أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد الهادي حاجي - القبيلة المغاربية واقع التعدد والتنوع















المزيد.....



القبيلة المغاربية واقع التعدد والتنوع


محمد الهادي حاجي
باحث متحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع

(Hajy Mohamed Hedi)


الحوار المتمدن-العدد: 7244 - 2022 / 5 / 10 - 14:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


القبيلة المغاربية واقع التعدد والتنوع :
تعتبر القبيلة من الجماعات "التقليدية" التي يستند وجودها إلى العادات والتقاليد والأعراف والتراث والعقائد والدين وفي شطر منها ترتكز على روابط الدم والنّسب والعلاقات والوشائج العائلية والعشائرية والقبلية وعلى المورث الثقافي والديني والطبائع والتقاليدالمحافظة. فهل تشمل الأسر والعشائر والتجمعات الاجتماعية والسياسية المحافظة؟ فالقبيلة هي جماعة تربط أعضاءَها صلات الدم والقرابة والإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وأسلوب المعيشة والقيم، ومعايير السلوك المشترك وهيكل السلطة الداخلية. وتعني البنية الاجتماعية الأساسية، والشكل الواقعي الملموس للنظام القبلي، ويمثّل هذا النظام بما يختزله من رموز وقيم ومعايير بالنسبة للقبيلة، روحها وايديولوجيتها في تحقيق وجودها المادي وإعادة إنتاجها الاجتماعي، فهي وحدة اجتماعية يعتقد جميع أفرادها أنهم ينتسبون إلى نفس الجد سواء كان هذا الاعتقاد حقيقيا أو وهميا. وتشكل رابطة الدم محور التعاون والتماسك الاجتماعي والتضامن في هذه البنية وهو ما يطلق عليه ابن خلدون مصطلح العصبية وتشكل القبيلة كيانا سياسيا مستقلاوبهذا التوصيف فهي "لا تنطوي فقط في المسافة المتجانسة لمسكنها ولكنها تبسط أيضا سيطرتها وشرعيتها وحقها على موطن. إن السيطرة على موطن يسمح للجماعة بتحقيق مثالها الاكتفائي، واكتفائها الذاتي من الموارد فتصبح غير متعلّقة بأحد ومستقلّة تمام الاستقلال ولكي تحمي القبيلة أرضها الخاصة بها، فهي تعتبر جميع ذكورها مجندين( ) متى أصبحوا قادرين على حمل السلاح، "كما توجد تنظيمات رسمية في القبيلة تعمل على تأكيد وحدتها وتماسكها الاجتماعي، وبالتالي تحافظ على كيانها واستمرار وجودها، أهم تلك التنظيمات، التنظيم السياسي، وأَجلُّ مظاهره أنْ يُمثّل القبيلةَ رئيسُ يحظى باحترام الجميع، ويشاركه في رعاية شؤون القبيلة مجلس يسمى "مجلس القبيلة" ويتكوّن في الغالب من رؤساء العشائر إذا كانت القبيلة تتكوّن من عشائر" ( ).
و تعتبر العشيرة فرعا من فروع القبيلة التي تتكوّن من مجموع عشائريعرّفها علماء الاجتماع والأنتروبولوجيون بأنها مجموعة من الأفراد تنحدر من نسب واحد ولها جدّ مشترك والانتماء إليها يكون إما عن طريق النسب الأبوي أو النسب الأمي ولا يكون عن طريق النسبين"( )، وبوصفها وحدة التفاعل الاجتماعي الحقيقي داخل القبيلة، تقوم العشيرة أو الفرقة بعدة وظائف اجتماعية لأفرادها فهي المسؤولية عن تنظيم النشاط السياسي والاقتصادي ورعاية شؤون الزواج والسهر على الضبط الاجتماعي والتضامن بين أفرادها، كما يمكن القول في هذا السياق أنّ الأسرة الممتدّة أو العائلة هي الوحدة الأضيق نطاقا من العشيرة، وتعتبر حجرالزاوية في التنظيم الاجتماعي التقليدي والوحدة التي تتأسس عليها الجماعات الأخرى الأكبر كالعشيرة والقبيلة.
ويعرفها "بيار بورديو" بأنها الخلية الاجتماعية الأساسية والنموذج الذي على صورته تنتظم البنيات الاجتماعية.ولا تقتصر على جماعة الأزواج وذرّياتهم، ولكنها تضمّ كلّ الأقارب التابعين للنسب الأبوي، جامعة بذلك تحت رئاسة قائد واحد عدة أجيال في جمعية واتحاد حميمين" ( ).
أما موريس غود ولييه فيرى أن عبارة القبيلة tribe الانقليزية أو tribu باللغة الفرنسية مشتقة من العبارة tribus باللغة اللاتينية، والمرادف لـtribus هي phuté باللغة اليونينية القديمة، وتعني ورقة feuille. وفي علاقة بالفعل phuo الذي يعني ولّد. ويرى بأن القبيلة تتكون من عدد من النساء والرجال تربط بينهم علاقة قرابية تسمى بالمجموعات العشائرية تؤكد انحدارها من سلف مشترك "وهذا ما يؤدي إلى ولادة عشائر أبوية النسب كما في روما أو في العالم العربي"( ).
ويعتبر النسب المعيارَ الثابتَ والمهمّ في دراسة القبيلة وتنظيمها الاجتماعي، والذي يجعل منالقبيلة حقيقة بنيوية تتجاوز الظرف والمرحلة وتعتبر نمطا يصمد أمام الزمن. ويعتبر بعض المختصين أنّ المصلحة المشتركة تشكّل أيضا ركيزة مفصليّة في تكوين القبيلة، ويأخذون بعين الاعتبار الذين يلتحقون بالقبيلة من خارج النسب القبلي وأصبحوا يشكّلون فرعا من تفريعات القبيلة، تُحَقِق لهم الغايات وتسدّ حاجاتهم الأساسية، وتحميهم، وفي كنفها يذوب الفرد ويتشبّع بالروح الجماعية.
ويعرفها ابن منظور في لسان العرب "ابن الكلبي يرى أن الشعب أكبر من القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ، واشتق الزجاج القبائل من قبائل الشجرة أي أغصانها ويقال قبائل من الطير أي أصناف وكل صنف منها قبيلة... والقبيلة هي الجماعة من الناس يكونون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى كالزنج والروم والعرب وقد يكونون من نحو واحد وربما كان القبيل من أب واحد كالقبيلة"( ).
هذا التعريف يقوم على النسب كمحور للتصنيف والتجمّع وكذلك التدرج. " فهي مجموعة من الناس يتكلمون لهجة واحدة ويسكنون إقليما واحدا مشتركا يعتبرونه ملكا خاصا لهم" ( ) وهذا التعريف يستند على فكرة التجمع ووحدة اللغة والمحيط، فهي تتواجد في بنية جغرافية محددة ومعلومة، ولها حدودها الخاصة وأراضيها ومراعيها ومصادر مياهها وحيواناتها وأراضيها العامة المشتركة. وقد تكون هذه البيئة الجغرافية زراعية أو بعلية أو جبلية قاحلة أو صحراوية أو ساحلية.
فالقبيلة "نمط من التنظيم الاجتماعي" كما يعرفها عبد الباقي الهرماسي في كتابهالمجتمع والدولة في المغرب العربي، باعتبارها نمطا يقوم على القرابة، وهو تنظيم سياسي باعتباره مَرْجِعَالفرد، وهي مجموعة تقوم على القرابة على المستوى الواقعي، رغم المرجعية الأسطورية في الانتماء لنفس الجدّ، وهي تمثل نمط إنتاج ونسق ايكولوجي معقَّد التركيبة. ويتميز التعريف العربي للقبيلة بالدّقة من خلال تصنيفها والاتفاق على أنها جزء يندرج ضمن تصنيفات أخرى متدرجة، خاصة وأن العرب لهم عراقة في علم النسب ولذلك فإنّنا واجدون التدرّجيّة التالية:الجذم-الجمهور-الشعب-القبيلة-العمارة-البطن-الفخذ-العشيرة-الفصيلة-الرهط.
وتتكون القبيلة من عشائر وبطون وأفخاذ، ومن ثمّ تمتد إلى الفصيلة والرهط ويتزعّمها شيخيُنْتَخب من بين أفراد القبيلة أو تنتقل إليه بالوراثة، على أن يكون زعيمها الأب الروحي لجميع أفراد القبيلة، ويتصف بالشجاعة والذكاء والإقدام وسرعة البداهة والصدق والكرم والنزاهة، وبأنّه صاحب المكانة الاجتماعية في القبيلة نَسبًا وثروة ومقاما. ويُعَرّف بيشلر هذه الوحدة في إطار التنظيم الاجتماعي بأنها شكل انقسامي للتنظيم الاجتماعي يتكوّن من أقسام قاعدية يمثّل كل منها أسرة ممتدّة في عمق ثلاثة أو أربعة أجيال"
والقبيل هو الكفيل والعريف حسب الجوهري، وقبائل الرّجل أحناؤه المشعوب بعضها إلى بعض، وقبائل الشجرة أغصانها، وكل قطعة من الجلد قبيلة، والقبيلة صخرة تكون على رأس البئر، والقبيلة في الناس بنو أب واحد حسب لسان العرب". وقد تعدّدت المصطلحات التي تعبّر عن حجم الوحدات القرابية القبلية فميّزت رحمة بورقية بين "التجمع القبلي" و"التحالف القبلي" و"الاتحاد القبلي"، حيث استعملت المدرسة الانتروبولوجية هذا المصطلح الأخير على أوسع نطاق، وكذلك السوسيولوجيا الكولونيالية، في حين أن التجمع القبلي يضم مجموعة قبائل تكون فروعا في الاتحاد القبلي.
وتضم القبيلة ثلاثة أصناف من الأفراد أولها صرحاء النسب وهم أشراف القبيلةوأرستقراطيتها ويتفاوتون في الشرفبتفاوت بيوتهم في الحسب، وثانيهما صنف المَوَالِي والمُصْطَنَعون اللُّصَقاء الذين التحقوا بالقبيلة بواسطة اللّجوء. والصنف الثالث هم العبيد المُسْتَرَقُّون وعادة ما يكونون أسرى الحروب والغزوات( )، التي ترجع أيضا إلى "العلاقات الاقتصادية وأنواع الصراع الذي يقوم على الرغبة في الحصول على مستوى عيش أفضل سواء في علاقة القبيلة بالمجتمع القبلي القائم إما على التحالف أو الصراع والنزاع، أو في علاقة القبيلة بالسلطة المركزية والتي تعرف في الغالب المراوحة بين التحالف والعداء وفقا لما عليه الدولة من قوة أو ضعف"ويعتبر نظام الحلف لدى القبيلة من أشكال "الاستراتيجيات الدفاعية"، إذ يمنحها نوعا من التعايش، وهو لا يعني القضاء نهائيا على الصراع بل يعني في أفضل الأحوال تأجيله أو نقله من حدود إطار ضعيف يجمع قبيلتين إلى إطار أوسع يجمع ربّما المجتمع القبلي بأكمله، "فهو تضامن مجموعات ضدّ مجموعات أخرى من أجل الحفاظ على المصلحة المشتركة القائمة بالقوة"وقد بين "أوغستين برنار"أن »القبيلة لا تنمو فقط عن طريق الاندماج، بل كذلك عن طريق التجميع«( ).
أمّا في قاموس علم الاجتماع فيتحدَّد مفهوم القبيلة من خلال ثلاثة تعريفات أولها هي نسق في التنظيم الاجتماعي يتكوّن من الجماعات المحلية،تجمعهم علاقات أسرية وعشائريةوقبلية قوية،وتشكل البيئةالجغرافيةأساسا لوجودها.وأساسُ بنيتهاالتّماسك والتّعاضد والتّضامن.وتشكّل المدافع عن حقوق أفرادهامن الضيم والانتهاك. وثانيها هي نسق في التنظيم الاجتماعي،لجماعات يجمعهااللسان الواحدفي اللغة واللهجة،إضافةإلى العقيدةوالتاريخ المشترك للقبيلة فضلاعن الثقافةوالعادات والتقاليدوالتراكيب النفسيةالمتقاربةلأفرادها.وثالثا وأخيرا هي جماعةاجتماعية تقليدية تتميزبالاستقلال المضاد للتبعية،والحرية وعدم الخضوع،فهي مستقلةعلى الأقل في نظرأفرادها( ). فالقبيلة عند مونتاني لا تتحدّد بالانتساب إلى جدّ مشترك بل تتحدد كذلك بـ"وحدة التسمية ومجال العيش وفق تقاليد وأعراف موحّدة، بما يؤدي إلى تمحور أطرافها حول سوق أسبوعية أو ضريح أو وليّ أو بما يجمع بين فرقها من عداء للقبيلة المجاورة"( ).
ويقدّم مونتاني تعريفا للقبيلة من خلال الوقوف على جملة من التحوّلات التي عرفتها القبيلة في التاريخ، خاصة من خلال بنيتها السياسية أو نظامها السياسي حيث أنه من دون التّعرّض لهذا النظام لا يمكن فهم أو تعريف القبيلة، -على الأقل القبيلة البربرية-والتي تمثّل بالنسبة لمونتاني الصورة النموذجية لما كانت عليه المجتمعات الأوروبية حيث تتميز بخصال إيجابية كالإخلاص في العمل والشجاعة والديمقراطية.ويميّز مونتاني داخل هذا النظام بين أربعة مراحل:
مرحلةالحكم الجمهوري الد يمقراطي ومرحلة حكم الشيوخ "الأمغارن" ومرحلة كبارالقُوّاد ومرحلة حكم المخزن.
ويعرّف مونتاني القبيلة في هذا السياق بأنها مجموعة فرق تضمّ ما بين 3و 12 فرقة لها إقليم محدّد واسم وبعض العادات المشتركة وتكون في ذات الوقت مجرّدة من كلّ مؤسّسة سياسية واضحة ( ) ويفترض أنّ القبيلة وحدة دموية لأن "وحدة التراب أو الإقليم والاهتمام بالدفاع عنه وتطويره هما اللذان يخلقان بين الأسر المنتمية لنفس الفرقة مجالا اجتماعيا دائما، وليس الانتماء إلى أصل مشترك كما يعتقد السكان المحليّون في الغالب، بالرغم من أن الاسم المعطى لتاقبيلت(آيت لحسن، آيت عبد الله، آيت موسى)، ينزع في بعض الأحيان إلى الدفع بافتراض أن كل السكان هم أبناء لجدّ مشترك فإنه من اليسر النظر إلى هذا المعتقد بأنه مجرد وهم" ( ) ويميز مونتاني بين أربعة فروع داخل القبيلة من خلالها تكون هذه الأخيرة منظمة على الشكل التالي:الدواروالفخذ والفرقة والفخذات والقبيلة( ).
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى أن "اللف" حسب مونتاني يضم مجموعة من القبائل أو الحلف القبلي الذي تبرز نجاعته أو قوّته أثناء المناسبات الاستثنائية الخاصة كالحروب والتهديد الخارجي. وهو نظام من التحالفات المتعارضة التي تمثل في ظاهرة اللف، وفي هذه الحالة لا نجد عشيرة منعزلة تماما جغرافيا عن حلفائها، إذ تدخل العشيرة بأكملها داخل هذا الحلف أو ذاك،ليظهرتحالفان كبيران تنقسم وتتوزع بينهما العشائر. ويؤدي اللف وظيفة دفاعية عسكرية، فهو وسيلة لإيجادتوازن القوى، ونوع من الضمان ضد خطر الحرب، وهو لا يلغي النزاع ولكنّه يقلّل من إمكانية وقوعه.
ويؤدي "اللف" وظيفة أثناء السلم، حيث أن الذين ينتمون لنفس اللف يعتبرون أنفسهم إخوانا، وهذه العشائر المستقلة عن السلطة المركزية تنتظم في علاقاتها عن طريق نظام اللف( ).
"و على الرغم من التزاماته السياسية فإنَّ(مونتاني)استطاع أن يترك لنا أهمّ دراسة حول البناء القبلي في المغرب أنجزت في الفترة الاستعمارية، من حيث كثافتها وعمق تحليلها رغم ما تسرّب إليها من سلبيّات ( )"، مما دفع بمرسال موسى إلى أن يُحيي هذا العمل، رغم ما تطرحه هذه الأعمال من سؤال حول الموقف تجاهها.فمِثْل هذه الدّراساتتتضمّنُ معرفةً مشوّهةً للتاريخ والواقع، وشديدة الارتباط بالاستعمار ومشروعه.
اكّد مونتاي في نموذجه النظري حول القبيلة على مبدأ الثنائية في الصّراع أو النزاع، ويتجسم هذا الصراع من خلال الثنائية أو الاستقطاب الثنائي، فكيف نفهم الصراعات إذا خارج هذه الصّورة، فالنزاعات يمكن أن نتجاوز الثنائية وتشمل قبائل عديدة، وفي إطار عدائية متعددة الجوانب. فإن كانت هذه لمحة لمعنى القبيلة لدى مونتاني فكيف تناول جاك بارك هذه المسألة؟
رغم انتماء جاك بارك للحقبة الاستعمارية إلا أنّ تناوله للمسألة القبليّة كان مختلفا، حيث ركزت على الجوانب الإيجابية، في الدراسات الاستعمارية، وأبرزت ما هو خصوصي في الاسلام المغربي، ضمن مقاربة يقظة ترفض كل تعميم انطلاقا من حالة مزدوجة التحديد، إذ ينبغي حسب جاك بارك دائما الاهتمام بدراسة الحالات في ذاتها وفي جوانبها التاريخية، ضمن إشكال نظري آخر مختلف يتعلق بمحاولة قراءة وإعادة كتابة التاريخ الاجتماعي لشمال افريقيا، ومحاولة فهم التاريخ الحقيقي لهذه المجتمعات.
وبين جاك بارك في كتابه "البنيات الاجتماعية للأطلس الأعلى بالمغرب" أن القبيلة المغربية لا تجهل الشرع تماما، فهناك تداخل بين العرف القبلي والشريعة الإسلامية، وجَنَّبَ هذه الثنائية صفة التعارض المطلق. ومن ثَمّ اهتم بارك بدراسة المجتمع القروي لقبيلة "سكساوة" بالمغرب وعلاقاتها بالوسط الطبيعي. وهذا التّداخل بين الإنسان ووسطه الطبيعي هو الذي سيحدّد في نظره الشكل المجتمعي لهذه القبيلة المدروسة( )ويقول فيهذا الإطار "لقد سعينا فقط إلى التأكيد على الأهمية التفسيرية التي تكتسيها العلامات في فهم جانب من الظواهر الاجتماعية في شمال افريقيا، لأن هذه المنطقة ظلت باستمرار أرض البحث عن هوية الذات بالاستناد إلى التأويل أو التأكيد أو الخداع، أو بواسطة الاندماج أو الانشطار، ففي حياة الكلمات يكمن قسط من تاريخ ومورفولوجيا المجموعات ( ).
إن الحديث عن تجمُّعٍ بشريّ معيّن من خلال صراعه مع الطبيعة ومع التاريخ، هو ما طبع تَصوُّرَ جاك بارك للقبيلة، باعتباره صراعا يستوجب الحركيّة والديناميكية، وهو ما سيؤثر على تحديد التعريف أو المفهوم. فالقبيلة عبارة عن بنية اجتماعية ترتكز على عوامل اقتصادية جغرافية في علاقة الإنسان بالأرض، وهي بنية تتطور عن طريق التقارب ولا تتطور فحسب عن طريق التباعد، ونمو عن طريق التجميع إضافة إلى الاندماج ( ) ويرى بارك أن العوامل الأكثر تأثيرا في التنظيم القروي، هي الإنسان الاقتصاديإضافة إلى العامل الجغرافي وارتباطه بالقبيلة ضمن علاقة جدلية، "فالقبيلة إذن ظاهرة ثانوية، اصطناعية إلى حدّ ما، ولعل هذا ما يفسّر قابليتها للانقطاع والانكسار ويجعل فهمها أمرا مستعصيا"( )وقد شكّ"جاك بارك"في فكرة السلالة الواحدة المتأتِّية من الجدّ المشترك (الانتربولوجيا الكلاسيكية)، واعتبر أن ذلك مجرّد وهم، لا يستند إلى واقع ( )، إلا أن هذا الوهم أو الأسطورة يكون عاملا من عوامل التجانس والوحدة يدعم الجماعة وتماسكها( ).
ومن هذا المنطلق فإن فكرة التّعارض بين المخزن والسيبة وبين العرف والشّرع لا تستقيم مع الواقع، وهي ثنائيّات لا تمكّكنا من فهم استمرارية الدولة وكيفية قيامها بالتوازي مع وجود القبيلة، فكيف نفسّر اعتراف القبائل بالدولة وولائها للسلطان وهي القبائل المخزنية؟ كما أن الوحدة الروحية والاقتصادية للمجتمع الكبير تنفي مقولات مثل الانغلاق والاستقلالية للقبيلة، لذلك يمكن القول أَنْ ليس هناك نزعة الانقسام فقط، وإنما هناك أيضا نزعة أخرى مضادّة لها، وهي نزعة التوحّد وأساسها الإسلام.( )
وقد أثار بارك مستويات تحيل إلى مقاربة القبيلة، الاول يتمثل في مسألة التعريف هل الامر يتعلق بمعطى موضوعي أو بناء ايديولوجي وهمي في شروط معينة لتوفير الامن والحماية من اجل ادارة مجلي ترابي معين.
ويتمثل المستوى الثاني في التنوع الذي يشمل لفظ قبيلة امبريقي بين الكنفدراليات مثل آيت عطا ورموز التي لها مجلس الاربعين، التي لها وجودها الفعلي من خلال التصرف في الماء أو في الرعي.
أما المستوى الثالث فيتجسد في العدد الهائل لمسميات المواقع حيث تكرر للالقاب القبلية نفسها رغم تباعدها فيما بينها جغرافيا ضمن انماط عيش مختلفة.
يمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن الأنثروبولوجيا قد تجاوزت النزعة الكولونيالية في تحليلها للقبيلة باعتمادها البحوث الميدانية. ويُعْتَبَرُ"أرنسْت قالنار" من أبرز رواد هذه المدرسة، التي تدرس النسق السياسي للعلاقات داخلهابحسب الظروف المَعِيشَة، وهو نسق يتمّ النفوذ داخله بحسب حجم التكتلات صعودا أو نزولا، وتكون بذلك العلاقات مبنية على أساس التصادم والصراع( )ويرى قالنار أن القبيلة المغاربية تتميز بخاصيتين هما الانقسام والهامشية، إذ يقوم المجتمع على مبدأ الانصهار والانشطار. ومن خلال مقولة "أنا ضدّ أخي، أنا وأخي ضدّ أبناء عمّي، أنا وأخي وأبناء عمّي ضدّ الغريب"،فهي بمثابة الفروع التي تتحدّد بجدّ واحد أو أصل مشترك، رغم استمرارية التفرّع والتوالد الذي ينتج عنه صفة الانشطار والتي تصاحبها صفة الانصهار، كلما كان الخطر داهما، وتتميز هذه القبائل بالانشطار والتَجَزُّؤِ حيث أن كل قبيلة تنقسم إلى فروع مثل "الأغصان دون أن يكون هناك جذع رئيسي لأن جميع الفروع متساوية"( ). ومن هذا المنطلق يتحدّث الانقساميون عن المساواة وغياب التراتبية، فحتى وإن بلغ الأفراد والجماعات قدرا من الغنى والنفوذ، مما يعطيهم ارتقاء مؤقتا، فإن ذلك لا ينتج عنه تراتب اجتماعي "ولا يمكن أن يُرتَّب في مكانة أعلى أو أدنى اجتماعيا سوى الأشخاص الطارئون عن القبيلة" ( ). ومادام التراتب الاجتماعي والتمايز غائبين، فإن السلطة السياسية أيضا ستكون مفقودة، لأن هذه الأخيرة ترتكز على "التميّز" ( )، وهو ما سيعوّض بوجود الزاوية بقيادة شيخها، والذي سيشرف على تنظيم العلاقات القبلية الداخلية والخارجية، ويكون مسؤولا عن حلّ كلّ الإشكاليات والنزاعات ضمن ما يسمى بوظيفة "التحكيم" وعلاقتها بـ"الشرفة"، وهي عناصر من الثوابت في تعريف القبيلة لدى الانقساميين يقول "بريتشارد"في هذا السياق إنّ القبيلة هي أكبر جماعة بشريّة يعتقد أعضاؤها أنّ من واجبهم حلّ نزاعاتهم عن طريق التحكيم."( )
وتقوم القبيلة في النسق الانقسامي على جملة من المعطيات أهمها وجود مجتمع أبوي النسب ووجود علاقة توتر مستمر تتوزع على عدد من الدرجات وغياب الهرمية الثابتة ووجود السلطات خارج مجال التنافس، وهم شرفاء.
يمكن القول بأن المفاهيم الانقسامية المهتمة بالقبيلة قد تعرّضت للإثراء والنقد من قبل "الانثروبولوجيين الجدد" (عبد الله الحمودي، جون واتور بوري، وعبد الله العروي) ويقول جاك بارك في هذا السياق "إن المعرفة الانقلوسكسونية عوضت عن الواقعية الساذجة وأحادية الجانب، وهي صفات تَميَّزَ بها المستعمر الفرنسي بحِيَل الشكلانية وبالإعلان عن الانتماء الكوني ( )"
ويمكن في هذا السياق الحديث عن أنتروبولوجيا مغاربية حديثة يمثّلها كل من "هوبكنز" و"غيرتز" و"الكيلاني" و"فرشيو" و"دخليه" و"دافيز"، ضمن تيار أنتروبولوجي جديد." كما اهتم بعضهم بدراسة الأنساق الدينية والسياسية. وقد مكنت من اثارة عديد التساءلات الى الحقل السياسي الراهن من خلال اعمال "جون واتوربوري".
لا يمكننا التطرق لمفهوم القبيلة دون التعرض لهذه المسألة عند ابن خلدون الذي تتحدّد القبيلة لديه على أساس النسب الواسع والرمزي،فقد بيّن أنّ بين القبائل نسبا عاما ونسبا خاصا، "إلا أن النعرة (التعصب لأولي الأرحام ونجدتهم) تقع من أهل نسبهم المخصوص، ومن أهل النسب العام، إلا أنها في النسب الخاص أَشَدُّ لقرب اللحمة "( ). ويعطي ابن خلدون أهمية للمكان أي الأرض، الذي يشكّل محور تضامن الجماعة والتحامها، مما يعزّز تماسكها ويوطّد العلاقة السيكولوجية بين أفرادها، ويصبح السلوك سلوكا اجتماعيا يعبّر عنه ابن خلدون بسلوك "النعرة"الذي يظهر أو يبرز عند دفاع الجماعة عن نفسها، فهو يستخدم "العصبية" في معنى اللحمة وهي طبيعية (نسب). وفائدة النَّسَب أنّه يعزّز ويقوّي "الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة"( ).كما أنّ النّعرة اجتماعيّة (ولاء)، وهي تنْشأُ عندما تكون صلة الرّحم ضعيفة فيحلّ مكانها "الولاء والحلف"إذ "نُعْرَةُ كل أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تَلْحُقُ النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب وذلك لأجْل اللُّحمَةِ الحاصلة من الوَلَاءِ( ).." فاستخدم العصبية في معان عديدة، في معاني التضامن الدفاعي والتناصر أو الذّود عن الديار، وقد تأتي في معنى التكاتف بين أهل النسب فتشتدّ الشوكة ويُخْشَى جانبهم، الأمر الذي يمنع العدوان من وجود عصبية. واستخدمها في معنى صلة الرحم وهو كما يرى أمر "طبيعي في البشر" وهي "النُّعْرَة عن ذوي القربى وأهل الأرحام ( ): فحسب تصوره أنّه إذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريبا جدا بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة( )".
إنّ تصوّر ابن خلدون للقبيلة يجعل منها"مجتمعًا للعصبيّات"هذا بالرغم من أنّ مفهوم العصبية لا يقتصر على رابطة النسب وحدها، بل كذلك ينضاف متغيّر النسب، ويقول ابن خلدون في هذا الإطار"ثم ان القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة، فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها، تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنها عصبية واحدة"( ). من هذا المنطلق تتحدّد القبيلة وكأنها عصبية استطاعت احتواء أو التأثير على العصبيات الأخرى، وعلى هذا الإساس فإن ابن خلدون يعطي الأهمية للنّواة التي تحتل الركيزة الأساسية لقيام العصبية وتقوية شوكتها، وتعتبر العائلة منبع العصبية ومحرّكها. ويعتبر التعصب من أبرز المفاهيم المرتبطة بالقيم الاجتماعية والسياسية للمجتمع الفبلي، وقد اعتبر ابن خلدون أن التعصب القبلي ارتبط بالظروف الطبيعية اولا وبتأثير العامل القرابي في المجتمع البدوي الصحراوي ثانيا. "وعزا مفهوم التعصب إلى الطبيعة الصحراوية وعنصر القرابة"( ).ويشير ابن خلدون إلى تأثير البنية الجغرافية أو البيئة والمناخ على سلوكيات وطبائع الأفراد حيث تتميز المجتمعات القبليّة بطباع أفرادها الخشنة، بالبساطة والشجاعة واقتصار حياتهم على ما هو ضروري للحياة( ).
إن ما يحدد مفهوم القبيلة عند ابن خلدون هو طبيعة الاجتماع على أساس العلاقات الدموية، وهو الشرط التأسيسي لقيام الجماعة. وإذا توفّر شرط القرابة بين أفراد الجماعة تأسّس للعصبية وهي الصفة الثانية والضرورية الضامنة لوحدة القبيلة ويقول في هذا السياق "إن ثمرة الأنساب وفائدتها إنما هي العصبية للنعرة والتناصر، فحيث تكون العصبية مرهوبة والمنبت فيها زكي محمي، تكون فائدة النسب أوضح وثمرتها أقوى" ( ) وعند تراجع العصبية وتقلصها أو ضعفها في الدفاع عن القبيلة تعرضت هذه الأخيرة إلى التفكيك واللجوء والدخالة على قبائل الأخرى، وهي سُنَّةٌ دأبت عليها القبائل الضعيفة في المجتمع القبلي الذي يقوم على العصبيات والنزاع المستديم." ( ) وإن اعتبر ابن خلدون هذا الصراع طبعا من طبائع العمران نتيجة طبيعيتين متضادتين في البشر هما "صلة الرحم" "والطبع العدواني"، فإنه ونظرا للظروف الموضوعية لحياة هذه القبائل يجعل منه صراعا من أجل العيش أو البقاء، كظاهرة الغزو التي تعتبر من أهم مصادر الرزق بالنسبة للقبيلة ذات الخصائص الطبيعية القاسية. وتعتبر الدولة عند ابن خلدون ثمرة صراع تفرضه ضرورات الاجتماع الإنساني ودور العصبية، وهو صراع على الحكم والملك وهي حركة التاريخ الدائمة من البداوة إلى الحضارة والصراع بين البدو والحضر.
ويمكن القول في هذا السياق أن مفهوم القبيلة مفهوما واسع الاستعمال، يصفه بعض الدارسين بالغامض الذي يجعله "بمثابة الكيس الذي يمكن أن يحوي كل شيء"( )، فهو "لا يحظى بالإتفاق العلمي إذ هو مختلف في مضمونه".( ). ولمعرفة خاصيات القبيلة وعلاقتها بالدولة رأينا أنه من المفيد منهجيا التعرض لهذه البنية وعلاقتها بالحقل السياسي وبالدّولة في بعض بلدان المغرب العربي وفي اليمن كمثال عن المشرق للوقوف على الفرق أو الاختلافات البنيوية بين هذه الدول.




إن الاهتمام بالبنية القبلية في تونس لا يخرج عن إطار محاولة فهم ورصد حركية المجتمع التونسي المعاصر وفهم تطوراته، وهي إشكالية معرفية ومنهجية من شأنها أن تقدم لنا قراءة معمقة للمجتمع، ذلك أن هذا الأخير قد عرف خلال النصف الثاني من القرن العشرين تحولات كبرى على عديد المستويات، الأمر الذي يقتضي الإلمام بها ومقاربتها من خلال دراسة القبيلة كمدخل منهجي للتعرف الدقيق على النتائج السوسيولوجية لعملية التحديث، وهي إشكالية يمكن اعتبارها مرآة تعكس حركية المجتمع وتطوره وخصوصيته وطبيعة مكوناته الاجتماعية والثقافية والسياسية. ويكون مفيدا أن نشير إلى أن البحث في موضوع القبيلة يندرج في إطار الطموح المعرفي لاستقراء تطور المجتمع التونسي وعلاقة هذه البنية بالتحديث عبر التركيز على التحولات المؤثرة فيها، وفي نفس الوقت عناصر التواصل والاستمرارية من خلال البحث في طبيعة البنية الاجتماعية التي تولدت عن هذه التحولات والتأثيرات الناتجة عن ذلك.
ويبدو أن علم الاجتماع لم يستطع الاستغناء عن مجموعة الأعمال المنجزة حول موضوع القبيلة ضمن التاريخ الاجتماعي للمجتمع التونسي في الفترتين الحديثة والمعاصرة، وهي أعمال متنوعة تنتمي لحقول معرفية عديدة وتتوزع بين الاثنولوجيا والسوسيولوجيا الكولونيالية والتاريخ والجغرافيا... وهي مقاربات بقطع النظر عن درجة الموضوعية فيها قد ساهمت بشكل أو بآخر في بلورة أبحاث ودراسات تهتم بظاهرة القبيلة، وعلى قلتها وتأثيراتها الإيديولوجية فإننا نجد بعض المحاولات المعمقة والجادة من طرف بعض الباحثين الذين لم يصادقوا على أطروحات من سبقهم من الأجانب بتجنب المحاكاة النظرية في إطار بناء معرفي يفكك المنهجيات ويعيد بناءها من خلال إعادة النظر في الإنتاج السابق بنقده وتمحيصه، والبحث عن الموضوعية التي تقتضي وضع البناء الاجتماعي في صلب الجدلية التاريخية والإطار الحقيقي( ). إن علم الاجتماع في تونس كغيره في بلدان المغرب (الجزائر والمغرب الأقصى) كان مؤسسة إدارية وسياسية ظهرت استجابة لحاجة استعمارية ملحة في إطار ما يسميه الباحثون الفرنسيون (sciences coloniales) (العلوم ذات النزعة الاستعمارية)، وهي أعمال تتراوح بين تقارير الضباط والإداريين وبين الدراسات الوصفية الاثنولوجية. ففي تونس يمكن التمييز بين ثلاثة مراحل تمتد الأولى من 1881 إلى حدود الحرب العالمية الأولى1915 نجد في هذه الفترة ضباط الشؤون الأهلية إلى جانب الإداريين والأطباء...و مهمتهم الاستكشاف (العادات والتقاليد...) ضمن أعمال بحثية أقرب إلى التقارير، أما الثانية فتمتد من الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية، برزت فيها أعمال المبشرين والإداريين بخصوص المراقبين المدنيين ( سلطة الحماية على مستوى الجهة)، وقد قاموا بأعمال بحثية عديدة وأقرب الأعمال لعلم الاجتماع ما قام به "هنري ديمونتاتي" (Henri de Monthety)، حول تطور الأوضاع العقارية في تونس ودراسات عن مؤسسة الزواج والمرأة التونسية، ويمكن الإشارة كذلك إلى المونوغرافيات الجهوية (monographie régionale). وأشهرها ما قام به المونوغرافي "شارل مونشيكور" حول منطقة التل الأعلى بالوسط الغربي. وشملت قيادات الكاف تالة، تبرسق، مكثر... وإلى جانب الأشخاص هناك مؤسسات لعل أهمها مؤسسة "إبلا" (Ibla) (معهد الآداب العربية الجميلة) الذي أسسه المبشرون في سنة 1920، ويصدر "مجلة إبلا" إلى اليوم، أما المرحلة الثالثة فتمتدما بعد الحرب العالمية الثانيةوالمرتبطة بإنشاء معهد الدراسات العليا بتونس في سنة 1945، وضمن هذا المشروع ظهرت أولى الدراسات التي ابتعدت عن مشروع الاستعمار من خلال عديد الأساتذة الجامعيين الذين أتوا لعلم الاجتماع عن طريق الفلسفة والجغرافيا وأصبحت لهم اهتمامات سوسيولوجية وأبرزهم "جان كويزيني" (Jean Cuisenier)، وهو جغرافي له دراسات عن التخلف والقرابة (التخلف في جيل الأنصاريين) و"جاك بارك" حول القبيلة بشمال افريقياودراسات "بول سباغ" ، الذي نشر منذ الأربعينات أعمالا عديدة تناولت مونوغرافيات حول تطور المجتمع التونسي في ظل الاحتلال، وكذلك دراساته حول الأحياء القصديرية.
ويمكن القول في هذا الإطار أن هذه المراحل التي مرت بها المعارف والدراسات التو صيفية في اهتمامها بالآخر، هي بحوث تعبر عن شحنة عاطفية وفلسفية كما يسميها "جاك باراك"، وهي بعبارته "رعشة فلسفية"( )، ستشكل النقلة المعرفية الضرورية وستولد القفزة المعرفية النوعية، الضرورية حول الآخر ومحاولة التعرف إليه وعلى المجتمع ودراسة ظواهره عن قرب.
وجدير بنا في هذا السياق اعتبار أن هذه المعارف لم تتجاوز مجال التوصيف المونوغرافي، وتعني المونوغرافيا مثلما يدل على ذلك اسمها الدراسات التوصيفية التي تكتفي بمجرد المسح دونما اعتماد التحليل والفهم العميق. تقوم هذه المقاربة على توصيف منطقة معينة وعلى رصد كل مكوناتها واحدة بواحدة وعلى تقديم صورة قريبة جدا من الواقع. إذا يمكن القول أن هذا المنهج الذي يقوم على الاستكشاف (Exploration)، هو منهج ضروري بالنسبة إلى الدارسين الأجانب من أجل فهم خصائص المجتمع المستعمر والمدروس في نفس الوقت، لذلك جاءت اهتمامات هذه المقاربة بدراسة المجتمعات القبلية... لكن مع الثلاثينات سنلاحظ أن المنهج المونوغرافي قد هرم وشاخ ولم يعد متلائما مع دراسة المجتمعات المغاربية خاصة في الجزائر والمغرب حيث تولدت حاجة معرفية إلى تأسيس معرفة جديدة تحلل الواقع اعتمادا على أدوات منهجية جديدة يحتاجها علم الاجتماع، الأمر الذي أملى ضرورة إنتاج مناهج جديدة لتحليل الواقع المجتمعي، لذلك برزت أهمية الإثنولوجيا باعتبارها آلية معرفية جديدة قادرة على أن تساعد في تحليل المجتمعات المدروسة إلى أن بدأت مع أواخر الثلاثينات تبرز لأول مرة توظيفات علم الاجتماع من أجل فهم تطورات مجتمعات المغرب العربي.
بروز علم الاجتماع في المغرب العربي كتخصص معرفي قائم الذات وقادر على أن يحلل المجتمعات المشار إليها تطلب ذلك قرنا كاملا من الزمن، وهي مسألة جديرة بالاهتمام لذلك حين كتب جاك بارك دراسته( ) (Cent vingt-cinq ans de sociologie maghrébine) كان علم الاجتماعفي المغرب العربي علما جديدا وشابا يمثل طموحاً حقيقياً في فهم المجتمعات هناك، هذه المجتمعات التي تقوم في تقدير جاك بارك على التفاعل والحركية في نفس الوقت، مضيفا أن التراكم المعرفي وتعدد التجارب المعرفية لابد من إثرائه والتعمق فيه، ويمكن القول أن جاك بارك انحاز للموضوعية على حساب المدرسة الكولونيالية ورموزها، فهو يرى أن علم الاجتماع بشمال إفريقيا كما يسميه يحتاج إلى أن يهتم بدينامية هذه المجتمعات وأن يحللها في مختلف مظاهرها، وأن يركز التحليل على فهم خصائص المراحل المتعددة وعلى أن تتعدى مساهمة علم الاجتماع المغاربي سياقها الجغرافي لتساهم في علم الاجتماع الفرنسي وتطوره، والمهم بالنسبة لجاك بارك هو هذه الروح والمبادرة والسعي إلى بناء المعرفة الجديدة. فهل حدثت النقلة المنشودة لعلم الاجتماع في المنطقة؟ وهل كانت التجارب المعرفية السابقة قادرة على استيعاب الواقع الاجتماعي وفهمه وتفسيره؟
في البداية لابد من الإشارة إلى أن البحوث الاجتماعية كانت ذات توجهات استعمارية، فالذين كتبوا في بداية القرن الماضي كانوا ينتمون إلى مجتمعات تستخدم المعرفة الاجتماعية للسيطرة والاحتلال ودعم النفوذ الغربي، فالدراسات التي صدرت في هذا الإطار كانت تتم في سياق علاقات طبعها الاستعمار وارتبطت الإنتاجات المعرفية بهذه النزعة الاستعمارية، لذلك فهي ليست بريئة ومهما اتخذت من تدابير فإن الموضوعية فيها محدودة. كما يمكن الإشارة أيضا إلى أن الباحث الاستعماري مهما حاول التخلص من الأفكار المسبقة والتجرد من الإيديولوجيا فإن نظره يبقى بعيدا عن الموضوع لأنه لا يرى الخصوصية والتنوع. لذلك تكمن مهمة الباحث في النقد والمساهمة في حصر الادعاءات الإيديولوجية، وهي عملية تطهير وانتقاء تهدف للدقة والموضوعية، غير أن هناك بعض الدارسين الذين بقوا متأثرين بمن سبقهم من الأجانب ويصادقون على اطروحاتهم حتى وإن كانوا يشوهون الوقائع والتاريخ.
وفي علاقة بموضوع بحثنا يمكن التطرق إلى بعض المهتمين بمواضيع الدولة والتحديث والقبيلة ونراها مهمة في إثارة بعض الإشكاليات ذات العلاقة بمسألة النخبة السياسية في تونس وعلاقتها بالبنى الاجتماعية خاصة التقليدية ومن ذلك تجربة التحديث والتغير الاجتماعي، ويشير عبد الوهاب بوحديبة في هذا السياق أن مفهوم "الأمة" هو من المفاهيم الأساسية التي راهن عليها الخطاب السياسي المعاصر في علاقة بالمجتمع التقليدي حيث أن هذا المفهوم هو نتاج طبيعي لمسار التفكك وإعادة البناء للمجتمع التونسي في القرن العشرين أي أن المجتمع تعرّض إلى عملية تفكيك لعناصر توازنه التقليدي وأعيد بناؤه من جديد، ومنذ المرحلة الاستعمارية تعرض المجتمع لعملية تفكيك منظمة لمؤسساته الإدارية والسياسية والاجتماعية بدرجة لم يعد قادرا معها على تحقيق توازنه التقليدي وخاصة البنية القبلية إذ ارتبط تفككها بآخر أشمل في بنية المجتمع الشامل (La société globale)،وهو تفكك يعود أيضا إلى الازدواجية التي بدأ يعرفها المجتمع، وهي ازدواجية البداوة والتحضر، إذ بدأ المجتمع في الاندماج والتحضر السريع وتراجعت البنى القبلية وأمام هذه التفككات يشير بوحديبة إلى أن المجتمع قد احتاج إلى إعادة هيكلة ذاته، وهي مرحلة إعادة بناء الهوية، اعتمادا على صيغ سياسية ورموز ثقافية تساعده على ذلك عبر إعادة تشكيل المراجع والرموز وتثبيت هذه الهوية الجديدة الناشئة( )، وهو مشروع استطاع أن يتجاوز كلّ الاختلافات الاجتماعية والسياسية المتصلة بالتاريخ المعاصر لتونس.
ما يهمنا في هذا الطّرح أنّ المجتمع التونسي المعاصر قد خضع لعملية انتقال من النمط التقليدي إلى النمط الحديث، ولعلّ التحضّر وسرعته هو من أهم المؤشرات والعلامات الدّالة على ذلك وفي هذا الإطار فإن التحديث يرتبط بالاتجاه نحو التحضر، وهي فرضية نجدها عند "دانييل ليرنر" (Daniel Lerner) في دراسته حول الشرق الأوسط. وهذا الانتقال الجديد هو تلقائيبهدف البحث عن توازن اجتماعي جديد.
وقد اهتم محمد نجيب بوطالب بدراسة القبيلة التونسية بين التغير والاستمرار: من خلال الجنوب الشرقي التونسي مبرزا هذا الانتقال الاجتماعي من الاندماج القبلي إلى الاندماج الوطني ويستند هذا الطرح لمنهج يراوح بين فرضيتي القطيعة والتواصل لدراسة هذه البنية، وكشف التفاعلات بين الجزء والكل مركزا على مفهوم الاندماج ضمن إشكالية البحث في التحولات التي شهدها المجتمع المحلي في ظل الدولة الوطنية ويبين هذه المفارقة تحديث -تقليد- ضمن علاقة الدولة بالقبيلة، والمهم في هذا لاسياق ليس العلاقة بين الدولة والقبيلة فحسب وإنما أيضا لأهمية هذه الأخيرة وتحكمها في وتيرة الأحداث الاجتماعية والسياسية مؤثرة في الحراك السياسي( ) وهو ما يعني أن القبيلة القديمة قد ولّت ولكن حلت مكانها قبيلة تتموقع وتتأقلم مع المستجدات وفق آليات متنوعة تجعلها تنصهر في ما يسمى التغيّر الاجتماعي والتحديث. وقد مثلت الأحداث الاجتماعية الكبرى مناسبات كشفت "جوانب ظلت خفية لدى دارسي الظاهرة القبلية" مثل ما يحصل في الثورة الليبية أو حتى أحداث الثورة التونسية.
ويمكن في هذا سياق الاهتمام بموضوع القبيلة الإشارة إلى دراسة المولدي لحمر "من الخروف إلى الزيتونة" (بالفرنسية)( )، من خلال توظيف بنية العلاقة القرابية وحظوظ النسب ذات المنشأ القبلي ضمن متابعة صيرورة مجمل التحولات في المجتمع الرّيفي في تونس، من خلال دراسة الانتقال من انمط الرعوي إلى النمط الفلاحي، وذلك بالتركيز على التحول الاجتماعي والاقتصادي في أرياف صفاقس، ومهمّ في هذا لاسياق الإشارة إلى دراسة أخرى لعبد الباقي الهرماسي حول المجتمع والدّلوة في المغرب العربي، واهتمت بعلاقة الدولة بالمجتمع أو بلاد مخزن ببلاد سيبة وإرث الدولة المخزنية، وهي مواضيع كلها تصب في إطار علاقة الدولة بالمجتمع "التقليدي". ويجد النقاد في هذه الدراسة ردهم على فرضية التعارض بين السيبة والمخزن، مقولة المدرسة الكولونياية، حيث يفترض الباحث الاستعماري تعارضًا جذريًا مطلقًا بين القبيلة والدولة وهذه الأخيرة لم تأت إلا لنهب واستنزاف واستغلال القبيلة، وهي فرضية لا تسمح لنا بفهم استمرارية الدولة وديمومتها.كيف قامت الدولة إذا مادامت لا تتعايش مع القبيلة؟ كيف نفهم اعتراف القبيلة بسلطة الدولة وولاءها للسلطان ودفع الضرائب؟ عناصر مهمة اهتم بها عبد الباقي الهرماسي وأشار إلى ضرورة التنبه إلى أنه كي نفهم استمرارية الدولة علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الوحدة الروحية والاقتصادية للمجتمع الكبير والشامل والقبيلة في هذا السياق ليست مجتمعا منغلقا على ذاته ومستقلا بنفسه، فليست هناك نزعة الانقسام أو التعارض فقط وإنما كذلك التوحد، إضافة إلى أن القبيلة في تونس تخضع لعنصر المراكمة في علاقتها بالدولة مما جعل التجربة في تونس تجربة استثنائية في صهر وإدماج القبيلة ذلك أن تاريخ تونس يتميز بمركزية الدولة. كما تجدر الإشارة إلى البحث الذي قام به سالم الأبيض (أطروحة دكتوراه) حول "المجتمع القبلي وتأثير التحولات الاقتصادية والاجتماعية بأقصى الجنوب التونسي" والذي بيّن أنّ القبيلة كظاهرة اجتماعية مازالت تسجّل نفسها بقوة في ظل المجتمع المعاصر في تحدّي لمفاهيم التحديث والمعاصرة، من خلال عمليات التعايش والتكيف والتوظيف، وهو ما يعطيها مشروعية الدّراسة في الحاضر والمستقبل، خاصة وأن البنية القبلية قد أثبتت استمراريتها حتى في ظل التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ظل الدّولة الحديثة، ويتمظهر ذلك جليّا في بعض المناسبات الدّينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهي أرضية لبروز نزعة العروشية والذهنية القبلية.
وجدير بنا في هذا الإطار القول بأن استعراض هذه الأمثلة من الأعمال البحثية المعمقة في دراسة المجتمع التونسي من قريب أو من بعيد في اهتمامها بالبنية القبلية التونسية إنما هو للتدليل على أن هناك توجها بحثيا بدأ يتركز حول القبيلة، هذه البنية التي لا يمكن نكران أو تجاهل أهميتها لا على المستوى البنيوي التاريخي فحسب، وإنما أيضا قدرتها على الظهور في المجتمع المعاصر، فهي متجذرة في الماضي وتحرك الحاضر من أجل التأثير في المستقبل، فهي التاريخ الاجتماعي إذا، وهو مسكون بها، ويمكن القول أن مفهوم القبلية كمفهوم العصبية عند ابن خلدون محرك للتاريخ حتى في بنية المجتمع العربي المعاصر، والقبلية كنزعة هي ما يحدد حركة الفاعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المجتمع الراهن، وهي مسألة تسجل نفسها بعمق في واقع الحياة الاجتماعية، إلا أنها تستحيل إلى موضوع "خطير" و"مدجن" بكل أنواع الخوف والقمع والمنع... وهو ما جعلها من أهم القضايا الاجتماعية القابلة للبحث والتنقيب، لذلك استقطبت اهتمام الدارسين في إطار توجه بحثي بدأ بتلمس الطريق بفضل مساهمات علمية مهدت للبحوث الأخرى ذات الصلة بهذا الموضوع القديم الجديد، القديم من خلال القبيلة كبنية والجديد من خلال القبيلة كنزعة.
ومهم جدا في علاقة ببحثنا القول أنّ علاقة الدّولة بالقبيلة في تونس رغم اتفاق أغلب الدّأرسين أنّ السلطة مركزية ولها تراكم لهذه الخاصية إلا أن ذلك لا يمنع القول بأنه مثلما نجد هذه الخاصية سندا لها في الواقع في علاقة بالقبيلة فإنه أيضا يجوز الحديث عن الانفلات وعدم الخضوع هذه الأخيرة لسلطة الدّولة بشكل مستمر ومتواصل وبنفس الدّرجة، مما جعل هذه البنية تطفو على السّطح عبر مناسبات تتيح الفرصة لهذا الظهور المفاجئ فكانت العلاقة يسودها التوتر والتوظيف من الطرفين، وهي صعوبات تاريخية وسياسية تحول دون بناء مجتمع متطور يمهد لتوازن العلاقة بين الدولة والمجتمع الشامل.
إن القطيعة والتواصل لم تعد فرضية تفترض أو إشكالية تطرح فحسب، وإنما أصبحت تمثل توجها نظريا وبحثيا يستقطب اهتمام الدارسين للمجتمع القبلي أو المعاصر على حد السواء خصوصا في ظل التحولات الاجتماعية المعاصرة المحلية والدولية سواء تعلقت بالتغير الاجتماعي والتحديث أو المتعلقة بمسألة الهوية الثقافية أو الخصوصية الثقافية،خاصة في ظل زحف العولمة وعولمة الثقافة. وهي إشكاليات أو مسائل أعادت النظر وحتمت مراجعة المفاهيم نفسها ومحاولة فهم البناء الاجتماعي بأكثر تعمق أو تخصص خاصة في ظل استمرار الصراعات الآثنية والعرقية والطائفية والقبلية التي لا تهدأ ولم تعد ترتبط بالزمان والمكان، بل أصبح الإعلان عن انتهائها بداية لنشاطها. هذه النزعات تمتلك القدرة على الفعل والانفعال في تأثيرها على مجريات الأحداث الداخلية والخارجية، وهي مسألة جديرة بكل اهتمام سوسيولوجي يتخلص من الأفكار المسبقة والمؤدلجة، لأن خطوط التقسيمات الطائفية والدينية والآثنية والقبلية تلتقي مع التمايزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية مما يجعل الاهتمام بهذا الموضوع المتعلق بالبحث في خفايا ومظاهر هذه النزعات شديد الارتباط بالتأثيرات الثقافية (السياسية، الدينية...) لذلك فإن طرح المسألة من وجهة النظر السوسيولوجية انما هو بحثا عن تمثيل حقيقي للواقع وتعبيرا عنه يجعلها ترقى لدرجة الموضوعية (objectivité) أو ما يسميه ماكس فيبر بـ"الحياد القيمي".
ومن هذا المنطلق يمكن القول أنّ البحث السوسيولوجي لا يفصل مع التاريخ على اعتبار أن الظاهرة الاجتماعية هي تاريخية بالضرورة وليكون قادرا على تفسير الحاضر وتقديم الأجوبة العميقة للإشكاليات الراهنة، ومن ذلك استشراف المستقبل كان من المفيد الرجوع للمنهج التحليلي التاريخي.ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أنواع التعصب في المجتمع العربي للتدليل على أهمية ظاهرة العصبية (دينية أو قبلية أو أثنية...).
إن القطيعة والتواصل كمدخل منهجي مزدوج يعرفنا على عناصر الانقطاع والتغير من جهة وعناصر التواصل والاستمرار من جهة ثانية لكن كيف يمكن تحديد ما انقطع وما تواصل في بنية المجتمع المعقدة؟ ما هي المؤشرات المحددة لذلك؟ خاصة إذا علمنا أن المؤشرات الخارجية (indices externes) لا تدل بالضرورة على التبدل أو التغير ومن ذلك الانقطاع، هذه الجدلية لا تقبل التكميم وإنما هي مسالة معقدة تتنزل في سياق معرفي يحاول المزج بين الفهم والتفسير لإنتاج الدلالة السوسيولوجية التي تستند للتاريخ والمعيش، فما يبدو من التاريخ ـ أو يعد ذكره تاريخا - (حسب ما يعتبره البعض) قد يظهر أمامنا في الحاضر وحتى في المستقبل في إطار عملية إعادة إنتاج (reproduction) فالعلاقات التقليدية والتكتلات العائلية والنزعات القبلية... كلها لا تزال تتعايش وتتكيف مع كثير من المتغيرات العميقة التي عرفها المجتمع، فهي مستمرة في ظل عمليات "التحديث" و"التنمية" بعد انتصاب الدولة الحديثة، ومن هنا فان تبدل الإنسان لا يتم إلا بتغيير قيمه وثقافته، بما أن هذه الأخيرة هي الموجهة لسلوكه والحافظة لإرادته.
وهذا ما تؤكده النتائج التي توصل إليها "دانييل ليرنر" أن هناك تأثيرات تبادلية بين القيم والتحديث، حيث أنّ التغييرات في نسق القيم الثقافية لا يكون إلا بتنميتها وتحديثها. وفي نفس الوقت هناك قيما تعيق التحديث. ومن المهم في هذا السياق الاشارة الى القبيلة المغربية (المغرب الأقصى)غلى اعتبارها تشكل حقلا متميزا ومختبرا ملائما لاختبارات الأنتروبولوجيين وعلماء الاجتماع ويعود ذلك إلى أهمية البنية القبلية أو التكتلات القبلية أو التكتلات القبلية التي حافظت على قوتها ونفوذها.
هذا بالإضافة إلى أهمية الجماعات الناطقة بالبربرية التي تمثل نسبة هامة من السكان لذلك أعتبر المغرب الأقصى بلد القبائل القوية والعصبيات المتحركة وبلد الجماعات البربرية، فهذه العصبيات تتسلل إلى البنى الاجتماعية وتبدو أشد ارتباطا بالعصبية الوطنية وفاعلة في علاقتها بالدولة وينحصر الانغلاق العصبوي خاصة في المناطق الوعرة التي لا تطالها السلطة المركزية ويعسر مراقبتها وقد يحدث أحيانا لهذه العصبية أن تنتصب في شكل حزب تعترف به الدولة. ففي المغرب الأقصى نجد العنصر البربري كإطار سياسي يعرف باسم "حزب الحركة الشعبية"( )، وهو حزب يؤطر المناطق الريفية ويمثلها (الريف الأطلسي وزمور) مما يجعل هذا الحزب ينشط في مجال ضيق إذ يركز إستراتيجياته على منطقة معينة أو جهة لها خصوصياتها العروشية أو القبلية أو الآثنية ممّا يجعل هذا الحزب يخضع لإعادة إنتاج على أساس الوراثة لا على أساس البرامج العقلانية المرسومة، مما يمكن القول أن الانتماء القبلي أو المحلي يصبح مؤشر مراهنة حالة الصراع والتنافس حول السلطة لتصبح العلاقات بين أهالي الريف الأطلسي وزمور علاقات زبونية( ) تفرض على المرشح أن يكون له رأسمال علائقي يجند فيه العلاقات التابعة له ورأسمال اقتصادي مادي يجلب له أصوات الفقراءمما يجعل الصراع حول السلطة يستوجب عصبية قوية وقدرة مالية كبيرة "لشراء الأصوات"، وهذا يترجم بشكل واضح قوة الروابط المتصلة بالذهنية القبلية والعلاقات الزبونية إلى حد "أصبحت فيه الأحزاب السياسية تلعب دور العشائر"، فهي تلتف حول الأشخاص أو الصلحاء أو ذوي الجاه أكثر من ارتباطها بالشعارات السياسية والبرامج الحزبية ويشكل كل حزب وزنا مضادا للحزب الثاني، وهو ما يؤدي إلى إضعاف فعالية الجماعة السياسية، مما يجعلها تسعى إلى تأسيس عصبية أقوى لشحذ القوة الضرورية القصوى للفوز بالسلطة.
وقد أشار"واتوربوري"(Waterbury) في دراسته عن أمير المؤمنين أو الملكية المغربية ونخبتها إلى أن الأحزاب تلعب دورا عشائريا ويمثل الملك دور الصالح أو الشريف الذي يقوم بدور الحكم أكثر منه دور رئيس الدولة العصرية الذي يوظف عملية تضاد الأحزاب وتنافسها لمصلحة سلطته الرمزية والمادية( ).
وعلى اعتبار مركز الثقل للأوساط الريفية المغربية، فان سياسة اللامركزية وتوفير شروط المشاركة للمجموعات المحلية جعلها تحافظ على مجالها الجغرافي الضامن للهوية الخاصة، ويحدد الفرد نفسه "بأولاد فلان"رغم استبدال الدولة المشايخ بالقواد، ولعل الأسماء مثل(سيدي عبد الرزاق، سيدي علال المصدر،سيدي علال البحراوي...)( ) خير دليل على أن المناطق في الريف الأطلسي وزمور تحمل أسماء أشخاص بدل التسميات الإدارية، وتدخل في صراع مع الأرستقراطية المدينية التي تتوارث السلطة، وهو صراع قائم بين "بلاد مخزن" و" بلاد سيبة"، تتمثل الأولى في أهل الجاه والمال والسياسة أي المناطق الخاضعة للأرستقراطية المدينية والثانية في المناطق ذات المجال المنفتح يتمثل في أهل البوادي (السهول أو الجبال)ويطلق عليهم "العروبية والشلوح"( ) والمقصود بهم العرب والبربر، وهم يمتنعون عن دفع الضرائب للمخزن ويتهربون منها لذلك سمّوا بالسيبة وتتحدد هوياتهم الأولى بانتمائهم القبلي ولا يكون الانتماء الوطني إلا في مرتبة لاحقة، لذلك يعتبر "محمد ظريف" أن المجتمع المغربي يتميز بكثرة المجموعات المكونة له (جهات، قبائل، عشائر)، وهو ما يجعل التنوع سيد الموقف بحيث لكل جهة خصوصياتها"( ). فماهو بنيوي في اللاشعور الجمعي المغربي هو الروح "الجهوية"( ).
لذلك يمكن القول أنّ المغرب الأقصى تحولت فيه الروح الوطنية إلى روح ماتحت وطنية مما جعل الأحزاب السياسية في غالبها إن لم نقل كلها ممثلة للجهات فنجد مثلا "حزب الوحدة الشعبية" ينحصر في منطقة البربر و"حزب الاستقلال" ينحصر في فاس و"حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" في السوس لذلك يمكن القول أن زوال القبيلة على مستوى الشكل الاقتصادي والسياسي جعل من الفرد يميل لانتمائه الجهوي ورغم مجهودات الدولة في محاولة منها لاستبدال الدوار بالقرية إلا أن هذا المشروع بقي مرتبطا بالقبيلة أكثر من القرية( )، وقد تفرعت المجموعات التي عرفت تاريخيا " بالهوارة" إلى تسميات متنوعة، إذ توجد كقبيلة في موقعين، كفرقة في ثلاث مواقع، وكتجمع سكني في خمسة مواقع( ) وحافظت الزاوية على خصوصيتها الروحية التي تكفل التضامن بين جميع الوحدات، فهي رمز القداسة إن نجد الصلحاء يقومون بدور التحكيم في النزاعات والحروب القبلية و"تقتضي القاعدة أيضا أن تكون الأسر المبجلة مجردة من السلاح، إن الأضرحة وقبور الأولياء أماكن حج يحرم فيها القتال..."( )، وهو تضامن سواء في شكل قبيلة، دوار، عرش، حي، قرية... ومن ضمن الزوايا في المغرب الوزانية، الدرقادية، الكتانية، العيساوية، التيجانية، الناصرية، القادرية... وهي زوايا تشترك في التنشئة الروحية لمنطقة زمور( )، خاصة وأن العرف كنظام معياري يتحكم في حقل التحكيم الذي يعتبر المجال القبلي مجاله السياسي"( ).
وأمــام هذا الحضــور القداســي للزوايا فــإن شبكــة العلاقــات الاجتماعيــة تبقــى شديدة الارتباط بالعصبية الشمولية الدينية التي تزيد العصبيات المحلية قوة، وهو ما يجعلها تتلاءم أحيانا مع المشروعية السياسية للدولة المستمدة من الإسلام مباشرة. فالمتأمل يلاحظ في الفترتين السابقتين، ونعني بذلك فترتي "محمد الخامس" (1956-1961)و"الحسين الثاني"(1961-1999)، الإصرار على تلازم الانتساب إلى الرسول أي إلى أصول عربية قريشية شريفة مع الإبقاء على صفة أمير المؤمنين، ومثل هذه الصفة ليست مستحدثة وإنما هي قديمة قدم التاريخ العربي الإسلامي ذاته بحكم ارتباطها بمؤسسة الخلافة. فالدّارس للمشهد السياسي في المغرب يلاحظ أن السلوك السياسي شديد الارتباط بالعصبية لأنه قبلي، جهوي، عشائري، أثني... والمفارقة السوسيولوجية في هذا السياق أنه رغم تضاعف عدد السكان في المغرب الأقصى ثلاث مرات على الأقل، (12 مليون في 1958 إلى ما يفوق 35 مليون حاليا) وتغير أنماط المعيشة وبروز المدن الجديدة وارتفاع نسب التعلم إلى حدود 80 %، وظهور القوى السياسية والاجتماعية والطبقية الجديدة فقد حافظ المغرب على هذا المشهد السياسي.
وإن كانت هذه اهم خصائص القبيلة في المغرب اأقصى فكيف هي في الجزائر؟
مازالت أن العصبية في الجزائر فاعلة في الحقل الاجتماعي والسياسي على حد السواء، ورغم أن سياسة الاستعمار حاولت منذ البداية بكل الوسائل القضاء على الجماعات البدوية وسكان الريف والسعي إلى تحجيم دور التنظيم القبلي وتعويضه بشبكة إدارية معاصرة تخضع لرقابة صارمة، فإن ذلك لم يمنع من ظهور الهياكل التقليدية كالعروشية والنزعة القبلية والجهوية وتأثيرها في مخططات الدولة ويتجسد ذلك في ولايات عنابة وتيزي وزو، ومطالبة القبايل باللغة الأمازيغية كلغة رسمية ثانية للدولة والرغبة في الاستقلال الذاتي وعدم الاعتراف بالسلطة المركزية، وهو ما يعكس قدرة هذه الأطر التقليدية على القيام بحملة ضمن حركة مطلبية قوامها استقطاب الجماعات المهمشة وتوحيد صفوفها لتجذير مطالبها وفرض سياسة الأمر الواقع، وهو ما يترجم ضعف الهياكل المدنية كالجمعيات وعدم قدرة الأحزاب السياسية على نشر الوعي السياسي وعجزها عن التعبئة والانتشار، وبالتالي بروز عامل القرابة كعنصر فاعل في الثقافة السياسية في الجزائر، وهيمنة عامل المصلحة أو المنفعة. فقد سعت العروش في منطقة القبايل إلى إقصاء ممثلي الأحزاب و"اعتبرت أن المشاركة في الفعاليات تقتضي التخلي عن الصفة الحزبية"( ).
كما أن حرمان الزعامات المحلية من المشاركة السياسية الوطنية جعلها تطرح أطرا اجتماعية سياسية محلية قبلية كبديل للأطر المعاصرة كالأحزاب والجمعيات، ثم إن القيمة التي اكتسبتها "التاجماعت" يعني شيوخ القبائل والوجهاء ولجان القرى والعروش، هي التي أعطتها السلطة البديلة خاصة فيما يتعلق بالقدرة على التفاوض مع السلطة المركزية. ومن هذا المنطلق فإن العودة إلى أشكال التضامن التقليدية والهياكل القديمة يمكن أن تُفسر بالحاجة إلى التحصين الجماعي في مواجهة الإخفاقات المتنوعة ( ). هذا كله كان بالتوازي مع الانتشار الديني السياسي والمسلح والضغط الأصولي أمام ما يمكن تسميته برخاوة الدولة ( )، وبروز فعل الجهاد، فقد صرح عنتر زوابري من زعامات الجماعات الإسلامية المسلحة بأن يبقى الجهاد في المجال الريفي والمناطق الوعرة والجبال في تيزي وزو، ذرع الميزان، وهي مناطق ذات تضاريس يصعب فيها رد السلطة على هجمات الجماعات ( ).
ولعلّ ما قام به بومدين سنة 1978 من خلال تسليح قبيلته "أوجدا" (Oujda) ومنحها سلطات كبيرة لها جعلها بنية ذات طابع شبه مدولن (étatisée)، كان بمثابة ما يسمى "بالرئاسوية التقليدية" (présidentialisme primaire)، عندما اعتمدت على نظام يتأسس على القوة( ).
هكذا يظهر المجتمع الجزائري المعاصر في شكل قبائل متناحرة متصارعة وتظهر النزعة القبلية الدافع العصبي أو "روح الجماعة" التي تختزل الصراع بين المجتمع القبايلي و"السلطة العربية"، ويمكن القول في هذا السياق أن هذا المجتمع هو تعددي في أعماقه، تعددية قبلية وجهوية وعرقية وحتى دينية، ولهذا جاءت طبيعة الدولة تسلطية مع معارضاتها لأنها دولة محكومة من طرف الأقلية الشاوية، وهي الأمازيغية المتعربة أو المستعربة المسيطرة على مفاصل الدولة. ويعتبر هواري بومدين الرمز البارز لهذه الشاوية التي تعتبر نفسها حالة وسطى بين العروبيين والبربر الانعزاليين، وهي متعربة ومسلمة ومتضامنة جدا. لهذا جاء انقلاب 10 جوان 1965 ليركز الفراغ القبلي الجهوي، وهي هيمنة الشرق على الغرب، فجاء قرار بومدين بالإطاحة بأول رئيس جزائري منتخب، وهو بن بلة باعتباره من الغرب الجزائري، ومن ثمة تحولت الأقلية الشاوية إلى عصبة اجتماعية متمركزة في الجيش والأمن والاقتصاد والإدارة أي مقاليد الحكم العليا. فمن 1965 إلى حد الآن كل رؤساء الجمهورية شاوية باستثناء محمد بوضياف (5 أشهر فقط) إلى حد إطلاق الجزائريين عبارة شهيرة (P.T.S)، وتعني 3 جهات في الجزائر تبسة وباتنة وسكيكدة، وهي الولايات المكونة للشرق الجزائري، وهي المنتجة للجزء الرئيسي من النخبة الجزائرية، وهذا هو الحزب الحاكم الفعلي في الجزائر، وليس جبهة التحرير. ومن الطبيعي لجوء السلطة الأقلية للعنف في مختلف مراحل تاريخها والعنف المضاد، وتتحول فيه العصبية إلى محرك ومحدد لمستقبل الدولة لتتوسع قاعدة المؤسسة العسكرية والأمنية لتحقيق المصالح الخاصة، مما جعل جل الفئات في البلاد بمختلف مواقعها ذات موقف موحد من النزاع القائم على الساحة الاجتماعية والسياسية، فشعورهم هو التأكد من تراجع وتفسخ كل القيم. فالطالب مثلا أصبحت تهدده مشاعر الإحباط وإحساسه بعدم جدوى شهادته العلمية، فهو يترصد فرصة لتأسيس رأسمال علائقي في حين يعزف عن الدراسة ويعتبرها من قبيل الترف الفكري في أحسن الأحوال( ). كما يمكن الاشارة إلى أن الدولة الوطنية منذ الاستقلال كانت متأثرة بالسياسة الاستعمارية في اعتمادها نظام الإدارة المحلية فقسمت البلاد إلى 15 ولاية وكل ولاية انقسمت إلى 90 مركزا وكان مجلس القرية بمثابة الوحدة الأساسية، ويتكون هذا المجلس من الفلاحين وكبار العقاريين في جهتهم ويغلبون مصالحهم الاقتصادية وعلاقاتهم القرابية على رهانات بناء الدولة وتحقيق المصلحة العامة، وهو ما يجعل الثقافة السياسية السائدة يغلب عليها الطابع التقليدي القبلي، فلا تزال القبيلة في محور الحياة السياسية والاجتماعية حاضرة، ولا يزال الولاء للقبيلة أحد المحددات الرئيسية في التأثير على السلوك السياسي للفرد المحكوم والجماعة الحاكمة. ولعل "الرجة" أو "الأزمة السياسية" في أكتوبر 1988 خير مثال يكشف عن هوية الحكم في الجزائر ومحطات العنف واحتكار السلطة وتحول الأقلية في السلطة إلى سلطة مالية واقتصادية لتصبح وسيلة لتحقيق المال، الذي يصبح جائزة القوي وليس لسبب قوته.
ورغم القول "باجتثاث القبيلة" في الجزائر والتفكيك "الدرامي" الذي تعرضت له كبقية الهياكل التقليدية من طرف السلطة الاستعمارية إلا أنها بقيت حاضرة من خلال أحداث العنف السياسي وعدم الاستقرار الاجتماعي ولعل ما تشهده الجزائر من أزمة اجتماعية تتعلق بالذات والهوية خير مثال على ذلك من خلال التعددية التي لا تؤمن بالإجماع على عناصر مثل الاسلام والتعريب، وهي قضايا شائكة تهدد التوازن الاجتماعي.
ونبرز القبلية في الجزائر "كأفق سياسي وكتصور وهمي أحيانا يؤثر في قراءة الحياة السياسية المحلية والوطنية، كما تؤثر في الخطاب المطلبي أو في خطاب الشرعية السياسية، وهذا يدل على حضورها القوي في المخيال السياسي الجزائري لأسباب متعددة لكننا لا نعرف أيها الأكثر فعالية بدقة: فهو مخيال مستوحى على المدى الطويل، من التاريخ المغاربي، وخاصة من المثال الخلدوني"( ).

أما عن القبيلة الموريتانية على اعتبارها جزء من فضاءنا المغاربي فيعتبر المجتمع الموريتاني مجتمعا متعدد الأعراق، فهو يتكون من فصائل بربرية وزنجية وعربية، والجماعات الموازية للأغلبية العربية هي زنجية، وليست بربرية، كما هو في المغرب والجزائر، فهو مجتمع معقد التركيبة وتغلب عليه "التقليدية"، فهو يعيش البداوة ويتركز اقتصاده المعيشي على الضروريات من خلال النشاط الرعوي، يعتمد على الزواج الداخلي المغلق، وأهمية التكاثر والانجاب للحفاظ على نقاوة النسب وحفظ الأصل، فالقبيلة تمثل أكبر أشكال التضامن القرابي ذي الطبيعة السياسية( ). ويعتمد هذا المجتمع على التعليم الديني لنشر قيم الاسلام على اعتبار أن الرأسمال الرمزي الديني له أهمية بالغة، خاصة لدى قبائل الزوايا "، التي ترى أن نشر الاسلام في عمق الصحراء الافريقية واجبا، وخاصة لدى سكان بلاد شنقيط.
ومن هذا المنطلق يمكن القول إن التحليل الخلدوني لهذا المجتمع يظل واردا على اعتبار تأسيس النظام القبلي على آليات الاندماج الداخلي بين أقسام قبلية تتركز حول العصبية، كما يمكن للنظرية الانقسامية أن تجد مبررا لها في دراسة القبيلة الموريتانية من خلال جدلية الانشطار والانصهار (الاندماج) والصراع الأفقي الذي يحد من وجود التمركز( ) مما يجعل الهياكل الدولانية قابلة للتصدع ووجود نوع من الهوية الداخلية المنغلقة على نفسها.ورغم بعض المجهودات التي صدرت عن بعض الحكومات ودعوات بعض المثقفين الموريتانيين للتقليص من دور القبيلة في التوظيف السياسي ليتحول ولاء الفرد للدولة بدلا عن القبيلة إلا أن دور القبائل الموريتانية مازال جليا وخصوصا تلك التي لها وزن ديمغرافي مهم من خلال حضورها الفعال في الساحة السياسية وسعيها للتأثير والضغط السياسي على أصحاب القرار للفوز ببعض المكاسب( ).
وهذا التوظيف السياسي يسعى من خلاله بعض وجهاء القبائل وحتى العاملين في صلب الدولة إلى محاولة استغلال القوة الانتخابية للقبيلة وتعبئة أكبر كم من الأصوات للمساومة به أثناء المناسبات السياسية المهمة، وهو ما يعني أن الكيانات القبلية لها أهمية قصوى في حياة الأفراد الاجتماعية والسياسية كالتكافل الاجتماعي وإصلاح ذات البين، وهي كذلك سلّم للتعيين في الوظائف الحكومية والوصول إلى المناصب الانتخابية، وحتى توزيع المناصب في الوزارات عبر التمثيل القبلي، لما تلعبه من تأثير اجتماعي ينضاف لوزنها الديمغرافي، وغالبا ما يسعى الرؤساء في موريتانيا إلى إيجاد نوع من التمثيل القبلي في الحكومات حتى يضمنوا ولاءها، فخلال الحقبة الأخيرة أصبح توزيع الحقائب حسب ولاء القبيلة لحزب الرئيس، كما تراعي الأحزاب السياسية في اختيار مرشحيها مقياس الانتماء القبلي وطبيعته لكي تضمن الفوز بالمواقع الانتخابية.
يقول إبراهيم علاء الدين أحد الباحثين في القبيلة الموريتانية أنها مازالت تلعب الدور الرئيسي في السلوك السياسي في موريتانيا، فالانحياز أولا وقبل كل شيء هو لابن العم وابن القبيلة. ولذلك نشأت الجماعات السياسية على قاعدة الانتماء القبلي والتحالف القبلي، ورغم الجهود الكبرى التي يبذلها بعض المثقفين من الليبيراليين والعلمانيين، إلا أن دورهم هامشي وغير مؤثر في العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية ومن يركب دبابته فجر أحد الأيام ويسيطر على قصر الرئاسة ومقر الاذاعة لابد أن يكون جزء من تحالف قبلي يدعمه ويؤازره، وإذا شعرت قبيلة أو مجموعة من القبائل بأن الرئيس تخلى عنها أو قزم دورها أو حجب عنها بعض الامتيازات فإنها تنقلب عليه وتتحالف مع غيره".
يمكن القول بأن المجتمع الموريتاني لا يزال يعيش في ظل تنظيمات ما قبل الدولة من عشائرية وقبلية وجهوية، وهو ما يتناقض مع مبدأ المواطنة الفردية في ظل الدولة الوطنية، لأن الدولة التي لا يتمتع أفرادها بكل حقوقهم بقطع النظر عن لونهم أو جنسهم أو عرقهم ودون اعتماد في ذلك على البنيات التقليدية لا يمكن أن تستجيب لشروط الدولة الديمقراطية والعكس صحيح، وهو ما يجعل الولاء لتعددية مجتمع ما قبل الدولة يطغى على الولاء لمفهوم التعددية السياسية والمدنية، وبذلك تصبح الأحزاب السياسية وغيرها من منظمات المجتمع المدني وعاء لانتماءات تقليدية ويصبح ولاء الفرد للقبيلة أو للشخص عوض البرنامج أو الحزب وهكذا يضيع الولاء العام للدولة، فالقبيلة تلعب دورا رئيسيا في السلوك السياسي، والانحياز أو التضامن أولا وقبل كل شيء هو لابن العم وابن القبيلة على قاعدة "أنا وأخي على ابن عمي وأنا واخي وابن عمي على الغريب"، مما أدى إلى ظهور الشخصية الحزبية والفردية والانقسام تبعا للنفوذ القبلي من ناحية وتبعا لضعف النخبة السياسية من ناحية أخرى، مما يجعل عدم الاستقرار السياسي هو المهيمن بسبب البنية الاجتماعية والاقتصادية، حيث القيم البدوية الممزوجة بالقيم الاسلامية المحافظة في ميدان العلاقات الاجتماعية التي تسمح للكثير من الخيال الشعبي بأن يقرر سلوك الفرد والجماعة، ويقول إبراهيم علاء الدين في هذا السياق أن "في موريتانيا التي يفصلها عن العصر الحديث عشرات السنين ترتع القبيلة وتتسيد النسيج الاجتماعي والسياسي والعسكري والتجاري وكل جوانب الحياة تقريبا، في مجتمع ينقسم إلى قسمين الأبيض ذو الأصول العربية والبربرية والأسود القادم من الجنوب، والعنصر الأبيض هو خليط نتج عن امتزاج القبائل العربية التي هاجرت إلى موريتانيا وخصوصا من صعيد مصر والبربر الذين هاجروا إليها من الشمال من المغرب والجزائر". وعلى هذا الأساس فإن في موريتانيا يعيش المجتمع في ظل العلاقات القبلية ضمن منظومة فكرية واجتماعية واقتصادية، تعكس النفوذ الاجتماعي للقبيلة ودورها السياسي.
أما عن ليبيا فيمكن الإشارة في هذا السياق أنّ السلطة لجأت إلى القبيلة لتقوم بتعبئة المجتمع، خاصة إذا علمنا أنّ الدّولة في ليبيا حديثة النشأة (1963) ثم إن المجتمع يعيش مرحلة الازمة، ويقول المنصف وناس على اعتباره أحد الدّارسين للشأن الليبي أن عودة القبيلة هي "مزدوجة حتى وإن كانت القبيلة لا تحكم فعليا، ولكنها، تستعمل كأداة إلى حدّ أن أصبح تحصيل الحد الأدني من الحقوق محتاجا إلى دعم القبيلة، بل إلى تدخلها المباشر( ) وهي بذلك أصبحت ضرورة مجتمعية لا مفر منها وفي الهوية والحامي والضامن...
فالقيادات الشعبية قبل ثورة فبراير 2011 في إطار يجمع القيادات القبلية المحلية الحاكمة ولها الصلاحيات العسكرية والأمنية والتنموية، ولعل ما يسمى للدولة المجتمع مثلما هو الشأن في موريتانيا إلا دليلا على أن احياء متابع الثقافة والقيم البدوية ضمن هذه الاستراتيجيا لم يكن م فراغ بل هي محاولة العودة وإعادة تأهيل الهياكل القبلية.
فحتى النظرية العالمية الثالثة رغم طابعها الأممي إلا أنها تؤكد على أن القبيلة هي أسرة كبيرة( ) ويسعى النظام الليبي إلى أن تعيش هذه البنية على منطق البداوة رغم التحضر والتعليم، مادامت تبني العلاقة التربوية بينها والسلطة يتحوّل فيها الولاء إلى منطق البيع والشراء، وفي هذا الإطار تعفى السلطة من تحقيق التحديث السياسي والاجتماعي، ومن تمكين المجتمع من المؤسسات( ).
ويرى المنصف وناس في تحليله المشهد الليبي بعد فبراير 2011( )، أن الأزمة التي عصفت بالمجتمع في ليبيا قد أدّت إلى تفكيك التوازن وإلى تدمير البنيات القبلية عبر استظهار تاريخ مسكون بالخلافات والتنافرات والصراعات القبلية. وبيّن أن الشخصية الليبية تتميز بنفس الخصائص التي تحكمت في صنع القرار في العهد السابق ويعددها بالازدواجية والغلبة والغنيمة والسيطرة وضمان القوة وعدم الميل للعمل والحرية المفرطة، وهي كلها ترسبات العقلية البدوية أدّت إلى عدم تركز الدولة، وهي عقلية تم اعلائها على حساب الحضر على امتداد اثنين وأربعين سنة، مما جعل المنطق القبلي لا يسمح بالانحياز إلا إلى الغالب فقط ويدلل المنصف وناس على ذلك باستدعاء مثال م القبائل التي اختارت الانحياز لانتفاضة 2011.
وينطلق من فرضية محورية يبني عليها التحليل هي البداوة أو البدونة كخاصية من خصائص الشخصية الليبية. تجد مبررات هذه الفكرة أن البدو هم أكثر قابلية للثورة (انقلاب سبتمبر) قياسا بالحضر الذي اتهموا بالطّلينة، وعلى هذا الاعتبار سيطر الأشخاص من أصول بدوية على مختلف مفاصل الدولة. وتعاملوا مع هذه الأخيرة بمنطق الغنيمة. وهكذا يمكن القول إنالأداء السياسي في ليبيا قد اتخذ طابعا قبليا اعتمادا على منطق الاستمالة والتجنيد (الولاء) والتأثير وهو ما أدّى إلى الفراغ المؤسساتي.وسنحاول ضمن هذا البحث الموجز التطرق للقبيلة اليمنية لمعرفة بعض الفروقات والتشابه في بعض الخصائص بينها والمغاربية فهي تشكل القبيلة في اليمن ركيزة مهمّة في التركيبة الاجتماعية، وهي كيان له أعرافه وتقاليده وله تأثيره السياسي في علاقة بالدولة. وتفيد دراسة للباحث اليمني نزار العبادي نشرها على موقع المؤتمر نت ن الاحصائيات تقدر عدد القبائل اليمنية بمائتي قبيلة، منها مائة وثمان وستون في الشمال والبقية بالجنوب وتسكن غالبيتها المناطق الجبلية، ويتميز اليمن بضعف نسبة الفئات غير القبلية اذ يهيمن العرف القبلي ويحكم السلوك العام أو الممارسة الاجتماعية، وأهم القبائل اليمنية قبيلة حاشد وحمير وكندة وبكيل، ولهذه القبائل دور سياسي كبير استنادا إلى إمكانيتها البشرية والمادية ما يمكنها من التأثير في القرارات السياسية للدولة. ويصل الرهان على النفوذ السياسي إلى درجة الصراع والتناحر، ويبرز مشهد استمرار النفوذ السياسي للقبيلة المتمثل في تشكيل حزب للإصلاح في 13 سبتمبر 1990 برئاسة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، شيخ تجمع قبائل "حاشد" الذي انتخب رئيسا للبرلمان اليمني في عديد المناسبات السياسية، وكثيرا ما نسمع عن دور القبائل في السنوات الماضية في حل مشكلة اختطاف الأجانب، والضغط على السلطة من أجل تحسين الوضع الاقتصادي لمناطقها، والدفاع عن أفرادها أمام كل تدخّل السلطة، ويمكن القول كذلك أن القبيلة قد شاركت في الاحتجاجات التي اندلعت ضد الرئيس عبد الله صالح في فبراير 2011 وطالبت بإسقاطه، وشاركت في الحوار الوطني ومواجهة الحوثيين عامي 2013 و2014. كما يمكن الإشارة أن نظام علي عبد الله صالح في ثمانينات القرن الماضي قد أنشات مصلحة شؤون القبائل، ولها سلطة أيضا في صنع القرار في اليمن، وهو كذلك يبني علاقات مصلحية ومنفعية مع هؤلاء الزعماء، ويمكن القول في هذا السياق أن القبيلة اليمنية قد حافظت على مقوماتها كهوية اجتماعية وكذلك كمتأقلم مع آليات الاستحقاقات السياسية خلال الاحداث الاجتماعية المهمة، بل وأخذ المبادرة، لذلك حافظت على مستوى الفعل داخل المجتمع اليمني.
إننا نستعرض هذه النماذج القبلية في دول مختلفة مغاربية ومشرقية ولو بصفة عرضية، ذلك هدفه الحصول على فكرة مقارنة بين تونس وبقية هذه الأقطار لأنه بهذه الطريقة نكتشف خاصيات القبيلة في تونس بشكل أفضل، ومن هذا المنطلق يمكننا القول بانه بعد هذا العرض المختصر حول القبيلة في المغرب الأقصى والجزائر وموريتانيا وليبيا واليمن نلاحظ بعض النقاط المهمّة أوّلها الحضور القوي للبنية القبلية في هذه الأقطار ورغم اختلاف هذه الدّول فيما بينها إلا أن التماثلات البنيوية تدل أن القبيلة مازالت تشكل مشهدها الاجتماعي والسياسي، وهو ما شكل صعوبة انجاز التحديث بوجود هذه البنى التي يصعب صهرها ضمن مشروع قادر على التعبئة الجماعية ضمن مشروع شامل ومتكامل وثانيها أن صفة المتانة هي ميزة القبيلة في أغلب هذه الدول حيث تصبح في هذه الحالة عاملا معوقا لعملية الدمج السياسي والوطني والاجتماعي وعنصرا معرقلا كالتحديث. مما يجعل علاقة الدّولة بالمجتمع علاقة في أغلبها متوترة خاصة أمام تنوع الصعوبات التاريخية والسياسية الحائلة دون بناء المجتمع المدني الذي يعطي التوازن بين الدولة والمجتمع.
ومن هذا المنطلق يمكننا التطرق للتجربة التونسية التي تميزت في خصائصها على التجارب المذكورة آنفا من خلال مركزية الدّولة فقد أجمع الدّارسين للشأن التونسي أنّ جهاز الدّولة تاريخيا قد تمكن من بسط نفوذه المجالي بشكل عام في علاقة بإخضاع القبيلة لمنطق الدولة، فليس بإمكاننا في ظل دولة الاستقلال الحديث عن المجتمع القبلي في تونس بصفته مجتمعا قائم الذات على اعتبار تراكم تجربة الدولة تاريخيا في إدارة الصراع مع هذه البنية (بايات، استعمار) وطبيعة المشروع من طرف النخبة السياسية التونسية في التصور والتنفيذ تجاه هذه البنية، لكن ذلك لم يمنع هذا المشهد من إعادة التشكل حينا والانفلات حينا آخر ممّا جعلها تفرض طريقة التفاعل مع السلطة يصل أحيانا للتدرج والتفاوض والاستمالة والاستغلال وازدواجية الخطاب.
ويمكن القول في هذا السياق أن التحولات التي نتجت عن الاستعمار ثم الدولة الوطنية أدت إلى زعزعة البناء القبلي والأطر الاجتماعية التقليدية وظهور علاقات جديدة لم تكن قادرة على إخفاء النزعة القبلية المتواصلة في إطارالممارسات الاجتماعية الفردية والجماعية فتكون أحيانا متخفية وأخرى علنية حسب الظروف والسياق العام للمجتمع (الثورات، الانتخابات، نزول الأمطار...).
ورغم للتحديث والتغيّر الاجتماعي فإن البنية القبلية لم تعد تعبّر عن نفسها عبر أشكالها التقليدية ككيان اجتماعي جلي له وجوده، وإنما أصبحت تتمظهر بصور جديدة لا تقطع مع الماضي من خلال الظواهر القرابية والعشائرية والجهوية، ضمن حقول متعددة متى توفرت الفرصة أو المناسبة، وهي ردود فعل ليست اعتباطية وإنما هي نتيجة البرامج التي تعرضت لها القبيلة في ظل الدّولة الوطنية رغم توظيف هذه البنية سياسيا، وهو تغيير يرى يعض الدارسين أنه أدى إلى انعدام التوازن في البناء الاجتماعيخاصة إذا علمنا أن دينامية الدولة أقوى من دينامية المجتمع (على الأقل في تونس) في سياق جدلية الدولة والمجتمع، فالدولة هي في ذات الوقت المحدّث (modernisateur)والفاعل الاجتماعي (acteur social) والفاعل الاقتصادي (Acteur économique)،وهي مستويات "الدولنة" التي تؤدي إلى تآكل المشروعيات وخلق الأزمات مثل أحداث 26 جانفي 1978 في تونس، وهي أزمات أو وقائع تؤكد مشروعية علم اجتماع الانتفاضة (sociologie de l’émeute)، وفاعلية استعماله المعرفي، وهو ما يحيلنا لاشكال الاندماج الوطني الذي لم يخف دوائر الانتماء الأخرى كالقبيلة والعرش والجهة، وهو ما يعكس ازدواجية الانتماء لدى الفرد وتشتت الولاء بين الوطني والقبلي أو الجهوي الضيق، ثم إنه جدير بنا الاشارة في هذا السياق إلى أن أداء الدولة قد حافظ على خصائص خلدونية من ضمنها العصبية ومقايضة الولاء بالمكاسب الاقتصادية و"إثبات شرعيتها لضمان استمرار تحكمها واسترجاع إشعاعها عن طريق توظيف العصبيات القبلية."( ) فالقبيلة بقيت تقاوم الدولة أحيانا وتتعايش معها أحيانا أخرى، وهي أيضا ليست بمنأى عن التوظيف السياسي ففي تونس وظفت هذه البنية منذ الفترة الباياتية ثم الاستعمارية وصولا للدولة الوطنية بقيادة النخبة السياسية، فلا يخفى على أحد أهمية الصّراع البورقيبي اليوسفي مثلا في إبراز الانقسامات القبلية والعروشية، وهذا التوظيف بقي متواصلا حتّى في ظل إعلان الدّولة لخطاب سياسي، هدفه استبدال كلّ بنية تقليدية لا تتلائم ومشروع التحديث المعلن ضمن هذا الخطاب.
هذا دون أن نغفل عامل التهميش الاقتصادي أو التنموي في إطار ما يسمى لدى النخبة السياسية بـ التنمية و"التغير" و"التحديث" و"المجتمع الجديد"... هذه النخبة التي صادقت "على فكرة ترسيخ التحديث دون حداثة، وعلى النمو دون تنمية، واعتبرت أن هذا التحديث قد نجح في اجتثاث البنى التقليدية أو تحييدها تحت تأثير هبة التحرر من الاستعمار وبناء الدولة الوطنية" ( ) فكيف نفسر إذا استمرار الوعي القبلي وظهوره في عديد المناسبات (السياسية، الثقافية، العقارية...) وعبر مظاهر التضامن القرابي والنصرة العروشية والهبة الجماعية في عديد المواسم (الحصاد، الزواج...)؟ومن هذا المنطلق فان مقولة القطيعة والتواصل منهجيا لها ما يبرّرها. والقول بالقطيعة وحدة لا يستقيم، كما أنّ الجزم بالتواصل وحده لا يكفي، فهما يشكلان اللوحة السوسيولوجية التي لا تتجلّى ملامحها بأهمال أحد هذين البعدين.
فرغم الحديث عن القطيعة في تونس مع البناء القبلي بسبب الرغبة الجامحة -منذ الاستعمار وصولا للنخبة السياسية البورقيبية إبان الاستقلال انتهاء بحكم بن علي- في التعبير بكل إلحاح عن الايديولوجيا التحديثية ومحاولات صهر البنيات التقليدية ضمن برنامج يرتكز على بناء هوية جديدة باعتبارها بعدا أساسيا من أبعاد التحديث، يصرح أحد بناة الدولة في تونس قائلا "كان الرئيس التونسي شاعرا بأن هذا التفتت (العروشي والقبلي) يشكل خطرا كبيرا على البلاد، لذلك عمد إلى تجميع السلط والاتجاهات في مركز سياسي، ولقد كان لي شرف إحداث نظام الولاة، وكنت أول مدير إدارة جهوية في البلاد، فأنا صاحب النص الأول والتركيز الترابي الأول. لقد كان هدفنا توحيد التونسيين وإيقاف تيار التفرقة، حذفنا القيادات ووضعنا الولايات، وقد أثارت هذه العملية الجزئية حساسية كل الذين اعتادوا على نظام القيادات والعروش وكان بين المحتجين حتى بعض المقاومين والمناضلين، غير أن الرئيس رفض إرضاء الخاطر والحياد عن السياسة التي سطرها منذ البداية"( ).
كان عمل النخبة السياسية منذ الاستقلال يهدف إلىمركزة السلطة وتوحيد المؤسسات وبنائها لتكون ذات فاعلية ونجاعة والقضاء على الاختلافات بين البدو والحضر بمحاصرة القبيلة وصهرها في بوتقة المجتمع الجديد وتوحيد المرجعية التونسية من خلال إعادة بناء المخيال الجماعي و"استبدال" البنى التقليدية بأخرى "عصرية" جديدة ضمن مشروع تحديث يكون هاجسه سياسيًا وحضاريًا وثقافيا، يقصي الهياكل العروشية والقبلية والبدوية ويؤسس لهياكل دولانية مركزية لخلق إنسان موحد الولاء للدولة لا غير( ).و"رغم تبني الدولة خيار التحديث الشامل، ورغم نجاحها في إقامة بعض المؤسسات المدنية، التي ظلت غير محصنة من تفجر النزاعات والصراعات، وخاصة ما سمي في الجهات الداخلية بالصراعات العروبية، لا تزال أجهزة الضبط والمؤسسات تتعرض إلى تحديات خطيرة تصل في بعض المجالات حد التمرد."( )
يمكن القول في هذا السياق أنه رغم مركزية الدولة في تونس ورغم البرامج المعلنة في تغيير المجتمع فإن ديناميكية القبيلة لم تختف بل برهنت من خلال الواقع على أنها ليست مقولة تاريخية كما عبر عنها السياسيون، وإنما هي محرك الأحداث على الواجهة السياسية بل أصبح موضوع القبيلة القديم-الجديد مدخلا منهجيا لفهم وتفسير الانفجارات الاجتماعية الحاصلة منذ عقود.
محمد الهادي حاجي –باحث في علم الاجتماع



#محمد_الهادي_حاجي (هاشتاغ)       Hajy_Mohamed_Hedi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في كتاب علم الاجتماع الريفي :القرى والارياف العربية لل ...
- الزاوية والمقدس : المجتمع المحلي في تونس
- التحديث والتقليد في تونس
- الخلدونية والواقع الساسي العربي
- النزعة القبلية في علم الاجتماع
- النزعة القبلية والجهوية في تونس بين القطيعة والتواصل
- التغير والمفاهيم ذات العلاقة
- القبيلة والقبلية في إطار فرضية القطيعة والتواصل
- الحقل السياسي في تونس وتأثيره الاجتماعي إبان الفترة البورقيب ...
- التحديث و الحداثة
- معوقات التغير الاجتماعي
- مفهوم البنية في علم الاجتماع
- القيم :لمحة حول المفهوم
- التوجهات النظرية والمنهجيّة في علم الاجتماع الطبي وسوسيولوجي ...
- ددور الإعلام في عملية التغير الإجتماعي
- المجتمع التقليدي من وجهة نظر علم الاجتماع
- السلوك الاستهلاكي
- االاندماج الاجتماعي
- التنمية والعولمة
- قراءة في مفهوم التنمية من منظور علم الاجتماع


المزيد.....




- هل تتعاطي هي أيضا؟ زاخاروفا تسخر من -زهوة- نائبة رئيس الوزرا ...
- مصريان يخدعان المواطنين ببيعهم لحوم الخيل
- رئيس مجلس الشورى الإيراني يستقبل هنية في طهران (صور)
- الحكومة الفرنسية تقاضي تلميذة بسبب الحجاب
- -على إسرائيل أن تنصاع لأمريكا.. الآن- - صحيفة هآرتس
- شاهد: تحت وقع الصدمة.. شهادات فرق طبية دولية زارت مستشفى شهد ...
- ساكنو مبنى دمرته غارة روسية في أوديسا يجتمعون لتأبين الضحايا ...
- مصر تجدد تحذيرها لإسرائيل
- مقتل 30 شخصا بقصف إسرائيلي لشرق غزة
- تمهيدا للانتخابات الرئاسية الأمريكية...بايدن في حفل تبرع وتر ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد الهادي حاجي - القبيلة المغاربية واقع التعدد والتنوع