أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى نوح مجذاب - الوعي المطلق















المزيد.....

الوعي المطلق


يحيى نوح مجذاب

الحوار المتمدن-العدد: 7433 - 2022 / 11 / 15 - 15:22
المحور: الادب والفن
    


وعيُنا بالوجودِ منذ الصرخةِ الأولى للولادة وحتى صمت الجسد وتحلّله إلى عناصر الطبيعة بالخط العكسي للنَماء الذي ابتدأ منذ انبثاق النطفة الأولى اللامتناهية الصِّغر وتحوّلاتها المتعددة ونموها إلى جسد كامل متقمصة حياة كاملة، ممتدة من بؤرة الذات إلى آفاق الوجود الواسع ضمن حدود الكون المُدرك بالحِسّ، ورياضيات العقل، وقوانين العلوم بتفسيراتها واستنتاجاتها المفهومة والغامضة. هذا الوعي الذي يحتاج هو الآخر إلى وعي وإدراك مُسبق لفهم ألغازه.
ما هو؟ ما شكله؟ وكيف تكوَّن؟
وجود الفرد ليس سوى ومضة خاطفة تكاد لا تستكمل جوانبها ضمن العمر الزمني المحدود لعمر الكائن الحي الفرد المتمثل بأعوام ضئيلة محسوسة لا تُمثِّلُ سوى صفراً في أفق الأبدية.
الأحداث الجِسام للكون، وخلقه، وبداياته إن كانت له بداية، وسهمُ الزمن ومسيره وانطلاقه نحو المجهول.
أليس ظلماً بالقانون الأخلاقي الذي فُطرنا عليه أن يُغلِّفه العَماء عن بصائرنا وإدراكاتنا المحدودة بأحجامنا وخلايانا وتلافيف أدمغتنا وسَيَّالاتنا العصبية الناقلة والمفسِّرة والمحلّلة والمستكشفة؟ أليس هناك فجوة هائلة واسعة أو خطأ ما لانشغالنا بيوميات روتينية رتيبة، ومُتع منقوصة، ومُنغِّصات مؤلمة، وأيام تتراكم في هباء عبثي لا جدوى منه.
لماذا لا نستوعب كل هذا الوجود العظيم وندركه بما نمتلك من ذكاء وأحاسيس؟ وهل نستطيع بمحدودية قدراتنا وأدواتنا المنصهرة في الذات أو تلك الموجَدة في العالم المحيط أن تُمكِّننا من الإحاطة بكلِّ شيء؟
نحن ندخل من هنا ونخرج من هناك دون أن نفقه شيئاً من طلاسم الكون وألغازه إلاّ ما أتحفتنا به نظريات وتجارب عباقرة الله الذين وجدوا العالم بأعينهم الثاقبة، وأدمغتهم التي تخطّت مسارات التفوق بحلقات سماوية، أو أنبياء ورسل ومصلحون نشروا أديان وعقائد أرادوا بها أن ينظموا مسارات الخلق، تلك التي استُكشِفَت، أو هكذا أوحيت إليهم من لدن إله جبار عظيم اختارهم من بين رُعاع البشر كما تقول الكتب المقدسة السماوية التي ألفناها حاضرة في هذه الدنيا قبل وجودنا، وتعايشنا معها مع الملايين من المؤمنين بنهجها وتعاليمها، فوقع الجميع في فِخاخها دون خلاص واستكانوا لها.
إنها حسرة كبرى أن تُطمس أعيننا عن الخفايا إلاّ إذا كان هناك وعي مطلق سيظهر في عالمنا هذا أو ربما في عوالم أخرى في أزمان أخرى لا أحد يتكهن بمَدَياتها.
كانت تحمله قدماه إلى ذات المكان الذي حدثت فيه الحكاية القديمة قبل عقدين من الزمن، هناك تنتصب شجرة سرو اتخذ منها ملاذاً في كل لقاء مع المرأة التي بادلته الفكر والمشاعر.
المباني القديمة مازالت على عهده بها لم يمسّها التغيير إلاّ في النزر اليسير، فواجهات المنازل غطّاها الطِلاء الملون فأضاع لون القرميد الأحمر الذي كان السِّمة الغالبة للبيوتات الممتدة التي تلتف مع التفافات الدروب المتعرِّجة وتنتهي حيث تبدأ الحواكير وأسيجة الدفلى بألوانها المتضاربة البيضاء، والقرنفلية، والأرجوانية.
كعادته كان يمشي بتثاقل كأنه رجل غريب حَطَّ فجأة على أرضٍ مجهولة يريد أن يسترجع أحداثاً طواها النسيان وانغرست في اللاوعي، فالذي أيقظ مشاعره من سبات قديم أحاطَ شِغاف قلبه هي تلك المرأة التي كانت منصهرة في ذاته أرداحاً من زمن بعيد، حين التقيا سوية على هامش العالم دون أن يذوبا فيه تماماً، غير أنهما كانا في حالة انجذاب وتلاحم عجيب.
حاول ـ وهو يخطُّ خطاه ـ أن يتذكر شكلها، لون عينيها، قوامها، نبرة صوتها، لكن الشيء الذي تغلغل في داخله وانبثق في كيانه هو ذاتها فقط، تلك المجردة عن الوصف الفيزيائي المعروف الذي أرسته قوانين الطبيعة. كانا بارتباطهما معاً يخشيان دخول المعترك الحقيقي لتكوين الأسرة، فهما يدركان أن أحلامهما في تحقيق الحرية المطلقة ستتبخر مع صرخة أول مولود، أو أول احتدام عائلي قد ينشأ بينهما، وهما اللذان يحملان خزيناً من المعارف الأكاديمية ووجهات نظر متباينة بكل مفاصل الحياة المتضاربة.
كانت الفتاة ليست فائقة الجمال كما دأبت روايات الأدب الرومانسي أن تصور بطلاتها، لكنها تملك وعياً تفوقت به على أقرانها في تلك الحقبة من الزمن المتلاشي، وقد سلكا في ارتباطهما سلوكاً حضارياً بعيداً عن حب التملك والأنانية المفرطة في العشق، إضافة إلى التعمق في مساجلات العقل، فارتبطا بتفاهمات عقلية محضة بعيدة عن الغلو والتطرف مُتوَّجة بِوَلَهِ جسدين أغدقا على كيانيهما بكل اللذائذ التي أباحاها لنفسيهما دون مِنِّة.
كان يمشي الهُوَيْنَا وهو يحدث نفسه عن تاريخ لم يكن سوى قطع متناثرة من مواقف تراكمت بعشوائية وهو يحاول أن يُلَملِمَها بنسق مُدرك.
اتّجه في طريقه وهو يضرب بقدمه حَصْباء الطريق.
الوقتُ كان يقترب من الغَسق حيث ينحسر الضياء إلى ما وراء الأفق لتتقدم خيوط الظلام السادرة على أديم الأرض كعناكب رمادية تزحف هابطةً بين الأحراش. أحسَّ بالقشعريرة تسري في أوصاله. عبأ رئتيه بكمية وافرة من الهواء المجبول برطوبة النباتات المنتشرة حتى أحسَّ أنها امتلأت تماماً بالهواء ثم نفثها بقوة.
كان وحيداً في عزلةٍ اختارها لنفسهِ في لحظة اشتياق لم يُفسِّر دوافعه، فالأحداث الكبيرة والصغيرة سحنت الأحياء ومازالت في حركة دؤوبة كإحدى سُنن الكون العصية على الأفهام. وهو يريد أن يقبض على قبس نور، أو نظرية معرفية، أو ربما فضول مُسْتَكشِفٍ أعمى في ديجور ظلام دامس لينير دواخله في عالم يزداد تعقيداً كلما أوغل الزمن في اختراق الحُجُب.
شجرةُ السرو العملاقة باتت قريبة منه، يكاد يشم رائحتها. لقد كان ممزوجاً بعطر امرأة عذبة. بدأ يتصاعد وجيب قلبه مع كل خطوة يتقدمها، فالعطر الذي تغلغل في خيشومه ونفذ إلى أعماقه لم يكن غريباً عنه. إنه عطرها هي؛ صاحبته القديمة. لقد أيقظ ما كان هامداً في أعماقه. ها هو شبح امرأة يتراءى له من بعيد. إنها هي بجسدها وقوامها الذي بدأت تتكشف صورته وقد عركته السنين. لقد ألهمتها الشياطين في لحظة قدرية لتغذَّ الخُطى باحثةً عن صديقها القديم، فتحركت جوانحها لتعيد صور الأحداثٍ المطمورة في الأعماق. وهو ذات الدافع الذي أشعل عنده شرارة الرغبة فأوصله إلى هنا من دون وازع منطقي بعد أن اندثر كل شيء وتوارى منذ زمن في غيابة جُبِّ النسيان. ولو كان يؤمن بالغيبيات لأيقن أن ما حصل كان مكتوباً في لوحِ رسمته إرادة عليا لتعيد شيئاً لم تُستكمل فصوله في ذلك الزمن الغابر.
الملامح بدأت تتضح أمام عينيه أكثر فأكثر. اقترب الجسدان حتى تداخلت أنفاسهما. صدمة اللقاء كانت كنيزك مشتعل هابط من السماء. أراد أن يقول شيئاً، لكنها استبقته ووضعت طرف اصبعها على شفتيه لتمنعه من الكلام. لم تكن تريد أن تفسد هيولى هذه اللحظة المقدسة، فأسطورة التشبث بجوهر الحياة في ساعة التجلي التي غمرتهما قد تختصر فيه عمراً كاملاً من روتينٍ مكبِّل للحريات المطلقة.
احتضن وجهها بكفّيه المعروقتين، فألقت بجسدها عليه مطوّقة بساعديها جسده الذي شاخ بعد جفاء السنين. ساد الصمت الساكن بينهما تحت هدوء الليل البارد، لم يقطعه سوى أصوات بعيدة لحيوانات ليلية وهي تتصيد فرائسها بين الأجمات الكثيفة.
العتمة الداكنة غطت كل الأمكنة. أمست الشجرة موطنهما النهائي فشكلا معها كياناً واحداً لا ينفصم. كانا قد امتزجا بالطبيعة تماماً فحلِّت بهما حالة من السلام الغامر، وتحولا إلى كون صغير متكامل ولد في لحظة مارقة من زمن لم يأتِ بعد.



#يحيى_نوح_مجذاب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نافورة الحياة
- موظفة الاستقبال
- عاصف1 كيركو3 (فانتازيا الأحلام)
- فانتازيا الزمن
- انحدار المنحنيات
- محرك الكون ووحدة الوجود
- لذة الاحتراق
- سراب الشفق
- نقرات في جسد العدم
- انبعاث اللارجعة
- أبناء السماء
- أبناءُ السماء
- أفق الحدث
- الأصابع البيضاء
- العاملة الصغيرة
- مخروط الزمن
- لا يفقهون تسبيحاً
- ومضة الحياة
- توأما السماء
- العقل الأعزل


المزيد.....




- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى نوح مجذاب - الوعي المطلق