|
ليلة الحشيش والبيرة
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7162 - 2022 / 2 / 14 - 04:01
المحور:
الادب والفن
هواجس السيد نون ٣٢ - البار كان قلقه يزداد حدة من لحظة لأخرى وإحساسه بالإختناق جعله يغير مكانه ويجلس على طاولة قريبة من المدخل. يحس كأنه في صحراء قاحلة محاط بالرمال من كل جانب وشمس ملتهبة تحرق جسده ووجهه وتتيبس شفتيه من العطش. ويأتيه صوت لم يستطع تحديد مصدره، ربما مجرد ذكريات بعيدة، يحكي قصة عن التمر المختلط بالتراب الذي ذاقه للمرة الأولى بعد ما فاجأته العاصفة الرملية، وتاه لعدة أيام وأنقذه بعض الطوارق الذين كانوا يقودون فرقة جيولوجية في الصحراء. يقول الصوت، بأنه ما يزال يتذكر ملمس التراب بين أسنانه، وطعمه المر في لسانه، التراب الذي اكتشف فيما بعد بأنه ليس ترابا وإنما حشيش قذفه دفعة واحدة نحو عالم غريب لا يعرفه من قبل. وتتكاثر الأصوات الغريبة، ويختفي الصوت ويخفت الضوء وتتغير الصورة، وصوت آخر يزيح الستار ويعتلي خشبة المسرح بطريقة جانبية، يتحدث عن اللغات القديمة المهددة بالإنقراض والكلمات الغريبة القليلة التي التقطها من العجائز المتقاعدين أثناء لعب الورق، ونسف زجاجات الباستيس في القرى الجنوبية المحتضرة. ممثل آخر يخرج من جيبه كتابا قديما بدأ في قرائته على ما يبدو منذ عدة أيام، دون أن يتمكن من الوصول إلى نهاية القصة. أصوات أخرى عديدة تتكاثر، واللهجات الغريبة تخلق جدارا اسطوريا خارقا، وندف الثلج المتسا قط في الخارج تختلط مع سحب الدخان الكثيفة، والصور اللغوية المختلفة تكون نوعا من الضجيج الصوتي والبصري الذي يتشكل في لوحة واعية متماسكة ومتحركة بإستمرار دو ن توقف، ويشعر بالدوار. في الداخل، أي بعد الخروج من الصحراء، تتحول الأحاسيس إلى عيون مائية مشبعة بكل الظواهر الطبيعية الممكنة .. كأس آخر .. سيجارة أخرى تدور تحت الطاولة من يد إلى يد ..الأصوات تتكاثر، وصوت ينادي مامادي.. مامادي، أين أنت أيها العفريت؟ ويأتي ممادي بعد لحظات ويضع كؤوس البيرة فوق الطاولة، ويعلن بأن رائحة الغاز الكربوني تملأ القاعة، وتبعث على الاختناق، دون أن يتحث إلى شخص بعينه. ويمضي لخدمة الطاولة المجاورة، حيث آرزقي ما يزال يواصل محاولاته المريبة دون أن يتمكن من إغتيال تودرت حتى آخر صفحة من الكتاب. ويتسائل بينه وبين كأس البيرة لماذا لا نستطيع أن نكتب تاريخ التمرد والعصيان، بدلا من قصص الملوك والممالك والإمارات والامراء أو قصص الحب والتفاهة. ويغيب في سحابة من الدخان لفترة من الصعب تحديد أهميتها، ويستيقظ على رائحة القهوة والسيجارة الصباحية الأولى في شوارع القرية النائمة. أية أهمية لمعرفة الساعة واليوم والشهر؟ أية أهمية ؟ سؤال لا أهمية له بطبيعة الأحوال السائدة في هذه الصفحة وعبر الشارع المعني. واجتاز السيد نون السلم الحجري المظلم الذي لا ينتهي، والذي تفوح منه رائحة رطبة نفاذة لم يستطع مطلقا أن يحدد مصدرها، وتوقف عند باب شقته ليتنفس بعمق. واتكأ على الحائط ليفتش في جيوبه عن المفتاح، واغمض عينيه بتعب، وأتاه صوت المغني الأعمى، والذي تعود على سماعه منذ بداية هذه الأحداث، صوت عميق وكأنه قادم من الصحراء الشاسعة أو من وراء الجدران. وخيل إليه بأن الصوت كان يغني أو ينشد شعرا أو أصابه نوع من الهلوسة الميتافيزيقية، حين تتلاشى آخر خيوط الضوء، ويتشبع الكون بالظلمة، تختفي العيون والفضاء والمسافات، تبتدئ الأسطورة، بلهب أزرق خفيف يلتهم رأس الشمعة، يحرقها، يبعث فيها رعشة الحياة، فتبدأ في نشر خيوط دقيقة متجاورة، ترسل ضوءا كابيا وحرارة خفيفة لذيذة، وعند نهاية المنعطف يصر باب عتيق، ينفتح قليلا وتفوح من الداخل رائحة مخلوقات بشرية. بين الجدران الكلسية الباردة يتناثرون، يمارسون لعبة الحياة بعبث طفولي، يتحدون الكون والزمان وقوانينه، ويعبثون بأرواحهم، ويناشدون جنون الليل، يريدون الوصول إلى قاع الحياة. هناك في الداخل، عدة رؤوس منكفئة تحدق في لهب الشمعة، وتتيه وسط تشابكات الدماغ اللانهائية، عدة مخلوقات بشرية تمارس طقوس سحر لا اسم له، حول لحن يتيم لقيثارة فقدت اوتارها في زحمة التاريخ، وغبار المعارك الوهمية، ويصلون بلغة العصر، صلاة المادة السحرية السوداء الخضراء البنية، صلاة فقدان ملمس الأشياء. فمن يكتب ياترى تاريخ القرى النائمة ؟ عميد البلدية ؟ أم شرطة القرية ؟ أم جامع الضرائب ؟ أم شيخ القرية ؟ أم مجنون القرية ؟ أم أطفال القرية ؟ غير أن السيد نون كما يبدو قرر أن يقوم بهذه المهمة بنفسه.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النمل وكأس المساء
-
المتسكع
-
الشاعر الصوفي
-
عن القهوة والبطيخ
-
الشعر والصوفية
-
الأنا والغيرية
-
الشك
-
تعرية الله
-
الوعي وتكوين ال - أنا -
-
الحجرة
-
رواية -النسخة- لدوستوييفسكي
-
عن الإنس والجن
-
السرير
-
العودة للحياة
-
المنطق الرياضي لمعرفة الخير والشر
-
تفاصيل يوم الحشر
-
قراءة القرآن
-
- أنا - لم تكتب هذا النص
-
الحجر الجيولوجي والحجر الأركيولوجي
-
عناقيد الهموم
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|