أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - سعيد هادف - في ذكراه الثالثة: هل ستبقى شعلة حراك 22 فبراير متقدة؟















المزيد.....


في ذكراه الثالثة: هل ستبقى شعلة حراك 22 فبراير متقدة؟


سعيد هادف
(Said Hadef)


الحوار المتمدن-العدد: 7170 - 2022 / 2 / 22 - 21:05
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


تشاجرت بنات أفكاري هذه المرة حول فبراير، وفي جو من التفاوض كان علي أن أحسم في موضوع هذا المقال بشرط أن أتيح، بشكل عابر، لموضوعات أخرى بالتجلي. وسبق أن عنونت مقالا سابقا بفبراير المغاربي من حيث أن هذا الشهر سجل عدة إحداث ذات صلة بالمستقبل المغاربي ولاسيما الحراكات الاحتجاجية.
17 فبراير 1989: في هذا اليوم التأم شمل القادة المغاربيين بمراكش حيث تم الإعلان عن ميلاد الاتحاد المغاربي؛
17 فبراير 2011: لم يكن في وارد التوقعات لدي أغلب الهتمين بالشأن المغاربي أن ليبيا ستهتز بفعل حراك احتجاجي سلمي وينقلب إلى ثورة مسلحة أطاحت بريجيم معمر القذافي، ثم انحرفت إلى حرب أهلية مازال الليبيون البسطاء يعانون من آثارها ويعلقون آمالا عريضة على نخبهم في إعادة السلم إلى أرضهم؛
20 فبراير 2011: انفجرت شوارع المدن المغربية بحراك سلمي حمل شعارات تطالب بالتغيير، أفضت بعد أقل من شهر إلى الخطاب الملكي يوم 11 مارس حيث نص على ضرورة الإصلاحات الدستورية. وبعد التحولات التي أعقبت دستور 2011، لم تتوقف الحركة عن العمل، منذ أن أعلنت بيانها التأسيسي 17 فبراير 2011؛
25 فبراير 2011: اشتهرت تحت اسم حركة 25 فبراير، وهي حركة شعبية قادها شباب موريتانيين. وفق بعض المعطيات، كان أول ظهور لهذه الحركة المعارضة تحت اسم الهيئة التنسيقية لـ 25 فبراير ولكن هذه المجموعة سرعان ما انهارت بسبب التوترات الداخلية. وبعد حل المجموعة، تشكلت مجموعة جديدة تحت اسم ائتلاف شباب 25 فبرير، وقد تمكنت من فرض نفسها. في أعقاب القمع الحكومي ضد هذه المجموعة، تأسست حركة 25 فبراير التي حظيت بشهرة عالية ومازالت قائمة حتى اليوم؛
22 فبراير 2019: اليوم تمر الذكرى الثالثة لحراك 22 فبراير الجزائري. وهو حراك شعبي اندلع يوم الجمعة 22 فبراير 2019 في معظم المدن الجزائرية للمطالبة بعدم ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة.
توالت جمعات الحراك واتسعت رقعة الاحتجاج وظلت الشوارع والفضاءات العمومية تغص بمئات الآلاف من المتظاهرين. كان لي شرف المشاركة منذ الجمعة الأولى في مسيرات وهران. شاركت في النقاشات التي احتضنتها بعض الفضاءات العمومية بميرامار وبساحة الأمير عبد القادر، أو احتضنها مقرات جمعوية، وخاصة مقر الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان التي وفرت قاعتها بساحة النصر لسلسلة من اللقاءات والحوارات المفتوحة.
بعد أن انحازت المؤسسة العسكرية إلى الحراك بقيادة قائد الأركان ونائب وزير الدفاع الراحل أحمد قايد صالح، وتم تأجيل الرئاسيات واستقال الراحل عبد العزيز بوتفليقة، انقلب الريجيم الحاكم على نفسه وتم الزج ببعض الوزراء والضباط والولاة ورجال الأعمال في السجن ووصْفهم بالعصابة في الخطاب السياسي الرسمي والإعلامي، وهي نفس المفردات التي رددها رئيس الجمهورية الحالي.
كانت الإرادة الجمعية للحراك حريصة على السلمية، كما كان حريصا عليها أغلب الفاعلين من داخل مؤسسات الدولة ومن أحزاب المعارضة. لكن ما كنت أخشاه هو أن يفتقر الحراك إلى البوصلة التي بفضلها يسدد خطاه في اتجاه التغيير، وكنت من الذين يدعون إلى تجنب العنف اللفظي الذي تسرب عبر الشعارات. كما كنت أخشى أن يتورط الحراك دون تبصر في الصراع الذي تفجر بين العصب وترتبت عنه سلسلة من اعتقالات وزراء وضباط كانوا من جبابرة الحكم قبل الحراك. وقد تورط الحراك في الاصطفاف مع هذا الطرف أوذك، دفاعا عن هذا الوزير المعتقل أو هذا الضابط أو رجل الأعمال، فدب الانقسام في صفوفه. وضاقت مساحة التعبير بين فاعليه في القضايا الخلافية فانحرف إلى التخوين وتبادل التهم.
ومن منطلق أني كنت أؤمن أن أزمة الجزائر تكمن في غياب طبقة سياسية مؤهلة وقصور النخب الفكرية؛ كنت أرافع بهدف إقناع نخبة الحراك لتجعل من الحراك ورشة للتمرن على فن الحوار وبناء الأفكار وتطبيع العلاقة بين الشباب ومفردات التغيير، وأن تجعل منه ورشة تكوين الحراكيين الشباب في السياسة بمعناها الملموس (انظر ملفات).
كان حراك فبراير من وجهة نظري استئنافا متجددا للحراك السياسي الذي أسست له الحركة القومية الجزائرية بعد الحرب العالمية الأولى، وفي سياق نزعات الاستقلال القومي التي أسست لمفهوم الدولة الأمة. كما أن حراك 22 فبراير، مازال من وجهة نظري، يمثل نفسا ثوريا جديدا لأحداث أكتوبر 1988 وحراك 12 يناير 2011 تفاعلا مع ثورات 2011.
لقد كان حراكا مبهرا ومبدعا في مظهره الشعبي، على مستوى الوجدان والمتخيل الشعبيين، لكنه كان مخيبا للآمال في مظهره النخبوي. وفي تقديري، سيبقى حراك 22 فبراير متقد الشعلة في انتظار توفر الشروط الثقافية الموضوعية: ليس شروط القوى المؤمنة بالتغيير الخلاق فحسب، بل حتى الشروط ذات الصلة بالقوى المعادية للتغيير حين تدرك أن "الثقافة" الضحلة التي تسمح لها بالاستمرار انحسرت بفعل تنامي ثقافة سياسية مستنيرة في وسط الشباب المؤمن بالتغيير.
بعد أن فشلت النخب المنادية بالتغيير في الالتفاف حول مشروع سياسي قابل للتحقق، وفشل الريجيم السياسي الحاكم في استدراج الحراك إلى صفوفه، تم إدراج الحراك الشعبي في ديباجة الدستور المعدل، تم تم ترسيمه دستوريا ويوما وطنيا، وأصبح يوصف بـ"المبارك" في خطابات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون.
وخلال اللقاء الذي جمعه بممثلي الجالية الجزائرية، مؤخرا، بقطر، تزامنا مع ذكرى الحراك، ذكر مجددا، في صدد حديثه عن القضايا السياسية الوطنية، بأن “الحراك المبارك أنقذ البلاد". بينما، رئيس حركة مجتمع السلم، عبد الرزاق مقري أحد مرشحي رئاسيات 2019 والذي حصل حزبه على عدد من المقاعد بالمجلس الشعبي، وبمناسبة ذكرى الحراك، فقد قال أن كثيرا من مطالب الحراك لم تتحقق. وسبق أن وصف منذ أيام أن ما يحدث لنشطاء الحراك الشعبي بأنه "ظلم وتجاوزات في حقوق المواطنين".
نعم الحراك في مظهره الشعبي وبصيغته السلمية أنقذ البلاد، وبالموازاة مازالت مطالبه معلقة ومؤجلة بسبب قصور النخب الموالية والمعارضة على حد سواء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حراك 22 فبراير: في الحاجة إلى تدقيق المفاهيم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(هذا المقال كتبته في غمار الحراك وكنت نشرته بعدد من المنابر صيف 2019).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في غمرة الحماس الّذي طبع حراك 22 فبراير رفع الشّباب طائفة من الشّعارات تضمّنت عددا من المفاهيم. في ذات السّياق لم تتوقّف قوى التّغيير عن مناقشة مفردات التّغيير المنشود (مقالات، حوارات، بيانات، رسائل…). ولعلّ أكثر المفاهيم تداولا، مفهوم (الشّعب)، و(الدّولة)، و(الأمّة).
في حقل التّداول السّياسيّ والأيديولوجيّ، ومن ضمن المفاهيم الّتي يدور حولها النّقاش: الدّولة، الأمّة والشّعب؛ تصبح هذه المفاهيم غامضة وفارغة كلّما افترستها الخطابات الديماغوجيّة والشعبويّة. فهل ثمّة تَمثّلٌ صحيح لهذه المفاهيم لدى النّخبة من نشطاء الحراك؟
في اللّسان العربي تنحدر كلمة (الأمّة) من ذات الجذر اللّساني الّذي تنحدر منه كلمة (أمّ) و(إمام)، وقد وردت في أكثر من سورة من سور القرآن. ويمكن القول أنّ الأمّة تحمل معنى الجماعة البشريّة/الأم، الّتي يؤمّها/يقودها قائد أو كتاب ولها مشروع تلتئم حوله وتسير على هديه.
في عصرنا الحديث اكتسى مفهوم الأمّة معنى متلون الأبعاد: فقد تكون عرقيّة، دينيّة، روحيّة، سياسيّة أو ثقافيّة. وانقسم مفهوم الأمّة من وجهة نظر كوهين إلى: قوميّة مدنية (Nationalisme civique) وتشمل الأمم المدنية الطوعيّة المتضمنة، تلك الّتي مثّلتها القومية الغربية ذات الّنزعة الإراديّة الّتي تطوّرت حول المحيط الأطلسي. كان ذلك بفعل بورجوازي علماني ديمقراطي، حيث جنحت السّياسة القوميّة الّتي تبلورت في كنفها نحو الانفتاح والدّمج. فالمُواطَنة الغربية لم تنحصر في الأصل والمولد بل اتّسعت لتشمل الانضمام الطوعي حيث كلّ متجنس في هذه البلدان يعتبر عضوا في الأمّة قانونيا وأيديولوجيا. أمّا القوميّة الإثنيّة (Nationalisme Ethnique) فقد نشأت في وسط وشرق أوروبا. هذه الهويّة القوميّة العضويّة الّتي نشأت يالراين وتمددت في اتّجاه الشّرق وضمت ألمانيا، بولندا، أوكرانيا وروسيا نشأت عن تحفيز خارجي مع حملات نابليون، ونشأت كحراك معارض لقيم التّنوير وإرثه الفكري. وقد ظهرت قبل نشوء الدولة الحديثة، بل بمعزل عن جهازها وبسبب ضعفها تبنت الطبقة المتوسطة هويّة قوميّة اتّسمت بالرعونة والتّهيب وانعدام الثّقة، ما جعلها تعتمد على روابط الدم والأصل. والفلسفة القوميّة الّتي ازدهرت بداية القرن التّاسع عشر في الأقاليم الّتي أنجبت ألمانيا، على أرض بولندا الّتي لم تكن قائمة، أو في روسيا القيصريّة، كانت مطبوعة بطابع رجعي غير عقلاني. أصبحت كيانات إثنيّة بيولوجيّة أو إثنيّة دينيّة منعزلة ترفض أن ينضم إليها كلّ من لم يتوفر على هذه الشّروط. من هذه القوميّة الإثنيّة انبثقت الصهيونيا الّتي نشأت من صلبها إسرائيل، ومن نفس القوميّة نشأت الدول العربيّة المستقلّة. وارتبطت “الأمّة” بـ”الدّولة”، فظهر مفهوم “الدولة-الأمّة”، وقد اتّسع هذ المفهوم لعدد من التّجارب، من ضمنها الدّولة ذات الأمّة الواحدة كفرنسا وغيرها من البلدان الأوروبيّة، والدّولة ذات الأمم المتعدّدة مثل المملكة المتحدّة (UK) أو الأمّة ذات الدول المتعدّدة مثل الدّول المتحدة الأمريكيّة (USA).
مفهوم (الشّعب) ظلّ مفهوما متلونا أو ملتبسا يسعى إلى احتكاره كلّ طرف من الأطراف المتنافسة على الحكم. أمّا فكرة الشّعب في الفلسفة هي فكرة التّوافق. كيف يمكن لمجموعة من الأفراد أن تشكل مجتمعًا، وكيف يتشكل شعبٌ من الشّعوب؟ وما هو جوهره الذي من خلاله يكون الشّعب شعبا؟ هذا هو السّؤال الّذي أراد (ومازال) منظرو الشّرع الطبيعي (droit naturel) الإجابة عنه عندما يفترضون فعلًا من الأفعال دون وجود تاريخي. يتعلّق الأمر هنا بالقانون، كما حدّده كانط في كتابه مذهب الشّرع (Doctrine du droit): “الفعل الّذي يشكل به الشّعب نفسه كدولة”. إنّ المشروعيّة تُستمَد من العقد الأصلي الّذي بموجبه يتخلّى “الكلّ” في الشّعب عن حريّته الخارجيّة، ليعثر عليها مجدّدا كأعضاء ينتمون إلى كيان جمهوري، أي (الشّعب) منظورا إليه كـ(دولة). السّؤال الفلسفي للشّعب يندرج في الطريقة الّتي فكّر من خلالها مصدر هذا القانون الّذي جعل من الشّعب شعبًا.
في الثّقافة السّامية، وصف اليهود أنفسهم بـ”شعب الله المختار”، وهو مفهوم أنتجته الثقافة التناخيّة، غير أنّ هذا المفهوم بنزعته المتعالية انتقل إلى المسيحيين (أبناء الله) وإلى المسلمين (خير أمّة). وإذا تأملنا المفردات الّتي التفّ حولها شباب الحراك، نجدها مفردات منحدرة من إرث أثينا الّتي تأسست عليه الدولة الحديثة ومفردات أخرى مستوحاة من تاريخ الجزائر بشقيه القومي والديني. الأمر نفسه ينسحب على المنشورات والتّعليقات بشبكات التّواصل الاجتماعي والمقالات والحوارات الصحفيّة والرّسائل والمبادرات وما شابه. ثمّة مزْجٌ تعسفي بين مرجعيتين سياسيتين مختلفتين. الأمر ليس جديدا، فالدّولة الجزائريّة انبثقت من إرث “الحركة الوطنيّة/القوميّة”، ونشأت منذ الاستقلال على مرجعيّة إيديولوجيّة غير مدنية كسائر الكيانات العربيّة والإسلاميّة. مفردة (الشّعب)، كما أسلفنا، مرتبطة بالبيئة الثقافيّة الّتي أنتجتها، وحتّى نحيط فهما بهذا المفهوم سيكون من الضّروري العودة إلى أثينا بوصفها موطنا للاختراع المشترك للفلسفة والديمقراطيا.
من تلك البيئة استمدّت أوروبا نهضتها، وخرجت من البراديغما المسيحيّة/السّامية إلى البراديغما الوضعيّة/الإغريقيّة، عبر فلاسفة العقد الاجتماعي: هوبز، لوك، روسو، كانط وغيرهم.
ولأنّ الشّعب ليس تجمعا من الأفراد ولا كتلة جماهيريّة منصهرة، في حالة من العبوديّة مفتتنة بزعيم، يقول أندري أكون الفرنسي ذو الأصل الوهراني، يجب التأسيس على أنّ الشّعب لا ينتج إلّا عن تجمع طوعي لا إكراه فيه وحيث كلّ واحد في هذا التّجمع يخضع إلى القانون الّذي هو المُشرٍّع.
ما يتجلّى في كتابات مفكري التّنوير هو تغيير عميق في الطريقة الّتي جعلوا من خلالها المجتمع والقانون موضوع تفكير. بينما، في الأزمنة الّتي سبقتهم، كان أساس المشروعيّة والقانون خارج الإنسان. من هنا أصاب السّياسة مسٌّ من الثورة الكوبرنيكيّة، الّتي جعلت من الإنسان مصدر وأساس الرّابطة الاجتماعيّة والقانون. هذا هو المعنى الّذي يجب أن ينطوي عليه رفض نظريات الشّرع الإلهي (الثيوقراطيا) ذات الأصل التوراتي منذ أن نَظّر لها المفكر الإغريقي ذو الأصل اليهودي يوسف فلابيوس بداية القرن الميلادي الأول. وسار على تعاليمه، بداية القرن الرّابع، عدد من المسيحيين، أبرزهم لاكتانس الروماني ذو الأصل الأمازيغي، الّذي قال: “وحدها شريعة الله كافية لهذا الغرض”، وهو أوّل مُنظّر للإمبراطوريا البيزنطيّة الّتي أسّسها الإمبراطور قسطنطين. هؤلاء هم أسلاف منظّري الدولة الإسلاميّة بداية القرن العشرين: حسن البنا، المودودي وسيّد قطب.
أن نقول أنّ ما يُوحّد البشر ويشكّل المعيار الّذي ينظم تعايشهم هو نظام تعاقدي، هذا يعني أنّ الإنسان، من خلال إخضاع نفسه للقانون، يخضع فقط لنتائج العقد المبرم بين الجميع (الكلّ)، وبالتّالي لا يخضع إلّا لنفسه. التّحليل يُمفصل عددا من المفاهيم على غرار حالة طبيعة العقد وحقوق الإنسان الّتي تشكل الأرضيّة الرمزيّة للحداثة.
ما يحدث بعد ذلك هو مبدأ الذريّة الاجتماعيّة، الّذي سوف تتم ترجمته على الصّعيد السياسيّ إلى الأساس النظري للفردانيّة المدنية. حتّى نعطي لـ”الكلّيانيّة” سببا يكون بمقتضاه مجتمع من المجتمعات مفكّرا فيه كواقع سياسي، يجب أن نعود إلى العناصر البسيطة. هذه العناصر البسيطة هي الأفراد في حالة الطبيعة بعيدا عن الآثار المترتبة عن انخراطهم في المجتمع وفي الثّقافة، وهذا ما يجب فهمه على أنّه بحث عن طبيعة الإنسان. أن نصف حالة الطبيعة، ليس معناه العودة إلى الأصل التاريخي للمجتمعات، الأمر الّذي يتطلّب أدلّة إيجابية على وجود تلك الحالة في الماضي؛ بل معناه وضْع “الكليانيّة” موضع تحليل وتفكيكها من أجل الوصول إلى الأصلي، عن طريق التّفكير النظري البحت. فالأمر لا يتعلّق ببناء قصّة، بل باختزال الواقع إلى جوهره. يمكن، إذا لم يكن هناك مفارقة تاريخيّة، التّحدث عن اختزال فينومينولوجي (أندري أكون).
سوف يتمّ تصوّر هذه الحالة الطبيعيّة من حيث احتوائها، كشرط لتجاوزها، على نوع معين من السيادة ونوع معين من خضوع البشر طوعيا إلى سلطة (pouvoir) كونهم مصدرها ومنتهاها، وبموجب مشروعية مستمدّة من العقد المكوّن للشّعب.
يجب أن تحتوي الحالة الطبيعيّة في حدّ ذاتها على إمكانات القابليّة الاجتماعيّة لدى البشر والظّروف الّتي تفتحها على تجاوزها وإبرام العقد الأصلي، الّذي بمقتضاه يصبح البشر مواطنين.
إنّ السّلطة لن تكون مشروعة إلّا بقدر توافقها مع العقد الّذي تأسّست بموجبه، وإلّا فإنّ المقاومة الشعبيّة تصبح حقا، من منطلق أنّ إعادة إنشاء العقد المشروع مشروطة باستعادة الأفراد لحريّتهم الأصليّة. لكن كيف يؤسّس الأفراد هذا العقد؟ أي كيف يلتئم الأفراد في هذه الكليانيّة الّتي تسمّى “الشّعب”؟ في غياب هذا التّعاقد، فلن يكون الشّعب شعبا “إلاّ إذا كان موجودا في السند المشترك للقانون. خارج هذا المنظور، فإنّ هذا التّكتل البشري ليس سوى طاغية كأيّ طاغية فرد، بل ليس هناك طغيان أكثر مقتا من هذا الحيوان المفترس الّذي تقمص شكل واسم الشّعب”(شيشرون). هنا يكمن دور النّخبة في تعبيد طريق العبور إلى التّغيير. ولأنّ الدستور الجزائري مثقل بالأيديولوجيا ويعاني من الالتباس القانوني، فقد رأينا كيف سقط المختلفون في تناقضات منطقيّة من حيث علاقتهم بالدستور، فلم تتحرّج القوى الدستوريّة من مخالفة الدستور كما لم تتحرّج القوى غير الدستوريّة من الالتجاء إليه.
بناء على ما تقدّم، وفي سياق المخاض الّذي يسبق ميلاد الدولة، يمكن للشّعب، وفق آلان باديو، أن يُسهم في بناء سيرورة سياسيّة، ومن ثمّة يمكنه أن يصبح مقولة سياسيّة؛ “الجموع الّتي تمشي في الشّارع لا تتحدّث عن شعب وأمّة قائمة، ولكنّها تتحدّث عن أمّة وشعب سيأتي؛ لأنّ مثل هذا الشّعب ليس له وجود إلّا في شكل مسار ديناميكي لحراك سياسي كبير. وبالنّسبة للجموع، ولكلّ أشكال الحراك الشّعبي، تعتبر الدولة القائمة الّتي تقول إنّها تمثّل الأمّة، غير شرعيّة، وعليها أن تختفي، وبهذا المعنى قد يكون الحراك مرادفاً لإلغاء الدولة القائمة”(حسين الزاوي).
يرى باحثون أنّه “من التّضليل أن نعتبر كلّ تكوين ذي طبيعة سياسيّة بمثابة دولة”. ويعتبر جيرار بيرجرون “هذا التّبسيط ينطوي، على الأقل، على هذا العيب في عدم القدرة على التّسمية الصحيحة للدولة حينما انبثقت، بعد لأي، في فترة ما من التّاريخ، بكامل قوتها وتألقها بشكل لا يقبل النّقاش، لتفرض من بعد ذلك إلى يومنا هذا، نفسها بتعقيداتها الخاصّة”. ويرى أنّ “الدولة ظاهرة حديثة العهد ومازالت في طور الشّباب، الدولة في الواقع، لم تظهر إلّا في فترة مفصلية بالعصور الوسطى الأوروبيّة، الفيوداليّة والامبراطوريّة” ويرتبط نشوؤها بـ”الّنهضة” الّتي وَضَعتَ كلّ شيء موضع تساؤل، بما في ذلك أساسيات الحياة السياسيّة.
من هذه البراديغما، نستنتج أنّ الدولة بمفهومها الحديث أصبحت أكثر التصاقا بالسّياسة من حيث أنّ السّياسة أصبحت أكثر التصاقا بالعلوم وأكثر بعدا عن الأيديولوجيا ومن حيث أنّ العلوم ولاسيّما القانونيّة أصبحت أكثر خدمة للحقوق والحريات؛ وبالتّالي فإنّ الدولة وفق البراديغما الجديدة ترتبط ارتباطا عضويا بالديمقراطيا والعلمانيا وحقوق الإنسان، فضلا عن الأيكولوجيا.
بينما مفهوم الدولة لدى حركات الإسلام السياسي لا يتطابق مع رؤية الغرب لهذا المفهوم، فحسن البَنّا وسيد قطب والمودودي “نظروا إلى المسألة من وجهة نظر دينيّة بحتة يتحكّم فيها مبدأ (الحاكمية) الّذي طغى على أدبيات هذه الجماعات وصار المرجع في التّنظير، رغم أن البعض يرى في مقولات المودودي ارتكازها على ما عاصره من قيام الدولة اليهوديّة على أساس ديني، ما حدا به إلى الاقتداء بهذا النّموذج مدعوما في ذلك بالنّظرة الشموليّة الّتي ميّزت النظرة الإخوانيّة لمفهوم الدولة على أنّ الإسلام دين ودولة”(إدريس الكنبوري). هذا التّصور المناقض للدولة الحديثة ليس مقصورا على الإسلام السياسي، بل ينسحب على كلّ الأيديولوجيات المعادية للغرب دينيّة كانت أو قوميّة. ويبقى السّؤال المطروح هو كيف يحدث الانتقال إلى الدولة المنشودة في غياب نقاش هادئ حول المفردات المؤسّسة لهذه الدولة، وفي غياب تحرير مفهوم “الشّعب” و”الأمّة” من النزعة الفاشية الّتي تكرسها الخطابات الشعبويّة/العنصريّة لدى هذا الطرف أو ذاك؟
إنّ الوعي بالدّفاع عن “دولة الحق والقانون” سيغني الجزائريين عن أي لغط سياسي، ذلك أنّ توفير شروط تحقيق هذه “الدولة” سيوفّر لكلّ الجزائريين حقهم في بلورة مشاريعهم السياسيّة في جوّ الحوار المسؤول والتّنافس المشروع؛ سواء كانت تلك المشاريع “باديسيّة” أو “نوفميريّة” أو “ذات نزعة عروبيّة أو مزوغيّة أو إسلاميّة”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعض المراجع المعتمدة:ـــــــــــــــــــــــــ
أندري أكون (André Akoun)، في كتابه “شعب الفلاسفة”؛
- إدريس الكنبوري، هل تأثّر المودودي بنموذج الدولة اليهوديّة في التّنظير للدولة الإسلاميّة؟
- جيرار برجرون (Gerard Bergeron)، في كتابه حول الدولة؛
- لاكتانس (Lactance)، المؤسّسات الإلاهيّة؛
- حسين الزاوي، نحن الشعب؛
- شلومو صاند، كيف تمّ اختراع الشّعب اليهودي؟



#سعيد_هادف (هاشتاغ)       Said_Hadef#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قمة بروكسل بين الاتحادين: الأوروبي والأفريقي
- فبراير المغاربي
- النخبة المغاربية: ملف خاص (الجزء الرابع)
- فبراير إغران وفبراير أديس أبابا
- التعليم في يومه العالمي: البلدان المغاربية
- النخبة المغاربية: ملف خاص (الجزء الثالث)
- النخبة المغاربية: ملف خاص (الجزء الثاني)
- المغاربيون وفلسطين
- النخبة المغاربية: ملف خاص (الجزء الأول)
- في سياق الاحتفال بعامنا المغاربي
- يناير وأشياء أخرى
- منطقتنا المغاربية في مرآة التنجيم
- النسق البيئي الأدبي الجزائري معقد وغير مفهوم في ذات الوقت (ا ...
- البلدان المغاربية في أفق 2025
- هل ثمة ما قد يجمع البلدان المغاربية حول مكافحة الفساد؟
- القمة العربية بالجزائر.. هل ستكون فرصة لإصلاح البيت العربي؟
- المدينة وثقافة التغيير
- مجتمعات المعرفة والمدن المستدامة
- الجسر المغاربي ومياه التغيير
- بين الإبداع والإفساد: مدن ذكية وأخرى غبية


المزيد.....




- ترامب: جامعة كولومبيا ارتكبت -خطأ فادحا- بإلغاء حضور الفصول ...
- عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف منفذي هجمات سيبرانية
- واشنطن تدعو بغداد لحماية القوات الأميركية بعد هجومين جديدين ...
- رئيس الوزراء الفلسطيني يعلن حزمة إصلاحات جديدة
- الاحتلال يقتحم مناطق بالضفة ويشتبك مع فلسطينيين بالخليل
- تصاعد الاحتجاجات بجامعات أميركية للمطالبة بوقف العدوان على غ ...
- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - سعيد هادف - في ذكراه الثالثة: هل ستبقى شعلة حراك 22 فبراير متقدة؟