أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عباس عبيد - فيصل الأول: أنْ لا يحتفي بمئوية الدولة التي أقمتها أحد 2 – 2















المزيد.....

فيصل الأول: أنْ لا يحتفي بمئوية الدولة التي أقمتها أحد 2 – 2


عباس عبيد
أكاديمي وباحث.

(Abbas Obeid)


الحوار المتمدن-العدد: 7285 - 2022 / 6 / 20 - 19:21
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


1 - رَحِيلٌ مُبَكِّر
ثَمَّةَ ما يشيرُ إلى أنَّ فيصل الأول ماتَ مسموماً بتدبيرٍ مِنْ بريطانيا، بعدَما وجدتْ في مساعيهِ مَيلاً للتَحرُّرِ الكاملِ من بقايا وصايتها، ورغبة في تنويعِ العلاقاتِ مع القوى العالميَّة. لكنَّ تلكَ الإشارةُ لم تحظَ باهتمامِ المؤرِّخين والدِّارسين، بمَنْ فيهم أولئكَ الذين سيحشدون أدلةً كثيرةً لإثباتِ تورُّط بريطانيا في مقتل ولده الملك غازي بحادث سيارة في العام 1939. ووفقاً للأسباب المتقدمة ذاتها.
رحل فيصل الأول قُبَيل أوانه. لم يكد يبلغ الخمسين من العمر. ومن يشاهد صوره في سنيِّ حكمه الأخيرة سيجد أمامه صورةَ رجلٍ يحتاج لفتراتٍ طويلةٍ من الراحةِ والاستجمام. شيخاً في السبعين لا في الخمسين. من المؤكد إنَّه لم يمنحْ نفسَهُ فرصةً لالتقاطِ الأنفاس. فقد كان تفكيره منصباً على حماية المملكة الوليدة. وربُمَّا كان أكثر ما يخفف عنه هو مواصلة ُ التدخينِ بشَراهَةٍ، والاكثارُ من شُربِ القهوة. وقَد شوهِد ذات ليلةٍ شتائيةٍ باردةٍ، بين بضعةِ شجيرات، وحيداً بلا حَرسٍ ولا مرافقين، يصنع القهوةَ العربيَّة بنفسهِ ويضيفُ لها الهال "الهيل". هل كانتْ ذكرى خسارتهِ لعرشِ سوريا بتدبير من فرنسا، وخسارةِ أخيه الملك علي لعرشِ الحجاز في العام 1925 لصالح الملك عبد العزيز آل سعود تمثل أمامه؟ كان دائم التفكير في المشاكل التاريخية والاجتماعية الكبيرة في العراق، تلك التي يحتاج حلُّها إلى وقتٍ طويلٍ، وعملٍ مخلصٍ ودؤوب، فأرهق نفسه إلى أقصى حد، خِشْيَةَ أنْ ينفرط عقدُ الدولة الواعدة، ولم يجد بداً من أن يتحمل بنفسه عبء إنجاز أصعب المهام في أغلب الاحيان، وكلها في أحيان أخرى. وفي ذلك ما يفوق طاقة أيِّ إنسان.
2 - لم يكن الأمر سهلاً أبداً
أين معنى الدولة إذن؟ ما دور الوزارات والمؤسسات في الدولة الجديدة إنْ كان فيصل الأول ينجز بنفسه أغلب المهام؟ لكنَّ مرحلة التأسيس فرضتْ عليه ذلك، وفي ذلك ما فيه. إنّ الحفاظَ على التركيز الذهنيِّ، على الفهم الواضح لاشتراطات الواقع، وعلى موقفٍ متوازن أمام الطموح والممكن هي أمورٌ لازمةٌ لأيِّ سياسيِّ يريد النجاح، وهي لن تغدو ممكنةً إلا حين يستند في عمله لإدارةٍ مُؤسَّسَاتيةٍ تضمن عبوراً آمِناً لضِفِّةِ الحلول، حيث الغايةُ الأهَمَّ، مَصالحُ الناس.. أمْنُهم... كرامتُهم... أملُهم بمستقبلٍ أفضل لهم ولأبنائِهم. في التَّالي، كلُّ منْ يحكمُ دولةَ سيجِدُ نفسَه مضطراّ للمَشي على حبلِ مشدود، سواء أكان مستعداً لذلك أم لا، وسيبقى مُطَالباً على الدوام بأنْ يفِي بالتزاماته التي تعهّد بها لشعبه، وأنْ يواصِلَ المُضِيَّ قدماً لجعل الوعود واقعاً مُتَحَقِّقاً. فيصل الأول هو رمز التأسيس، هو الملك الباني، وعلى عاتقه تقع المسؤولية الأولى في إدارة الدولة بلا شك. وقد بدأ الناس في أواخر عهده يشعرون بالقلق، ويفقدون الثقة بالتدريج. كانوا يسألون عن المساحة المتبقية لكي يأخذوا دورهم في بناء الدولة، بعد تزايد اعتماد ملكهم على مشايخ الإقطاع، الذين شرعوا باحتلال أغلب المقاعد، لا الأمامية منها فقط. وبرغم ما بذله فيصل الأول بقيت الحاجة قائمة لتجسير الهوَّة بين طبقات مُنَعَّمة وأخرى محرومة، ولم تكنْ الطبقة التي مثَّلها جهازه الحكومي المّفَضَّل على استعداد للتنازل عن شيء منْ سلطتها، برغم وجود حاجة فعلية لإحيائها بدماء وألوان جديدة، أو حتى الاستغناء عن خدمات بعض من رجالها.
لنضف إلى ذلك قضية بناء الجيش والعمل على تسليحه. إذ يبدو إن هاجس ضعف السيطرة وصعوبة احتواء المخاطر التي يمكن أن تحصل لم يمنح مشاريع البناء والتنمية دفعة كانت القطاعات الفقيرة من الشعب العراقي تتطلع إليها بلهفة، وحاجة حقيقيَّة. وهذا ما أنتج تعثراّ وارتباكاّ في أداء أجهزة الدولة، وتذمراّ لدى تلك الشرائح التي بدأ الشكُّ يعتريها في إحداث تغيير نحو الأفضل. هل لفيصل الأول مبرراتٌ مقنعةٌ في هذه القضية؟ في الواقع، كان هذا الأمر بحاجة لمزيد من الحوار الصريح بين الملك وأفراد شعبه من جهة، وبينه ومن يملكون سلطات قويَّة على الأرض، سلطات ترجع لعناوين أخرى غير الضباط الشريفيين، لقوى ما قبل الدولة في الحقيقة. ولعل أفضل مثال في هذا السياق ما نسميه بلغتنا اليوم "السلاح المنفلتْ". فحتى اللحظات الأخيرة من حياة فيصل الأول، وكما ذكر بنفسه في الوثيقة/ الرسالة التي مرَّ ذكرُها في الجزء الأول من هذا المقال كان عدد البنادق التي بيد أفراد الجيش والشرطة أقلّ من 15 ألف بندقية بينما توجد أكثر من مئة ألف بندقية بيد الشعب، أغلبها بالتأكيد بيد أبناء العشائر، وهم بتأثير تقاليد راسخة طويلة العهد، يدينون بالطاعة لشيخ العشيرة قبل الملك، وقبل أي أحد آخر. ولا يجدون أنفسهم ميالين للخضوع لسلطة أخرى، لا سيما سلطة الدولة.
وعطفاً على الموضوع ذاته، يبدو إنّ تركيز فيصل الأول على ضرورة بناء جيش قويٍّ يحمي سلطة الدولة كان نابعاً في الأساس من تحديات كبرى، ليستْ داخلية فقط، مثل التي تقدمتْ الاشارة إليها، ولا هي منحصرة بمخاوفه من محاولات بريطانيا لزعزعة عرشه، بل من الدول المجاورة للعراق أيضاً. فهذه الدول كانتْ تمتلك من القوة ما تتفوق به على الدولة الفتية، التي لم يتيسر بناء جيشها بشكل سهل وسريع. فقد رفضت العشائر العراقية وقتها انخراط أبنائها في التجنيد الإجباري. ووجد الملك فيصل نفسه محاصراً بظروف قاهرة، فمن الشرق تنتظره مَلفَّات ترسيم الحدود مع ايران، وكانتْ تعجُّ بمشاكل تاريخية لا تنتهي، ومن الجنوب ابن سعود ومعه مقاتلوه الأشدَّاء، الذين أقلقوا حدود المملكة العراقية بغاراتهم حتى في أيام حكمه، ومن الشمال تطل رغبات كمال أتاتورك بضمِّ ولاية الموصل، تلك التي لم تنضم رسمياً لحدود المملكة العراقية إلا بعد مضي خمس سنوات على تشكيلها، وكان مَلَفُّها يعرف ب(مشكلة الموصل). مهما يكن، وبمفاوضات صبورة، تمَّ عقد اتفاقات ومعاهدات متوازنة مع تلك الدول، لتسوية المشاكل، وتثبيت أسس علاقة قائمة على الاحترام المتبادل. وكان فيصل الأول يقود تلك الجهود بنفسه. وهو بنفسه أيضاً منْ فضَّل التفاوض والاتفاق مع الملك عبد العزيز آل سعود، برغم كلِّ ما يبعثه ذلك فيه من ذكريات مؤلمة . لكنَّ مَنْ يرغب بالبناء لا الهدم، مِنْ يتطلع للمستقبل لا الماضي الذي انقضى ولا يمكن استعادته، ومنْ يريد أنْ يصبح جديراً بلقب رجل دولة، ومؤسس الدولة في مثال فيصل الأول عليه أن يُفَكِّر بمنطق وطني محضٍ. ومن يرجع إلى تفاصيل ذلك اللقاء التاريخي سيجد أن فيصل الأول قد آثر مصلحة الشعب العراقي، قبل أيِّ اعتبار.
بالتأسيس الصبور لا التهور والارتجال الحماسي، أرسى فيصل الأول قواعد ومرتكزاتْ الدولة العراقيَّة في طورها الأول. ساير بريطانيا العظمى المحتلة للعراق بمنطق خذ وطالب، وتعامل مع أبناء الشعب العراقي بروح وطنية، عربية الطابع. تريد منهم المزيد من الصبر والعمل حتى تنضج الثمار وتؤتي شجرة العراق "وطنهم وهويتهم" أُكُلَها للجميع.
إذنْ. وبرغم كلِّ ما تمتع به فيصل الأول من مواهب ومزايا لم يكن بلا أخطاء. لا وجود لسياسي أو رجل دولة أو حتى ثائر مثل هذا في الحقيقة. لكنه كان رجلاً صبوراً يواصل العمل بنشاط وهمَّة. ووقوع أخطاء من قبل أولئك المنهمكين في العمل أمر حتمي، لا سيما حين تكون المهمة التي يطمحون لتحقيقها مكلفة وكبيرة. ولا أكبر من تأسيس دولة في وقت تكون فيه المقدرات قليلة والظروف محرجة. والأهواء متباينة، لقد فضَّلت في جزئي هذا المقال المرور بسرعة على محطات تعريفية في حياة رمز بناء الدولة العراقية الحديثة الملك فيصل الأول لأني متأكد من إن كثيراً من العراقيين لا يعرفونه على حقيقته، وإن كثيراً من الذين كتبوا عنه بالأمس، ويكتبون عنه اليوم لم يقفوا على تفاصيل سيرته بشكلٍ كافٍ، أو يعرفوا قدراً معقولاً من ملابسات الأحداث التي سبقتْ تأسيسه للدولة العراقية. هذا بطبيعة الحال إن لم يكونوا منطلقين من أحكام مسبقة. مع أن فيهم مَنْ يقدمون أنفسهم بوصفهم من الخبراء في الشأن العراقي، وفي معرفة دقائق تاريخه المتشابك. بصراحة، لا أعرف ما الذي ستكون عليه ردود أفعالهم فيما لو علموا أن أحد ألمع المؤرخين العراقيين، ممن تخصصوا بتاريخ الدولة العراقية الحديثة وعرفوا بالموضوعية والتثبت وأريد به المؤرخ العراقي الراحل عبد الرزاق الحسني كان يجد في فيصل الأول ملكاً من طراز متفرد، لا يشبه أحداً من ملوك اليوم، وإنَّه أقرب إلى (خلفاء الصدر الأول من تاريخ الاسلام) وفقاً لتعبيره الذي لا أجد نفسي مُلزمَاً به؟ جاء قوله هذا في سياق الاشادة بتواضع فيصل الأول وظرفه وزهدة في أبهة الملك. علماً إنَّه لم يقلْ رايه هذا إلا بعد رحيل فيصل بنصف قرن، وانتهاء العهد الملكي بأكثر من ثلاثة عقود. وثمة كثيرون من عراقيين وعرب وأجانب، ذهبوا الى ما يشبه هذا الرأي.
3 - إرث الدولة
يقول بندكت أندرسن: إن "القيادة لا الشعب هي التي ترث لوحات التحكم والقصور القديمة" (الجماعات المتخيلة. ط1، 165). حسناّ، لقد انتهت حقبة فيصل الأول، ولم يعد للاستعمار البريطاني وجود. كما انتهت حقبة العراق الملكي (1921 – 1958) بملوكها الثلاثة: فيصل الأول وابنه غازي وحفيده فيصل الثاني. وبلا شك، لم تكن قدرات وتجارب الملكين الأخيرين تماثل تلك التي اجتمعت لدى فيصل الأول. مع ذلك، بقيتْ مؤسسات الدولة تنمو وتتطور. لستُ بصدد الحديث عنها هنا. ويكفي التذكير بالنتائج الرائعة لمشاريع مجلس الإعمار. وددتُ الإشارةَ إلى الجهة المقابلة، إلى الجيش الذي رأينا فيصل الأول يوليه أهمية استثنائية، فقد راحتْ قوَّتُهً المتنامية تغرى بعض ضباطه للتدخل في الشؤون السياسية. وما هي إلا ثلاث سنوات مضتْ على رحيل مؤسسه حتى قاد بكر صدقي انقلاباً عسكرياً كان الأوّل من نوعه في الشرق الأوسط. وعلى يد ضباطه أيضاَ، في العام 1958 أُسْقط الحكم الملكي، وأعلن قيام الجمهورية. فتعاقب على حكم العراق كثيرون. ولكن لم يقل أحدٌ منهم إن ما يفكر في تقديمه - منجزاته كما في لغة أخرى - يأتي استكمالاً أو إضافة أو تطويراً لبناء سبق للملك فيصل أن ثَبَّتَ أساسه. لم يمتلكوا الشجاعة لقول ذلك، وكأنَّهم وحدهم من شيدوا الدولة، وألَّفوا بين طوائف العراقيين، وبنوا المدارس والمعاهد والكليات، وأسسوا لمعاهدات حسن الجوار، وسنّوا القوانين وحاربوا الإنكليز وطردوهم من العراق. ربما لأنَّ اعترافاّ مثل ذلك سينزع عنهم لا شرعيتهم فحسب، وإنما رغبتهم المعلنة بتقديم أنفسهم بصفة المؤسسين الحقيقيين لدولة العراق. في حين كان فيصل الأول يعمل ويؤسس بلا صخب، ولا ميزانية تضم ملايين ومليارات الدولارات، فلم تكن الثروة النفطية في عهده فاعلاً حاسماً. ولّعَلَّ رغبتهم المعلنة تلك هي أفضل ما يفسر لنا حادثة مأساوية مؤسفة مثل مجزرة قصر الرحاب. أمَّا ما سيشهده العراق بعد ذلك من أشكال النزعات الثأرية وكرنفالات الدم والجوع والحروب والتقاتل والحصارات والإرهاب والهجرات وصولاً إلى الاحتلال الأمريكي الكامل للبلاد فلا أتصور أنّه دار في متخيل أحد. إن بناء دولة ناجحة لا يتوقف على شكل نظامها، أكان ملكياّ أم جمهورياً، سلطنة أم إمارة، فالأمم والشعوب تختلف في ظروفها وثقافاتها، وهي حُرَّةٌ فيما تختاره وتقرره. الأكثر أهمية يتجسد بالمحتوى في الحقيقة، وبقدرة ممثلي النظام على بناء مؤسسات حقيقية، وإدارتها بأريحية واقتدار وكفاءة، ليتحقق بذلك الهدف المنشود من وراء فكرة الدولة: أمن الناس، العدالة، الحرية، تكافؤ الفرص، الشعور بالكرامة، الرفاهية.

4 - مئوية بمحتفلين، ومئوية بلا محتفلين!
إذن، ها هي الذكرى المئوية للدولة العراقية، تَمُرُّ بلا احتفاء. لم يحتفل بها العراقيِّون، برغم حاجتهم الماسة لذلك. فالإيمانُ بقيمِ الدولةِ والتمسُّكُ بمعناها وجدوى حضورها الفاعلِ تصبح كلها متجذرةً بمرورِ الأعوام، مادام ثمة من يستمر بالاهتمام بتاريخها، ويبقى يراهنُ على إنَّ الاحتفاءَ بلحظةِ تَشَكُّلِها سيجعلُ منها فاعلاً مؤثراً في الذاكرة الجمعية للعراقيين، تلك التي تعرضتْ لكثير من الهزِّات في العقود الأخيرة. السؤال هنا: من الذي لا تزال له مصلحة في تَذكُّر كلِّ ذلك؟ لقد صارتْ الاحتفالاتُ تُقام لذكرى أبطالٍ يمثلون الأعراق والأحزاب والطوائف. ولأنَّ تأسيس الدولة العراقية قد ارتبط برمز التأسيس فيصل الأول، ولأنَّه لم يكن يرغب بتمثيل طائفة أو مكوِّن أو أيِّ عنوانٍ آخر سوى أبناء الدولة العراقية بأكملها، فمن الطبيعي بعد الفشل الذي تعاني منه مؤسسات الدولة الحالية أن لا نجد من يحتفي به/بها. ولا بأس هنا أنْ نسأل ثانية: مَنْ الذي يُفترَضُ به أنْ يكون مسؤولاً عن الاحتفاء بمئوية الدولة العراقية؟ لنْ يأخذ بنا الحماسُ حَدَّ أنْ نقول: جميع العراقيين؛ أو جميع مؤسسات الدولة، ما دمنا نتحدث عن مئويةِ الدولة. ولكنْ، وفي المحصِّلة، فقد مَضَتْ الذكرى ولم يحتفلْ بها أحد. حتى وزارة الثقافة التي ينبغي أنْ تكونَ مَعْنيةً أكثر من غيرها تركتْ الذكرى تمضي بهدوء تام. وكأنَّنا أمام مناسبةٍ يُمْكنُ أنْ تتكررَ في كلِّ يومٍ أو عام أو عشرةٍ أعوام. أُفَكِّرُ بيومِ السادسِ مِنْ يناير "كانون الثاني" وكيف استَمَرَّ الجيشُ العراقيُّ، طوالَ المئةِ عامٍ الماضيةِ يحتفلُ فيه بذكرى تأسيسه، وأُفَكِّرُ أيضاً باليومِ التاسعِ مِنَ الشهرِ نفسه، إذْ تحتفي فيه الشرطةُ العراقيةُ بذكرى تَأسيسها، وفي أثْناء ذلكَ، أسألُ نَفْسِي، كَمْ وزارة، كَمْ هيأة، كَمْ مؤسسة... في العراق تحتفي بعيدِ تأسيسِها، تحتفظُ بأرشيفها، الذي هو أرشيفُ الدولةِ العراقيةِ؟
نعم. ربَّما بوسع دولةٍ مثل الأردن أنْ تحتفي بذكراها المئوية، وهي بالمناسبة قد صادفتْ في هذا العام أيضا، فالملك عبد الله الأوَّل شقيق الملك فيصل الأوَّل كان قد أسَّسَ إمارة شرق الأردن "المملكة الأردنية الهاشمية لاحقا" قبل ثلاثة أشهر من تأسيس الدولة العراقية. وقد اشتركتْ الوزارات والجامعات والنخب الثقافية الأردنية بالاحتفاء بالذكرى، وأسسوا هناك لمؤتمرات وندوات ومهرجانات ضمَّتْ فعاليات وأنشطة كثيرة. كما صنعوا للمناسبة وساماً خاصاً، وصفحاتٍ رسمية في مواقع إلكترونية، وفي الفيسبوك وتويتر، تحفل بمحتويات تقدِّم تعريفاً وافياً بتاريخ الأردن وبالموروث الثقافي، وبحياة ملوكها ومفاخر شعبها. لماذا تحتفي الأردن بذكراها المئوية بحماس بالغ؟ هل لأنَّ سلالة ملكِها المُؤسِّس لا زالتْ هي الحاكمة هناك، بينما تاريخ العراق المختلف فيه/ عليه، والذي توالتْ فيه الانقلابات والصراعات والحروب مشحون بذكريات وجراح لا زالت حيَّة؟ هذا بالتأكيد إنْ تجاوزنا التباين الكبير في تقييم مراحل عمر الدولة العراقية، ورجالاتها، وفقاً لمنطلقات ومواقف عاطفية، ومسبقة في الغالب.
قُبيل انتهاءِ العهدِ الملكيِّ كانتْ ثمة جهود أثمرَتْ عن اتفاقٍ بين أولاد العمِّ، فيصل الثاني ملك العراق والحسين بن طلال ملك الأردن لتأسيس اتحاد بين الدولتين، سُمِّيَ بالاتحاد العربي الهاشمي. كان ملك العراق هو مَنْ سيتزعم الاتحاد، ونوري السعيد مَنْ سيرأس حكومته. وقتها كانت الأردن لا تملك ربع موارد العراق النفطية والمائية والبشرية، ولا تزال مواردها حتى اليوم لا تقارن بثروات العراق. لكن، وبالرغم من ذلك فهي ذاتُ المملكة التي هاجرتْ للعمل والاقامة فيها أعداد كبيرة جداً من العراقيين، طيلة العقود الثلاثة الأخيرة. وهي ذاتُ الأردن التي أصبحتْ فيها أحياء عمان الغربية مثل الصويفيَّة وشميساني وعبدون تضاهي العواصم الأوربية في جمال عمارتها وبناها التحتية، كما هو حال عواصم ومدن دول الخليج، التي كان العراق يسبقها بمراحل. في حين لم تعد الأحياء القديمة في بغداد صالحة للسكن. وصارتْ أجمل الصروح التاريخيَّة في شارع الرشيد مثل عمارة بيت اللنج ومكتبة مكنزي وسينما الزوراء إما أطلالاً مهجورة أو محترقة، أو محلات لبيع المواد الإنشائية، أو بيع الأحذية الرخيصة أو مكبات للنفاية. حتى أحياء بغداد الراقية (ما كانتْ كذلك في الحقيقة) مثل الكرَّادة والمنصور سيتوجب على المار في شوارعها الرئيسية أنْ يبذل جهداُ لتخليص نفسه من فوضى الازدحامات الخانقة... من الحفر التي تملأ الشوارع...من أكوام النفايات... من الباعة المتجولين...ومن (بَسْطِيِّات) باعةٍ آخرين، يحمل كثير منهم شهاداتٍ بمؤهلاتٍ عليا، افترشوا الأرصفة لأنَّ الفساد المستشري في الطبقة السياسية لم يترك لهم فرصة أفضل للعيش. للأسف، تلك هي نتيجة كل مَنْ لا يقرأ التاريخ، ولا يُفَكِّر بأخذِ عبرةٍ مِنْ أحداثه. لَيتَ مَنْ يكتبونه أيضاً يفعلون ذلك بوعي وأمانة علمية، والأكثرُ أهميَّةً بضميرٍ إنسانيٍّ لا يحملُ حقداً تجاه أحداثٍ وقعتْ قبلَ مئةِ عامٍ مِنْ يومِ الناسِ هذا، أحداث عالمية متشابكة قَرَّرَ قواعدَهَا لاعبون عالميون كبار فوق/ خلف طاولة سايكس - بيكو، وصادفَ أنَّ رجلاً مُمَيَّزاً اسمه فيصل بن الحسين قرأ اللحظةَ، واستغلَّ الظروفَ المُمْكِنَةَ، وكافحَ بصبرٍ وأمل، فَشَيَّدَ بكُلِّ ما تَمَكَّنَ منه أُسسَ دولةٍ حقيقيةٍ لم يختزلها بشخصهِ، دولة عصرية بدأ البناء بها مِنْ نقطةِ الصفرِ، دولة اسْمُهُا العراقُ. لكنْ للأسفِ، هَا هِيَ الآنَ، وأكثر مِنْ أيَّةِ لحظةٍ مَضَتْ أقربُ ما تكون إلى اللا دولة. ألهذا السبب لَمْ يَحتفلْ بِمِئَويَّتِها أَحَد؟



#عباس_عبيد (هاشتاغ)       Abbas_Obeid#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتحف العراقي بعد سباته الطويل: كيف ندير تراثنا الثقافي؟
- كيف أنصتُّ وأصدقائي الثمانية لأغاني عشتار: عن لميعة عباس عما ...
- الملياردير الذي أكل لوحة الموناليزا عن جيف بيزوس ورحلاته الف ...
- الملياردير الذي أكل لوحة الموناليزا عن جيف بيزوس ورحلاته الف ...
- كلكامش في الهوبي لوبي: من سرق لوح الحلم، وكيف عاد إلى العراق ...
- أخطاء النخبة وفن التسامح: من يحزر أين أور؟
- ألو، هل يوجد محتفلون؟ عن مئوية الدولة العراقية


المزيد.....




- السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية تسوق للحج التجاري با ...
- اسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت إلى كييف ومركبات مدرعة ودب ...
- السعودية.. إغلاق مطعم شهير في الرياض بعد تسمم 15 شخصا (فيديو ...
- حادث جديد يضرب طائرة من طراز -بوينغ- أثناء تحليقها في السماء ...
- كندا تخصص أكثر من مليوني دولار لصناعة المسيرات الأوكرانية
- مجلس جامعة كولومبيا الأمريكية يدعو للتحقيق مع الإدارة بعد اس ...
- عاجل | خليل الحية: تسلمنا في حركة حماس رد الاحتلال على موقف ...
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيّرة أمي ...
- بعد الإعلان التركي عن تأجيلها.. البيت الأبيض يعلق على -زيارة ...
- ما الذي يحمله الوفد المصري إلى إسرائيل؟


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عباس عبيد - فيصل الأول: أنْ لا يحتفي بمئوية الدولة التي أقمتها أحد 2 – 2