أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - - أنا - لم تكتب هذا النص















المزيد.....

- أنا - لم تكتب هذا النص


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 7144 - 2022 / 1 / 24 - 13:47
المحور: الادب والفن
    


"أنا" لم أكتب هذا النص

تتثائب المدينة الصغيرة، وتستيقظ من نومها القصير تدريجيا، حيث تبدأ الحركة اليومية للبشر، الأصوات الأولى التي ستكون بعد وقت قليل الضجيج المعتاد للمدن. في شارع شعبي في إحدى هذه المدن العديدة التي تتكون منها هذه الأرض، كان جالسا إلى طاولة صغيرة، على كرسي خشبي قديم، في حجرته - رقم ٢٢ - في الطابق الثاني، يفكر، وينظر من النافذة إلى إستيقاظ الحياة وبداية الضجيج وأول موجات الغبار في الشارع، تعود أن يفعل ذلك في كل صباح، ويردد في ذهنه كلمات التصقت بذاكرته إلى الأبد:

نحن الرجال المجوفون
نحن الرجال المحشوون
المتكئون على بعضهم
خوذة ملأي بالقش. للأسف!
تنبعث أصواتنا المبحوحة
عندما نهمس سوياً
خافتة عديمة المعنى
كالريح بين ثنايا العشب الجاف
أو كأرجل جرذان على زجاج مكسور
في مخبئنا الموحش
شكل بلا هوية، ظل بلا ألوان
قوة مشلولة، إيماءة ساكنة  

يحس بهذا الشلل في كل أطراف جسده، بحيث يستطيع أن يبقى هكذا جامدا ينظر إلى الشارع من النافذة لساعات طويلة، وعندما يناله التعب من الحركة والضوضاء، يقفل النافذة ويستلقي على السرير ليحدق في السقف، يحاول أن يخترق بعينيه الجدران الجيرية ليرى السماء والسحب البيضاء تتحرك ببطء من جهة لأخرى من السقف. ما الفرق بين أن أتأمل هذه السحب ناظرا إليها من خلال النافذة المفتوحة، أو أن أتأملها في الخيال وأنا مستلق على السرير مغمض العينين؟ وأنهض من السرير وأجلس أمام الطاولة على الكرسي الخشبي، قريبا من النافذة، وأنظر إلى الشارع من خلال الزجاج المتسخ حيث الشمس والأشجار والريح والقطط وبعض الأصوات البشرية .. جالس وفي يدي قلم أكتب به هذه الكلمات على ورقة في كراسة مدرسية قديمة. في البداية، كما هو الحال في أغلب هذه الحالات، نبحث عن مدخل للكتابة، عن كلمة، صورة أو فكرة، كنت أحاول أن أعرف ما الذي أريد أن أكتبه، ثم أنزلق التساؤل إلى لماذا نكتب ولمن نكتب، ثم تعقد التساؤل وأصبح من هو الذي يكتب؟ وما العلاقة بينه وبين القلم، وبين القلم ويده التي تحركه هذه الحركات المنظمة لتنتج هذه العلامات النملية على الورقة البيضاء، والتي يترجمها القاريء إلى كلمات يقرأها في هذه اللحظة. "أنا" هي أول ما يظهر كإجابة لهذا السؤال الأولي، هذه الوحدة الشعورية والبيولوجية الحاضرة في العالم الذي يحيط بي في هذه اللحظة - هذه اللحظة هي لحظة في الماضي بالنسبة للقاريء - هذه الوحدة الشعورية هي معطى موضوعي يمكن أن يتفهمه قاريء هذه الكلمات أو أي إنسان آخر. المشكلة هي أنه أثناء الكتابة ليس هناك أثر لهذه الـ "أنا"، فالإنسان مستغرق في خط الكلمات الواحدة تلو الإخرى، ولا تظهر الأنا إلا عند التوقف عن الكتابة وبداية التفكير والتساؤل والنظر من "أعلى" إلى هذه الذات التي كانت تكتب.
يبدو إذا في الظاهر فقط أن البداية هي هذه "الأنا"، مصدر ومنبع أي عمل فني أو فكري، خيالي أو عقلي، أدبي أو فلسفي، هذه الذات الواعية التي تتسائل وتتردد وتتعذب وتريد أن تعرف. هذه الوحدة الشعورية الواعية، تظهر "محاطة" في المكان والزمان ببقية الكائنات، ومحاصرة من ناحية ثانية بذوات أخرى تشاركها في الزمان والمكان حضورها وتواجدها في الزنزانة الكبيرة المسماة بالعالم. هناك إذا هذه الذات المتفردة في عزلتها الأبدية، وهناك الذوات الأخرى والتي تكون ما يسمى بالمجتمع الإنساني، وهناك العالم المادي أو الكون العام. هذه الـ "أنا" أو هذا الفرد، أو هذا الواقع الإنساني المتوحد والمتفرد يعي حضوره وحضور المجتمع والعالم، ويعي أيضا أن المجتمع ذاته جزء من العالم ولا ينفصل عنه وأنه هو جزء من هذا المجتمع.
ولكن ما الذي تشير إليه بالتحديد كلمة "أنا" ؟ هل تشير إلى هذه الوحدة الواعية، "أنا أفكر" الديكارتية، أم تشير إلى هذه الأنا المادية الجالسة إلى الطاولة والتي تحرك القلم الذي يخط هذه الكلمات ؟ أم تشير إلى كينونة أخرى لا ترى بالعين المجردة ؟ الدراسات الفينومينولوجية منذ أكثر من قرن تبحث وتنقب عن حل جذري ومعرفة يقينية بخصوص طبيعة الـ "أنا" ورسم خريطة تثبت حدودها وإمكانيتها. ونحن نعرف اليوم أن "الأنا" التي تفكر ليست هي الـ "أنا" التي تقول أنا أفكر، كما أن الأنا التي تقول "أنا أكتب" ليست هي الأنا التي تخط الكلمات على الورقة.
وربما من الأفضل الحديث عن "الفرد" في المجتمع والذي يمتلك خصائص إنسانية بحثة مثل الوعي واللغة والخيال والتفكير وعدة أدوات أخرى يستعملها في علاقاته المعقدة تجاه العالم. ومن الأدوات الأخرى المهمة التي تكون هذا الإنسان الفرد، هو الجسد، جسده هو كملكية خاصة، لا حق لأي فرد آخر الإعتداء عليه أو التحكم فيه. ذلك أنه بواسطة هذا الجسد يرى العالم ويسمعه ويحس به بجلده وعينيه، يشم رائحة الأزهار والتراب المبلل بالمطر ويستمع إلى صوت البرق والرعد وخشخشة أوراق الأشجار وصوت أمواج البحر. هذه الحواس هي مفاتيحه الرئيسية لفتح الأبواب السرية المحيطة به، ليتمكن من الخروج من ذاته والتواصل مع الأشياء ومع الآخرين. الذات-الجسد المادية، الحاضرة في العالم، تبدو ظاهريا هي الوحدة الرئيسية والأولى التي يرتكز عليها كل تساؤل وكل إبداع مهما كان نوعه، وأيضا كل علاقة إجتماعية من حب وكراهية وعنف وتعاون واضطهاد إلخ. غير أن هذه الذات المنغلقة على نفسها كوحدة أولية، غير قادرة على الخروج من ذاتها والتواصل مع الذوات الأخرى ومعرفة ما يجري في "داخلها". بمعنى كيفية معرفة ما يجري في ذهن الآخر، حياته، أحلامه وذكرياته وأسراره وقدس أقداسه كما يقول كييركغارد، في ماذا يفكر، بماذا يحلم، ما هي مشاريعه، هل يرى الألوان كما أراها وهل يسمع نفس الأصوات التي أسمعها .. إلخ. فكل هذه الذوات التي تزاحمه فضاءه وتشاركه في الهواء الذي يتنفسه والتي تكون المجتمع الذي علمه كيف يتكلم وكيف يأكل ويلبس ويحب ويكره، كل هذه المخلوقات لا يمكن الإتصال بها والتواصل معها إلا من الخارج، ولا يمكن سلخ جلودها والتوصل إلى دواخلها، هي الوحيدة القادرة على إعطائنا بعض المعلومات عن عالمها "الداخلي" أو "مخبئها الموحش". حيث تترائى لنا كل الذوات الأخرى مجرد "أجساد" أو "أشياء" مادية تتحرك في الفراغ أو ساكنة وجامدة، وليس لنا أية وسيلة للتأكد من وجودها أصلا أو حقيقية إنسانيتها، أنا أستطيع أن أقول "أنا أفكر" لأثبت وجودي، ولكن ماذا عن الآخر؟ يبدو لنا العقل هو الحل والمفتاح الذي بواسطته يمكننا فهم هذه الأشياء، والإستنتاج المنطقي بأن الآخر لا بد أن يكون مثلنا، له عقل ووعي وحواس، وقادر بدوره على رؤية العالم كما أراه، سماع صخب الشارع وهدير أمواج البحر وصوت الريح والمطر على زجاج النافذة. غير أنه في هذه الحالة يصبح الآخر موضوعا معرفيا وليس أنطولوجيا، وفي هذه الحالة يلزمني "ضمان" هذه المعرفة والتأكد من صحة إفتراضي. فتقنشتاين Ludwig Wittgenstein من جانبه ومن وجهة نظر مثالية وميتافيزيقية يقول بأننا نرى جميعا نفس الطاولة، لأننا نراها جميعا بواسطة نفس الروح، وهذه فرضية شبه مجانية - إمكانية وجود روح جماعية، وأننا نرى جميعا نفس الطاولة - تحتاج إلى أسس منطقية متينة، الحدس الصوفي وحده لا يمكن أن يكون أساسا لأي معرفة عامة وشمولية.
ذلك أن ما يسمى بالحياة الداخلية أو الأنا الباطنية، هو مجرد تعبير لغوي ومجازي لا وجود لها في الواقع العيني، وهذه الأنا ليست حاضرة حضورا ماديا في حياتنا الواعية، وهي ليست في الوعي لا على نحو صوري ولا مادي، فهي كائنة في الخارج وجزء من العالم، أناي أنا من موجودات العالم وكينونتها شبيهة بكينونة الأنوات الأخرى أراها أنا كما يراها الآخرون موضوعا لوعيي. لأنه في واقع الأمر، الأنا ليست هي الوعي الذي يسندها، فالوعي شفافية مطلقة ولا يحتمل فكرة الداخل والخارج ولا يمكنه أن يحتوي أي شيئ، إنها مخلوق تركيبي أبتدعه الوعي لتوحيد الأحاسيس والشعور والأحداث والأعمال النفسية.



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحجر الجيولوجي والحجر الأركيولوجي
- عناقيد الهموم
- الإنسان الإلكتروني
- رطوبة الصمت
- ثنائية العقل والجسد
- الإنسان ومعجزة العقل
- حكايةعن الجوع والحرية
- عن الكابوس الليبي والندم
- الحلم بليليث
- عذاب القبر
- سيجارة السابعة والنصف صباحا
- الآخر ومنفى الأنا
- الكابالا والفلسفة الحديثة
- التصوف والعدم
- اللغة كسلاح ملوث
- الثورة .. والثورة
- عار الكلمات العارية
- أزمة العقل وضرورة الثورة
- المادة والثورة
- الحيوانات تحب لعق البترول


المزيد.....




- الفنانة شيرين عبد الوهاب تنهار باكية خلال حفل بالكويت (فيديو ...
- تفاعل كبير مع آخر تغريدة نشرها الشاعر السعودي الراحل الأمير ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 158 مترجمة على قناة الفجر الجزائري ...
- وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبدالمحسن عن عمر يناهز 75 عاماً ب ...
- “أفلام تحبس الأنفاس” الرعب والاكشن مع تردد قناة أم بي سي 2 m ...
- فنان يحول خيمة النزوح إلى مرسم
- الإعلان الأول حصري.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 159 على قصة عش ...
- أكشاك بيع الصحف زيّنت الشوارع لعقود وقد تختفي أمام الصحافة ا ...
- الكويت.. تاريخ حضاري عريق كشفته حفريات علم الآثار في العقود ...
- “نزلها لعيالك هيزقططوا” .. تردد قناة وناسة 2024 لمتابعة الأغ ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - - أنا - لم تكتب هذا النص