من أجل المزيد من السيطرة على الأرض.
موجة الإدانة العربية: ولكن هل الأرض كروية حقاً؟
مَنْ يتأمل الموقفين الغربي والعربي في مواقع التواصل الاجتماعي سيجد أنَّ سمة الإدانة تغلب على الموقف الأول، وسمة التكذيب هي الأكثر حضوراً في الثاني. لقد كان حضور بيزوس هامشياً لدى المتفاعلين العرب، أما بقية الذين سافروا في الرحلتين فلا حضور لهم. لكن بالمقابل كان هناك اهتمام خاص برحلاته الفضائية، لا لشيء، إلا لجهة التشكيك بها، ونفي إمكانية حصولها. ومما يلاحظ أيضاً أنَّ التفاعل العربي ولد بعد الرحلة الأولى لا قبلها. بمعنى أنها لم تكن ضمن حيز المفكر فيه، إلا حين بدأت الفضائيات بتغطية تفاصيلها ببث مباشر على الهواء.
صحيح إنَّ جيف بيزوس فاعل في الحياة الغربية على نحو مباشر ومؤثر، بما يفوق حضوره في المجال العربي. لكن هذا لا يمنع من كونه أحد أبرز الشخصيات المؤثرة في الاقتصاد العالمي. فضلاً عن دخول شركة أمازون للعمل في بعض البلاد العربية، في السنوات الأخيرة. هذا إذا تركنا الأخبار المثيرة التي تحيط بشخصية جيف بيزوس، وثرائه الأسطوري، كما في مثال اليخت المذهل الذي يملكه، والقصور الفارهة التي يشتريها بين حين وآخر، أو حتى حدث طلاقه، الذي صار يعد الطلاق الأعلى تكلفة في التاريخ، حين دفع بموجبه لطليقته "ماكينزي" 38 مليار دولار. وهذه في مجملها أخبار مثيرة، توفر لجيف بيزوس حضوراً شبه دائم في قائمة الأخبار العربية الأكثر تداولاً، حتى لا يكاد يمضي أسبوعان أو ثلاثة إلا ونجده يتصدر قائمة "الترند" العربية.
والحق إنَّ تعليقات المتفاعلين العرب في السوشيال ميديا تطرح تساؤلات عديدة عمَّا إذا كان تأثير التكنولوجيا الجديدة في وعي الإنسان العربي متحققاً، والأهم إيجابياً. إذ أنَّ نسبة كبيرة منها تتبنى فهماً للكون أقلُّ ما يُقال عنه إنَّه يثير الاستغراب، ويدعو للدهشة، فهماً مُستمداً من مصادر عملتْ لقرون طويلة على تكريس بديهيات مغلوطة، ومتأهبة للوقوف في وجه الحقائق العلمية الصريحة. ولكي نفهم الصورة على نحو جَلِيٍّ سأنقل هنا بعضاً من تلك التعليقات، محافظاً على صورتها مثلما وردتْ، من دون تصحيح للأخطاء الإملائية، أو علامات الترقيم: (:mouh med12 كذب في كذب/ mn nm: صدقتوا يا أصحاب الكرة الأرضية لا أحد ذهب للقمر. هناك سقف قبة لاحد يخترقها مجرد خديعة واستنزاف للأموال/ لي ليا: كذب وخزعبلات/ Maitre nacim: مثل أكذوبة الصعود الى القمر ههههه/ أبو عبيد: السماء سقف محفوض لو حاولتم ملايين المرات ماتقدروا يريدو ان يكذبو كلام الله في خلق السموات والأرض/ زاهد الدوسي: الأرض مسطحة والسماء عبارة عن جدار لايمكن اختراقه ولا يوجد هناك فضاء/ TV SHARK: لا وجود للفضاء المرجوا عدم استحمار الشعوب).
أتحدث هنا بأسف بالغ، فالتوجه لنفي وتكذيب إمكانية وصول جيف بيزوس إلى الفضاء يؤكد أنَّ أولئك المتفاعلين لا يزالون حتى اللحظة غارقين في تصورات بدائية من قبيل إنَّ الأرض مسطحة لا كروية، وهي مركز الكون، أما السماء فهي عبارة عن قُبَّة تمثل سقف الكون، وإنَّ الأفلاك تأخذ شكل قشرة البصل، طبقة إثر طبق! بعبارة أخرى، ومع كل ما شهده العالم من كشوفات علمية كبرى، يوجد بيننا مَنْ لا يزال يعتقد حتى الآن بمقولات (بطليموس) المتوفى في القرن الميلادي الثاني. في الأغلب، لا أحد من أولئك المعلقين سبق له أنْ سمع بكتاب (المجسطي)، أو أي كتاب آخر من الكتب الكلاسيكية، لما كان يعرف قديماّ بعلم الهيئة (الفلك). والراجح أنَّ سماعهم بتلك الآراء جاء عبر مصادر وسيطة، شفاهية وكتابية أنجزها وعاظ دينيون في سياق تفسير بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يرد فيها ذكر السماوات والأرض. إنها تسبغ على النصوص الدينية فهماً تلفيقياً كرَّس في الأذهان وظيفة للآيات القرآنية، لم تكن حاضرة في عهد البعثة النبوية، وعصر صدر الإسلام. وهي بذلك تبعدها عن دورها الوظيفي الأساس، بوصفها جزءاً من كتاب هداية، ونصٍّ مؤسس لرسالة توحيدية كبرى. ولعل بعضنا سيتذكر هنا شيئاً من التأويلات الجديدة، تلك التي ظهرت في العصر الحديث كي لا تبدو النصوص الدينية متعارضة مع منطق العلم الحديث. لكن يبدو أنَّه ليس من السهل على الكثيرين أنْ يتخلواعما آمنوا به لعهود طويلة. والتعليق الآتي يؤكد ذلك بصراحة تامة: (vivanco: انا عن رايي الأرض مسطحة وهذا ما يثبت ذلك طيب وش تفسير هالايات؟؟ "أمن جعل الأرض قرارا" "والله جعل لكم الأرض قرارا" "ألَم نجعل الأرض مِهَادا" "والأرْضَ مَدَدناها وألقينا فيها رواسيَ وأنبتنا فيها من كل شيء موزون" البعض يحرفون الكلم عن مواضعه).
نعم. يوجد أيضاً ميل للترفيه، توفره السخرية المباشرة من جيف بيزوس ورحلاته الفضائية. وتلك الرغبة الترفيهية تثبت أنَّ أصحابها يتعاملون وفقاً لتقاليدهم الخاصة. فالغالبية منهم يدفعهم الفضول لقراءة هذ الخبر أو مشاهدة ذلك الفيديو، بعد أنْ تضعها المصادفة أمامهم، وحين يمرون على ما يعقبهما من تعليقات يندفعون للترويح عن أنفسهم، هرباً من قتامة الأوضاع السياسية والاقتصادية البائسة. بمعنى آخر هم لا يسهمون في نقاش ما، ولا يفكرون بطرح آراء جِديَّة تبعث على التفكير والتأمل. والأمثلة الآتية التي سأنقلها مثلما وردتْ تؤكد ذلك:( Mohammed Alasiri: جيف بيزوس لو سمحت خذني في الجولة الثانية/ Amro Osman: اللي معه دولار محيرو يطلع الفضا ويطيرو/ besan fist: خزان الماء الساخن عندنا بالحمام افضل من هالمركبة الفضائية المزعومة/ Abdelrahman Okasha: راح يفتح فرع أمازون هناك ويحدف علينا الطلبيات من الفضاء/ إسكوبار: راح اطلق مرتي لو المركبة دي طلعة الغلاف الجوي فقط/ احمد عربانة: أنا قالو لي بس ما رحت معهم/ abdallah roma: قبل ما تمشي قولي الفلوس خزنها فين).
وهنا أيضاً، ، سنجد السخرية وقد تآلفت مع تأويلات الإرث الديني، في الفهم المتقدم. وسنكون في وسط أشبه بالكوميديا السوداء، إذ يتوزع المعلقون المتفاعلون على فريقين يعارض أحدهما الآخر، فريق يؤمن بأنَّ الأرض مسطحة، وفريق ثانٍ سيُطلَق على ممثليه توصيف قدحي يتمثل بلقب (المُكَوِّرِين)، أي أولئك الذين يؤمنون بكروية الأرض. وإليكم بعض الأمثلة عن ذلك:( (Vector(DZ: جماعة الأرض المسطحة وينكم/ jhon Wick: أين جماعة الأرض المسطحة/ Heavy Rain: هنا يسلموا عليك كيف حالك انت زين؟/ Mahmod Alshoabi: موجودين ليش كأنك صدقت وصلو الفضاء/ Yacin Ghezali: لولا انهم كاذبون ليأتوا بصورة حقيقية ليراها المكورين فليست معجزة عندهم اليس كذلك/ قناة القارئ عبد الله بلال: حبيبنا تصميم المركبة دائري وهذا السبب اللي يخلي الارض تبين انها دائرية لو تركز شوي كل نافذة لحالها حتلقاها مسطحة/ ////: كرويه مسطحه ما فرقت بس يخسى اي احد يطلع للفضاء كذبة(.
الغرب المادي والشرق الروحاني
لا شيء أكثر خداعاً من المقولات الجاهزة، تلك التي أكسبها الماضي تأثيراً، وزادتها كثرة الاستشهاد بها رسوخاً وهيمنة. بالرغم من ذلك، وإذ أتحدَّث هنا عن شرائح مِنْ عالَمَينِ يتعاطيان مع موضوعة واحدة، أجد هناك مَنْ تعامل معها وفقاً لأسس مادية، وأجد أيضاً مَنْ اهتم بجوانب روحية، أكثر من اهتمامه بتأثيرات الحدث في الحياة اليومية للإنسان، أو في مستقبله.
إنَّ الدوافع التي وقفت خلف ردود الأفعال المتقدمة كانت اقتصادية سياسية في المثال الغربي، بينما أخذت في نسختها العربية صفة دينية. وإذا فكرنا بالمصلحة الكامنة خلف تركيز المتفاعلين على نمط مقاربة بذاته فسنجد التعليقات الغربية تمثل رغبة بقول شيء ما، واتخاذ موقف لكبح جماح سلطة قوية يمثلها جيف بيزوس. إنَّها مسعى يريد أنْ تبقى ثروات الأغنياء في نطاق المعقول، لأنَّ خروجها عن ذلك سيجعل من أصحابها حيتاناً تفترس كل شيء. أمَّا المصلحة في المثال العربي فتبدو نفسية خالصة، تبحث عن شيء من الاطمئنان الروحي بقبال ما تتوهم أنَّ فيه تكذيباً لأسسها المقدسة. بعبارة أخرى، كان خلف هذا المشهد العربي أناس عاديون مثقلون بخسارات خرَّبتْ كل شيء في حياتهم. فلا غرابة إنْ وجدنا بينهم مَنْ ينشد تلك الطمأنينة المشار إليها، حتى لو تخطى حدود المعقول، وزعم أنَّ في الأمر مؤامرة، وأنَّ رحلتي جيف بيزوس لم تحصلا أصلاً.
وإنْ شئنا المضي إلى أبعد من ذلك، فستكون المصلحة مادية نفعية، تصبُّ في جيوب السلطات السياسية الحاكمة، والذين يستغلون خوف الإنسان فيقدمون أنفسهم بهيئة وعاظ يفهمون كل شيء. ولنقل إنَّ الفائدة ستشمل كل مَنْ له فائدة في بقاء الإنسان العربي أسير خرافات لم تعد تقنع طفلاً في الرابعة من العمر، في أيِّ بقعة من بقاع العالم. لكن مع ذلك، لا يزال هناك مّنْ يروج لها بحماس. كيف انتهتْ بنا الأمور إلى هذا الحال؟ لقد كانت مقررات درس العلوم في مرحلة الدراسة الابتدائية تنمِّي الخيال العلمي للطالب بأمثلة بسيطة، تعلِّمه ما حفظناه كلنا يوم كنا صغاراً، مِنْ أنَّ رؤية أعالي السفن قبل بقية أجزائها الأخرى، وتعاقب الليل والنهار دليلان قريبان من بين أدلة كثيرة على كروية الأرض. لكن الذي يعيد التأمل في التدوينات المتقدمة سيشكِّك بنجاح مناهج العلوم والفيزياء بتأدية دورها على نحو مقبول في الأقل. الوقائع تقول إنَّ أسماء علماء مثل غاليلو ونيوتن وغبلر مرَّتْ بأذهان كثير من الطلبة العرب من دون أنْ تترك فيهم أثراً ما. في الحقيقة، لست أريد أن أوجه لهم إدانة، فهم في رأيي ضحايا لا جناة. أسعى فقط لفهم ما أحسبه ظاهرة مخيفة لا يستهوي البحث فيها أغلب المهتمين بالشأنين المجتمعي والثقافي، ربما بسبب صعوبة مهمة مثل هذه، تتطلب الكثير من الصبر والجهد. لنبق قليلاً مع موضوعة التعليم، ولنلاحظ أيضاً ما يفرق بين التعليقات العربية ومثيلتها الغربية في مثال آخر. فالأخطاء الإملائية والأسلوبية تشيع بكثرة في الأولى، بخلاف ما بدتْ عليه في الثانية. أمّا الخيال فقد راح يفضَّل في المثال الغربي استثمار الفن، وإعادة توظيف المسلسلات والأفلام السينمائية واللوحات الفنية مثلما تقدَّم، بينما اكتفى في النموذج العربي بتوظيف الآيات القرآنية، بعد تحميلها تأويلات خاطئة. نعم. ثمة نمط خاص للعيش والتفكير بكل جماعة، إنَّها "النسبية الثقافية" التي نسمع عنها. لكن جيلي -في الأقل- لم يسبق له أنْ اختبر تبايناً بين الشرق والغرب وصل إلى هذا الحد!
ربما سيجادل بعض القراء بأنَّ أقوال أولئك المتفاعلين لا تصلح لتكون أنموذجاً تُبنى عليه الأحكام. يمكنني تفهُّم ذلك بكل أريحية. وأعرف طبيعة ما يستدعيه النشر في الفضاء الافتراضي للسوشيال ميديا، حيث تشيع السرعة والارتجال. وينشط فيه معلقون ومدونون من فئات عمرية لم تنضجها التجارب بعد. ولكن هل سيكون القفز فوق ما يعتقدونه حلاً مفيداً؟ إنني لا أشكك مطلقاّ في وجود نخبة متميزة في الوعي والذائقة ضمن الشباب العربي. لكن وجود مَنْ يرفض الإيمان بكروية الأرض حتى الأن مؤشر محزن، ينبي عن خطر كبير. وأقول ذلك بلا تردد. أما النخبة الواعية، فأمامها طريق طويل لتجعل من منصات التواصل الاجتماعي أداة فاعلة، يُستفاد منها لإيصال الصوت ونشر الوعي. والواجب الأخلاقي يحتِّم علينا أنْ نمد لها يد المساعدة لتنجح بتحقيق ذلك الهدف.
رابح وخاسرون
مِنَ النادر أنْ يهتم أحد بالشرائح الشعبية المجهولة، بأولئك الذي لا نعرف ذواتهم، بل نفضِّل التفكير بهم بوصفهم كلاُ مُتراصَّاً له سمات واحدة ثابتة لا تتغير. أفكِّرُ مثلاً في السبب الذي جعل أولئك المتفاعلين المنتقدين يحجمون عن ذكر جانب واحد مفيد في حكاية جيف بيزوس، ورحلاته الفضائية. فأمامنا رجل استطاع أنْ يحقق حلماً راوده بالصعود إلى الفضاء وهو في عمر الخامسة، وأمامنا أيضاً مثال حي على أنَّ الاحلام لا تعرف الأرقام الكبيرة في العمر(والي فانك ووليم شاتنر). كما لم يذكر أحد المتفاعلين مِنَ الغربيين والعرب أنَّ جيف بيزوس تسلم المبلغ الكبير من أوليفر دايمن، والبالغ 28 مليون دولار ثمَّ تبرع به لمؤسسة تعليمية ليست ربحية، حتى تساعد على إلهام المهتمين من الأجيال القادمة بميادين العلوم. لست بصدد الدفاع هنا عن جيف بيزوس بطبيعة الحال، بل أسعى لفهمهم أكثر من أي شيء آخر.
في الواقع، لا أحد منا يكره النجاح والثروة الكبيرة. ولعل أكثر منتقدي جيف بيزوس سيجدون حُجَجَاً كثيرة للدفاع عن أنفسهم فيما لو كانوا مكانه. فالناس يميلون للتعبير عن آرائهم بحسب الزاوية التي يكونون فيها. وفي المثال الذي بين أيدينا كانت الأمور تمضي على هذا النحو. إنَّ عالمنا اليوم يعيش على إيقاع الرعب الذي مضتْ عليه سنتان. إذ يطلُّ شبح الموت، ويتزايد عدد المصابين بفايروس كورونا بنسب هائلة. نتحدث عن 243 مليون مصاب، وأكثر من 4،94 مليون من الوفيات حتى الآن. وبمقابل ذلك، ومع استمرار تراجع معدلات النمو في الاقتصاد العالمي، وخسران الملايين من الناس البسطاء لوظائفهم التي تمثل مصدر عيشهم الوحيد، يبدو الأثرياء بمنأى عن أيِّ خطر. لم تؤثر فيهم التداعيات الكارثية لوباء كورونا. بل على العكس تماماً. ففي ربع ساعة فقط ازدادتْ ثروة جيف بيزوس بما يزيد على 12 مليار دولار، بعد ارتفاع قيمة بعض الأسهم التي يمتلكها! كيف يصمد منطق مثل هذا أمام النقد، أمام سخط مَنْ يعانون من الفقر واليأس والعجز؟ إنه اللّامنطق الذي أنتجته العولمة وسياسية النيولبرالية، فوضى مستبدة تتيح الفرص لجيف بيزوس وأمثاله ليكسبوا مليارات الدولارات بالدقائق، وليلتهموا لوحة الموناليزا، ومعها أيضاً أحلام البسطاء بالعدالة والعيش اللائق والكرامة الإنسانية. ومِنْ قديمٍ قِيل في الحكمة: سعادةُ الذئبِ في مَوتِ الحمل.



#عباس_عبيد (هاشتاغ)       Abbas_Obeid#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملياردير الذي أكل لوحة الموناليزا عن جيف بيزوس ورحلاته الف ...
- كلكامش في الهوبي لوبي: من سرق لوح الحلم، وكيف عاد إلى العراق ...
- أخطاء النخبة وفن التسامح: من يحزر أين أور؟
- ألو، هل يوجد محتفلون؟ عن مئوية الدولة العراقية


المزيد.....




- من أجل صورة -سيلفي-.. فيديو يظهر تصرفا خطيرا لأشخاص قرب مجمو ...
- من بينها الإمارات ومصر والأردن.. بيانات من 4 دول عربية وتركي ...
- لافروف: روسيا والصين تعملان على إنشاء طائرات حديثة
- بيسكوف حول هجوم إسرائيل على إيران: ندعو الجميع إلى ضبط النفس ...
- بوتين يمنح يلينا غاغارينا وسام الاستحقاق من الدرجة الثالثة
- ماذا نعرف عن هجوم أصفهان المنسوب لإسرائيل؟
- إزالة الحواجز.. الاتحاد الأوروبي يقترح اتفاقية لتنقل الشباب ...
- الرد والرد المضاد ـ كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟
- -بيلد-: إسرائيل نسقت هجومها على إيران مع الولايات المتحدة
- لحظة تحطم طائرة -تو-22- الحربية في إقليم ستافروبول الروسي


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عباس عبيد - الملياردير الذي أكل لوحة الموناليزا عن جيف بيزوس ورحلاته الفضائية (2 – 2)