أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - المهدي بوتمزين - اليسار واليمين على دائرة مستديرة















المزيد.....

اليسار واليمين على دائرة مستديرة


المهدي بوتمزين
كاتب مغربي

(Elmahdi Boutoumzine)


الحوار المتمدن-العدد: 7226 - 2022 / 4 / 22 - 06:09
المحور: الادب والفن
    


في ظلال الرأسمالية والبيبرالية الجديدة ، استحال كل شيئ إلى مادة ونقد ومقايضة ، مصالح بدل أواصر ، وربح محل فكر ولحظة سمر ، رصيد في البنك مكان عزف على العود وليلة أندلسية حمراء تعيد إلى الذاكرة أيام غرناطة وإشبيلية ، كل شيئ فقد قيمته ومبدئيته ، حتى جمال الطبيعة في البراري والجبال أصبح مقابل المال ، أن تطأ بقدمك شبرا أصبح بمقابل ، حق المرور ، حق الجلوس، حق النظر، جواز سفر وفيزا لإستعادة الذكريات الجميلة في الأندلس أو حج البيت أو رؤية الأهرام ، أما بيت المقدس وحائط البراق ، فيحتاج لبندقية وكوفية وعزف ملحمة بالكمان ، كل فلسطين أضحت أرض المبكى ، غزة تسكب دموعا والضفة تحضنها والجامعة العربية تطعنها .

حصلت أموالا كالبدور من بيع كبدتي التي احترقت على الشهباء ودمشق وصنعاء والكوفة والبصرة وطرابلس ، بضَّعت عيناي اللتان ابيضتا من الأسف على ضياع الطفولة العربية ، والشرف العروبي القبلي، والإخلاص للقضية القومية . بعت كتاب "الوطن" بدينار واحد ، أقنومي أغنى من الوطن ، سأعيد عيناي وكبدي وأبني وطني في أفق لامدرك وأصنع أمة سرمدية على الضياع وعصية على الخذلان .

لن أبني قصرا بديعا كتاج محل ، ولن أشيد مقهى أو مطعم ، لن يكون لي فندق أو مسبح ، لأني لن أُمنح براءة الفقراء وطيبوبة البؤساء ، قد يقدم أحد من دور الصفيح أو حي الأموات أو منفى الوطن ، لكن لن يكون على فطرته ، سيتأثر في أبعاده النفسية بالطبقية وترف العوائل المخملية ، سيغادر منكسرا أسيفا ، لأن المادية صارت معيارية في مخيال البلاهاء . قررت أن أخلد في قلوب البسطاء ، فأُعَمِّر صالونا أدبيا لأنه أعدل من بيت العدلية ، الفيصل فيه للعقل والفكر والملكة والثقافة ، لن ترشي قاضيا أوشرطيا أو مسير اللقاء ، لن يشهد أحد معك بالزور ، لن تتوانى في تمجيد من هم في سجل التاريخ ، ماوتسي تونغ، ستالين ، تشيغيفارا، تشرشل، غاندي،مالكوم إكس ، الشريف حسين ، جمال عبد الناصر ، السادات ، الكل بريئ في الصالون الأدبي لأن التاريخ ليس حُكما انتهائيا ، والدعوى تسقط بموت الظنين.

اقتنيت منزلا قديما في حي "دور العسكر" ، بشبه الحفر التي يبنيها الجنود في الصحراء ، سأحوِّل التشابولا ،كما يتداولها المغاربة في العامية ، إلى صالون أدبي ، ننتشي فيه أوراق نجيب محفوظ ،نزار قباني،محمود درويش، محمد الماغوط ، العقاد ،كافكا ، نيتشه ، شوبنهاور .. .المكان له دلالة تاريخية ورمزية ، إنه اختراق ناعم للثكنة والجيش، الدوار يتلتل باليتامى والأيامى والفقر ، الجنود أسرى في الصحراء ،أو معتقلين في قلعة الأزهار، أو يفترشون الكرتون أمام البرلمان . الدار ستعيد نفسها بلوحات الأدب ، وتنفض عنها تلك الصور القديمة التي تبرز إرث ليوطي والفرنسيس ، سنبدل روزنامة تعود للتسعينيات بقائمة اللقاءات وتواريخها ، سنضع على الجدران لوحات فنية وصور تفتن الإسمنت والاَجور حتى ينصهرا ، مارلين مونرو ، هاندا ارتشيل ،اوبرا ، هند رستم ، سعاد حسني ، فيروز ، جميلة بوحيرد ، سعيدة المنبهي .. .

الصالون أصبح جاهزا ، عقدنا أول لقاء في المساء ، حوالي الرابعة عصرا ، الشيوعيون واللادينيون حول المائدة المستديرة يشربون سجائر لوكاميل ، ويحتسون طست القهوة الباريسية ، الإسلاميون في المسجد للصلاة ، الشعراء يرتجلون بهمسات خفيفة أبياتا ترثي جمال مونرو وفداء المنبهي، وشاب كفيف في مقتبل العمر يضع نظارات سوداء ويعزف على العود مقاطع من الخالادات لعبد الوهاب الدكالي "مرسول الحب" . بعد ساعة من الأنس مع المكان والأشخاص ، شرعنا في التيمة الأولى التي يحتضنها هذا الصالون ، نتشارك فيها الخبز الحافي وحياة محمد شكري .

شرع المتدخل الاول من جناح اليسار ، يشفع لكتابات شكري وحياة التسكع والألم والسجن ، ويثني على شخصيته العصامية التي حولته من قط الشارع إلى كاتب في التاريخ . محمد شكري، يقول المتدخل، هو أنموذج للإنسان المثقف الذي يثب على الطابوهات ويتجرأ بلطف على المقدسات ويحولها إلى ممكنات . الخمر ،الجنس،الفقر، التسكع، السرقة ، ولعق قطرات الحليب من قطع زجاج متناثرة على الأرض، كلها سطور من حياته لا من محض الخيال ، السكوت عنها جريمة بحق الذات ، البوح بها هو اعتراف بالخطيئة التي ترتكبها السماء بحق الإنسان ، شكري لم يجتبي حياة الأزقة بين حاويات الأزبال وقذورات الأماكن ، شكري إله نفسه ، لأنه غيًَّر قدره بيده وقلمه ، لم تكسره تراجيديا ماضيه . إن الخبز الحافي هو تصريح بالحال لكنيسة القُرّاء بغية منح الحياة صك غفران لما تركته من خدوش وكدمات في جسده النحيل ونفسيته المحطمة . الوطن لم يكن أقل جبروتا من الحياة ، الإسبان كما المغاربة الفقراء والمترفون ، جميعهم أمام محكمة شكري ، جرائمهم عديدة ، حرمانه من الخبز ومن الحياة ومن السلام . لكنه ظل مؤمنا بوطنه طنجة ، كما لا تغيب صورة عبلة عن عنترة .

أرهفت السمع لسرديات اليسار ، وأنا أتناول كأس شاي لأرتشف منه بروية كقبلات العشاق في مساء يوم حار من أغسطس على شاطئ سانتا ماريا أو سانت بيت ، إذا بتيار الإسلاميين يصرخ بملأ فاه كالمُدان بالإعدام ظلما أمام محكمة الرباط أو القاهرة ، ويسترسل في التنديد بموقف اليسار من شكري ومن الإلاه ، معتبرين ذلك تجديفا وكفرا بواحا وخروجا عن الإسلام . بين ثنيايا الحديث ، حل محمد عبد الوهاب مكان محمد شكري، وكشف الشبهات موطن الخبز الحافي . تحت ظلال القراَن والسيد قطب ودفاع اليسار عن حرية الدين والتعبير ، أحاول أن أنظف ثيابي من الشاي الذي سكبته على نفسي بسبب قوة فولط انتفاضة تيار الوهابيين البديهي ، فقصدت التوليف بين وجهات النظر ، بالتأكيد على أن الصالون للأدب وليس للدين أو الأيديولوجيات ، توسطي زاد من حدة القطبيين والوهابيين ، فانتفضوا كثورة الربيع العربي ، واحتلوا الصالون باسطين سجاداتهم المخبئة في محافظهم ، ومنهم من جلس على قميصه ، أمَّمهم رجل في الأربعينيات ، حليق الشارب مشذوب اللحية ، يرتدي لباسا عصريا ، ويحمل فهما باليا عن التدين والإسلام كما كُشف من خطبته التي ابتدهها .

في فورة الإخوان المسلمين ، أراد اليمين تحقيق صبوة من أجل استئناف الحديث حول شكري وحياته ، لكن الإسلاميين ظلوا على موقفهم مستغلين مساحة واسعة من الصالون في تدارس الأصول والعقيدة والحديث بفهمهم الجامد والميكانيكي للإسلام .

على مضض ، جلس اليمين واليسار على المائدة مرة ثانية ، أما الوهابيون فمنشغلون بالمتون والسنن . قال يميني ، أن محمد شكري من طراز المثقفين الكبار الذين واجهوا الإستعمار وتحدوا عتمات السجون ، لكن كنقطة نظام ، أرفض ان يقول أن جنسيته طنجاوي ، لأنه مغربي ، الوطن من طنجة إلى الكويرة .

قاطعه اليسار ، محمد شكري حر في اختيار وطنه ، نحن نؤمن بحق الإنسان في الإختيار ، وفي تقرير المصير ، نرفض الشوفينية والقومية.

اليمين يثرثر بكلام التخوين والجزائر والعمالة للفرنسيس .

الصالون لبس مجلدات السياسة ،الثورة الفرنسية، الحركة الوطنية ، الخطابي،سايكس بيكو ، بن بركة ، الإستقلال، التقدم والإستراكية، البديل الحضاري .. . فجأة ، هتف أحد من الخلف ، تسقط الملكية ، تسقط الملكية ، وقبل أن يكمل الثالثة ، كان الصالون مطوقا بسيارات البوليس والجيش .

في خضم هذا المشهد السريالي المضطرب في الداخل والخارج ، لم يحرك الكفيف ذو النظارات السوداء ساكنا ولم ينبس ببنت شفة ، الصالون لحقته لعنة التخلص من صور ليوطي التي كانت معلقة على الحائط القديم ، وقدر له أن يكون شاهدا على حدثين ؛ إفراغ سكان دور العسكر ونفيهم إلى صحراء تمبكتو ، وهدم الصالون الأدبي وجميع المنازل لبناء ملعب تنس وحانات وفنادق بأموال خليجية .

البوليس اعتقل عددا من الحاضرين ، التهمة التاَمر على الوطن وتهديد سلامة عوائل الجيش ، والمساس بالملكية، والإرهاب، وعدم ارتداء الكمامات للإحتراز من كورونا .

بعد مدة ، اشتغلتُ مراسلا صحفيا لوكالة دولية في غزة ، تفاجئت برؤية الشخص الكفيف الذي كان معنا في الصالون ، هو الاَن دون نظارات ويحدق جيدا ،حتى أنه يرى شرزا لون الجوارب ، برفقته نفس الأفراد الذين نسفوا مساء الأدب مع محمد شكري والخبز الحافي ، متخفين في هيئة موظفين في الصليب الأحمر لمساعدة الجرحى . الاَن أدركت الأمر ، لقد كانوا منذ البداية بوليسا ، لماذا تاَمروا على الصالون ؟ لماذا يتواطئون مع الإسرائليين ضد غزة ، حماس مستهدفة ، الجهاد الإسلامي أيضا .

أعددت تقريرا أمنيا سريا ، أبرقته إلى الصحفية الدولية التي اشتغل معها ، يتضمن الهويات الحقيقية لهذه العناصر البوليسية ، ومن الجهة الأخرى ، أنجزت التقرير الصحفي الذي أثني فيه على دور الصليب الأحمر في مساعدة المرضى .

اليسار واليمين مثل الإلاه جانوس ذي الوجهين ، لكنه سيعجز أمام إرادتي ، لن أخون محمد شكري سنكمل رثاءه ، البوليس لن يرجع مرة ثانية ، العهد الجديد ، الدستور الجديد يضمنان ذلك ، وأموال الخليج لن تستطيع هدَّ صالوني الأدبي مرة أخرى ، لن يتكرر ذلك ، لأني سأشيد الصالون في كندا أو سويسرا ، أبناء الجنود مازالو في تمبكتو ، الله وحده سيهيأ لهم قدرا جديدا بعيدا عن الدرهم الإمارتي والريال السعودي والمخزن المغربي .



#المهدي_بوتمزين (هاشتاغ)       Elmahdi_Boutoumzine#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإنسانية المطلقة ونسبية الدين والتاريخ والعِرق
- متلازمة الطفل ريان
- أنا والعفريت
- عبد الإله بنكيران رجل المطافئ في حكومة عود الثقاب
- ٍالميركاتو الإنتخابي في المغرب... من هو صديق المخزن الجديد ؟
- المقاربة الأمنية لإزدواجية الجنسية لدى كوادر الدولة
- حدود و امتدادات معركة حد السيف في ضوء المواقف الأممية
- المقاربة الأمنية ضد أساتذة أفواج الكرامة تنهي دعاية حقوق الإ ...
- من صنعَ و ماذا يصنعُ حزب العدالة و التنمية المغربي ؟
- الأستاذ عبد الكبير الصوصي العلوي .. و سؤال نزاهة و راهنيَّة ...
- مدخل إلى المنطلقات الإصلاحية الوطنية الكبرى
- «تنظيم الدولة» واستراتجية بناء القوة اللامركزية الجديدة
- الفكر الخميني ميثاق للوحدة الدنيوية و الوحدانية الدينية
- الأساتذة الوطنيون : الإدماج أو الطوفان
- «القهر» كمفهوم أساسي في السياسة الداخلية للدول العربية
- أكاديمية أبو غريب للبحوث الحيوانية
- التطبيع مع العِبرية في اليوم العالمي للغة العربية
- المغرب يتحدث لغة الواقع التوافقي في صفقة القرن
- برقية عاجلة إلى مغاربة تندوف
- سهام المقريني في ميزان العدالة المغربية


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - المهدي بوتمزين - اليسار واليمين على دائرة مستديرة