أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي زيدان جوابرة - قصة قصيرة (عبور في ممرّ الموت)















المزيد.....

قصة قصيرة (عبور في ممرّ الموت)


فتحي زيدان جوابرة
كاتب ، قاصّ ، روائي

(Fathy Zedan Jawabreh)


الحوار المتمدن-العدد: 7486 - 2023 / 1 / 9 - 00:33
المحور: الادب والفن
    


عبور في ممرّ الموت
الجزء (1)
انسلختُ بسلاسة من جسدي وكأني نسخة شفافة، وارتفعت قليلا، كنتُ كظلّ شفّاف أو طيف، رأيت جسدي عاريًا بلونه اللحمي مسجّى بلا حراك، باب غرفة العمليات وستائر الشبابيك والأرضية وأثاث الغرفة تتماوج وتختلط ببعضها، الأطباء والممرضون تشوّشت معالِمهم وكانوا يتجادلون بكلام لا أفهمه، استطالوا وتمطّطوا ثم تداخلوا وتماهوا في الصورة الغائمة المتمايلة للغرفة كلها، التي ما لبثت أن صارت ظلالا ملونة، وتلاشى الجميع في الهالة بما فيهم جسدي الذي كان مسجّى على السرير. لم يتبقَّ شيء غير طيفي وظلال ملوّنة. ارتقيتُ ونفِدت إلى الأعلى من سقف هلاميّ شفّاف.
بدا لي المستشفى كعلبة الكبريت بين مباني المدينة التي صغرت وتضامّت إلى بعضها، فصارت المدينة كلها مصغرة متراصّة، يُمزّق هذا التراصّ طرقات متواصلة لا نهاية لها ولا بداية، تمرّ عليها أشياء كالنمل بسرعة مهولة، ثم ما لبثت المدينة أن تناثرت وتفتّتت بما فيها، وصارت هباء منثورا. بدأتُ أتناسخ من طيفي بسرعة فائقة، نُسَخا متتابعة متلاحقة لا تُعدّ ولا تحصى، تتحوّل إلى أطياف وظلال وهالات، حتى تبخّرتُ في فضاء فسيح جدّا بلا ألوان محددة، يدور بشكل إهليجي، ثم ما لبث أن تضامّ إلى بعضه وتكاثف واسمرّ لونه شيئا فشيئا حتى صار فاحما حالكا، مجرد سَواد قاتم عائم بلا مكان ولا حدود، صامت ساكن، وأنا فيه لا شيء، حتى طيفي الذي انسلخ من جسدي لم أعد أحِسّ به. تحول العائم الأسود إلى نفق فائق السواد يدور حول ذاته، وأنا أنطلق فيه بشكل لولبي وبسرعة مهولة وبلا إرادة مني، وأنا لا معالم لي.
النفق الغربيب الأسود لا ينتهي، وأنا لا أعي الزمان ولا الاتجاهات، ولكنني سألت ذاتي التي لم أعُد أعيها: ما الذي يجري هنا؟ وإلى أين أنا ذاهب؟ متى ينتهي هذا النفق الغربيب؟ وهل سيقودني إلى وادٍ سحيق؟ أم إلى سرمدية من الظلام الدامس؟. والعجيب في الأمر أنني لم أكن خائفا. أخذ اللون الأسود يتداخل بدرجاته عبر النفق، وبدأتْ تتراءى حولي ظلال متباينة في كثافة سوادها، ثمة خيوط ونقاط وبُقَع وخطوط متدرجة بالسواد، وأقواس قزحية سوداء تتشكل من لون واحد متعدد الدرجات، منها الفائق الغربيب والفاحم والحالك والغامق والأسحم والفاتح... ثمة بقعة ضوء لامعة في البعيد، خيّل إليّ أنها نهاية النفق، وأنا أسير نحوها بمشيئة خفية ليست نابعة مني، وبلا شعور وإدراك، أسير ولكن بلا وصول ولا مسافات مقطوعة.
تزايدت الظلال والخطوط والأقواس والنقاط، واتّسع النفق شيئا فشيئا، واستحال إلى امتداد فضائي، ما لبث أن صار ضبابيا رماديا. لم أكن أدرك أنني أرى وأفكر، ولا مشاعر تتملكني، ورغم ذلك فأنا شيء ما موجود في هذه المادة الفضائية مجهولة المكان والزمان، ولكن لا ماهية لي ولا حدود.
قفز مشهد فوضوي بلا ملامح من حيث لا مكان: أصوات بعيدة تتقطع، وفجوات تتّسع ثم تتلاشى، وألوان تنبثق متداخلة في بعضها، يزول لون ويلمع آخر، تتعارك فيما بينها وكأنها في معركة، تنمحي وتعود لتتخالط، ينشأ عنها شيء ما لزج ومائع يتمطّط وينتشر، لا يلبث أن يجفّ ويتكسر ثم يتحول إلى حطام وفتات متناثر ويتلاشى كل شيء... أنا موجود أرى وأسمع لكنني بلا معالم واضحة، شيء ما في رأسي يحاول أن يعي ما يدور، ولمع في ذاتي أمل بالخلاص، عيناي تتّسعان وأذناي تكبران...
تكرر المشهد في ذاك الفضاء العائم، أصوات وفجوات وألوان وبقع ضبابية، ثم سكن الصوت وتلاشت الألوان، وبقيت النقاط البيض تلمع في سواد مطبق، وعادت الصورة لسوداويتها، فسألتُ ذاتي أو (أنا) غير المحددة إن كان ثمّة ساكن تحرك، أو ضوء مَرّ أو كائن ظهر، ووعيتُ أنني شيء ما موجود في عالم غيبي. ساد الصمت في الهالة السوداء، وأنا تشبثت بأمل الخلاص لبرهة...
عادت الفوضى واتّسعت عيناي، تضخّمت النقاط البيض، والخطوط الملونة أخذت تدور حولي، لكنّ السواد ما زال منتشرا، ثمة أشياء أو كائنات ظهرت من بعيد مجتمعة، ولما اقتربتُ منها تبعثرت ثم تلاشت، أراها لأول مرة، ولا أستطيع تحديد ماهيتها. لمحتُ في أقصى البعيد هياكل عظمية ومخلوقات شبه بشرية عارية، وأخرى غير بشرية باهتة تخبّ في سيرها خبّا، وتغيب في ضباب أسود، وسمعتُ أصواتا تنمو سريعا وتزول بلمحة. ثمة عِراك وعواء وصراخ متقطع مبتور هناك في الضباب، والهياكل العظمية تتراكض تباعا وتختفي، كانت بعيدة ولم تنتبه لي، أو أنها لا تعيرني انتباها.
وأنا لا أتوقف، أسير بلا أرجل في عالم غريب مجهول، عيناي تتّسعان وأذناي تكبران، وعقلي لا يسعفني بشيء. أزاحني شيء ما باتّجاهٍ آخر، فولجتُ في فجوة رمادية جافة وقاحلة، تتشكل منها فجوات وحجرات كثيرة ومختلفة، وتتناثر فيها قطع حجرية سود وحمر، وقطع معدنية وأشياء أخرى متنوعة الأشكال والأحجام، رأيت ذاتي مسمارا بين حُطام متناثر لا يُعلَم له قيمة. تحوّلت هذه القطع إلى جماجم وعظام متناثرة وأشلاء مخلوقات ممزّقة مترامية في الأنحاء، حيث لا مكان. وفجأة سمعت صراخا متقطعا، فأصغيت والتفتّ، وإذا مخلوق مقزّز يلتهم ثديًا متبقّيًا في جسدٍ مشوّهٍ لامرأةٍ تشبه البشر، ولهذا المخلوق رأس لحميّ بلا جمجمة يتمطّط ويتمايل كالمادة الهلامية، وعيناه مدوّرتان محمرّتان كالجمر الملتهب، وأنفه يتطاول ثم يتلاشى في ثدي المرأة التي تصرخ وتتقيّأ، وهذا المخلوق فوق المتوحش المقزّز يلعق القيء بلسانه، رآني لكنه لم يكترث لي أبدا، وتراجعتُ أنا خطوة إلى الخلف، فدفعني شيء ما إلى الأمام، وقال:
- "إياك أن تتقيّأ فيأكلك كائن مثله ينتظر هناك في مسرب الحجرة النارية".
سِرتُ بلا أرجل، في مكان ليس فيه مسافات. الهياكل العظمية تراني ولا تبادر إلى إيذائي، وأنا لا أعي ذاتي إن كنت خائفا أم غير خائف، دوّامات تدور في رأسي الذي لا أحسّ بأنه موجود، هيكلان كانا يتضاجعان على مرقد ناريّ مجمّر، وآخر فتح فمه المتكون من أسنانه فقط، وقهقَهَ في وجهي، وفجأة جذبته بقعة حمراء جانبية، وكأنها مغناطيس، وتلاشي فيها يصرخ ويولول. ثمة كُتَل لحميّة ناريّة ملتهبة، وأخرى متفحّمة، وفي مسارب الحجرات السود تتعلق خفافيش ذات آذان عريضة متطاولة، تذرق تحتها، وثمة مخلوقات تشبه الأفاعي، تتناسل من بعضها، مسلوخة الجلد، لونها لحمي، قبيحة جدا، تلِغُ الذرق وتلعق مؤخّرات الخفافيش.
شعرت بالتقزّز لكن لم أكن خائفا، توقّفت برهة أنظر حولي، لا أستطيع التقدم ولا التراجع، وحوصرت في ممر ضيق، ونسيت حلمي بالخلاص لبرهة... اقترب مني كائن لحميّ سدّ أفق الرؤية لديّ، فتح فمه القبيح وهمّ أن يبتلعني في جوفه، وبلمح البرق خرّ من الأعلى شيء ما ناصع البياض، فأحرق الكائن اللحمي الذي زعق زعقة مدوّية واستحال إلى فتات متفحم.
ثمّة مخلوق عظميّ كان بالجوار، رأسه خنزير وجسده قرد، يأكل البراز والقمل، حيث يضع كفّه تحت مؤخرته العظمية الحمراء، ويستجمع ما يخرج منها ثم يلتهمه ويلعق أصابعه، ويلتقط القمل من رأسه وأسفل بطنه ومؤخّرته. رآني في اللحظة التي انتبهت أنا له فيها، فزعق ولطم على رأسه وقفز على مرقد مجمّر وبحلق بي، ثم أكمل وجبته المقزّزة من البراز والقمل. مشيتُ خطوات بين حطام هذا العالَم الغريب، وإذا قزم لحمي يجلس على جمجمة، ورجلاه تغطسان في سائل لزج قاني الحمرة. سألني بصوت مخنوق رفيع:
-"من جاء بك إلى هنا؟". لم ينتظر جوابا وأكمل:
-"مكانك ليس هنا. غادِرْ قبل أن يأتي طوفان الدم".
رأيت في البعيد مخلوقات غريبة تشبه الضباع والذئاب، مقبلة نحوي بسرعة فائقة، تتقافز على الصخور والحطام، وتتماهى في بعضها وتتناسخ، ويسبقها صوتها اللاهث، أحسست أنها غير مهتمة بي ولا تقصدني ولا تنوي إيذائي، ولكنني شعرت بالخوف، ذلك أنني أعترِض طريقها، فربما تدوس عليّ وتسحبني معها، وشعرت بأنه يتوجب علي أن أبتعد عن طريقها وأنجو، لكن لا أدرك كيفية النجاة. وإذا بالسهم الأبيض يخِرّ من الأعلى بسرعة مهولة، ويقتحم ذاتي ويتماهى فيها، ويؤزّني للسير، قال لي:
- "غَلِّقْ عينيك وضع أصابعك في أذنيك وامتنع عن النَّفَس، واستمر بالمسير ولا تتوقف أبدا".
- "لا أقدر، أمامي مخلوقات مخيفة ومستنقع الدم ومجاري القيء، وهناك أفاعي تسبح بين البقع السود والحمر وتنساب بين الحطام، وفي البعيد وادي النار الملتهب، وفجوات نارية سحيقة".
دفعني وقال:
- "هيّا لا تتوقف. النبي إبراهيم طُرِح في النار ولم يحترق. النبي يونس نجا من بطن الحوت. النبي يوسف أسْقِط في غيابة الهُوّة وخرج. النبي موسى اخترق لُجّة البحر وعبر إلى البر".
- "أولئك أنبياء وأنا لست نبيا".
- "النبي محمد نزل عليه كلام يُقرَأ. اقرأ وسوف تنجو".
بدأتُ أتذكّر ما يتوجّب أن أقول، وقلت: "أشهد أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، "قل هو الله أحد"، قل أعوذ بربّ الناس". لكنني لم أكن أسمع صوتي. أكملت المسير وكنت أرى كلّ شيء رغم أنني أغلق عينيّ، ورأيت ذاتي أطير وأسبح، وبدأتُ أرتفع إلى الأعلى والذئاب والضباع والنيران والأشباح والمخلوقات المقززة وكلّ الأشياء تتلاشى عندما أقترب منها، وقبل أن أمُرّ فوقها. بدأت البقعة البيضاء البعيدة تتّضح شيئا فشيئا، وأنا أسير نحوها إلى الأعلى، وزالت الأشياء الغريبة، وظهرت الألوان: الأبيض والأصفر والأخضر والسماوي، وبدأت تتّضح ملامح البساتين والحدائق والمياه الجارية، وثمة نور أبيض عجيب يشعّ في المكان، ظهرت الأشجار والفواكه والزهور والنحل والفراش المنتشر بألوان زاهية، وبرز اللونان الأسود والأحمر بشكل مبهر رائع بين سائر الألوان، وانتشيتُ أنا وشعرت بالسعادة الغامرة، وساورني تفكير أن هذه هي الجنة الموعودة، وأن الله راضٍ عني، وأنّ السهم الأبيض الخارق ما هو إلا ملاك أنقذني من الجحيم.
بدأت تظهر لي وجوه بشرية جميلة، يرتدون أثوابا بيضا وخضرا، يبتسمون لي وكأنهم يعرفونني، ولا يتكلمون، وأنا لا أعرف أحدا منهم، وشعرت بالارتياح الكبير ونشوة السعادة الغامرة، وسألتهم:
-" أنتم أهل الجنة؟".
استمروا بابتساماتهم، ومدّوا أذرعهم وفتحوا لي الطريق، ومررت من بينهم إلى فضاء فائق الجمال والروعة. فراش وطيور ملونة وعصافير خضر صغيرة تزقزق، أرانب تتقافز في الحقول الخضراء، دروب معبدة بالحجارة والمعادن اللامعة، فواكه لا أعرفها تنتشر في الأنحاء، طنين النحل والفراش يُضفي على المكان سحرا وروعة. وثمة أشخاص تلمع وجوههم وتتوهج ثيابهم بالألوان الزاهية، يقطفون الفاكهة ويبتسمون لي ولا يتكلمون. وثمّة فتيات فائقات الجمال، روعة إطلالتهن لا يمكن أن توصف، يظهرن في الأعالي فوق البساتين، ويبتسمن لي، ويتحولن إلى فراشات ملونة تطير في الأجواء. تكونت لديّ رغبة جامحة للوصول والاقتراب منهنّ. رأيت عدة نساء رزينات مهيبات الطلّة بثياب ملوّنة بألوان فائقة الروعة والحشمة، وكانت جدّتي لأمي وجدتي لأبي تقفان أمامهنّ، فقلت:
-" جدّتي جدّتي أين أنا؟ ما هذا المكان؟". فأجابتا بصوت واحد:
- " هؤلاء جميعهن جَدّاتك. لكن كيف وصلت هنا؟".
رأيت رجالا كثرًا يصطفون أمامي على شكل نصف دائرة، جميعهم يرتدون ملابس متشابهة، وبدا لي أنهم لطيفون جدا، لكنهم كانوا متفاجئين من قدومي إليهم، ولما اقتربت من أولهم أشار لي بأن ألتفّ بالمسير بشكل دائري كهيئة اصطفافهم، وكل واحد منهم يشير بيده نحو اليمين باتجاه الآخر، وهكذا حتى وصلت إلى آخر رجل منهم، فقال لي مبتسما:
-" يا بنيّ لم يَحِنْ وقتك بعد. عُدْ إلى الدنيا". وبلحظة رأيت ذاتي أهبط بسلاسة وانسياب في فضاء مائي بلون المني تماما.
الجزء (2)
هبطتُ من الفضاء المائي ونفِدتُ من غلاف هلاميّ شفاف، فأدركت أنه السقف ذاته الذي صعدت منه، الهالة الملونة كما هي، لكن جسدي لم يعد موجودا، تساءلت: أين ذهبوا بجسدي؟ وفجأة رأيت نفسي كتلة لحمية قميئة في أسفل الهالة التي استحالت إلى فضاء مائيّ لزج، لا أدري ما هو. خيوط لحمية وسوائل تحيط بي وأنا أتلعبط وأنمو فيها، نما لي رأس كبير وعينان ضخمتان غائرتان، ثم ما لبثتُ أن صرتُ كائنا بحجم الفضاء الذي أنا فيه. قوة ما كانت تدفعني وتطردني إلى خارج فضائي، وأنا أتشبّث بالسوائل المائية والجدران اللحميّة المحيطة بي، أمسك شيء ما بي، وسحبني عبر مَمرّ لحميّ ضيّق، وانزلقتُ إلى فضاء فسيح، مشوّش المعالِم. وصدر مني صراخ، وسمعت أصواتًا تتنادى: "ولد. ولد . ولد".
تحلّقتْ حولي كائنات، حملني أحدهم بين يديه برفق، وكانوا ينظرون إليّ مبتسمين، وأنا أصدر أصواتا تعبيرا عن رفضي لهذا العالَم الجديد، لا أعي سببا آخر لذلك، غمسوني بالماء، ولفّوا على جسدي اللحمي أقمشة، وفمي يكبر مع صراخي، وثمة كتلتان لحميتان تنتفخان أمامي، تشبّث فمي بواحدة منها وانطلق منها سائل غريب لذيذ، دخل في جوفي. وبدأتُ أنمو شيئا فشيئا، أتحرّك وتصدر من جوفي أصوات، والكتلتان اللحميتان تحولتا إلى بُروزَينِ في هذا الكائن الحيّ الدافئ عجيب الحنان، تعلقت به أكثر من الآخرين، ناديته (ماما) وكان يضحك لي ويدغدغني. يحضر آخرون يشبهون (ماما) يقبلونني ويذهبون، تعلقت بواحد منهم وناديته (بابا). ثم ما لبثتُ أن حبوتُ على مساحات شاسعة، بدأتْ تصغر رويدا رويدا، وأنا أنمو وأكبر، وأدركتُ أنني واحد من جنس محدّد.
ثمة بشريّون يشبهونني، أحجامهم مختلفة، وأنا أحاول أن أفعل مثلما يفعلون تماما. وكائنات أخرى تطير إلى أعلى وأخرى تتشبّث بالأرض وتعلو، وأخرى لا تشبهني لكنها مثلي تحبو على الأرض. أصوات متنوعة وألوان كثيرة وأشكال وأشياء مختلفة، ونار وعتمة وأشياء مُشعّة في السماء، ومطر وسوائل وأشكال حجرية ومعدنية وحطام كثير مختلف. ناس كثيرون يشبهون أبي وأمي منشغلون بشؤنهم، وأنا منشغل مثلهم، حركة ونوم وصياح وضحك ولهو. هناك مسجد وأولاد ومدرسة وبنات صغيرات، وأنا أحمل الحقيبة مثلهم. نقرأ نكتب نلعب نتشاجر... مطر، برد، لون أخضر، صيف، رمضان، رجال في الليل يذهبون إلى المسجد للصلاة، ونحن الصبيان نعود إلى بيوتنا.
أكبُرُ فجأة، تُكسَر رجلي ونحن نلعب رياضة كرة القدم، أفتعل شجارا عنيفا مع شاب بسبب فتاة، أذهب إلى سوق المدينة، أنجح في الامتحان العام، أدرس في جامعة، أتعرف إلى أصدقاء كثر، أحبّ فتاة، تتركني وترحل، مركبة عمومي تنقلب عن الجسر ويتجمهر الناس. تزعق سيارة الإسعاف ويقول الناس: "ثلاثة من الركاب ماتوا". يفصِلون محاضرا في الجامعة؛ لأنه معارض لسياسة الجامعة ونعتصم في الساحات، ونفشل في إعادته، نقيم حفل تخرج، أعمل في قصارة المنازل، يُجرون مقابلة معي للقبول في المؤسسة، أتعيّن ويباركون لي وأنا أقدّم لهم الكنافة. لي بيت خاص، الدَّهّان يَطلي البيت وأنا أعمل معه، أتزوج ابنة الجيران ونقيم حفلة زفاف، أقتني سيارة بيضاء، في المشفى زوجتي تلِد، وتقول الممرضة: "مبروك بنوتة". أختي وزوجها عادا من العُمرة. اجتمعنا كلنا عندهم، أعطوني قميصا وقنينة عطر كبيرة.
يحصل أمامي شجار في البلدة، يعمّ الصياح وتُطلَق الأعيرة النارية، يستغيث المؤذن في سماعات الجامع، تهرع الشرطة والإسعاف. مصابون ومعتقلون، يستجوبني المحقق. نسافر بالسيارة يوم العيد أنا وزوجتي، يحرّر لي الشرطي مخالفة؛ لأننا لا نحمي طفلتنا في كرسيّ الأمان الخاص بالأطفال، الشوارع مزدحمة والسيارات تمر بهدوء، زوجتي تقول لهم:
- "البنت بتصير تعيط إذا بحطها بالكرسي"، وهم لا يكترثون.
يتبدّل المشهد بلمحة لا زمنية، وأرى صديقي وهو يموت غرقا في البحر، وأنا أصرخ، أسير في جنازته. أشتري قطعة أرض على الطريق الرئيس جنوب البلدة، جدتي تموت ونقيم لها بيت عزاء. شرطة المدينة يعتقلون شابين في السوق كانا يدخنان في رمضان، أحدهم فرّ من المركبة وهرب، وأنا خفت أن يفتّشوني، وتحسّستُ علبة السجائر.
أذهب إلى العُمرة، الصحراء لا تنتهي، شارع يطول كلما انتهى جزء منه، ارتدينا ملابس بيضاء، أقتربُ من الكعبة وقلبي يدقّ، وهناك خشعت، أطوف وأطوف وهرولت مع آخرين. تجولنا في شارع واسع في مكة، البضائع كثيرة ومغرية، غالية الثمن بلا جودة. أبحث عن مكان للتدخين فلا أجد، فأدخن في موقف الحافلات، فيزجرني معتمر يعتمر كوفية حمراء، ويهدّدني بالاتصال على شرطة الآداب.
نعود إلى الديار، المعتمرون متعبون ينامون ويستيقظون، الصحراء لا تنتهي، شارع طويل لا ينقطع، الباص يطوي الشارع ويبتلعه، والأشياء على الجانبين تسير إلى الخلف بسرعة فائقة، يقول أحدهم: "الشفير نعسان". تنقلب الحافلة، يتداخل الركاب ويرتطمون، تلتفّ الأماكن، ويحصل ارتطام شديد... يستبد بي دوار شديد، والعالم حولي صار ضبابيا مشوّشا، لكن لم أفقد الوعي، جلبة وهرولة، زوامير سيارات وأصوات ناس، زعيق سيارات الإسعاف، أشخاص يرتدون بلائز حمراء ينقلون المصابين، صراخ وبكاء. وضعوني على الحمّالة وأركبوني في سيارة الإسعاف، ضوضاء في المدينة وزعيق الإسعاف. على بوابة المشفى يهرولون، ويقول بعضهم:
-"بسرعة. بسرعة".
ينقلونني إلى غرفة العمليات، ويقول بعضهم:
- "أنعِشوا قلبه. أنعِشوا قلبه".



#فتحي_زيدان_جوابرة (هاشتاغ)       Fathy_Zedan_Jawabreh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة قصيرة (يوم عمل مع ميريام ومريم في بستان الزّلّيق)
- قصة قصيرة ( أبو الحسن والمتعقبون في ليلة مثلجة )
- خاطرة ( أسمى)
- خاطرة سردية (ما الوطن؟)
- قصيدة نثرية (من وحي دموع العربيات)
- مقالة نقدية (القرية والتراث الريفي في قصص محمد نفاع)
- مقالة سردية أو خاطرة: (زيارة مؤلمة لكن لا بدّ منها)
- قصة قصيرة (ليلة سقوط عروس الروحة)
- (حركة فتح: أسباب التّشتّت والعجز عن توحيد الصفوف)
- قصة قصيرة: أنا و(لولو) كلب آل روخمان
- قراءة عامة في مجموعة (التفاحة النهرية) لمحمد نفاع
- قصة قصيرة ( أنا وكلب نتانيا لولو روخمان)
- قصة قصيرة ( مجندة إسرائيلية )
- قصة قصيرة: ( هل من مترجم في المعبر؟ )


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي زيدان جوابرة - قصة قصيرة (عبور في ممرّ الموت)