أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نواف سلمان القنطار - جولة تفقدية















المزيد.....

جولة تفقدية


نواف سلمان القنطار
كاتب ومترجم.

(Nawaf Kontar)


الحوار المتمدن-العدد: 7148 - 2022 / 1 / 29 - 14:50
المحور: الادب والفن
    


جـولة تفقدية

" قالوا تحب الشام، قلت جوانحي مقصوصة فيها، وقلت فؤادي"

لا تحتاج إلى ساعةِ منبه أو صوتِ مؤذنٍ ناعس ليوقظك من نومك القلق قبيل طلوع الفجر، فلا الإيمان يفيض من قلبك، ولا العجلة من مزاياك... لكن انفجار قذيفة في مكانٍ قريبٍ ما جديرٌ بأن يفعل ذلك.
كأنك توكل إليها هذه المهمة قبل أن تهجع لحلم أو كابوس، وكأنها تحرص كل يوم على ألا تخذلك... فتنهض من سريرك أو من هلعك، تفركُ عينيك المسكونتين بسؤال خافت الصدى:
ـ كم شخصاً سيبحث الآن عن بقايا جثته بين الأشلاء المبعثرة في ساحة عامة، أو كم بيتاً لن يتمكن من الفرار من هذا الجحيم وسينهار على ذاكرة ساكنيه؟
تسارع للخروج من بيتك، فتكتشف أنك لم تشرب قهوة الصباح وأنك نسيت أن تستمع إلى صوت فيروز، لكنك لم تنس أن تُحكم إغلاق نوافذ وأبواب قلبك، وأن تتفقد هويتك في جيبك، فيومك مثل الطقس في هذا الخريف، مشرّع على احتمالات شتى ( ازدحام مروري، دوي انفجار، سقوط قذيفة، عملية اختطاف وغير ذلك).
تتلفت حولك مثل ذئب جريح محاط برماح الموت ... أخيراً أدركتَ أنهم سرقوا مدينتك منك بينما كنت مكبلاً بالبحث عن بيت تلملم فيه أحلامك الصغيرة. ساومت على خبزك فسرقوا قمحك، ساومت على خلاصك فسلخوا منك روحك، ساومت على حاضرك فسلبوك غدك...
ـ إلى أين ستذهب؟
ـ سأعود إلى هذه المدينة التي تحترق.
ترسم خط سيرك بحدس أعمى يدب في حارة غريبة: ساحة " باب مصلى" مغلقة هذا الصباح، فتتجه نحو مشفى " المجتهد": صوت سيارات الإسعاف يصم الآذان...
على يمينك شارع " خالد بن الوليد" مغلق مثل طريق في مدينة أشباح، تنعطف باتجاه دوار " كفر سوسة" لعلك تحظى بسيارة أجرة، فيعترضك حاجز طويل: جنود مسلحون، أكياس رملية، وعلم سورية الباهت يغفو فوق برميل كبير، وأعقاب سجائر تتناثر في قارعة الطريق...
تعود إلى " الفحامة" المزدحمة تحت جسر المشاة بعد أن " استحدثوا" حاجزاً جديداً: رجال مرور تائهون يحاولون تنظيم حركة السير ولكن بلا جدوى.
محلات " زقاق الجن" تفتح أبوابها بخجل، فمن ذا الذي سيشتري قطع غيار لسيارته في مثل هذا الصباح الباكر... كتل بشرية قرب المخابز، صوت مروحية عسكرية تحلق فوق أسطح المنازل، انفجار في مكان قريب، وسحابة سوداء تعبر فوق وجوه خائفة...
في منطقة " البرامكة" تقترب من مبنى "سانا" الشاحب منذ عقود، تمر بجانب " الهجرة والجوازات"، فترتطم عيناك بكتل بشرية أخرى تتدافع من أجل الحصول على جواز سفر:
ـ لم يتركوا لنا إلا الرحيل ... تصرخ امرأة.
ـ وهل نرحل من دمنا؟... يهمس ظلها من وراء ظل آخر.
تقف برهة أمام جامعة دمشق، ليسترد قلبك حنينه إلى سنوات الدراسة هناك: كان العالم آنذاك لا يتسع لرأسك الذي يضج بالسياسة والحماسة، بالجموح والطموح، بالأغاني الثورية والقصائد والعشق ودخان السجائر...
ـ هل صرتَ كما كنت ستصير!
ـ وهل كنتُ سأصير كما صرت؟
تتابع سيرك بهدوء، لن تركض لاهثاً للقاء غزالتك، ولن تتأخر عن عملك بعد الآن، زمنك مضى وانقضى، ولا شيء يكدر صباحك سوى صوت قذائف بعيدة، أو صوت طائرة حربية تحلق في هذا الفضاء العالي، فليأت القدر على مهل ...
دوّار " الجمارك" مغلق باتجاه وزارة التعليم، تهبط نحو ساحة الأمويين ... تمر بجانب دار الأوبرا، تبتسم رغماً عنك ( ألم يكن ممكناً أن يطلقوا عليها اسماً أقل كبرياء!) ...
تقترب من نصب السيف الدمشقي، ترفع عينيك إلى الأعلى: جبل " قاسيون" على مرمى حجر، وإلى اليسار قليلاً " قصرُ الشعب" على مرمى شعب بلا مأوى...
حواجز في بداية شارع " مهدي بن بركة" ... حركة المرور تزداد تثاقلاً .... تتخيل انفجاراً ضخماً يهز المكان ويملأ الساحة بالأشلاء، لكنك تطرد هذا المشهد من رأسك وتهرب باتجاه " المعرض" القديم ...
كأن السيارات لا تتحرك من أماكنها، تصبح وجوه الركاب مألوفة لأنك كلما تلفتَّ نحو اليسار ترى الوجوه نفسها...
تسير بمحاذاة " بردى" الذي لم يبق منه سوى خط ماء خجول ينتظر خير الشتاء ...
ـ هل تتخيل دمشق من دون " بردى" ؟
ـ ومن أين سيروي الشاعر عروق قصيدته، يا ترى؟
تلمع في ذاكرتك صور من طفولتك البعيدة، فتتذكر " المعرض" بأضوائه وأجنحته الملونة وأعداد غفيرة من الناس بوجوههم الفرحة .... تستعيد ما كانت والدتك اللبنانية الأصل تقصه عليك من حكايات عن رحلات اللبنانيين إلى دمشق في فترة الستينيات... كانوا يأتون في " بوسطات" كبيرة، تسبقهم أغانيهم ورقصاتهم، فيستقبلهم أهل الشام قرب جسر فيكتوريا بالترحاب والتصفيق، ينتشرون في أنحاء المدينة مثل طيور الحجل، يشترون الهدايا والحلويات الدمشقية، ثم يسرعون لدخول المعرض في المساء حتى لا يفوتوا حفلة فيروز التي ينتظرها الجميع منذ أشهر طويلة... وعندما يقفل المعرض أبوابه كانوا يلملمون بعضهم بعضاً ويصعدون إلى " البوسطات" بتثاقل، عائدين إلى بيروت تاركين ورائهم صوت أغنية حزينة لأن رحلتهم إلى الشام انقضت بلمح البصر.
تقترب من " المتحف" الوطني، تسترجع صورك القديمة مع والدك وأخيك الصغير:
ـ ساومتهم على آثارك فسرقوا ذاكرتك... فكيف ستكتب موضوع إنشاء عن وطنك الجميل بعد الآن ؟
تسير بمحاذاة " وزارة السياحة"، تعبر من جانب " التكية السليمانية"، سوق الحرف اليدوية، تمر تحت جسر فيكتوريا باتجاه " الفردوس"، مقهى " الهافانا" على يسارك يتوسل الزبائن، مكاتب الطيران تغلق أبوابها تباعاً، دوار المحافظة صعوداً باتجاه " السبع بحرات" مغلق، طريق " الصالحية" مغلق، شارع " العابد" مغلق، لكن قهوة " الروضة" مازالت تصر على استقبال زبائنها القلائل .
تجلس قرب من جاء من أصدقائك أو من بقي منهم:
ـ أين رفاق الطريق الآن؟
ـ !!!
ـ بكم الدولار اليوم؟
في " البحصة"، الحياة تبدو طبيعية، في " المرجة"... باعة يفترشون الأرصفة ويلاحقونك بأصوات تشبه الدعاء لكي تشتري منهم شيئاً ما. مجمع " يلبغا" الشهير يقف بازدراء، كأنه خارج إطار الزمن الذي لا يعنيه... في " المناخلية" تتراكم بضائع مستعملة لم يرغب أصحابها في مكان ما بالتخلي عنها بمحض إرادتهم..
عند القلعة يقف تمثال قبيح لصلاح الدين وجماعته التي لا تمانع أن تمتد حولها بسطات بيع شحاطات البلاستيك والموبايلات المسروقة.
تنعطف نحو القصر العدلي لترى ما إذا كان الباعة لا يزالون يعلقون على أسواره خارطة كاملة لوطنك.
على يسارك " الحميدية": هناك سار رجال ونساء يطالبون بالحرية في أحد الأيام.
تسير إلى الأمام، نحو " الحريقة"، شارع " مدحت باشا" يتثائب، باب "الجابية" يعيش حركته اليومية، كل شيء طبيعي باستثناء أصوات قذائف قريبة، فتحني رأسك من دون قصد. أشخاص ينظرون إلى الأعلى، آخرون يعبرون الشارع، باعة ينادون على بضائعهم، وزبائن بعيون تائهة...
تصل إلى " السنانية" و" الدرويشية" و" الباب الصغير": هنا أوصيت على شاهدةٍ لقبر والدك قبل بضع سنوات وحرصت أن يُحفَرَ اسمُه عليها بالخط الثلث ... يقفز إلى ذهنك ما قاله صديقك:
ـ على الواحد منا أن يهيئ قبره منذ الآن.
ـ ولم التكاليف الإضافية، لعلك لن تحتاج إليه، فمن يدري في أي أرض ستموت...
تصل إلى بيتك متأخراً، تتناول طعامك من دون شهية، تستمع لما حمله أفراد أسرتك من أخبار اليوم، تتصل بأهلك وأصدقائك لتطمئن على من بقي منهم على قيد الحياة، لا يهمك محتوى الحديث، بل أن تجد من تتحدث معه ...
لا تتبادر إلى ذهنك أبداً فكرة زيارة أحد ما بعد الثامنة مساء، فالليل في دمشق لم يعد مكاناً للسهر في مقهى، أو موعداً للعشاق.
تتابع نشرات الأخبار المتشابهة كأنك ملزم بذلك، يراودك النعاس، فتأوي إلى فراشك البارد، وما إن تغمض عينيك حتى تسمع صوتاً خافتاً يهمس في رأسك:
ـ مازلتَ على قيد الحياة؟
ـ مازلتُ على قيد الأمل.



#نواف_سلمان_القنطار (هاشتاغ)       Nawaf_Kontar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الطريق إلى دمشق
- فصام
- سورية بين توصيف الأزمة وأزمة الحل


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نواف سلمان القنطار - جولة تفقدية