رسائل الرسام فان كوخ كم ّ ٌ نثري وقيم مميزة ..

جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 1672 - 2006 / 9 / 13 - 09:22
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    

في كثير من الأحيان وفي كثير من الحالات يتوصل بعض الدارسين والنقاد إلى حقيقة مفادها أن إشعاع الفنان التشكيلي هو في اللوحة فقط ، بمعنى انه لا يستطيع رسم أفكاره على الورق سواء في رسالة شخصية أو مقالة تفسيرية أو نقدية . ربما يوجد مقدار جزئي ومحدود من الصواب في هذه الفكرة غير أن الوسط الفني دائما ما يفاجئ بسمات أخرى ، وهذا بالذات ما نجده بكم ٍ غير قليل من التعليقات التي ظهرت في هولندا مؤخرا عن مستويات نثرية محددة في رسائل كان قد كتبها الرسام الهولندي الشهير فان كوخ 1853 – 1890 وهو الفنان الذي ظل حتى الآن وربما يظل في المستقبل البعيد أيضا فنانا ليس كما هو معروف عنه بطرازه اللوني الخاص حسب ، بل بأنواع أخرى من طاقات إبداعية تشغل محبي فنه ودارسيه . ومن هذه الطاقات أود أن أشير إلى طاقته النثرية الإبداعية المرتبطة بمفاهيم اللون والطبيعة والإنسان حيث تكشف قدرته في الملاحظة والرقابة الإنسانية لما يجري في المجتمع من حركة دقيقة فيها ضغوط هائلة وفيها توصيل وتواصل إنسانيين لا ينقطعان .
من طريف الأخبار في هذه الأيام أن متحف فان كوخ في مدينة أمستردام وصلته مجموعة متميزة من رسائل فان كوخ بخط يده وعددها 55 رسالة كان قد وجهها إلى صديقه الهولندي فان رايارد 1858 – 1885
وإذا كان الفيلسوف سبينوزا الذي عاش في لاهاي قد كتب ذات يوم فكرته التالية :
سأكتبُ عن الكائنات البشرية ، و كأنني أكتبُ عن الخطوط و السطوح و الأجسام الجامدة . وقد حرصتُ على أن لا اسخر أو العنَ أو أكرهَ الأعمال البشرية بل افهمها ، ولذلك نظرتُ إلى العواطف .. لا باعتبار كونها رذائل و شرور في الطبيعة البشرية و لكن بوصفها خواص لازمة لها كتلازم الحرارة و البرودة و العواصف و الرعد و ما شابهها لطبيعة الجو . "
فماذا يمكن لرسام مثل فان كوخ أن " يكتب " ..؟
ربما استطيع إيجاد بعض الجواب لهذا السؤال عبر صياغة فان كوخية محكمة لعدد من دلالات موقف درامي محدد من خلال مضمون رسالته الأخيرة الموجودة تحت يدي الآن والتي جاء فيها : (أجلس متأملاً :
لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر... آه يا إلهي ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟الفرشاة. الألوان. و... بسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة. حادة ورشيقة..ألواني واضحة وبدائية. أصفر أزرق أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى ..)
ثم قال في ختامها :
( أمس رسمت زهوراً بلون الطين بعدما زرعت نفسي في التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسي وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان. غربان وقمح... الغربان تنقر في دماغي. غاق... غاق.. كل شيء حلم. هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا في كل حين.. قريباً سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدري نحو بلاد الشمس.. آه أيتها السنونو سأفتح لك القفص بهذا المسدس:
القرمزي يسيل. دم أم نار؟
غليوني يشتعل:
الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي. للرمادي احتمالات لا تنتهي: رمادي أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر. التبغ يحترق والحياة تنسرب. للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها... لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟!إنه الإخفاق مرة أخرى. لن ينتهي البؤس أبداً...

وداعاً يا ثيو، سأغادر نحو الربيع. ..)
غير أن الرسائل الجديدة المكتشفة اعتبرها المتحف كنزا خاصا ،فهي رسائل مصحوبة بتخطيط كان قد رسمه على هامش الكلمات المكتوبة‏ ، وهي تكشف إلي حد كبير عن ملامح مبكرة من تطوره الفني التي ظلت غامضة لزمن طويل‏.‏
هذه الرسائل ليست كمّا ً نهائيا في النثر الذي مارسه فان كوخ . أي أنها ليست الوحيدة ، بل ثمة 805 رسالة كانت قد صدرت في كتاب قبل سنوات‏.‏ ففي كتابها عن‏(‏ النزعة الإنسانية عند فان جوخ‏/‏ ‏1993)‏ كانت مؤلفته الدكتورة زينب عبد العزيز قد راجعت هذه الرسائل التي كتبها بالهولندية والفرنسية والانجليزية باعتبارها من المصادر التي اعتمدت عليها‏.‏
لم اطلع على الرسائل الجديدة بعد إذ لم تترجم للعربية . آملا أن تنجز هذه المهمة من المتابعين لفن وأدب الفنان الهولندي الذي لا تغيب شموسه عن الساحة الهولندية والعالمية ، لكن بعض الصحفيين المتابعين أشاروا إلى أن الرسائل الـ 55 الجديدة المهداة من ( مالكها ) الكريم إلى متحف فان كوخ في أمستردام تكشف عن ذرات جديدة من المواهب والقدرات النثرية سواء في ابتكارات أسلوبها المتميز أو في شحنات ملاحظاتها النقدية حيث وردت فيها ملاحظات حول أعمال لأسماء كبيرة كان يقرأ لها من مثل : رابليه ، ودانتي ، وديكنز ، وبترارك ، وفيكتور هيجو ، وميشيليه ، وإميل زولا ، ودوديه ، وموباسان وغيرهم‏.‏
في إحدى رسائله الـ55 يتمنى :
(أن يصل الناس إلي اكتساب الميزة التي اكتسبتها أنا حاليا‏,‏ وهي قراءة الكتاب في وقت قصير‏,‏ والاحتفاظ بانطباع شديد الوضوح وذلك في مثل مشاهدة اللوحات‏,‏ فلابد من اكتشاف مميزاتها الجمالية دفعة واحدة بلا تردد مع التأكد من التقييم‏.‏ وذلك لأنه يقرأ‏:‏ برغبة مخلصة في البحث عن النور‏,‏ والحقيقة‏.‏.)
ألا يعني هذا القول أن الفنان الهولندي فان كوخ قد كشف لنا حقيقة ان النثر والشعر والواقع وفن الرسم شيئا متكاملا ومترابطا مهمته استحداث مواد الخبرة الجمالية اليومية للناس ، لكل الناس ، في التعاملات الجارية لتطوير حياتهم على أسس إعادة ترتيب الكتروناتها الفاعلة ..؟

#جاسم_المطير (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات