ابوالقاسم المشاي
الحوار المتمدن-العدد: 1688 - 2006 / 9 / 29 - 10:15
المحور:
الادب والفن
النص الروائي ( وبر الأحصنة) للكاتبة: نجوى بن شتوان
إذا كانت الكتابة محايدة حقاً، فإن الأدب سيكون حينئذ مقهوراً
لا شيء لسوء الحظ ، أكثر افتقاراً للوفاء من كتابة بيضاء؛
إن التعبيرات الآلية تنشأ حيثما كانت تقوم في البدء حرية ما
وإن شبكة من الأشكال المتصلبة تروح تضغط أكثر فأكثر
على طراوة الخطاب الأولى
..
رولان بارت/ الكتابة والصمت”
(1)
النص الروائي(وبر الأحصنة)، نقراءه على حافة المحتوى الذي تصوغه نجوى بن شتوان دونما تماس، مع أي صيغة لتعددية(حواء/ الأنثى/ المرأة/ الأم/) ولكنها تتجه كمحاولة شبه جريئة لقارئ مفترض لا أُمثّلة..،وعلى حافة المنحى التخطيطي الممكن استعارته كتحفيف أو (تشذيب) للحواف (Cutting Edge) وبتوافق لا يرتبط بأي توجه أو منهج نقدي يعيق القراءة وما تتفتح عنه..، ولكنها بتوافق مع إعادة سبر أغوار ( المعطى) الذي يصوغه النص..) وحدود القراءة وهي ترسم تلك الملامح التي تم تحديدها وتأطيرها وشكلت الفراغ المتباعد للنص في تأمله للبؤس الإنساني وبعلامات تحفرها نجوى بن شتوان حادة وغائرة وعميقة دونما جرح دونما دم يسيل على أسفلت الطريق الذي سنسلكه ( وأن مثلته بطريق العابد)..، فهي من جانب تُعيد طلاءه ، لنكتب فوق بياضه نص الشاعر الإنجليزي فيليب لاركن: ” يتناقل الإنسان البؤس أباً عن جدّ ويتفاقم البؤس كالرف الصخري قرب سطح الماء، فلتخرج منها في أقرب وقت ولا تنجب أنت أي أولاد.”
(2)
الرواية التي تقرانا عَبرَها الكاتبة نجوى بن شتوان وننفذ تحت غطائها إلى تلك المخطوطات والاوشام والأختام القسرية والتي تموضعت في أكثر من وجهة وعلى أكثر من توجه، وارتسمت منذ أزمنة بعيدة على أكثر من طريق..وهي تنعي أزمنة غابرة أسيرة اليباس والجفاف والقحط والملح والعطش والقمع والرغبة و اليتم والاغتراب..وعلى تخوم المدى ليست سوى( كيان) يتناسل ويرث الهموم والأحلام معاً ( حواء/آدم..الإنسان في يقظته المبكرة كان يفكر فقط عندما يكون بحاجة إلى التفكير ولكنه لم يخلو من الهموم..!!)..و رواية وبر الاحصنة تبش في سلة الهموم وتأخذ منحى التخمين والحدس، وعلى ارواقها تستحضر منحنيات التداعي والتواجد وتخطط ضمن مجال استهلاك المفهومات التي تعكسها (أيديوغرافيا) التمثلات وتمثيل الكلمات بالصور والرسومات لتشكل مغامرتها(!!)، بتجاوزها لفعل الهيمنة وتأطيرات الايديو- ثقافة الاختزالية بوضعها المتداخل والمتضمن لسلطة فضح الخطاب الاجتماعي، والذي تقوضه الرواية بتعرية افتعالاته وانفعالاته واستبداده القسرى والسري.. وهذا الفضح يأخذنا إلى القراءة / الاستنطاقية..، وحسب ما يذهب إلى ذلك جاك دريدا: ” هناك دائماً إمكانية لأن تجد في النص المدروس نفسه ما يساعد على استنطاقه و جَعلْه يتفكك بنفسه.” ، وعلى دفة ذلك سنتجه لقراءة النص ضمن فضاء مفتوح يتسع لمختلف الاحتمالات المفاجئة.
(3)
بدايات الأولى التي صاغت يقظتنا من تلك الظلمة السحيقة/ ذاك الفجر..الذي شق رحم السماء ومازلنا نبحث في ثناياها عن دفاترنا المنسية وواجباتنا التي لم نؤديها..ومازال السر قابع في تلك اللحظة وفجر ولادتها بين جسدين (آدم/حواء)، ومازلت تشكل سر انتسابنا وماركة سلالتنا، ومازلنا نضرب حولها التكهنات.. ونؤجل امحائها لحظة اشتعال الموقد/ ولحظة الولادة/ وكثيرة اللحظات التي نسجنا من لفافها تلك الأمجاد/ الغابرة والطازجة/ وهاته النصوص.. نقرأ صمت السر الكامن بين ضلوع التأوه.. ومن أول الخطوات تجاه اليتم وأن صاغت الانثربولوجيا منهجياته ونحتت الأركولوجيا معالمه ومدافنه وقلائده وأحصت التواريخ سعيه ولهاته/ خيبته ورجاءه/ أمده وانتظاره/ هزائمه وغنائمه/ وأن اعتنقت السبايا مراتع خواءه ورعونة سلوكه..
” من ذهب مع حواء للكوافير الطبيعي.. ص7 “.
” حواء ليست لها أسرة تزورها، وتثقب زياراتها جيوب آدم النباتية، فقضى الله أن يتخلص آدم من تكاليف الزورة، على الطريقة الليبية على وجه الخصوص.. ص 8 “.
وتجدل النصوص خطوات حواء قبل أن يأتيها المخاض.. الكاتبة تخوض سفرها وسط جلبة (التصفيق/ المخاض/ الطلق/..) وبين تاء التأنيث ونون النسون، تبحث عن (وادي الهموم) الذي غلقّ تلك البدايات حيث (الوادي رمز حلمٍ متكررٍ بالأنوثة – فرويد) ولازلنا نقرأ صمتها على سحنات المومياء وعلى ضفة ذاك الوادي، وبين صخور الكهوف وأن ابتلعتها البراكين.
ولكنها تُعاد رسم صداها ونحت خرائطها على مختلف أنماط أشكال الثقافة المادية وتراكماتها المعرفية، ولكنها تحملها هموماً تعدّ مغلقة على المجتمع النسوي (محلياً!!) وفي أقصى حالات التمييز العضوي والوظيفي…
وكأن المطبخ صاغ وشكّل الحد الفاصل بين سلطة ذكورية (متوهمة) وبين خنوع وخضوع نسوي متوّج بكل تلك الإسقاطات والتناقضات المريرة والخوف المزمن والحاد. ومن غيرها (حواء) حين:
” اندفعت في البكاء إلى ما لا نهاية عندما وضعت قدمها فوق العتبة ولم تجد مخلوقاً في الدار لاستقبالها فهي يتيمة من دون أم تعلمها شؤون الرعاية بالصغيرين وتساعدها على الاهتمام بهما.. ص9 “.
نعثر بين طيات النص على حالة يتم ما وراء حكائية تتجاوز السرد ولكنها تفجر ذاك التراكم (الجيولوجي) الذي يمتد لأحقاب تاريخية مجوية ومتراصة من أول قطرة حليب إلى آخر استنساخ حيني، من بداية الشعور بالأنانية والاستحواذية إلى حدود الانهيار المفاهيمي لتلك العبارات المنزوعة المعنى/ المجردة عن وعيها..
“ماتت حواء بالجلطة الاجتماعية ومات آدم بفقر الفهم، وهما يواصلان التناسل وفض خصومات بينهم، وفي أول ليالي المأتم تعارك الأخوة على الميراث، تدخل بعض المعزّين لفض الاشتباك، الآخرون الذين لم يتدخلوا يدوياً بأسنتهم ألسنتهم..”
ويولد البطل خلف تلك المهزلة/ وخلف ذاك الصراع وكأن ولادة (البطل) نتاج للصراع اللا-متكافئ، صراع الأجيال، صراع الاستحواذ صراع الاستبداد..، فالبطل صورة ملوثة لكل تلك الجنائز والمدافن، ونص مزور لكل تلك الأناشيد والأفاعيل.. وأن غشنا القدر والتاريخ وصنعا تلك اللحظة المارقة عن كل حياد، فيا له من أرث فقير وشريد وهزيل..لا يستحق كل هذا العناء، فلماذا تبحث الراوية عن سر الاعتقال/ عن سر التوريث/ عن متاهة الحزن الذي لم يكتمل منذ فجر الخليفة ولكنه يزداد تراكماً ويزداد لوعة ولازال يسبح في بحيرات من الدموع التي لم تجف بعد:
“لقد كنّا نتسامح كما أوصانا أبونا آدم وأمنا حواء، فلعن الله الشيطان، إنه السبب في كل ما حدث لنا من سوء كليبيين، الشيطان هو السبب في عطل الفهم وعطل لغة الكلام الحسن والملكات الخيرة وكل شيء، كل شيء.. من قفل الشوارع إلى قفل الرؤوس!!”ص19-20
بين الموت والحياة، بين الخير والشر، بين الأنثى والذكر، بين الحرب والسلم، بين الثقيل والخفيف، بين الجوع والتخمة، بين الفقر والغنى، بين الكبير والصغير،… وما بين كل تلك المفارقات ندون الأحداث ونُعيد صياغتها ونتجاسر حولها وتدب في أوصال الحياة الاجتماعية ظلمة الفهم وحدّة الجهل وما تيسر من رهانات خاسرة أبداً، ويُعاد إخصاب تلك الخسائر (بين/ بين) مهما انتهت صلاحيتها أو ترأت لنا في ثنايا ظلمتها وبين طيات أوراقنا (المزورة) و شهائد ميلادنا التي تخدع أزمنتنا، (ومن قفل الشوارع إلى قفل الرؤوس)، يأكل الصدأ ما تبقى من مفاتيح وسلاسل ويلتهم التاريخ الوثائق الرثة الضائعة بين عفوية (المكان!!) وأسرار الخديعة التي كبلّت عنق الملفوظات قبل تلفظها (فأنتِ مدانة يا سيدتي… منذ تركت حواء جديلتها وأرفه في مهب الريح.. وحين قادتها (السلطة المزورة) إلى المذبح تارة قرباناً للخطيئة وتارة احتفالاً بالإله الجديد (الذكر)، وتحميل كل تلك التواريخ طاقة سلطوية يمثلها قابيل وهابيل/ جلجامش وأنكيدو/ أو تمثلها رغبة التنازع بين البقاء والفناء بين الخلود والعدم بين الخوف وطلب المغفرة/ بين وقود الشيطان وبين غريزة اللعب بالنار، وخلف ذاك الرماد يشعل النسيان ثقاب الذاكرة، فتدون النسوة حظهن العاثر على جلبة الرحى/ وخلف أغنيات وأهازيج مشفرة بالرغبة والغواية القابعة في سرة الحبل الذي لم يعثر على مشيمته بعد، ولازلن خلف سياج الانتظار يطلقن الزغاريد المبحوحة، ويرسمن وهم الخلاص وشم وحناء.. وعلى عتبات الأضرحة وعند مرابع الأولياء الصالحين والطالحين وعلى العتبة المقدسة بنزيفها ليس لها سوى (عشبة الخلعّة!!)
“ندمت حواء لأنها لم تتنازل حبوب منع الحمل، تذكرت أن لديها واحدة، فتشت عنها في صندوقها الأثري، ولما وجدتها أخبرتها الحبّة بأنها عجوزاً وانتهت صلاحيتها كولود ص17-18 !!”.
حيزالتمثلات والتهيئات المعبرّ عنه في اكثر من مساحة اشتغال تشكل وتصوغ مجالات لتحقيق الرغبات كما يراها عالم الاجتماع مارسيل موس. ويؤكدها المفكر والباحث في الاديان والانثربولوجيا مارسيا الياد باعتيارها تكرار ينشط الخيال ويخصبه وتنحى به الى حالة التوازن النفسي: ” التكرار البسيط، بمساعدة الخيال النشيط، لبعض الرموز الدينية ../ يترجم بتحسن نفساني، قد يفضي في نهاية المطاف إلى العلاج” .. وهذا ما يمكننا صياغته على حافة القراءة- (2)
يتبع…//
#ابوالقاسم_المشاي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟