أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عايده بدر - قراءة في النص السردي -بيت الدم للمبدع خالد أبو طماعه / عايده بدر















المزيد.....


قراءة في النص السردي -بيت الدم للمبدع خالد أبو طماعه / عايده بدر


عايده بدر
باحثة أكاديمية وكاتبة شاعرة وقاصة

(Ayda Badr)


الحوار المتمدن-العدد: 7134 - 2022 / 1 / 12 - 09:47
المحور: الادب والفن
    


بيت الدم
البيت يتقيأ أحزانه منذ رحيلهم، منذ حدوث أكبر مصيبة في تلك السنة، يصلب همومه على رياح المجهول الذي عصف بكل شيء دون سابق إنذار.

الصالة أنيقة ومرتبة باحتراف امرأة تهتم بشؤون بيتها وعائلتها، رتبت فيها الأشياء بلمسة جمال رائعة، يزينها على اتساعها طقم كنبات جميل، وفي زاويتها شجرة تتدلى منها قطوف خضراء، وتلفاز يشكو همه للصغار الذين ينظرون إليه بشراهة، وسورة معوذات علقت على الجدار، يقابلها لوحة بداخلها ديك مذبوح وقطرات دم بشكل ثلاث علامات استفهام تنتهي بعلامة تعجب!
قرر أبو رامي أن يضحي في بيته هذا العام، أخبر عائلته قبل قدوم العيد بعشرة أيام، أراد أن يُطّبق هذه السُنة بنفسه ويعلم أبناءه شعيرة عظيمة ويريق الدماء أمامهم، سرد لهم قصة نبي الله إسماعيل، وكيف فداه ربه بذبح عظيم، تشوق الأطفال كثيرا لقدوم العيد وما سيفعله والدهم من إراقة الدماء تقربا لله سبحانه وتعالى.

تقف الزوجة في الصالون لحظات طويلة، تتأمل صورة الديك، تنحدر من رقبته علامات استفهام، السؤال يطرق جدار العقل، العقل لا يستوعب اللوحة، الفضول يترنح بداخلها لمعرفة سر اللوحة، تتقزز منها وتنفر من أمامها، أفاقت من شرودها على صراخ الطفل، رغوة الصابون تملأ حوض ( البانيو ).

نسي أهل الحي تلك الحادثة، إلاّ "أبو محمود" الذي ظل يذكرها كلما هبت الذكريات وأشعلت بعينيه صور الماضي وآلامه، يذكرها دائما للأطفال كحكايات الجدات، وسرعان ما تتفلت من مقلتيه دموع حارة سرعان ما يمسحها بطرف ردائه الحزين.

اصطحب أبو رامي أولاده ليشاركوه شراء الأضحية، يرسم على وجوههم فرحة العيد، أثار ضجيج السوق وغثاء الأغنام الدهشة والفضول لديهم، بعد الانتهاء من النظر إلى الأضاحي بأنواعها ومن زريبة إلى أخرى اختار كبشا أقرنا يزينه صوف كثيف.
يدرس رامي في مدرسة خاصة، في الصف السادس، يصغره أخوه وليد بسنتين، حاد المزاج، يميل إلى العنف واللامبالاة في إيذاء الآخرين، يلكز الأطفال بيده أو بوضع طرف قدمه أمامهم ليوقعهم، وكثيرا ما يستفز وليد حتى تحمر وجنتاه وتذرف دموعه، وسرعان ما تكتشف أمه سبب ذلك، فيهرع لإرضاء أخيه بوضع قطعة حلوى في جيبه فتعود الألفة بينهما.

يتحلق الأطفال حول أبي محمود، تختلط الحكايات في ذاكرته، يسرد لهم قصة الشاطر حسن ومغامراته الرائعة، ذرفت من عينيه دمعتان ساخنتان، تلذذ بطعمهما المالح، شعر بالضيق، أخذ نفسا عميقا ثم أردف قائلا ...

كانت سنة جميلة والصيف في بدايته، سنة مليئة بالفرح، الربيع زيّن الأرض، في مساء ليلة صيفية جاءني أبو رامي، رأيت القلق في عينيه، وكآبة تغطي وجهه، جلس بقربي وبدأ يسرد حلم زوجته الذي أفزعه.

لم أنم ليلتي والأفكار تنهشني مثل كلاب مسعورة، هل لك أن تنبئني بما رأت؟ هل تفسر لي هذا الحلم الغريب؟ سأزيح هذا الهم عن عاتقي وألقيه عليك لتشاركني ما أنا فيه، أفقت من نومي على صراخها، جسدها يرتعش والعرق أخذ منها كل مأخذ، تهذي بأنفاس متقطعة، لم أتبين ما تتحدث به، تلطم وجهها تارة وتصرخ أخرى حتى ظننت أنه أصابها مس، قمت بإيقاظها، بعدما هززتها بقوة، أفاقت وقالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كأن الأمهات يتنبأن بقدوم المصائب، هن يشعرن بذلك، ولا أعلم السبب وراء ذاك الجنون، ناولتها كوبا من الماء، شربت بلهفة غريبة، كأنها صحراء لم تتذوق الماء أبدا، بدأت بسرد حلم شعرتُ بمرارته الذي ذاقته في المنام، رأت حية رقطاء، تنفث السم في ثلاثة أعشاش، وقفت الأم على أعلى غصن، تراقب موت صغارها، وخيل تصهل بحرقة وتهمهم، وفرح يغلفه إطلاق نار وزغاريد نساء، بينما أنا أسير وسط الجموع، حاسر الرأس مهلهل الثياب.
قلت له وأنا أخفي توترا يهتز بداخلي، إنها فرحة العيد يا أبا رامي، سيزورنا بعد رحيل عام، قلتها وأنا أمضغ الحيرة تحت ضروسي، أخفف من وطأة الحلم الذي أرقه، محاولا دفعه عن الشؤم الذي التحفه، مضى وهو يلوك همّا يحاول نسيانه.
الدنيا صغيرة، قالها أبو محمود وهو لا يزال يسرد لهم الحكايا، انفض الأطفال من حوله، ظل في مكانه، يلاعب الحصى ويرسم على الرمل دوائر، يمسحها ويخط كلمات مبعثرة، يستذكر طفولته وكلمات كانوا يرددونها...
بكره العيد وبنعيد... ونذبح بقرة السيد... والسيد ما الو بقرة...
بدأ النشيج يزداد وحشرجة باتت تخنقه.

يعود أبو رامي من عمله محملا بالأكياس، يدير المفتاح في ثقب الباب، متجاوزا سور الحديقة، تدهشه رؤية خيط رفيع من الدم، يسير حتى نهايته، أصابه الذهول، خر مكانه بلا حراك، يقلب صغيره "وليد"، يتحسس رقبته، امتلأت يداه بالدماء، يقابله رامي وفي يده سكين تلمع وعليها أثار دماء، يصرخ الأب من شدة الصدمة، تخرج الأم من الحمام، يركض الطفل بسرعة جنونية نحو المجهول، تتلقفه سيارة تهوي به على الأرض، يسبح في دمه، يقف الأب مذهولا، مدهوشا ويتوه في الغياب، الأم أصابها الجنون، تُقّلب وليدها، تندب حظها، يجتمع كل أهل الحي، بعد لحظات الهذيان والجنون تستفيق لصغيرها، تركض لتجده جثة في الحوض بلا حراك
خالد يوسف أبو طماعه
2012

________________________
بيت الدم
عتبة موحية بالكثير واتخاذها عنوان لم يرد في النص لكنه مجمل أحداث النص وكأنه يقدم لنا المحصلة التي انتهت إليها قصتنا
بالطبع لا يمكننا اعتبار أن العنوان كاشف بل هو عنوان مراوغ وكثيراً لأنه يوحي لقارئه بأكثر من فكرة تراود مخيلته بمجرد أن يطالع العنوان
وهذه نقطة تحسب لصالح السارد لأن اختيار العنوان المناسب الجاذب للقارئ والمعبر عن النص وغير الكاشف لأحداثه يجعل الكاتب كمن يسير على الحبل يحاول التوازن مخافة أن يسقط لاسمح الله

(البيت يتقيأ أحزانه منذ رحيلهم، منذ حدوث أكبر مصيبة في تلك السنة، يصلب همومه على رياح المجهول الذي عصف بكل شيء دون سابق إنذار).
يعقب العنوان استهلال فصله السارد عن بقية النص ببعد مسافة في الكتابة لكن من أول ما تقع عين القارئ عليه سيدرك على الفور أن التكنيك الذي سار به السارد في نصه هو التكنيك الروائي وليس تكنيك القصة القصيرة .. لدينا عدد كبير من الشخوص أكثر مما تحتمله قصة قصيرة وإن كانوا موظفين بشكل رائع في السرد .. لدينا أيضاً تلك المقدمة القصيرة وكأنها أتت بصوت الراوي الذي يرسم لنا مسقطاً رأسياً للبيت فنراه من الأعلى بعيداً عن الأحداث التي لم نتعرف إليها بعد .... ثم بعد ذلك سنرى أن الجمل السردية الطويلة التي اعتمدها السارد تحمل الكثير من التفاصيل المتصلة بما يليها بحيث يكون فصلها عن بعضها يمثل إخلالاً بالجو العام للنص... لدينا أيضاً هذا التداخل في تقديم وتأخير المشاهد ليزيد من غموض الحدث حتى نصل لذروته ونحن في قمة الانفعاللكن هذا لا يعني ان السارد لعب على خاصية الانفعال العاطفي فقط لدى القارئ لأنه كان يحاول دائما إثارة وعي القارئ وتحريك ذهنه مع الأحداث بشكل متوازٍ


(الصالة أنيقة ومرتبة باحتراف امرأة تهتم بشؤون بيتها وعائلتها، رتبت فيها الأشياء بلمسة جمال رائعة، يزينها على اتساعها طقم كنبات جميل، وفي زاويتها شجرة تتدلى منها قطوف خضراء، وتلفاز يشكو همه للصغار الذين ينظرون إليه بشراهة، وسورة معوذات علقت على الجدار، يقابلها لوحة بداخلها ديك مذبوح وقطرات دم بشكل ثلاث علامات استفهام تنتهي بعلامة تعجب)
يبدأ السارد بوصف عام للمكان وهو البيت .. ودلالة "البيت" تحيلنا تلقائياً إلى الأسرة والدفء العائلي وربما صخب الأطفال وأصواتهم المرتفعة وفوضاهم حين يلعبون ويحيلون المرتب المنهدم إلى فوضى
لكن يقابلنا هنا وصفاً دقيقاً للبيت حيت تم ترتيبه وتزيينه بيد "سيدة البيت" وهذا يجعلنا نتصور إضافة إلى التفاصيل التي منحنا إياها السارد كيف يكون هذا البيت في نظامه وأناقته وهندمة حاله .. وعلينا أن نتأمل هذه المفردات ولست أقصد الالفاظ المستخدمة بل أقصد المفردات التي توزعت في هذه الفقرة:
لدينا طقم كنبات جميل
شجرة تتدلى منها قطوف خضراء
تلفاز يشكو همه للصغار
سورة معوذات علقت على الجدار
يقابلها لوحة بداخلها ديك مذبوح وقطرات دم بشكل ثلاث علامات استفهام تنتهي بعلامة تعجب
هذا التناقض بين الحياة والموت .. بين الترتيب والفوضى .. فالكنبات الجميلة مؤكد أنها تبعث على الراحة ويزيد هذه الراحة تلك الشجرة الخضراء ثم يزيد عليها تلفاز بما يضج فيه من حياة ... هذا الجانب من البيت هنا يضج حياة وروح
على النقيض نجد لوحتين معلقتين متقابلتين: لوحة تحمل سورة المعوذات وتقابلها لوحة تحمل صورة من صور الموت "ديك مذبوح" ومن صور الدم "ثلاث قطرات من الدم" بشكل علامة استفهام تنتهي بعلامة تعجب
هذه اللوحة نفسها هي ملخص موجز لأحداث القصة التي بين أيدينا:
ديك مذبوح في إشارة إلى الأب الذي ذبحته المفاجأة من هول ما رأى وضع أبنائه
ثلاث قطرات من الدم تقابل ثلاث أبناء هم كل ما يملك من الحياة
علامة استفهام تقابل السؤال الكبير الذي طرق رأسه فور رؤيته لخيط الدم "لماذا؟"
علامة التعجب هي الوصف الأمثل الذي يمكن أن نتخيل فيه ملامح الأب وهو يرى بيته الدافئ يتحول إلى "بيت الدم"

(قرر أبو رامي أن يضحي في بيته هذا العام، أخبر عائلته قبل قدوم العيد بعشرة أيام، أراد أن يُطّبق هذه السُنة بنفسه ويعلم أبناءه شعيرة عظيمة ويريق الدماء أمامهم، سرد لهم قصة نبي الله إسماعيل، وكيف فداه ربه بذبح عظيم، تشوق الأطفال كثيرا لقدوم العيد وما سيفعله والدهم من إراقة الدماء تقربا لله سبحانه وتعالى)
لم تكن علاقة البيت بالدم مستحدثة بفكرة وجود الأضحية في العيد هذا العام داخل البيت .. لكنها كانت موجودة أمام الأطفال والزوجة والزوج من خلال اللوحة المعلقة للديك المذبوح وقطرات الدم .. لكن يبدو أن هذه اللوحة كانت لم تلفت نظرهم إلا بعد قرار الأب بإقامة شعيرة الأضحية داخل البيت وهذا الفرح العارم بين الأطفال الذين باتوا ينتظرون رؤية الدم المراق في بيتهم كأنه هو العيد.

(تقف الزوجة في الصالون لحظات طويلة، تتأمل صورة الديك، تنحدر من رقبته علامات استفهام، السؤال يطرق جدار العقل، العقل لا يستوعب اللوحة، الفضول يترنح بداخلها لمعرفة سر اللوحة، تتقزز منها وتنفر من أمامها، أفاقت من شرودها على صراخ الطفل، رغوة الصابون تملأ حوض ( البانيو ))
لكن هل كان هذا نفس شعور الزوجة التي نجدها وقد تنبهت فجأة لوجود هذه اللوحة .. ووقفت تتأمل بها وبدا يظهر في ملامحها نوعاً من التقزز لهذا المنظر المؤلم للدم الذي أثار فيها انفعالاً عاطفيا بالتقزز من الدم وانفعالاً ذهنيا بتحريك السؤال داخل عقلها (لماذا) وتحت هذه الماذا اندرجت كثير تساؤلات لم يحدثنا عنها النص لكن بإمكاننا أن نتصورها .. ولعل كثير من (لماذا) يثار في أذهاننا حين نتقابل والدم وجهاً لوجه.... إن هذه الفقرة التي اختتمت بصراخ الطفل داخل البانيو يجعلنا ننتبه إلى أننا لدينا ثلاثة أطفال وليس طفلان عرفنا عليهما السارد (رامي – وليد) وترك الأخير بلا اسم حتى يفاجئنا بوجوده ورغم أنه أصغر كثيراً من أن يقدم دوراً ملموساً في السرد إلا أننا نفاجئ بأنه أيضا كان من ضمن محرمات السرد التي بلغت بنا ذروة القصة

(نسي أهل الحي تلك الحادثة، إلاّ "أبو محمود" الذي ظل يذكرها كلما هبت الذكريات وأشعلت بعينيه صور الماضي وآلامه، يذكرها دائما للأطفال كحكايات الجدات، وسرعان ما تتفلت من مقلتيه دموع حارة سرعان ما يمسحها بطرف ردائه الحزين)
مرة أخرى يعود صوت الراوي وقد أطلق عليه السارد هنا اسم "أبو محمود" ويحدثنا بشكل منفصل عن تسلسل الأحداث وكأن هذا التقاطع مع خط سير القصة يجعلنا نفيق ولو للحظة أننا هنا لسنا نعيش القصة بل أننا نسمعها من وجهة نظر الراوي الذي يحكيها لأطفال الحي الذين لم يعاصروا حدوثها .. فقد علمنا منذ الاستهلال أن هذا البيت أصبح مهجوراً بعد كل هذه الأحداث..

(اصطحب أبو رامي أولاده ليشاركوه شراء الأضحية، يرسم على وجوههم فرحة العيد، أثار ضجيج السوق وغثاء الأغنام الدهشة والفضول لديهم، بعد الانتهاء من النظر إلى الأضاحي بأنواعها ومن زريبة إلى أخرى اختار كبشا أقرنا يزينه صوف كثيف.
يدرس رامي في مدرسة خاصة، في الصف السادس، يصغره أخوه وليد بسنتين، حاد المزاج، يميل إلى العنف واللامبالاة في إيذاء الآخرين، يلكز الأطفال بيده أو بوضع طرف قدمه أمامهم ليوقعهم، وكثيرا ما يستفز وليد حتى تحمر وجنتاه وتذرف دموعه، وسرعان ما تكتشف أمه سبب ذلك، فيهرع لإرضاء أخيه بوضع قطعة حلوى في جيبه فتعود الألفة بينهما)
تعود القصة لتسلسلها في الأحداث ونتعرف هنا عن كثب على شخوص عرفنا بوجودها لكن هنا نعرف بشكل أكثر تفصيلاً .. وهذه التفاصيل التي قد تبدو زائدة لكنها ترسم المشهد بصورة أكثر إيضاحاً وأكثر اقتراباً وارى السارد هنا وقد تحول إلى مصور يملك عدسة قوية في التقاط أدق التفاصيل التي منها سندرك لماذا أصبح هذا البيت "بيت الدم"
من خلال توصيفه للطفلين الأكبرين هما الذين كانا يجلسان أمام التلفاز بشراهة وهذا ربما يعني مدة طويلة يجلسان أمامه وقد يعني أيضا مادة مثيرة للعنف يشاهدانها بدليل هذه الشراهة التي وصفها السارد للتعبير عن حالتهما.. ويمكننا أن نعتبر فرحتهما بانتظار العيد الذي ارتبط في ذهنيهما بإراقة الدماء .. نضيف أيضا إلى ذلك تلك الصفات التي يتسم بها الطفل الأكبر "رامي" من العنف واللامبالاة في إيذاء الآخرين .. تلك الصفات التي ساهمت في تشكيل الحدث الرئيسي هنا
وأتعجب من الأب الذي لم ينتبه لهذه الصفات في شخصية ابنه الذي يقف على أعتاب المراهقة وكيف لم ينتبه لذلك العنف فيه .. وكان عليه أن يعالجه قبل التفكير في إقامة شعيرة من الممكن الاستغناء عنها داخل البيت.


(يتحلق الأطفال حول أبي محمود، تختلط الحكايات في ذاكرته، يسرد لهم قصة الشاطر حسن ومغامراته الرائعة، ذرفت من عينيه دمعتان ساخنتان، تلذذ بطعمهما المالح، شعر بالضيق، أخذ نفسا عميقا ثم أردف قائلا ...

كانت سنة جميلة والصيف في بدايته، سنة مليئة بالفرح، الربيع زيّن الأرض، في مساء ليلة صيفية جاءني أبو رامي، رأيت القلق في عينيه، وكآبة تغطي وجهه، جلس بقربي وبدأ يسرد حلم زوجته الذي أفزعه.

لم أنم ليلتي والأفكار تنهشني مثل كلاب مسعورة، هل لك أن تنبئني بما رأت؟ هل تفسر لي هذا الحلم الغريب؟ سأزيح هذا الهم عن عاتقي وألقيه عليك لتشاركني ما أنا فيه، أفقت من نومي على صراخها، جسدها يرتعش والعرق أخذ منها كل مأخذ، تهذي بأنفاس متقطعة، لم أتبين ما تتحدث به، تلطم وجهها تارة وتصرخ أخرى حتى ظننت أنه أصابها مس، قمت بإيقاظها، بعدما هززتها بقوة، أفاقت وقالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كأن الأمهات يتنبأن بقدوم المصائب، هن يشعرن بذلك، ولا أعلم السبب وراء ذاك الجنون، ناولتها كوبا من الماء، شربت بلهفة غريبة، كأنها صحراء لم تتذوق الماء أبدا، بدأت بسرد حلم شعرتُ بمرارته الذي ذاقته في المنام، رأت حية رقطاء، تنفث السم في ثلاثة أعشاش، وقفت الأم على أعلى غصن، تراقب موت صغارها، وخيل تصهل بحرقة وتهمهم، وفرح يغلفه إطلاق نار وزغاريد نساء، بينما أنا أسير وسط الجموع، حاسر الرأس مهلهل الثياب.
قلت له وأنا أخفي توترا يهتز بداخلي، إنها فرحة العيد يا أبا رامي، سيزورنا بعد رحيل عام، قلتها وأنا أمضغ الحيرة تحت ضروسي، أخفف من وطأة الحلم الذي أرقه، محاولا دفعه عن الشؤم الذي التحفه، مضى وهو يلوك همّا يحاول نسيانه.
الدنيا صغيرة، قالها أبو محمود وهو لا يزال يسرد لهم الحكايا، انفض الأطفال من حوله، ظل في مكانه، يلاعب الحصى ويرسم على الرمل دوائر، يمسحها ويخط كلمات مبعثرة، يستذكر طفولته وكلمات كانوا يرددونها...
بكره العيد وبنعيد... ونذبح بقرة السيد... والسيد ما الو بقرة...
بدأ النشيج يزداد وحشرجة باتت تخنقه)
هذه الفقرة الطويلة ككل يظهر فيها صوت الراوي واضحاً ولا يكتفي فقط بنقل الصورة لأطفال الحي ولنا كقراء بل يشارك بشكل فعلي في صنع الحدث
هنا تمازج كبير بين الشخوص من خلال استخدام تقنية "الحلم" التي حاول فيها السارد أن يكشف لنا رد فعل الزوجة عندما تأملت صورة "الديك المذبوح وقطرات الدم" ذلك ان الوعي عندها بدأ بإسقاط هذا المشهد الذي حرك عقلها بالعديد من الأسئلة التي لم تجد لها إجابات واضحة .. والمخاوف التي اعتمات في عقلها وروحها .. وربما لأنها الأم وهي الأكثر تواجداً مع اطفالها فلاشك وأنها كانت تدرك بشكل أو بآخر هذا التكوين النفسي غير السليم لنفسية طفلها الأكبر.. هذه المخاوف المتناسلة داخلها ترسبت في اللاوعي وخرجت بصورة هذا الحلم الذي رأه الراوي كأنه رؤيا فادحة الخطر ولكنها كالقدر لا نملك أمامه إلا لطف الدعاء ولعل هذا السبب في أنه لم يرد أن يفسره للزوج الذي احتار في فهم رموزه.


(يعود أبو رامي من عمله محملا بالأكياس، يدير المفتاح في ثقب الباب، متجاوزا سور الحديقة، تدهشه رؤية خيط رفيع من الدم، يسير حتى نهايته، أصابه الذهول، خر مكانه بلا حراك، يقلب صغيره "وليد"، يتحسس رقبته، امتلأت يداه بالدماء، يقابله رامي وفي يده سكين تلمع وعليها أثار دماء، يصرخ الأب من شدة الصدمة، تخرج الأم من الحمام، يركض الطفل بسرعة جنونية نحو المجهول، تتلقفه سيارة تهوي به على الأرض، يسبح في دمه، يقف الأب مذهولا، مدهوشا ويتوه في الغياب، الأم أصابها الجنون، تُقّلب وليدها، تندب حظها، يجتمع كل أهل الحي، بعد لحظات الهذيان والجنون تستفيق لصغيرها، تركض لتجده جثة في الحوض بلا حراك)


جاء المشهد الأخير حافلاً بكل ما اخبرتنا به التفاصيل السابقة .. هذا الصخب الذي صاحب السرد في هذه الفقرة حيث تقودنا إلى ذروة الحدث بكل ما نملك من إصغاء تام للأفعال التي تتناسل تلقائياً مع خطوات الزوج إلى داخل بيته من أول المفتاح الذي أداره في باب الحديقة متتبعاً هذا الخيط من الدم الذي يقابل خيط الدم في لوحة الديك المذبوح .. ثم تأتي بداية رؤيتة لنقاط الدم في الواقع كما في اللوحة كانت ثلاث نقاط وها هو يرى أول نقطة وهي ابنه الأوسط مذبوحاً بيد أخيه .. ثم النقطة التالية وهي ابنه الأكبر ممسكاً بالسكين وعليه آثار دماء أخيه والذي ما يلبث أن يهرب فتصدمه سيارة وبهذا تتحقق نقطة الدم الثانية .. ثم النقطة الثالثة والتي تخرج من صرخة الطفل الأصغر في الحوض ... لتنتهي بعلامة استفهام يمثلها الأب الذي لم يفهم ولم يدرك "كيف ولماذا حدث ما حدث " ... ثم علامة الدهشة التي انتهت بها اللوحة والتي اعتلت ملامح الأم التي أذهلها جنون ما ترى ... وبذلك تحققت رموز اللوحة في واقعهم وتحققت رموز الحلم التي أشارت هي الأخرى إلى وقوع كارثة بكل المقاييس فها هو الدم حية رقطاء نفثت السم في أعشاشها الثلاثة .. وها هي الأم ترقب موت صغارها، وقد توقف أهل الحي يشاهدون كأنه مشهد من الجنون فيه كل التناقضات .. وها هو بطلنا يسير وسط الجموع، حاسر الرأس مهلهل الثياب.
لقد تحقق الحلم كما تحققت اللوحة وصار خراباً "بيت الدم"
لا اعلم هل اقتربت من رسم رؤيا قريبة لهذا النص الذي يمكن أن يطلق عليه قصة طويلة وهو بكل أحواله من الروعة بمكان
الأسلوب والبناء والحبكة ثم المضمون الذي يناقشه النص نقف عنده بكثير تقدير ويستحق بالفعل ما نال من تكريم وجوائز
أما بالنسبة لي كقارئة فلا أنكر أن النص أرهقني لملاحقة تفاصيله التي تم توظيفها بشكل رائع لخدمة الفكرة التي وصلتني حسب فهمي للنص الذي لم تكن الشعيرة الدينية هي هدفه الأول لكنه اتخذ منها سبيلاً للخروج إلى الهدف الأساسي كما رأيته وهو الأبناء والالتفات إلى تكوينهم النفسي وتربيتهم وتأسيسهم
فكأني به رسالة يقول فيها علينا الانتباه جيداً قبل أن نفكر في تطبيق هذه الشعيرة الدينية إلى زمانية ومكانية وكيفية تطبيقها سيما وأن هذا التطبيق يمكن أن يتم بمكان آخر ولن ينقص من فاعليتها شيئاً
ويجب علينا قبلاً مراعاة ومتابعة نفسية أطفالنا وتهيئتهم لاستقبال ما نريد بطريقة تناسب نفسيتهم
الأمر ليس مجرد التطبيق أكثر منه فهم العظة والعبرة من التطبيق ولا ينال هذا من مكانة الشعيرة الدينية شيئاً
لا أريد أن أحمل النص فهمي الشخصي له وهو فهم خاص بي ليس أكثر

مبدعنا القدير الراقي أ.خالد أبو طماعة
نص من العيار الثقيل كما نقول أبارك لك هذه النص الرائع وإن كان تاريخه قديم بعض الشيء لكن أحداثه متجددة بشكل أو بآخر
11 يناير 2021



#عايده_بدر (هاشتاغ)       Ayda_Badr#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وقفة في ذكرى الأربعين لوفاة الباحث الايزيدي بير خدر سليمان
- في ساحة العشاق ... هناااك! / عايده بدر
- منذ البدء أنتِ المطر ...!/ عايده بدر
- منذ البدء أنتِ المطر
- قراءة المبدعة القديرة جهاد بدران في نص-هذا الليل- / عايده بد ...
- قراءة في نص -انشقاق أخير- للمبدع ابراهيم شحده / عايده بدر
- قراءة في نص -سقوط- للمبدعة فاطمة الزهراء العلوي / عايده بدر
- قراءة في نص -سقوط- ق ق ج للمبدعة فاطمة الزهراء العلوي / عايد ...
- ما بعد الثانية عشر تحليقاً ...!
- قراءة المبدع ياسر أبو سويلم الحرزني لنص -يالغريب- ...! / عاي ...
- قراءة في نص .. أنياب الشمس ... للمبدعة أحلام المصري / عايده ...
- قراءة في نص -أنياب الشمس- للمبدعة أحلام المصري / عايده بدر
- يوسف : الرمز الأسطوري ....... من حافظ الشيرازي ......... إلى ...
- قراءة في نص ( روح) للمبدعة عايده بدر / جوتيار تمر
- قراءة في نص أنا والطفولة / اهلكورد قهار /عايده بدر
- صمت .. عايده بدر
- قراءة في نص (صمت ) للمبدعة عايده بدر / جوتيار تمر
- ما بعد الثانية عشر جحيماً ...!/ عايده بدر
- ما بعد الثانية عشر جحيماً ...!
- للحب ... وأشياء أخرى


المزيد.....




- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عايده بدر - قراءة في النص السردي -بيت الدم للمبدع خالد أبو طماعه / عايده بدر