أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - إيجابية الفلسطيني في رواية -الحياة كما ينبغي- للروائي أحمد رفيق عوض















المزيد.....


إيجابية الفلسطيني في رواية -الحياة كما ينبغي- للروائي أحمد رفيق عوض


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 7358 - 2022 / 9 / 1 - 02:29
المحور: الادب والفن
    


النص الجميل هو الذي يقدم مادة قاسية/ صعبة بشكل أدبي جميل، بحيث يوصل الفكرة للمتلقي لكن بأقل الأضرار النفسية، والنص المتألق هو الذي يقدم مضموناً مؤلماً لكنه يحدث الممتعة للقارئ، فالمتعة هي المفصل الأساسي في الأدب، وعندما تكون حاضرة، فهذا يشير إلى أن النص حقق (علامة) النجاح، وما يأتي بعدها يكون من باب زيادة الخير.
أحداث الرواية:
الرواية تتحدث عن "راشد" الذي يعتقل لمدة خمس سنوات تحت ذريعة محاولة طعن جندي، يخرج من السجن مصرا على الانتقام من الاحتلال، فيقوم بالتعاون مع صديقيه الشيخ زكي والثعلب، بالتحضير لعملية عسكرية، ينجح "راشد في قتل ضابط وجرح جنود والخروج من مكان العملية سالما إلى مخيم جنين بواسطة "أبو محمد" الذي يعطيه ملابس ابنه الشهيد "محمد"، حيث يضعه بين بالات القش في التراكتور، وفي المخيم تبدأ حياة جديدة "لراشد" الذي ينضم إلى مجموعة المقاومين في المخيم.
يبدأ "أبو السعيد"، ضابط المخابرات، في التحري والبحث من خلال اعتقال أكثر من مائة مواطن ومداهمة العديد من البيوت، يصل إلى معرفة الفاعل فيقوم بهدم بيته، لكن الفاعل يبقى طليقا، أثناء سرد الأحداث يعرفنا السارد على الحياة الأسرية لأبي السعيد الذي نجده يعيش حياة أسرية مفككة، حيث ترى زوجته الأشكنازية أنه أقل منها مكانه لأصوله العربية، ولأنه يتحدث باللهجة الفلسطينية، ولأنه يشرب الشاي بالميرمية كحال الفلسطينيين ويأكل الأكلات العربية، يخونها مع أكثر من امرأة، كما أنها كانت تخونه، فتكون نهايتهما بأن يطلق النار عليها فيردها قتيلة، ثم يصوب المسدس إلى رأسه ويطلق النار.
الاحتلال:
هذا محور الأحداث في الرواية، لكن السارد يدخلنا إلى تفاصيل الشخصيات وكيف تفكر وتتصرف، ويطلعنا على العيد من الأحداث، وكيف يتعامل المحتل مع الفلسطيني، وكيف يريده أن يكون، من أفعال المحتل الحواجز والبوابات التي وضعها على مداخل المدن والقرى الفلسطينية: "هناك بوابات حديدية صفراء تبقى معرضة لتذكرنا بالعقاب الدائم، والبوابات
ذوات قضبان لتمنعك من حمل حمولة زائدة، وأنفاق ومكعبات وأكوام من التراب، الذي احتل بلادنا هو من يفرض علينا المسارات التي نسلكها، وحدد لنا ساعات المرور وأعمار من يمروا إلى الحقول التي نزرعها أو يحين قطافها" ص11 و12، ولم يقتصر الأمر على إعاقة المرور، فنجد أن الجنود الموجودين على هذه البوابات والحواجز يعاملون الفلسطيني بطريقة مذلة، فعندما يحتج "راشد" على منع الجنود يتم الاعتداء عليه بالضرب، وبعد أن يسقطوه أرضا يضع أحد الجنود سكّيناً بجانبه ليتهم بمحاولة طعن الجندي، فيحاكم بخمس سنوات.
وبعد عملية قتل الضابط وإصابة الجنود يتحدث "أبو السعيد" بهذا العقلية: "أستطيع الآن أن أدمر يعبد، أكسر هذا الكبرياء، وهذه الأشجار، وهذا العنف، أنا من يحيي ومن يميت... أستطيع أن أفعل ما أريد دون أن أحاسب أو أعاقب... أريد أن أحطم يعبد كما تحطم أعصابي... ثم أمر آخر بتفجير الباب" ص39، وبعد أن يدخلوا البيوت يفعلون العجائب فيها، وعندما يحتج أبو راشد على ما يفعلونه: "فلماذا دمرتم البيت بهذا الشكل؟ قال أبو السعيد: حتى تتذكر زيارتي" ص65.
لم يتوقف الأمر عند هذه العقلية المريضة في التعامل مع الفلسطيني، بل تعداها إلى أن المحتل يريد من الضحية أن تكون بهذه المواصفات: "المحتل يريدك عاملا نشيطا وأمينا وصامتا، يريد ضحية شاكرة تماما، ولهذا فهو يقايضنا الهدوء بالحصول على التصريح للدخول للعمل في مصانعه ومزارعه، حتى أنه يتعامل مع سلطتنا السياسية بهذه العقلية، الهدوء مقابل الحزمة الاقتصادية والتسهيلات" ص44.
في المقابل الاحتلال يقتل ويدمر ويستبيح المدن والقرى والبيوت ويستولي على الأرض دون أن يحاسب أو يعاقب: "فهو يصادر أراضي الأغنياء والفقراء، ويضيق علينا جميعا من خلال طرقه الالتفافية وحواجزه ومن خلال حصاراته المتعددة، الاحتلال لا يريدنا حتى كجواسيس... حتى الجاسوس الذي يعمل معهم يقذفون به على قارعة الطريق بعد أن تنتهي الحاجة إليه" ص89، اللافت في هذا القول أنه يوضح طبيعة الصراع مع المحتل، فهو أبعد وأعمق من الصراع الطبقي، لأنه يمس كل الفلسطينيين وكل الأرض الفلسطينية.
يتحدث أبو محمد كيف تم قتل "محمد": "أقتحم الجنود عرابة، أخذوا يطلقون النار على الناس، قتلوا محمدا، هكذا قتلوه وهو ينتظر الصيدلاني، قتله جندي لا اسم له، قتله ومضى،
لم يسأل عن محمد وعن والده أو عن ابنه، قتله وظل يطلق النار" ص74، بهذا الشكل الهمجي يتم قتل الفلسطيني، وكأن فلسطين هي غابة يأكل القوي فيها الضعيف دون حساب، لهذا لم يتم الكشف أو معرفة الجندي القاتل، فهو ليس أكثر من أحد أفراد القطيع الذي يمارس دوره كمفترس للضحية.
إذا كان الاحتلال يقتل الفلسطيني لمجرد القتل، ويقتل دون حساب أو عقاب أو مساءلة، فكيف سيتعاملون معه إذا قُتل أحد جنودهم؟ يجيب الشيخ زكي: "أول ما يفكرون به هو كسر المطارد بالمس بأحب الأشياء لديه" ص134، العقاب الجماعي الذي يطال أسرة المقاوم ومنزلها، هو وسيلة المحتل، فيهدم بيت المقاوم، ويعتقل أهله جميعا، حتى لو كان الأب والأم شيوخا وعجزة يتم اعتقالهم والتحقيق معهم.
المكان:
اللافت في رواية "الحياة كما ينبغي" معرفة السارد بكل تفاصيل المكان، فيصفه بدقة متناهية، وكأنه يتحدث عن صورة أمامه، وبما أن مكان الحدث هو يعبد وعرابة وجنين، فقد تناوله السارد بجمالية أخاذة، فجمالية الوصف جاءت كانعكاس لطبيعة المكان، يفتتح السارد الرواية بهذا المشهد: "هذا هو الفجر، وهو من القوة والكثافة بحيث لا يمكن احتماله، كل شيء يستيقظ ويبدأ بالحديث، الشجر والطير، والنسيم اللذيذ، تعالى الأذان في عرابة وفي كفر راعي، ...،كانت القرى المنثورة على أكتاف الجبال وبطون الوديان تشع بالأضواء والأصوات، بدت شهية وبالغة الفتنة" ص7، فاللغة هنا تتماثل تماما مع جمالية وطبيعة المكان، حتى إذا ما توقفنا عند الألفاظ سنجدها بمجملها ألفاظ بيضاء/ ناعمة/ هادئة/ سلسة تبث الراحة والجمال في المتلقي، فالعقل الباطن للسارد وهو الذي نقل لنا هذه الصورة، لهذا وصلتنا فكرة الجمال بأكثر من طريقة، من خلال المضمون المباشر، ومن خلال الألفاظ الناعمة.
أما عن تفاصيل المكان فيقول: "فها هو الآن ينحدر مع الشارع الآتي من يعبد، ها هو يتجاوز البوابة الكبيرة المقوسة والمهيبة التي ترحب بزائري عرابة وتودع مغادريها، وسيكون على يمينه أطلال معسكر جيش الاحتلال الذي أصبح خرابة بعد أن تركه هذا الجيش منذ عام 1994، وسيكون على شماله السهل بكل ما فيه من ألوان وروائح وأشجار وحكايات، ها هو الآن يصل إلى مفترق الطريق الكبير، حيث الطرق إلى نابلس جنوبا والطريق إلى جنين شمالا والطريق إلى
قرى مركة وجربا وما بعدهما من قرى وبلدات بالغة الفتنة شرقا،" ص119، فالجمال الذي وجدناه في المقطع الأول ناتج عن المعرفة والحب الذي جاء في المقطع الثاني، فدقة الوصف تشير إلى أن السارد اندمج وتوحد في المكان، لهذا جاء وصفه وألفاظه بهذه الدقة وهذا البياض.
وهناك تأكيد على دور المخيم كمكان حاضن للمقاومة، فالسارد يعيد مكانة المخيم البهية إلى الأذهان: "قال راشد: هل صحيح أن أهل المخيم لن يضيقوا ذرعا بالشباب؟ قال الشيخ زكي "يا رجل هؤلاء أبناؤهم. المخيم وذكرياته وآلآمه وأوجاعه هي كل ما لديهم،... الليلة عرسه وكل المخيم سيشارك فيه الآن، كل أهل المخيم شاركوا في بناء بيت صغير له. ورتبوا كل ما يتعلق بشؤون حفلة الزفاف حتى استضافة الزجالين... هذا عرس لكل المخيم" ص155 و156.
وبما أن الرواية تتحدث عن "راشد" الذي يقوم بعملية عسكرية في سهل "عرابة/ يعبد فهذه إشارة منه إلى أن القرية هي مصدر الثورة، وأن الحضانة لها تكون في الأماكن الفقيرة/ المخيم، وهذا يأخذنا إلى الطرح الطبقي ودور الفقراء/ الكادحين فيها، يقول الشيخ زكي عن هذا الأمر: "هؤلاء أناس بسطاء، هؤلاء فقراء، بائعو بسطات، سائقو سيارات، عمال في متاجر أو مخازن أو ورشات بناء، مهمشون، خائبو أمل، اكتشفوا خديعة كبرى، رأوا عنف المحتل وتهميش الواقع وفراغ المرحلة... لماذا أنت هنا؟ لماذا أنا هنا؟" ص156، أن يأتي الطرح الطبقي من شيخ فهذا يشير إلى أن الواقع هو من يوجد الفكر، وليس الفكر من يوجد الواقع، وبهذا يكون السارد قد أكد أن الماركسية كفلسفة هي حقيقة موضوعية، نجدها على الأرض وبين الناس، وهي موجودة عند كل من يحتكم إلى الواقع.
شكل الرواية:
لقد وزع السارد أحداث الرواية على ثلاث وعشرين شجرة، تبدأ بشجرة الزعور وتنتهي بشجرة التبغ، وإذا ما علمنا أن عدد صفحات الرواية مائة واثنان وسبعون صفحة، يمكننا الوصول إلى أن حجم كل جزء بحدود ست إلى سبع صفحات، وهذا العدد يتناسب مع طبيعة القارئ المعاصر الذي يريد أعمالا أدبية لا تحتاج إلى وقت طويل، وهذا ما سهل على القارئ تناولها.
السرد:
نلاحظ أن السرد لم يقتصر على شكل بعينه، بل نجده بأكثر من شكل، فهناك السارد الخارجي (العليم)، وأنا السارد، وتداعي ضمير المخاطب، حتى أننا في الصفحة الواحدة نجده الأشكال
الثلاث، فعلى سبيل المثل جاء في الصفحة 54: "لن أبقى بين جوع وخوف وانقطاع عما يجري، لا يمكن أن أتعفن هنا بحجة السلامة أيضا، من يحمل بندقيته هنا في هذه البلاد فإن الخيارات قليلة جدا، (أنا السارد)/ عندئذ شعر راشد بعظم ما يفعل، أنه شهيد حي فعليا، أنه يمشي على حافة قبره، فقد يقتل في كل لحظة،... وقد تكون حبات اللوز هذه هي آخر ما يأكل. (السارد الخارجي، العليم)/ هذ هو يا راشد، الآن يجب أن تنضج الصورة أمامك، أنت تحمل روحك على كفك، وحساباتك هي حسابات أخرى، ليست من ضمن حسابات الدنيا أو تحقيق المطالب أو حتى إصابة الشهرة، أنت مع بندقيتك تواجه ذاتك وأعماق نفسك، ماذا تريد؟ (تداعي ضمير المخاطب)/ ما أريده هو أن أطرد الاحتلال من أرضي... أنا مجرد فرد عادي ولكني أفعل ما يجب علي أن أفعله، لن أنتظر أحدا حتى يبدأ، ولن أدعو أحدا ليكون معي... الاحتلال مشكلة شخصية قبل أن تكون مشكلة قومية، أنا أريد أن أغير حياتي (أنا السارد)/ وهي حقيقة اقتنعت بها يا راشد أيام كنت في النقب، خمس سنين هناك جعلتك إنسانا آخر تماما، كانت سنين عذاب حقا، (تداعي ضمير المخاطب)/ خمس سنين جعلت من راشد شخصا آخر تماما، رأى ما لم يره وسمع ما لم يسمعه (السارد الخارجي، العليم)" هذا التشكيل والتعدد في أشكال السرد أزال شيئا من القسوة الموقف الذي يمر به "راشد" فتعدد أنواع السرد خدم المشهد والحالة التي يمر بها بطل الرواية، وأسهم في توضيح نفسية المقاوم، فتعدد السرد أعطى صور كاملة وشاملة عن حالة راشد.
ولم يقتصر هذا التعدد في تناول شخصية "راشد" الإيجابية، بل تعداه إلى شخصية ضابط المخابرات "أبو السعيد": "رفع أبو السعيد رأسه عن طاولته، أنتبه أنه غفا لدقائق معدودة، استغرب أن تبقى في ذهنه كلمات المعتقل عالقة وكأنه انتهي لتوه من التحقيق معه (السارد الخارجي، العليم)/ يا إلهي، ولكني لم أحقق مع أحد... هذا الحوار لم يحدث إطلاقا (أنا السارد)/ هذا صوت الضحية في داخلك يا أبو السعيد، أنت تحفظ مقولاتها وادعاءاتها، أنت تستطيع أن تعيد كل ما يؤمنون به، (تداعي ضمير المخاطب)/ لا يمكن أن نعبث بدمائهم طيلة الوقت دون أن يلبسنا هذا الدم ويتلبسنا، هذا شبح الضحية يتحدث داخلي، هذا ليس أنا على الإطلاق، من أين لي الطاقة والقدرة أن أصمد أمام كل هذا العذاب والأنين؟ هذا حوار لم يحدث أبدا، أريد أن أحطم علي أبو علي الذي أفسد علي خطتي. (أنا السارد)/ أدخل جنديان علي أبو علي مقيدا ومعصوب العينين، أجلساه على كرسي بلا ظهر، رفعا عن عينيه قطعة القماش، بادرة أبو السعيد بعدوانية شديدة: الآن ستدفع ثمن بطولتك الكاذبة/ (السارد
الخارجي، العليم." ص97، يستوقفنا تنوع السارد الذي طال الشخصيتين "راشد وأبي السعيد" وهنا نطرح أسئلة، هل أراد السارد بهذا الأمر الإشارة إلى توازن القوة بينهما؟ أم أنه أراد أن يعطي صورة عن كونه ساردا موضوعيا/ حياديا حتى عندما يتناول العدو، وبهذا يكون السارد عادلا غير منحاز، على النقيض من عدوه الذي يقدمنا بصورة سلبية؟
الفلسطيني:
اللافت في الرواية أنها تقدم الفلسطيني بصورة إيجابية، على النقيض من رواية "مقامات العشاق والتجار"، وهذا يعود إلى طبيعة الرواية وأحداثها وزمانها، فنجد السارد الرئيسي/ العليم ينحاز للفلسطيني، حتى أنه على هواجس ضابط المخابرات "أبو السعيد" عندما أخذ يفكر بالفلسطيني: "وهو يعترف الآن أنه بالقدر الذي يكرههم ويقرف منهم فهو يحبهم أيضا، وهو يعرف الآن أنهم أقدر منه على ممارسة الحياة والأمل فيها وأقوى منه في التعليق بالمعاني الكبيرة، وهم يضحون بدون راتب ولا ينتظرون رتبة ولا شهادة تقدير ولا ميدالية" ص25، ولم يقتصر تأثر "أبو السعيد" بالفلسطيني على التفكير فقط، بل طال أيضا أعمالهم ما يفعلونه في بيوتهم، فعندما دخل منزل "عمر أبو طالب" أدهشه جمال البيت: "فوجئ بالحديقة المنسقة والغنية، شدته وردة الجوري وفم السمكة، كان ذلك أشد ما يستغربه لدى الفلسطينيين. حبهم للشجر والورد... يزرعون أينما يتواجدون وينتظرون ما يزرعون" ص35 و36، هذا على صعيد تأثر العدو بالفلسطيني.
وفي أحداث الرواية نجد السارد يقدم الفلسطيني بصورة الرافض للاحتلال والمقاوم له، حتى لو كانت النتيجة المقاومة الموت، يحدثنا عن أحد الشباب الذين تحصنوا في أحد البيوت، وكيف خرج لهم ببندقيته بعد أن قام المحتل بقصف البيت: "وفجأة، ومن قلب الركام والحجارة وأبواب الخشب المحطمة ينطلق شاب قصير القامة بكامل عافيته وقوته ثم يفتح النار باتجاه الجنود وهو يصرخ: الله أكبر" ص48، وهنا يأخذنا السارد مرة أخرى إلى "أبي السعيد" والذي قال لنفسه: "جئنا لنذل البلدة ونهينها فأذلتنا وأهانتنا" ص49.
ويقدم "راشد" بطل الرواية بصورة المتحدي للاحتلال الذي يرفض الانصياع لجنود: "قال الجندي: ارفع القميص... ارفع القميص. صرخ راشد: لن أرفع القميص. مر طيف والده في خاطره... الكرامة الشخصية آخر وأعز ما نملك" ص30، وعندما يحكم عليه بخمس سنوات
سجن نظير احتجاجه على ما فعله جنود الاحتلال على حاجز الحمرا، يتخذ قرارا جديدا: "عندما أخرج من هنا، سأفعل كل ما لا يتوقعه المحتل مني... سأفشل كل هذا الذكاء" ص55، اللافت في طريقة تقديم "راشد" أن تحديه للمحتل في تصاعد وتطور، ففي البداية كان يحتج بالكلام، برفض ما يقوم به المحتل، إلى أن وصل إلى المقاومة المسلحة، المقاومة التي توقع القتلى في الجنود والضباط.
بعد أن يقوم "راشد" بعملته يختبئ من الطائرة التي أخذت تحوم فوق الأرض، وعندما يراه "أبو محمد" يتصرف معه بهذا الشكل: "أنني وبعد غياب المروحية تسللت إلى المكان، لي أرض هناك، لبدت تحت شجرة بطم، استطلعت المكان، وفجأة شاهدتك تتسلل زاحفا إلى شجرة الإسكدنيا، رأيت بندقيتك ورأيتك تعود إلى حيث كنت، فأدركت كل شيء.
- يا إلهي... ولماذا صبرت كل هذه المدة حتى كشفت نفسك؟
- كانت أحرسك... لو كان هناك خطر عليك لنبهتك، فلما دخل المساء قلت لا بد أنك جائع وبردان وبحاجة إلى مساعدة" ص86 و87، الجميل في هذا المشهد أنه يعطي صورة متكاملة للمجتمع المقاوم، فوجود حاضنة اجتماعية للمقاومة يعد أحد العناصر الضرورية لبقاء المقاومة واستمرارها، وبدونها تفقد مواردها وقوتها وتمسي مكشوفة ووحيدة أمام المحتل.
وهناك أم الشهيد "محمد" التي ما زالت تحتفظ بملابس ابنها وتعطرها كإشارة إلى أن الفلسطيني لا ينسى الشهداء: "أغرورقت عينا راشد بالدموع وهو يرى زوجته سامية ما زالت تحتفظ بملابسه وتعطرها وتبخرها وتغير اسم ابنها إلى راشد" ص75، هذا المشهد كان علامة فارقة في الرواية، حيث أخرجها من ثوب الواقعية إلى الرمزية، فبعد أن يرتدي "راشد" ملابس الشهيد "محمد" يبقى حيا ويطور مقاومته بعد أن ينظم إلى المقاومين في مخيم جنين، فكانت هذه الملابس بمثابة حياة جديدة للبطل "راشد"، حياة تحمل فكرة التعلم من تجربة الماضي، وعلى أن دور المقاوم المحترف يتمثل في البقاء حيا وليس في الموت.
وجاء التحدي الأكبر المحتل من "أم راشد" التي ردت على هدم بيتها بهذا الشكل: "ولما أطاحت ذراع الجرافة بشجرة الزنزلخت الوارفة المشرقة وآذتها، انفجرت أم راشد بزغرودة من أعماقها الفخر والكبرياء والألم الممض" ص169، بهذا الشكل يؤكد السارد إيجابية الفلسطيني،
فكل الأحداث والشخصيات، حتى العدو نفسه في الرواية قدمت الفلسطيني بصورة إيجابية، وهذا ما يجعلها رواية رافعة للأمل، وللمقاومة، وللخير الكامن في هذا الشعب.
الرمز:
رغم أن الرواية واقعية، إلا أن السارد استطاع أن يضيف جمالية عليها من خلال استخدامه الرمز، من خلال ملابس الشهيد "محمد" التي أعطاها "أبو محمد لراشد" ليرتديها بدلا من ملابسه الغارقة في الطين، فالسارد يذكر الملابس في أكثر من موضع في الرواية، منها: "ساترك لك الآن ملابس محمد... وسآتيك بعشاء" ص73، الرمز طال البعد المادي "ملابس وطعام" والبعد الروحي؛ ملابس شهيد.
وللتأكيد أن ملابس "محمد" لها بعد رمزي ما كانت تفعله "أم محمد" بها: "تحتفظ بملابسه وتعطرها وتبخرها وتغير سم ابنها إلى راشد" ص75، من هنا نجد أثرها الإيجابي على "راشد": "لا يعرف راشد كيف أمضى ليلته وهو في ثياب شهيد" ض101، ونجد "أبو محمد" يتعامل مع راشد كابن له، كابن جديد: "قلت لله سبحانه وتعالى: أحمه يا رب، لا تفجعني مرتين" ص103، نلاحظ أن العلاقة بين عائلة "أبو محمد وراشد" أخذت منحى جديداً، منحة أكثر من التعامل مع مقاوم، فكان هناك البعد الروحي/ العاطفي له أثره على "راشد" من هنا وجدناه يستمر في المقاومة التي أخذت تتصاعد، بينهما عدوه يقتل نفسه بيده.
ملابس "محمد" تمثل أكثر مما هو مادي، هذا ما أكدته أم محمد: "قالت إن الله سيحميك، وأن ثياب محمد التي ترديها لن تضام مرتين بإذن الله، قالت إن الله سيحميك ويحفظك... وأن محمد يحبك ويهديك السلام" ص106، كل هذا يؤكد أن الملابس لها بعد رمزي أعمق وأبعد من الفهم العقلي، فبدت وكأن لها كرامه خاصة، لا يلمسها أو يعيها إلا من هم مؤمنون بكرامات الله التي يخص بها عباده الأتقياء.
بعد أن وصل "راشد" مخيم جنين، يرفض خلعها وارتداء ملابس جديدة، فقد علم أهميتها ودورها في نجاته وبقائه حيا، وعرف سرها ورمزيتها، ألم يصبح "محمد" جديداً: "أعطني مقاسك لأدبر لك بنطلونا وقميصا غير هذين. رد راشد بانفعال: هذه ثياب شهيد، هذه ثياب الشهيد محمد من عرابة... لا أخلعها أبدا" ص141، استخدام "راشد" لا أخلعها أبدا" تأكيد أن لها أثراً خاصاً عليه، وإشارة إلى أنه مستمر في المقاومة، وأخذ ثأر الشهيد "محمد" من العدو.
أسئلة الرواية وحكمتها:
هناك أسئلة مفصلة في الرواية تبين طبيعة الصراع بيننا وبين المحتل، فبدت الرواية وكأنها تبين خلاصة فكر السارد عن طبيعة الصراع، أحد هذه الأسئلة جاء من خلال ضابط المخابرات "أبو السعيد": "ما الذي نريده من الفلسطينيين إذا كنا لا نريد إبادتهم أو طردهم لأسباب عديدة؟" ص25، وهناك سؤال آخر جاء بواسطة راشد، يتحدث فيه عن وكلاء الغرب المعادي لنا: "إذن، كيف يمكن لنا أن ننتصر في هذه الحرب بينما كل أطرافها مشمولين بعطف بريطانيا ودعمها وتموليها، كيف يمكن لحلفاء بريطانيا أن ينتصروا على بعضهم البعض" ص120. ففي السؤال الأول نجد استمرارية الصراع مع المحتل على كل ما هو فلسطيني، الأرض والشعب: وهذا ما أكده "أبو الجوج" أحد المقاومين في جنين: "ـإسرائيل تريد تحويلنا حقا إلى سقائين وحطابين وقتلة أفاعي... وبعد مائة سنة نعود إلى المربع الأول... المعركة على الوطن كله لا على أجزاء منه" ص171، أما السؤال الثاني فنجد الإجابة عليه من خلال تبيان قاعدة مهمة لكل من يدعي التغيير/ الثورة/ الوطنية/ القومية/ اليسارية: "التنظيم وسيلة وليس غاية في حد ذاته" ص57، "التنظيمات ليست هي الغاية. إنها مجرد وسيلة" ص139، وهذا ما يجعل كل من يدعي أنه ينتمي لجماعة/ لحزب هو من يمتلك الحقيقة المطلقة بأن تنظيمه/ حزبه ما هو إلا وسيلة لتحقيق أهداف وطنية/ قومية، فالتنظيم/ الحزب ليس مقدساً، ولن يكون، من هنا يجب تقديم المصالح الوطنية/ القومية على أي مصالح أخرى، وإلا كان الحزب مجرد وسيلة تحقق غايات وأهداف لأشخاص بعينهم.
وكإشارة إلى دور التنظيم اجتماعيا: قال صديق راشد المرن: "هناك طليعة تخلق الحدث وجمهور يلحق بها" ص88، من هنا كانت المقاومة في جنين تمثل رد الطليعة الحقيقي على المحتل: "ما يجري في جنين هو ملء الفراغ الذي حصل، وهو الرد على العجز والاستهتار وفشل التسوية، وهو الرد على الإذلال والبطالة والقتل المجاني" ص139، ففي هذا القول الذي جاء على لسان "الثعلب" أحد المقاومين رد على الواقع الرسمي الفلسطيني، وتأكيد دور الحزب/ التنظيم اجتماعيا ووطنيا وقوميا.
* الرواية من منشورات الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2022.



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية أفاعي النار حكاية العاشق علي بن محمود القصاد جلال برجس
- الأخلاق في رواية هاني بعل الكنعاني لصبحي فحماوي
- مناقشة رواية الصدور العارية في دار الفاروق
- القيمة المعرفية والتحليلية في كتاب -سميح القاسم شاعر الغضب ا ...
- العبرة التاريخية في رواية هاني بعل الكنعاني ل صبحي فحماوي
- اللفظ ا والمضمون في قصيدة -قرقوزات- منصور الريكان
- الملحمة والمعاصرة في رواية -البكاء بين يدي عزرائيل- حسام الر ...
- المطارد في رواية -العاصي- سائد سلامة
- مناقشة رواية -هاني بعل الكنعاني- للروائي -صبحي فحماوي-
- المثنى في -قال الناس- أحمد سعيد محمد بوكيزي
- التنوع في مجموعة -حديقة بلا سياج- فيصل سليم التلاوي
- رسائل من القدس وإليها جميل السلحوت وصباح بشير
- رواية عودة ستي مدللة مصطفى عبد الفتاح
- الفلسطيني في كتاب -ذاكرة المنفى- تيسير نصر الله
- جمال التقديم في كتاب -الدهيشي- عيسى قراقع
- الاسم وأثره في قصيدة -فيء الفاء- وجيه مسعود
- التغريب والدهشة في قصة -الخبر السيئ لنبيل عودة
- السيرة الغيرية في كتاب -الطيور لا تغرد بعيدا عن أوطانها- للك ...
- إليكِ: فالحبّ ليس وجهاً واحداً فراس حج محمد
- رائد الحواري يقرأ أدب محمود شاهين في كتاب جديد


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - إيجابية الفلسطيني في رواية -الحياة كما ينبغي- للروائي أحمد رفيق عوض