أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نواف سلمان القنطار - الربيع في موسكو














المزيد.....

الربيع في موسكو


نواف سلمان القنطار
كاتب ومترجم.

(Nawaf Kontar)


الحوار المتمدن-العدد: 7160 - 2022 / 2 / 12 - 02:39
المحور: الادب والفن
    


كأن الطبيعة تكافؤك على انتظارك المُضني، على أملك الذي لا يخبو، أو صمودك المدهش أمام طاغية يحتل الأرض والسماء، يتسيّدُ الوقتَ من دون أن يمنحك فرصة للاعتراض أو الحلم بأن سلطته ـ مهما طالت ـ تظل مؤقتة...
ثلجٌ ... يغطي المدى، صقيعٌ يعلّق مراياه المسحورة على الهواء، بردٌ يهزأ بالفيزيولوجيا وبأبسط الأفعال الإرادية، جليدٌ يحزّ رئتيك بسكاكين البلور، يمنعك من إيجاد إيقاعٍ ما بين الشهيق والزفير، ما بين الحركة والسكون، ما بين الواقع والخيال، فلا يبقى أمامك سوى أن تنكفئ نحو ذاكرة تحتفظ بصور الربيع لعلك تستمد منها ـ مثل قصة بائعة الكبريت ـ بعض الدفء.
نصف عام، ستة أشهر، مئة وثمانون يوماً، يحكم الصقيع هذه البلاد، يفرض عليها قوانينه، عاداته وتقاليده، لكنه لا ينال من عزيمتها، ولا يقتل أحلام الربيع فيها، فيستسلم لحكمة الطبيعة وديمقراطيتها في ترتيب الفصول، يحمل عرشه البارد ويرحل إلى الشمال تاركاً وراءه أنهاراً من الدموع والوعود ...
في البداية، يحل الخريف في موسكو هادئاً بلا صخب... ريح خفيفة باردة تحوم بقلق حول المكان، أوراق الشجر الصفراء تترنح فوق الطرقات، رائحة عشب يغتسل بقطرات مطر ناعمة، وشعور مكبوت بالأسى على شيء ما بعيد، فلا يبقى لك سوى أن تختصر نزهتك بالقرب من تلال " فوروبيوف" وتعود إلى البيت قبل أن تدركك ذكريات السنين الماضية.
ربما ترأف الطبيعة بك وتمنحك بضعة أيام من دفء صيف ولىّ، لكنها سرعان ما تقودك إلى مملكة الجليد... تهبط بك درجة تلو أخرى نحو صقيع الأقبية... درجة الحرارة صفر: تقتنع تماماً بضرورة ارتداء ملابس دافئة، خمس درجات تحت الصفر: جو مناسب للزكام ولكنك مضطر للذهاب إلى العمل، عشر درجات تحت الصفر: مازال الطقس صالحاً لنزهة قصيرة فوق طبقات الثلج المتراصة بعد نقاش سياسي حاد ورغبة شديدة في إشعال سيجارة، خمس عشرة درجة تحت الصفر: تبحث عن طرق مختصرة للوصول إلى غايتك، عشرون درجة تحت الصفر: لا تطل المشي في الشارع، ثلاثون درجة تحت الصفر: تتساءل هل سيشتغل محرك سيارتك غداً، أربعون: يتجمد كل شيء، ولا يتجول في الطرقات إلا مجنون أو عاشق، أو مسافر ضل طريقه.
فجأة ... يحل الربيع ... هكذا، من دون مقدمات، كأنك لم تنتظره أبداً... يهزأ بأنانيتك وغرورك، أو بضعفك وبطفولية المزاج فيك، فلست أنت من يسمح له بالمجيء أو الرحيل، ولست أنت الوحيد الذي ينتظره ...
يطل من نافذة الصباح، كأنه كان نائماً طوال الوقت تحت تلك الطبقة السميكة من البياض، كأن هذه البلاد لم تعرف الشتاء يوماً، كأن الصقيع لم يستنزف الجسد والروح معاً، أو كأن الثلج لم يفكر أبداً بالرحيل...
يقفز قبل أن تلحظه، مثل طفل يريدك أن تلاعبه، ينثر لونه وسحره وصخبه في كل مكان، يعزف موسيقاه بجرأة غريبة، فيتراقص الدفء في شرايينك، ويدب الفرح فيها من جديد... هكذا، من دون مقدمات، يصبح الربيع حقيقة وليس صفة أو كناية أو دلالة ... وبعد مئة مرادف للثلج، تزهو اللغة بمرادف واحد للربيع، واضح صاف نقي رائع جميل: الربيع هو الحياة.
حياة تنبع من تحت الأرض، من شظايا انفجار أخضر في الطبيعة، وآخر في الروح، حياة تتدفق في نسغ الشجر، في العشب، في كل شيء من حولك، في كل شيء داخلك، في مواعيدك، في قلبك الذي بدأ يستيقظ من سباته الشتوي، فتتساءل في سرك، هل هي نفسها، تلك الأشجار التي تعرت طوال الشتاء، هل هو نفسه هذا النهر الذي يتراقص ماؤه بعد أن كان مرآة من جليد، هل هي نفسها هذه الشمس التي كانت معلقة وراء الغيم مثل فانوس في الفضاء البعيد.
في الربيع تشعر بأنك جديد على هذا المكان، تتلفت حولك بريبة باحثاً عن درب العودة إلى بيتك الضائع بين الأزهار والأعشاب البرية التي نبتت فجأة أمامك، وفي الربيع تكتشف ألواناً جديدة بين الغيوم المتجمعة عند حدود الغروب، وفي الربيع لا أحد يسرع إلى هدفه، ولا أحد يخزن الفاكهة أو الخضراوات، فكل شيء طازج مليء بنكهة الحياة.
وفي الربيع تتحول الحديقة القريبة من بيتك إلى غابة صغيرة، توقظ حدة الحواس فيك، مثل ذئب يتذكر غريزته أو شاعر متجول يستعيد قافيته أو عاشق يسترد عافية قلبه.
في الربيع، تصبح النساء أكثر جمالاً، والرجال أكثر جرأة، وفي الربيع تولد الأسطورة: يقال بأن ابنة القيصر أرادت ثلجاً في الربيع، فتطاير الزغب الذي يشبه ندف الثلج من أشجار البتولا غير المثمرة، زغب يغزو الشوارع، لا لشيء، إلا ليزعج عيون المارة، كأن الثلج لا يريد أن يعترف بهزيمته، ويسعى للانتقام على طريقته الخاصة.
وفي الربيع تتذكر أحد أبطال روايات ميخائيل بولغاكوف المصاب بحساسية الربيع، أو جارتك الحسناء التي تستحي من الخروج لأن وجهها يزداد احمراراً في هذا الوقت من السنة.
عندما يحل الربيع في موسكو، تكتشف أن انتظارك لم يكن عبثاً، فهناك أشياء كثيرة تستحق أن تراها، أن تلمسها، حتى لو اضطررت للعيش في طقس جليدي نصف سنة على الأقل.



#نواف_سلمان_القنطار (هاشتاغ)       Nawaf_Kontar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وحيداً يسير على الرصيف
- وطني
- لا شيء يزعجني
- تربكني الأسئلة
- سيناريو غير مؤهل أو دفاعاً عن الجنون
- نداء الحياة
- المحكوم بالألم
- يتملكني مزاج جنائزي
- جولة تفقدية
- في الطريق إلى دمشق
- فصام
- سورية بين توصيف الأزمة وأزمة الحل


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نواف سلمان القنطار - الربيع في موسكو