أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - الإحكام والعرفان في إرادة التصوف عند الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي















المزيد.....



الإحكام والعرفان في إرادة التصوف عند الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي


جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

(تôôèô‏ ؤôéôم)


الحوار المتمدن-العدد: 7119 - 2021 / 12 / 27 - 16:12
المحور: الادب والفن
    


تقدمة، وتعريف:
بعد بحث عميق عاينت تاريخ الشاعرة الخزرجي في كل من التجربتين الشعرية والصوفية المتمثلة في نجائب حضور الابانة الواضحة والمشهودة في منازلة الصفات الروحانية وما فيها من شؤون النفوس، ومجاراة الإيماء المتضايف إيغاله في الإيمان النفساني ودليلها على التقوى، بالمعنى الموروث تجسيده بوازع اليقين والإيمان في الاستدلال على التوازن في مقاييس التقوى عند العائلة في الموروث الأدبي، المتوازي مع إيهاب العرفان الإيجابي بالوفاء والإمالة إلى تخليد المعتقد العائلي وخاصة في الأدب الصوفي، فهي لا تمارس الإنابة عن والدها، لأن المبنى اللازم في أسلوبيتها محصن بالمبحث الشخصي كأنثى، فقد استقلت وتحررت من المتقابل والمتضايف ما بين الأبوة والبنوة، لكنها جعلت من التوازن لا يختلف في التضاد في نكران الذات أمام نفسها والأبوة، لكنها متصلة خاصة في مقاربة تحليل مفهوم التصوف من منظور الغاية الإمتاعية التي يحل وطؤها عند الصوفي الملتزم بالزهد، أي المراسلة بين الشاعرة والمجاهدة الاعتبارية في النفس على رضا التوحد بين العابد وربه، بما يتطلب من تطبيق الشرائع فتجد حكمها من الباطن في الظاهر. كما ورد في رأي المؤرخين من العلماء العرب أمثال الطوسي والقشيري والغزالي وابن خلدون الذين اجتمعوا على أصل وجذر وطرق على أن لا يوجد اشتقاق صحيح وواضح لمفهوم الصوفية إلاّ في تأملات الميتافيزيقا، بما يتصوره علم الفقه في الإحكام والرضوان في الذات المؤمنة بالتوحد من منظور أصول الفقه، أمّا أنا أجد الصوفية هي التوحد مع النفس فيما ظهر وتجلى من المجذوب المتقدم بالرتبة أو العلية المحصنة في مخيلة الشاعرة، أما ما تخصص للمصطلح من معنى في أحكام اللغة العربية بأن التصوف أعظم من أن يكون له جنس يشتق منه، كما عبر عن هذا علي الهجويري المتوفي سنة 465 هجرية، أما ما تبين لنا وبعد بحث طويل عن ظهور متصوفة في عصرنا كما كان هو الحال في العصر العباسي أو عهد الحسن البصري في البصرة، سوى القلة القليلة، ومن هؤلاء الشاعرة العراقية الخزرجي التي اخترتها أن تكون عضوًا خلاّقًا أضمّها إلى كتابي هذا، حيث وجدتها كثيرة التدور في شعرها المنظوم بوزن دقيق المجرى، وكما سنجده في بحثنا نقرره من تأثيره أو عدمه على ما تتطلبه القراءة المؤثرة بالوجدان البشري التاريخي من المنظور النقدي، خاصة في خروجها إلى الاستطراد الصوفي في بلاغته القريبة من التّجريد بعُلوّ القدْر، والقيم، والبهاء، والهيبة.
وهذه المزايا كَوّنَت وجهاً آخرَ من علم البيان عند الشاعرة في خروجها إلى تفصيل المطابقة لأنها تجمع بين شيئين متوافقين حيال ضدهما، حيث أنها جعلت من التصريع فيما يرد في الشعر مؤذناً بمطاوعة المعاني إذ يكون بعضها يليق بالآخر، بالسمو الذاتي والعزوف عن التناص تحت ظلّ هذا الاتجاه الشعري أو ذاك من منظور فرضيات اختلفت في سياقاتها الأدبيّة. وبالتالي فقد أدت الخزرجي باستقلاليتها إلى خصوصية تفردت بها وحَمَتْهَا عبر تحوّلات ومجريات مشروعها الشعري إلى نضوج أكمل جاذبية اصطفاها القارئ، من وازع تواصل بالاختلاف عبر مراحل تطوّريّة لاحقة، عندما حلّقت في فضاءٍ انتزعته بتجليها الصَّفَاتي، وفي هذا البُعد المجمل بالمجانسة نقرأها شاعرة مستقلة، منفتحة على حريتها، ولي أن أُسَمّي توجّهها هذا بمفهوم "المانع"، الذي أشار إليه أرسطو في شروحاته عن تحديد معالم الشعر، والبحث عن صحّة الأدوات النافعة المؤدّية إلى كمال توليد الأثر المستقلّ.
ارتبط الشعر الصوفي أكثره في الزمن الأموي ونهاية العصر العباسي، الذي تمثل عند بعض العرفانيين بالقداسة المميزة و الحكمة الوجودية المعنية بالإله المقدس، وهو ما ممكن أن نسميه بخلوة التوحيد، حيث أنّ الشاعر أو الشاعرة في حالة خضوع تام ينسحب بالعابد الصوفي من عالم الوجود إلى مخاطبة الذات الإلهية بالتداخل بالمناشدة العميقة للرب، أمّا المختلف في التفضيل بين المجايلة في القصيدة الكلاسيكية الصوفية وبين المتشابه الذي تتصرف به الصوّر المحسوسة في قصيدة التفعيلة، مردّه أن يكون النتاج الشعري مفعوله الاجتهاد من حيث ثقافة الشاعرة الباطنة للخيال، والتناص مع الوجود الطبيعي، فتكون البنية المجازية حسنة الديباجة نقية ومقبولة، والمعاني مهذّبة مستقرّة وموصولة بطعمها الخاص، الذي يحتمل مصاهرة المعنى بالمعنى، وعند الثانية يكون النظم يشابه التقرير أو المتواطئ مع التأليف.
ولأجل هذا الفيض البنيوي المقدس نجد الشاعرة الصوفية تروم مسار التفاعل الكيفيّ، بوازع الشعور الذي يتمثل فيه الخضوع السري بين الأنا وتجليات الذات، وبين تأملات الحلم الخارق ليكون الخيال النوعي أوسع أثرًا، وأقرب مأخذًا للعبادة الخاصة، بالمعنى الحريص على فيض بلاغة العارف، ألا يكون الحوار مختلفاً في المساق بين المضمون والشكل، لذلك اتّخذنا من بساط التوحد أن يعزف على نبوغ الاتصال الذاتي في تصريف الماهية التنويرية وهي تؤدّي تأويلها الدلاليّ، ليكون المُحرّك الذي تساوت فيه قيمة اللفظ المضاء في السياق بدلاً من الاستزادة لِما يتطلبه المعنى من تحوّلات تختلف في الرؤى المحمولة على البيان بتقديرات دقيقة تحكمها المعرفة، ومن ثمّ العودة إلى النواة التي تحرّك المعاني وتحتذي بحركتها الإيحائيّة في مضمون النص المدور. يقول النفري في مواقفه التعليل التالي: "كل مشار إليه ذو جهة، وكل ذي جهة مكتنف، وكل مكتنف مفطون، وكل مفطون متخيل، وكل متخيل مجتزئ ص22 .
تُعَدُّ الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي واحدة من أهم الشاعرات العربيات اللاتي تناولن العلم الصوفي في شاعريتها سواء أكان في الشعر كمبدأ للتجديد والمقارنة بينها وبين الشاعرات اللاتي حقّقن مُنجَزاً شعريّاً مُهمّاً، على مستوى انزياح معاصرة التوليد الشعري المختلف بعدد الكلمات في السطر الواحد. مثلها مثل شاعرات وشعراء المرحلة السيابية، ممّا جعلها تعتني بالمزاوجة الفكرية بالإبانة والتحليل الشعوري في مقامات شعرها المحكم بالنفسية المُتماسكة بتقنيات الصورة التوحيدية الصوفية التي تحقق الوجود العيني من حيث مجانبة الدعاوي النفسانية، ومكاشفة الأحكام الروحانية فالانجاز الذي حققته مرتبتها الذاتية، تجعلها تروم الاختلاف في معنى الهُويّة من منظور مرجعيّتها الشعريّة على وجهين الوجه الأول تأثيرها الثقافي المجتمعي، أمّا الوجه الثاني فهو كلُ ما يقترن بالحداثة الشعرية على مستوى الخصوصية الحلميّة، وكأنّها تبحث في الوجود عن شعرية أكثر تمدناً كما فعلت مجايلتها آمال الزهاوي، وهو ما نُسمّيه بالبديل الصِّفَاتِيّ بامتياز شخصيتها المحصنة بالمقدار الإبداعي وبخاصيتها المتطورة في النص الكلاسيكي، ونظرتي في هذا المعنى تكمن في إحاطة التوليد اللفظي المولد انعطافه على المعنى، كما فعل الرصافي في مرجعيات شعره،
1- يوسف سامي اليوسف: كتاب مختارات من مواقف النفري، دار منارات للنشر، عمان / الأردن، الطبعة الأولى 1981، ص22.
ومن خلال هذا المفهوم ارتقت قصيدتها بالمحامد المنظومة في رصانة جوهرها، بصحيح التناظر، الذي يجمع شرائط بسط المسارات اللغويّة المركبة والمزودة بالإهابة والمتانة، خاصة بتناولها الأهواء الاجتماعية المضطربة، غير المستقرة في وعيّها التعليمي والثقافي جراء أسلوبية الحاكمية الشهوانية في بغداد، وهذا يُحسَبُ لها كشاعرة مختلفة على مستوى اتجاه ملقحات تشير إلى المظلومية في قصيدتها الناقدة، ومن خلال هذا الاختلاف النوعي عندها وجدتني أدخل من بوّابة استقلالية جديدها، لِما تعتمده من تفكيك مادي لماهية الصورة الشعرية، المَبْنية بناءً نوعياً بالجودة المثيرة المعبرة عن الحالات النفسية الجارية على اعتدال متفق يميل إلى الطبع الذي تتشوق إليه في تناولها المباعث الروحية ما هو أولى على السرمدية، الذي هو اتصال بتصفية الحب العذري القدسي، وفي ذات المفهوم نجدها حريصة كل الحرص على مكانتها الاجتماعية بين الناس، وحذرة أشد الحذر من الولوج بالعلن على أساس ادعاء الشرعية الإلهية لها على طريقة شعراء الصوفية كالحلاج ورابعة العدوية وابن الفارض وغيرهم .
تقول الخزرجي في أحد لقاءتها الأدبية مع التلفزيون العراقي:
" أنا أحب الشعر إلى نفسي وأظنه أحب الشعر الى كل نفس ذات صفاء، بل أكاد أرى انه هو الشعر بعينه".
من خلال تناولي تقريب تاريخ اتجاه شاعرية وصوفية الخزرجي بين تلاقي النسق الشعري العذري النادر في محتواه وأهدافه وإيضاح العلاقة الجدلية في تسابيح البعد الجمالي، وضرورة النمط التعبدي في تعيين هذا الاتجاه، ولعل الشاعرة أرادت بث روح المعاصرة في تجديد مكانة المفهوم الصوفي لتجعل منه ظاهرة يقتاد بها من يسعى إلى توليد وإحياء مكانة مقام فلسفة تلك الشاعرية من حيث قرار مفهومها الصوفي، واعني إعادة نشر نهجها الإحتدامي، من أجل توسيع مفهوم الثقافة الرحمانية على اختلاف ما يدل على ترانيم تعبر عن اعتماد الحلم النوراني في الشاعرية العربية، باعتبار أن موسوعة الثقافة الجدلية هي من تميز الأديب في إعلاء علم التضاد في مفهوم الفلسفة المعاصرة، بين الموسوعة الشعرية من حيث ولادتها التاريخية، وبين ما تتضمنه خامة الأدب المعاصر بجناسه الشعري الذي نحن بصدد تناوله، بمعنى أننا نعيش عصراً أدبياً منفتح الملامح الجمالية، تلونت بلون أضيء على نحو شكل ثقافة شاملة من أنواع التفويض المختلف بمعاصرته الدالة على تمثيله، باعتباره يتصف بالذروة العليا من اشتقاق العلوم اللغوية وخاصة علم البديع، ونسميه بالاتجاه الدال على جناس شعري بقرينه، أي الجناس الشعري العاطفي الذي يحقق الترميز المعنوي من وازع إحياء العاطفة بالألفة بما يلقي الإلهام من ذروته الذاتية، الملازم حكمها المعبر عن إدراك تصويف الفيض المؤثر بتشعيب الهبة الفنية المنقحة بالدليل القاطع بعلمه.
يدلنا الفيلسوف رينيه ديكارت على: "إن الفكر الإنساني إذ يتأمل نفسه لا يرى إلاَّ أنه يفكر. ص20"
وبفضل هذه القدرة على التقاط التحديث الذي اعتمدته الخزرجي يدعو إلى إعادة استدلال ذاكرة الشعر الصوفي من خلال خاصيته شديدة الغنى والخصوبة المفصلة في المجمل بالحجة والتعيين، ولهذا فقد استمرت الشاعرة تتوسع في فتح أبواب المعرفة لشخصها، حتى وصلت إلى قمة النهج الأدبي الذي توافق بعلاقتها مع تاريخ النقد العربي والأوروبي في ماضيه وحاضره، بنسق يتجذر نجاحها في تشذيب وتهذيب النص من العلل والأوشاب،
2- ديكارت رينيه: كتاب تأملات في الفلسفة الأولى، دار العودة / بيروت، الطبعة الأولى 1964، ص 20.
وفي سياق هذا التطور المعيون اتصفت أعمال الخزرجي أكثر ما يكون فيما اطمأنت إليه صيانة الذات من معيون مهواها التوليدي الفلسفي، المعني في التنوير الذي لازمها منذ البداية بعد أن اقتنعت بمشارفها اللغوية مازجت صفاتها بالتلاقي المستمر بين تهذيب جمالية النص وفتنته العميقة، بتعاطف ودي يحتمل المناجاة العفوية من ذاتية العرفان، ومن أجل هذا التخصيص وجدتني ملبياً توضيح نَظَارَتِها الفنية المتدفق مذاقها من قريحتها في بنيتها الشعرية الصافية، ولأجل ما تقدم وسعت قراءتي حتى أكملت حاجتي من مدخل المذهب الذي اعتمدتهُ، بما شابه مواضعة ما هو أجود من كل جيد أجادت به قمم شامخة من الشعراء والشاعرات على مستوى الشعر العربي.
فلننظر إذن في تخصيب تأملات الميتافيزيقيا الكلية التي اعتمدتها الشاعرة في توجهها البنيوي المُحدث من نافذة مشرعة الضياء، وغايتها أن تجعل من تَصريف توجهها الأدبي أمراً يجعل من تشخيص التصوف نصح للمتأمل من الوهج المعنوي في شاعرية الخزرجي، لأنها ضمنت نصها الاستجابات التنويرية لتمدين شخصيتها وجعلها مميزة بين أبناء جيلها، سواء أكان من الأدباء أم من العامة، خاصة وفي الفترة التحقت بجامعة السوربون بعد نيلها البكالريوس من جامعة بغداد، وهناك تفوقت بجدارة على دفعتها، وبهذا التميز حققت أطروحتها لنيل الدكتوراه تناولت: " الشاعر العباسي، هو العباس بن الأحنف " وقد أشرف على أطروحتها الباحث المستشرق ريجي بلاشير، وعند حصولها على شهادة الدكتوراه عادت إلى بغداد وعملت أستاذة في دار المعلمين العالية، وبهذه المسارات المثيرة في توليد شخصيتها الإبداعية والتعليمية حازت على مكانة مشهودة كافحت من أجلها منذ بداية التنوير الذي صاحب موهبتها العلمية النافذة، بعد أن غدت هويتها تشكل معياراً لتشخيص جناسها الأدبي المختلف في مذهبها الصوفي المشخص بأسلوبية تستنبط الحداثة بجناس يقترب من بعضه بين الشعر الكلاسيكي والتفعيلة، التي تعكس الأثر التحرري الواضح في تميزه، ربما لأنها عاصرت العهد الذهبي، وهو ما اسميه بعصر المنافسة المجددة للقصيدة العربية بين ثلاثة دول عربية وهي: العراق، ومصر، ولبنان، ومن هذا المنظور نجد الخزرجي تميزت بين الأوائل من الشعراء ربما في علنية اتجاهها الصوفي، وبقيت حتى مماتها تحافظ على توجهها الناعم في بنية القصيدة المحكمة، بانتمائها إلى عائلة تثقفت بالاتجاه المستوحد مع مناجاة الإله بالتوحد الرضواني، ومن بلاغة هذه المفاهيم إحكام قصيدتها مبدأ الطباق والتكافؤ والتضاد والتعليل حيث الاستدلال الناجع في تضايف الحالتين الكلاسيكي والتفعيلة بالامتياز والتعدية والتغليب، في اتجاه توضيح إظهار الإيقاع والرشاقة الأسلوبية في تفرد تَقديس شخصيتها التاريخية، بالتقوى الملازمة لنموذجها المختلف، الذي يسوق التقريب لمشاعر المتلقي، فهي لم تنحدر قط إلى رطانة المصطلحات الاستعراضية، ومجانبة التقليد وتكرار الألفاظ بدون معالجة للمعنى، ومن خلال هذا المعيون نجدها تجاوزت الادعاء بالعظمة.
لقد حلقت الشاعرة الخزرجي على أجنحة المجاز باتجاه فضائها الواسع، وذلك بتأثير حضورها الصوفي المتجانس مع المعاصرة بدون تناص يذكر، بل جعلت من وحدة السياق الوجداني تغمرها تجليات الذات المُطالبة بالانفتاح على التحرر من التبعية الحزبية والعشائرية، حتى جعلت من قصيدتها وثيقة الارتباط بالواقع المنفتح الذي تطالب به وتطبقه على نفسها، وهي تتنقل في عالم التخيّل النوعي بين الرمز والكناية، معتمدة لغة تلاقح صورتها الرمزية ببوح يناجي صوت الأثيمة الماهرة بوعيها، ولأقول ومن خلال تجربتي النقدية أن الشاعرة وصلت إلى شعورية العاطفة المتناسقة والمتماسكة في فنيتها البنيوية النسبية، وقد أفاضت موهبتها الشعرية مبدأ التناظر بين أقسام الكلام بسياق تفويق التفعيلات كل شطر بوازع محاسنه البعيدة عن الغموض، حيث وضعف الألفاظ المعنية لتوضيح دلالات المعاني في مكانها الأصح، وفي هذا الصدد لست أنوي أن أطلق الألقاب الكبيرة على الشاعرات العربيات بدرجة أكثر مما أعطين من إبداع، بل بمقدار ما أكون محقاً في نظرتي بالاتجاه المحكم في منتج إمْتُهِنَ صياغة ترفد البعد الجمالي الشعري، باحترافية تذيع تطورات النص إلى المستوى المستحسن للنجاح، انطلاقا من مبدأ تعاضد الصورة المفردة في سياق واحد ضمن وحدة النص، لتكون المباهاة الشعرية لوحة أو مشهدا يشار إليها بالقبول والرضا من المتلقي عامة، بيد أننا نميل إلى أن نجد النص يلتقي بمذاق محصن يشترط مستوى القيم الناجعة، فالمستطاب النقي يجمع الأفكار النبيلة ويهذبها في خاصيتها التعبيرية، التي تُكَوّنْ ملتقىً لدواعي إيثار يؤسس لمنفعة تتجلى بأريحية تصور الشاعرة على إنها تجانس المدركات الحسية والاثارية، التي تكشف عن محاكاة تمثلها إشارات من عالم يطل من خلال لغة الشاعرة على المتلقي، التي تدل على يقين نجاح كيفية موهبتها تلك التي تتخمر في قارورة المعاني.
توسعت الخزرجي بالنظرة الاعتبارية إلى حقائق تماثل الملزوم بإرادة اللازم المقنع لها أولاً، ومن ثم تمكين الدعاوي الشعرية أن تلتقي مع الوجود الإلهي دون أن تسميه، يقول ديكارت في هذه الصورة المقدسة أنَّ: "فلننظر إذن في تلك الأشياء على دأب العامة أسهل وأجلى معرفة من كل ما عداهما، أعني الأجسام التي تلمس وترى، لأن المعاني النفسية على وجه العموم تعبر عن وجود الله." وتلك غاية الشاعرة بوجوب إدراك يتسم بمقومات تقوم على نمط اعتماد فصاحة الألفاظ، والنمط الثاني يتضايف مع اعتماد بلاغة تلبيس المعاني بنسق ينتهي بوحدة القصيدة، من خلال تماثل اللغة التي يغلب عليها التنوير والابتكار، وأخص بهذا الشاعرات اللاتي حققن متعة تُطَيّبْ الملامح المبثوثة بين زوايا النص، وجعله أداة اكتشاف لخلق شعري مختلف، من خلال معاينة التغاير والكشف عن أبعاده، حتى نجده يحثُ على مباينة دلالات تركيب الوحدة الشعرية التي تعنى بالجاذبية التأويلية، وهي تسلط الضوء على اختراق بيان اللغة بفعل الانزياح الذي تتلاحم فيه بلاغة تدل على كل ما هو مختلف في تنوعه وجديده، ولكي نبسط التباين بين مذاهبهن الكتابية على مستوى المنجز في اختلاف النظم الشعرية بينهن، علينا أن نستدل على سمات ومراتب تأملات كل شاعرة من منظور يتفق مع التنوير الإبداعي في نصها الشعري، من مستوى يعبر عن خصوبة حساسيتها التلقائية، وما دمنا نستضيف الشعر، لا أرى بداً إلا أن أحرض جميع الشاعرات العربيات على الاكتفاء الذاتي بمنتجهن، دون المساس بأثر غير أصيل.
ولا أرى سبباً في هذا التوضيح ما يخيف الشاعرة من النقد، حين يشير الناقد عبر تحليل محكم يؤشر على منطقة خلل أو ضعف معين في النص، خاصة إذا جاءت معالجاته غايتها تبغي الأمانة، ونكران الذات، فالنقد وسيلة إيضاح ومحاسنة، تحتكم إلى مكاشفة النص كما لو أننا نضعه في مشكاة ونغربله، فنبين مواطن الجمال من مواطن الرداءة، وليست الانحياز إلى شاعرة دون سواها على حساب نوعية النص، فهذا تقدير خاطئ في العموم الأخلاقي، كون الشاعرة التي يتباين مذهبها الشعري بأفضلية جودة النظم، وحسن السياق، وإحكام بلاغة فصاحة الألفاظ في معانيها، من منظور إرادة اللازم تجدنا نجلس على بساطها، حتى نقرأ من روضها الإبداعي ما تيسر لنا تناوله.
يفيدنا العماد الاصفهاني برأيه " إني رأيت أنه لا يكتبُ إنسانٌ كتاباً في يومه إلا قال في غده: ولو غُيّرَ هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يُسْتَحسَن، ولو قُدمَ هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكانَ أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاءِ النقص على جملة البشير." والمقصود هو ما نسميه اليوم معالجة النص بالتهذيب والتشذيب والتنقيح، فالشاعرة الحق هي التي تتضح ثقتها بمصداقيتها، عند تواصلها مع تجارب النحويين من مخابر الكلام القديم منه والحديث، وتحرص على ممارسة سلوك النزعة الإنسانية في محاسن عباراتها، وتجمع أطراف كتابتها في حلاوة الموضوع، وكثرة الصعود النغمي الشعري إلى لذة تبغيها النفس، تلك هي الشاعرة التي تزق الحياة في نصوصها بوعي متفوق، هنا نجدها ترتقي بالحقيقة إلى قمتها، ولا تتوانى عن مصاحبة ومعاينة المنظوم الذكي والأليق، وفي هذا المجال تجدني محاوراً طيعاً للإفادة من موهبتها، فما أرى في ذلك من كلفة أو مفارقة أن يتشرف كتابي بتلك الشاعرة، فالساحة الأدبية العربية تزخر بشاعرات غاية في المهارة والإبداع، وبتقديري أن النص الذي يغذي الخيال ويميل به إلى التوحد في شأنه، نجده يرشد المتلقي إلى حاصل المعنى من بوابه سهله الممتنع، وهذا إبداع ينور الكاتبة ويكسب توجه التلقي، ذلك هو المراد الذي يفيض توليداً بالصور المحسنة الناطقة بالحياة. فالنص الذي يقوم على أسس المتخيل النوعي يؤدي إلى مقبولية أكثر متعة بنوازع الميتافيزيقا، حيث توالف الحبكة الارشادية فنيتها في نشاط يثير تناغم المعاني الواقعية بذاتيتها، هذا إذا احتكمنا إلى أن قوة الأدوات التي عالجت تهذيب ذلك النص خالية من العث والتسويف.
3- ديكات، رينيه: كتاب التأملات الميتافيزيقية، دار العودة / بيروت، الطبعة الأول 1972، ص28.
4- حامد، عبدالغفار هلال، عن العماد الاصفهاني: كتاب علم اللغة بين القديم والحديث، مطبعة الجبلاوي، مصر / شبرا،1986، الطبعة الثانية، ص359
أولى النقاد العرب المجددون الإمعان في النظر إلى أن جدوى الفنتازيا في مفهومها الدال على تخابر منعطفات الوعي بين ما قيل في أنا الموهوب. وبين مدركات ما يدور حول الكاتب من شمائل المتحرك ونقيضه سواء أكان سلباً أم ايجاباً، وفي الوقت ذاته جعلوا من حاصل التخييل باعتباره كثير التَّدور بعد أن تتلقاه المدركات الحسية والشعورية من مرامي التفويض المحكم، فالأديبة التي تخلق لنا صورة ناطقة بالحياة نجدها ذات فائدة تغذي الروح متعة، وتلهم المشاعر صبوة، وهذا البيان يجتهد في عكس الصورة "الشعرية" الموحشة التي تشمئز منها النفس، ولا يطيب فيها التلقي، وما أكثرها وحشة عند الأغلب. وهذا ما يأخذني صوب سواحل أجد فيها ما يدعوني إلى التوقف أمام بينات مسالك تنوين التَّرنّم الفني التناغمي في التجارب الشعرية النسائية الأهم، اللاتي يعتمدن مقاربة التوليف المحسوس في بيانه المعمد بالمحصنات اللغوية إلى حيث إبداع مختلف، كما هو الحال في مناهج أطوار النقلة المنقحة، بأسلوب يكشف عن غنائية العبارة المولدة للغة المضمون. وهنا يرى هردر الألماني 1744 – 1803 أن "الشعر العاطفي هو التعبير الكامل عن الخلجات النفسية، في أعذب لغة صوتية."
ومن بيان هذه الموضوعية التي تحتكم إلى الأمانة النقدية في معالجة النص، يجب أن نحترس من الفضلة، أي نبتعد عن المديح والعشقيات الإلكترونية لهذه الشاعرة أو تلك، ولكي نعتني بنكران الذات من معيون جانبه الإنساني، يرتضى أن نحاور نبض الصورة الحسية الوجدانية المعبرة عن محاسنها المثالية بنمط مختلف، وبإلمام يحاور المقدار الكيفي المجبول بوصال ما تهتم وتعتني بجذوره وحدة المشاعر، وما تستلزمه المؤثرات النفسية الاحترازية المحرضة على التصادم والاثارة في المعطيات الداخلية النقدية، وذلك بتجريد النص وتنظيفه من الشوائب والقروحات المقيمة في المُخَيَّلَة الفقيرة.
فالناقد يحتكم إلى قواعد وأدوات تمهد له بيان الحكمة، عبر معالجات تفصح عن العُرى والمعقد المبان في مرآة الكلام ومنازله، حتى تتضح مراتبه، وتكشف له الصورة الشعرية المزينة بثوبها التنويري الذي يلوح عن هوية الشاعرة، حيث تراها وتنظر في نجاحها الفني مصادر الناقد الخاصة، المطعمة برؤيته التي تنساب في عمق التوازن المعرفي حيث نلامس، ونحس، ونتنفس على نحوٍ واضح قدرتها على التمييز، وإلا لم يكن النقد حريصاً على إيمانه، وهويته، ومصداقيته. يقول الناقد المصري د. محمد غنيمي هلال: " للناقد الأصيل أن يمزج بين الآراء والنظريات في ممارسة النقد، أو يفصل بعضها على بعض في وجهته الخاصة، أو يتجاوزها جميعاً ليخلق جديداً." إذن فرؤية الناقد الحداثية تختص بأن تتبنى معالجة النص، وليس مساءلته. أي ليس للناقد الحق أن يكون جلاداً، لأن النص ولادة مخيلة صاحبه، حيث يبدو لي أن ذلك التنظير تحكمه قلة الموعظة، أو حتى غياب المعرفة في الأطرُوحَة النقدية الثقافية، إذن لا يجوز تقسيم الحصص حسب تقديرات القرب والبعد من الشاعرة قبل النص، خاصة عند أولئك الذين يتصيدون في المياه العكرة بدون واعز معرفي واخلاقي.
ففي الستينات تأثر الشاعر المصري صلاح عبدالصبور بشكسبير، حتى إنه جلس على ذات المقعد فتمثل نفسه شكسبيراً. بقيت مسرحيات شكسبير تعرض لحد كتابة هذا المقال، بينما سكنت كتب ومسرحيات صلاح عبد الصبور على الرفوف يغطيها التراب. حتى ونحن أمام هذه الحالة، هل يحق للناقد أن يحاكم عبدالصبور إلى ما ذهب إليه في تناص التأثر المباشر. أنت كناقد يمكنك أن تحاور الأديب تأثره المفضوح بالآخر، والمثال: فضل عبدالصبور الشعر المسرحي المباشر على إثارة الموروث الشعري بمنظومه المركب بتقنية أقسام الكلام. ومع هذا لا يحق للناقد مقاضاة الأديب عن طبيعة ومميزات نصه، لأن هذا الأمر يدعو إلى الوجوب واللزوم، والنقد لا يخضع لهذه المعادلة، لأن الحالة الإبداعية حصيلة وحي ما، وتلك فضيحة تعيب الناقد لا الشاعر. وعليه نقول إن من مهمات الناقد: تحليل وكشف دواخل باطنية التوليف والتهذيب في النص، ومن ثم محاكاة علوم اللغة ومدى وزنها وقيمتها من جهة، ومن جهة أخرى قدرة النص على فك رموز ومقاربة مستويات عناصر الشاعرية ببعضها، وتبيان بلاغة النص بصحيحه من قبحه. وهنا يأخذنا ابن الأثير إلى قول: "ان صاحب الفصيح، كان له إملاءٌ سمّاه الفصيح"، وكان للمتنبي اخت اسمها نجلاء، كان المتنبي يناديها فعلاء. نقول عن هذا كلاماً حسناً. فالنقد مفتاح لفك طلاسم، وألغاز، أو معاينة النص المُتمثل بالقوانين والشروط عامة، وتلك النصوص قد تكون مبهمة ومعقدة كنصوص ادونيس، أو بودلير، أو ألان بو، ومثاله نقرأ ما قيل في الشعر القديم:
"سبعُ روَاحِلٌ ما يُنَخْنَ من الوْنَى - شِيمٌ تساق بسبعةٍ زٌهرِ"
والمقصود في هذه النظم التي تعني أيام الأسبوع ولياليه. لكن هذا البيت كيف يقرأه المتلقي؟ إذن فالنقد يبسط حصيرته ويستضيف النص ليناقشه ويولي السامع التحلي بمعانيه، ويستحسن غاياته بالإتقان والإمعان في الإحاطة بما يتخذه الأدب
5- غنيمي محمد هلال عن وليم هردر: كتاب النقد الأدبي الحديث، دار العودة لبنان / بيروت، الطبعة الأولى 1973، ص373.
6- غنيمي محمد هلال: كتاب النقد الأدبي الحديث، دار العودة، لبنان / بيروت، الطبعة الأولى، 1973، ص 214.
العربي التنويري مثالاً بمنزلة عقْد نفيس، ومن معيون هذا الخصوص نتناول الأديبة العراقية عاتكة الخزرجي، الملمة في علم التصريف البلاغي الواضح في المنظور المتضمن الدَّلالة التي تلزم نقاء أدوات الشاعرة، حيث وجدتها تضع مراتب الكلام في سياقها المقنن، بتبسيط يلامس فحوى التجنيس بأبنية متطورة حسياً، بعيدة كل البعد عن الاضطراب اللفظي. ضمن مصبات التنويع النابعة من الذكاء الفطري المساق لبذور المحاسنة المعنوية، الذي يرفع من مقدار مقبوليته المنعكسة على تطورات ملمات القارئ، وبهذا لم يَرَ نفسه دونه، حتى يبلغ شغفه المعطى الوجداني، ومن تجلي هذا المعيون اللافت للتلقي أجد الخزرجي عبر مسيرتها الأدبية بعد أنْ اطلعت على جميع أعمالها منذ سنوات مضت ولغاية اليوم قد سلمت إلى:
أولاً: المذاق النفسي المبني على المستطاب من الصوَّر المعاضدة بوحدة فنية.
ثانياً: أحكام المعاني في وجاهة ترتبط بمبانيها.
ثالثاُ: استأثر الفكرة ومساق مذاقها البلاغي.
وفي هذا ومن خيارنا الصعب نبسط صفحاتنا النقدية ونستضيف الشاعرة الخزرجي من مجموعاتها الشعرية المحكمة الواقعة في أرفع موقع، وهذا نجده واضحاً في خواص صفات الجنسين الأدبيين عندها، في القصيدة الصوفية، وما تلاها من كتابات في التشويق، مبتعدة عن أدب الخاطرة والتأليف:
قصيدة:
وراء السراب
...
وكنتَ.. وكنتُ.. وكانَ الهوى
على غفوة من رصيد القدرْ
وكنت أنا عنك في غفلة
إخالك من بعض هذا البشر
ولم أكُ بعدُ سوى غرة
وإن كنت جاوزت حد الصغر
وأحسست في خافقي هزةً
تلاشى كياني بها وانحسر
وألفيتني غير تلك التي...
وأنكرت أمسي كأن قد غبر
وتهت أنا في ضباب السنين
وغامت رؤى وتجلَّت صور
وأنكرتَني وأنا لم أزل
على الدرب أبحث لي عن أثر
ودربي عليَّ سبيل سويّ
سويّ به الصعب والمنحدر..
وقلت لعينيَّ ثم انثنيتَ
تكاتمني بعض ما قد ظهر
وقلت لعينيكَ ثم انطويتُ
على السر أدفنه في حذر
ومسَّت يداك يدي للوداع
ومرت ليال وجاءت أُخَر
وعزَّ علينا اللقاء فانثنيت
ولا أمل ثَمّ أو مصطبر
وخبَّ بنا الركْبُ ركْبُ الزمان
يباعد ثم يُعَفِّي الأثر
وما زال يسعى بها سعيه
أما آن أن يرعوى أو يقرّْ..؟
بان شعر الخزرجي منذ صباها المبكر يحاكي هذا المقام الرفيع وجعله مقرراً، حتى أخذ يتلاءم بالكلم اللفظي المتقن في قولها: "وكنتَ.. وكنتُ / وكان الهوى" إنما سيق من أجل تناهد رسوخ يُمكن الشاعرية أن تحاكي جهة الظاهر للباطن المعنوي المتفق مع واقعية المشاعر التي تود أن تستحصل حريتها العامة من خلال انعكاس مهواها الشعري، لأن الصورة تعني تنزيل التوشيع حيث جاء الزمن الأول "الماضي" معطوفاً على الحاضر في صيغة تجمعها سلة المغزى، بين مراء يتعلق بإظهار التناسخ بين صفوة أشد عرفاناً تلازم مباعث الهوى من معيون المعاصرة، وهو المطلوب بالإرادة على جهة الوداد دقيق المجرى، من حيث صيّغ دلالات يؤممها صدى التلاقح المستقى من صريح المعاني، المستفيض فيها وعيَّها المتفرد بجمالية الامتاع اللفظي المقبول الذي تسمو به الغاية الكلية، وكأنها تجلد الذات بتصريف التخارج ما بين الأمس واليوم في قولها: وكنت أنا عنك في غفلة / أخالك من بعض هذا البشر / ولم أكُ بعدُ سوى غرة / وإن كنت جاوزت حد الصغر" نجدها تحكم الاستطراد في: "وكنتَ"، ومن ثم تربط صيغة الصورة الفسيولوجية بالتسلسل العمري الذي يتسم بحاضرها. تقابل نأى حدسها ودنا ميلها بعد أن كانت في غفلة عن المحب وهو حولها، فليس المراد كان غافلا، ولا المنتظر كان بعيداً، ولا الرغبة عاجلة، هي كانت تكظم هواها ولم تستشعر الخشية من نواياها، وفي هذا تمام ماهية المقصود المشار به إلى الابانة في التداني، مما حدا بها أن توعز له على أنها تجاوزت حد الصغر، فالمعنى دليل المتكلم بأسراره الجلية المعبرة عن روافد وأدوات الصورة الشعرية. فمن أجل هذا الاعتبار وجدتني أتناول الخزرجي من ناظرٍ تتأمله عين الإِنصاف بالحق، ولا شك فإن هناك الكثير من الأديبات العربيات اللاتي سوف أمتهن قدرتي وانصافي على أن يكون الشعر عندهن وارداً بين محصنات متلائمة بالتقدير الصحيح كما أرى:
أولاً: أنْ يجتهد النص الشعري بإحكام علوم اللغة بمحسن انتظام ضبط ملاءمة الوزن على أقسامه.
وثانياً: أنْ تسوق المعاني إلى ملقحة غير مجزأة تحكمها وحدة النص.
ثالثاً: أنْ يكون النظم مليحا وبليغا وفصيحا وقريبا بأدواته الفنية البنيوية الذكية في كسب مهوى التلقي.
ومن خلال هذه التوجهات تتحقق وحدة متلاقيات فصاحة الشاعرة، الدافع المحصن الذي جعلني أركز على انضمامها إلى أسرة كتابي، حتى يعتمد التزامنا بتعاضد وتجانس مغازي معاينة البديع بينها وبين تاريخها، لأن البنية الحبية يحكمها الوجد الباطني، فيكون الاتصال صافياً ومؤتلفاً في بيان الصورة المؤثرة في الحوار على جهة الملاطفة والاستعطاف، من منظور اعتدال جريان تمام وزنها المجيد صوابه، ولأجل التودد البديع في حيوية القصيدة نمتحن رأينا في قولها المتوازن: "وأحسست في خافقي هزةً / تلاشى كياني بها وانحسر / وألفيتني غير تلك التي / أنكرت أمسي كأن قد غبر" إذن هي تعترف بعد أن كانت عنه في غفلة وَجَدَتْ في خافقها هزة مبثوثة في كيانها تدل على ميول أصبحت محصنة بالوقار، ومثالنا في قول ما ورد عند البلغاء الأقدمين " من حسنت حاله، أستحسن محاله" إذن هي ألقت الحجة على نفسها معززة بالقبول المثمر في تلاقيه، حتى تحقق الوجود العيني من منظور آنية البيان أن يكون تاريخها الأدبي إرثاً يحتمل التصريح العلني الذي تجاهر به على أنها لم تنكر أمسها، ولأجل تعظيم القدر بالوليف، ساقت الشريطة الحسيَّة إلى وقع ماضيها المنحسر بالألفة التي أجازت للصحوة عذرها فلأن قولها: " وقلت لعينيَّ ثم انثنيتَ / تكاتمني بعض ما قد ظهر / وقلت لعينيكَ ثم انطويتُ / على السر أدفنه في حذر" فهذا إنما ورد ههنا على جهة الثناء وهي تحاور الممدوح بما هو أهله، ودليلها إبانة هزة الخافق، لقرب وصلها ولين طبعها المستقر، وللتوضيح بما أزادته الشاعرة على الشعر العربي أنها ابتعدت عن المتشابه، واقتربت من الشعر الوجداني الإيحائي في الوزن والتقفية.
من خلال المبادئ الغنية التي اتصفت بها الخزرجي بإرادة مقننة في تشكيلها الصوتي المعبر عن مهارة الامتاع في سهلها الممتنع، خاصة وأنها جعلت من الزمان يحاور الصيغة الاعتبارية في لغة التدور المُشِّبه بالانعطاف الظاهر في الإتقان والإمعان على الواقعية التي ازادتها علنية، بعد أن أحاطت مكنون نظمها اللفظي بالكشف عن الإسرار المُودعة في مخزونها العاطفي، ونحن نتواصل مع إيثار الإيحاء النابع من الإيماء والإيجاب الوافي بالمقصود في اليقين الصريح نقرأ:
وكنتَ.. وكنتُ.. وكانَ اللقاء
على غفلةٍ من رقيب القدر
وقلت لقلبي فكان الجواب
تُتَمْتِمُهُ خلجات النظر
ومست يداك يدي للبقاء
على العهد ما امتد فينا العمر
وأقسم قلبي يمين الولاء
وآلي على نفسه أن يبر
وكنتَ وكنتُ.. وكانَ الفداء
لقلبكَ قلبي وضاع العمر
وعشْتُ على الوهم... دنيا هراء
وَخُلَّبَ بَرْقٍ وطيفًا يَمُر
أَقولُ عسى ولعلَّ الرجاء
يُطالعني عَبْرَ هذي الصُّوَر
وما زِلْتُ ألهث أَقْفو السراب
ولـمّا يَلُحْ نبعي المنْتَظَر...!
ولكي تبلغ دراستي التقارب العلمي ما بيني وبين الإيراد الراجح في شاعرية الخزرجي، يجب ايصال اتجاهي النقدي للقارئ للاستفادة منه في الأجيال المعاصرة، وما يليها من الأزمان. وسوف تستمر أسماء الشواعر بالتوافد على صفحات كتابي، منطلقاً من تلك الأطوار المحكمة، التي فاضت مضامينَ مضاءةً حيثُ أجدها. ومن أجل هذا حسبت أن أطل على رياض هذه الأديبة ضيفاً، أحاور نصوصاً تتمثل فيها الحياة أزاء أحداث تعبر عن حالة عاطفية، أو نفسية شعورية، أو حالة إنسانية، وبينما نحن في صدد استمرارنا في معالجة رياض نصوص الشاعرة الخزرجي، عليَّ أن أمر على نقاط مهمة لمستها قد بانت وتميزت بها شاعرتنا عن غيرها من الشاعرات العربيات، وتلك النقاط تعددت على النحو التالي:
أولا: التحكم بموالفة التجنيس اللفظي مع بيان الفصيح، الواضح في الصيّغ الشعرية المتباينة من العمودي نظير المنظوم المركب بعباراته المتآلفة ببعضها البعض، فتكون الشاعرة قد أدت مزاوجة بين الجناس العمودي والتفعيلة بميزان فني قل نظيره.
ثانياً: اتفاق الحركات والسكنات اللغوية، من إقامة الدلالة على تسهيل المعنى، حيث تتمايز في مضمون لا نقص فيه.
ثالثاُ: تداخل بلاغة الألفاظ بمحاسن المعاني، تحاور النمو التفاعلي مع تقنية المرامي الفنية، سواء وقع عطف البيان في أول مجرى الوحي، أم في وسطه، أم في آخره، جراء تكثيف الملامح البلاغية، وفي تقديري فأن القارئ يحسها وينجذب إليها، ويتفاعل معها.
رابعاً: تتجاوز حدود المصفوف المنظوم بلا رؤية عميقة، ومنه عدم التوازن في الفكرة واستطراداتها.
خامساً: يقوم الشعر عندها على مهوى الموضوع المطروح تناوله في عموم النص الشعري المتزن بحداثية شيقة تقوم على إشراق وإضاءة معانيها.
تتم شاعرية الخزرجي بُعْد البعث المسبوق في سياق توازنت فيه بلاغة الوحي بالتلاقي مع فضاء البصيرة المنورة لحقائق بواطن المصطلحات القدسية، كما عبر عن هذا المفهوم "ابن مضاء" هذا إذا اعتبرنا ان إيراد ما طرحتهُ الشاعرة نجدها تتمثل به الشروط المعنية بهذا الاتجاه، أن تحكم اهتداءات دلالتها المعنوية المبكرة في قولها الذي هو في أرفع موضع: "وكنتَ.. وكنتُ.. وكانَ اللقاء / على غفلةٍ من رقيب القدر / وقلت لقلبي فكان الجواب / تُتَمْتِمُهُ خلجات النظر / ومست يداك يدي للبقاء / على العهد ما امتد فينا العمر."
سبق وأن بينا على أن البرق الصوفي المخاطب جعلته الشاعرة هو من عِظم قدره، وعلو شأنه، وطبعا هذا الوصف ظهر أمره في التخييل، أو الظن الايجابي الذي اعتبرته الخزرجي مدرها اللغوي فيما تراه أنه الايجاب المشار إليه بكل هذه المشاعر النبيلة، ومن أجل ما تقدم وجدت في نصوصها جواب البيان المبصر في وضوح تلقى المعرفة التي عالجتها الشاعرة بالمطابقة من باب "وكنتُ" فإن العامل في هذا المعنى يعمل بخمسة أضرب وهي:
أولاً: الصفة وما تعنيه الأحوال الذاتية.
ثانياً: الإباحة وهي دليل إتيان المصارحة.
ثالثاً: الاستطراد وهو ما يشرع الشعر في شيء من سوق الكلام على وجه ثم يخرج إلى غيره.
رابعاً: الإدراك المتمثل بإحاطة المعنى بقوة تأويله.
خامساً: البيان الدال على إحكام وإظهار المراد بتأكيد الكلام الذي يحتمل التخصيص.
تلك الأحكام اللغوية المتمثلة بفعل التصريع الدالة على الحيوية الراشدة في معالجة ثقافتها الشعرية، والأكاديمية، وذا كان في بداية مشوارها التعليمي، صدر لها مجاميع شعرية تنوعت في مواضيعها وغاياتها يحكمها الوضوح الفني العلمي، ولها مقالات في الأدب، والسياسة، وعلم الاجتماع. ومن خلال هذ التنوع المحكم، اِزداد علمها الاسْتِدْلالي المتقدم الرتبة الحاصل في تنوع مهارتها العفوية، فالمنظوم الذي يصون شاعريتها حيث يحكم التجلي عندها من منطلق التَمَيّيزْ في الأوزان وحكمة القافية، وحوارها الذاتي مع مجذوب متسق النظام، ورشيق رفيع الاعتدال، وهو المتجانس في تعبيراته المادية التي تجمع بين الفصاحة اللغوية، وبين المدرك المتحول بفعل المجاز المستعار عندما استضافت "السراب" وجعلته نبعها المنتظر، فإن المرسل الدلالي أحكم صياغة المجاهدة الشعرية بالتطورات الحاصلة في مخابر الحداثة الغنية في احترافية خواطرها الجارية على الإلهام في قولها: " أَقولُ عسى ولعلَّ الرجاء / يُطالعني عَبْرَ هذي الصُّوَر / وما زِلْتُ الهث أَقْفو السراب / ولـمّا يَلُحْ نبعي المنْتَظَر." أما الرجاء الذي ودته الشاعرة، هو الأمل الذي يجعل الحبيب يتعلق بالود لمحبوبته، حين يطالع ما تَصَوّرْ له من خلال تلك التضرعات الشعرية المهداة له، فعليه أن يكون خليقاً بأن يلفت لما يلح عليه نبعها المنتظر في ذاكرته، ولا أتجاوز على الحقيقة إذا قلت أن المتابع للأدب العربي، وخاصة الشاعرية العراقية من منظور تحولاتها وتجديدها وغناها الإبداعي، هذا إذا ما قورن قبوله بالنتاج الأدبي عامة، ومن أجل هذا الانبهار الذي يحكم النصوص، وجدت من الضرورة الاخلاقية أن تتمتع الشاعرة الخزرجي بحقها فتشارك أسرة كتابي: " التباين في الشعر النسوي العربي المعاصر" أن تلتقي عشرة شاعرات من الصف الأول المحكم، حيث يتشرف هذا الكتاب بمنزلة الإرادة في إحقاق الحق، لكي يفصل هذا التبني ما يريده وما لا يريده حسب مكانة الشاعرة العربية عامة بسواسية أمام منتجها الشعري. وهنا نتابع مسيرتنا مع قصيدة وافرة الحس ماثلة في تجليات المعنى، تنم عن عميق شعور واحساس الشاعرة بالوطن في قولها:
قصيدة بغداد

قسما بالإله عزَّ وجلاَّ
إن قلبي عن حبِّها ما تسلّى
هي مِنِّي روحي وما أنصف التعــبير
لا بل أعز منها وأغلى
هي عندي دنيا من الحسن طابت
وزكت نبتة وفرعا وأصلا
حاش لله ليس حبك يلقى
غير قلبي له مكانا وأهلا
قسما بالذي براك من السِّحْــرِ
ومَنْ صوَّر الجمال فأعلى
والذي نوّر الجبين فكانت
طلعة كالصباح يمنا ونبلا
أنا أهواك فوق ما عرف الحبْـبُ
كأنا في الحب قيس وليلى
ليتني متّ في هواك فما أكــرم
في حبك الممات وأحلى!
إيه بغداد يا عروس الليالي
فقت في العز بدرها إذ تجلّى
وبدنيا الأمجاد كان لك السبــق
تباعا والقِدْح فيها الْمُعَلَّى
- -

تطالعنا قصيدة "بغداد" بلغة جارية على الموازنة في ألفاظها، متسقة النظم في تجانس تغزلها المحكم في جملتها الشعرية غنية التعبير وحسنة التلقي، وكأنها في انتظار تحاكي المحصن بالفواعل، باعثة على اخضاع وجودها أن يكون واعظاً لتجسيد الإحساس بالمواجه المقصودة في المعاني الموحدة بدلالاتها ورمزيتها، وهكذا تتسق الصوَّر الشعرية في غاياتها غير المنفصلة عن امتداد ماهية التبليغ، مع التلاقي الوجودي في التابع الأمري بين الشاعرة والمكان "بغداد" خاصة التقيد الانتمائي بالقسم بما سيملأ عشقها الأسطوري لمدينتها الضاربة في القدم بأُنس المناظرة، وهذا يندرج بالإشارة إلى فلسفة تظهر التجليات المطلقة بالتمييز من بطائنها تحاور أنوار التاريخ المعلنة بقيّمها وعلمها، المرتبط بالماهية المحصنة بامتياز ثبوت المكان، فنحن أمام عنوان يحمل ثلاثة مدارك فاصلة ومهمة جاءت حسب هذا التقدير:
أولا: المكان عاصمة الدولة العباسية: الذي أجاز الشهرة الايجابية من معيون تاريخه المتميز، والذي سجل حضورا مؤثرا على مستوى أغلب بلدان الكرة الأرضية حينذاك.
ثانياً: تعدد الفروع العلمية في مدارس بغداد التي شاعت فائدتها خاصة في زمن هارون الرشيد.
ثالثا: اعتبار بغداد لها السبق العالمي في تنويع الفروع الإبداعية على اختلافها، منها الأدبية والعلمية والاقتصادية والدينية.
تحدث أرسطو في هذا المعنى كثيراً في معالجاته سواء أكانت عن: "المأساة أم الملهاة أم عن الملحمة" يهمنا كثيرا هنا معالجة هذا النص من حيث فلسفة المأساة في بلاد الرافدين في أيام عزتها الأخيرة المنعكسة تماماً على النفسية العراقية الحادة، وإذا أردنا البرهان فهذا النص يناصب الجزء الأهم من الملحمة التي تحددها الشاعرة بانعكاس الأثر الذي تريده، إذا كان الخشوع الذي استهل معنى العنوان في إثبات المأساة بدليلها، ولذا سيكون تبيان تحليلنا التقديري بتفسير الميول العاطفية والإنسانية التي تطرحها الشاعرة على نحو يكون الاختلاف في الهيئة مؤلماُ بجواز بيانه، حيث يمكن لنا أن نتلمس مودة الرجاء الإلهي في طبيعتها التوقيعية بقولها: " قسما بالإله عزَّ وجلاَّ / إن قلبي عن حبِّها ما تسلّى / هي مِنِّي روحي وما أنصف التعــبير / لا بل أعز منها وأغلى"
هذا النداء الصوفي هو المراد المتعقل من حيث ثبوته شَكّلَ شُبهَها المجازي بالمستحب في فاعلية اللوازم الجادة من معيون عواطفها الوطنية، أنَّ لها إلهاماً تحاور به ملهى الفيض المقدس من منظور تجليات حبها التوليدي وأوله بغداد، وفي الثاني عرفانية هويتها الشعرية المجسدة في حب بلادها التي يجتمع عليها كل عربي، ومن خلال هذا العمق العلني الذي يحرك التفاعل العاطفي للمشاعر المعبرة عن صدقها اتجاه موطنها الميثولوجي "بغداد"، فالقَسَمْ مصدره قوة الاعتقاد المفعل بالرحمانية الصوفية، التي جعلت من المعنى في الصورة يستبطُن دلالة البوح التفاعلي المقدس، فقد أشارت إلى المدرك التاريخي للمدينة التي جاءت بالشاعرة إلى الحياة، أي إن الفعل الجوهري للمخاطب يحدث المعنى من بوح القدسية في الذات الشاعرة التي ميزت المكان بالمراقبة الوجدانية. إذن هي القناعة ألا يتحول العشق الذاتي عن منبع الولادة، حتى تجعل الذكرى تستقر بالقناعة في النفس، وهذه مصاحبة بين محصلين "القَسَمْ" والإدراك المجذر بالذات" لتؤدي إلى عامل انساني مهم جداً في الحياة البشرية، وهي تقرب مدينتها من الروح بواسطة أدلتها التفصيلية المتمثلة بالجلال الرضواني المُخاطب وكأنها تتمثل بالجانب الغرامي، حيث أصبحت الصورة أمامنا جلية وواضحة ومعبرة، وهي "هي من روحي وما أنصف التعبير / لا بل أعز منها وأغلا" التحصيل المعنوي هنا وارد في اللفظتين: "أعز، وأغلى" المعبرتين من بواطن المحسوس بعقلانية الدلِّ على الأغلى في حياة الإنسان وهي "الروح"، وبهذا المعنى فهي تصور لنا أن مدينتها بغداد أعز من روحها وأغلى، وتلك إشارة إلى علاقة مباشرة جداً بالإحساس والشعور الإيعازي المباشر من العقل، الذي أخذ يؤسس لتراتبية الافكار أن توضح للمتلقي صورتها، وهي تعلن عن السجود الروحاني في عشق أرضها من حيث رضوان مشاعرها، التي وحدها "الحب" فهناك أسباب عديدة منها مرضية عضوية نفسية أو روحانية، وسببها المضمون المعبر عن ذاته. أي أن الذات تلتمس هذا الحب البديع بقدر فاعلية الأنفاس صعوداً ونزولاً في صدرها، وهناك نوع آخر من الخشوع ونسميه بالتجلي العرفاني، الذي ينعكس على رعشة الحب بعلاقتها في قولها:
"قسما بالذي براك من السِّحْــرِ / ومَنْ صوَّر الجمال فأعلى / والذي نوّر الجبين فكانت / طلعة كالصباح يُمنَا ونبلا / أنا أهواك فوق ما عرف الحـبُ / كأنا في الحب قيس وليلى"
تستمر الشاعرة تَقْسمُ بالجلالة المحصنة وهو بديع السموات والأرض كما قيل في كتاب القرآن، لأن قولها حصل على جهة الإسناد وهو الإله، مع أنها لم تشر له بالمباشرة، لكنها استعارت التفسير، فأصبح مجازاً بديعاً، يولي نصها بما تفيض به الدلالة في عشقها المركب بين مناقب الصورة العاطفية، وبين مخصوص الرمز التوليدي، وكأن العنوان الذي برأته من السحر، خاص بالمجاز المعنى بتاريخ بغداد، ذلك الحبيب غير المشخص منحته الجلالة بدون أجنحته بقولها: "فأعلى" خاصة وهي توصف طلعة أو غرة الجبين "كالصباح" بعد أن شبهت حبها للمدينة بالرمز: "قيس وليلى"، فاستعارت الغرام البدوي في تاريخه، ولأنها فوضت المضمون بالمجانسة، وجعلت من معناه مرتبطاً بالتوصيف العقلي المندرج في مفهوم السحر، بعد أن عانت قدرته على ما يشق عليها الوصول إليه، وهكذا فهو سببٌ أوصلَ مشتهاها أن تمثل عشقها أيا كان بعشق الأولين، وغايتها اتحاد الروحَيّنْ ببعضهما، وقد تكون هذه النجوى وفاءً تأملياً ناتجاً عن تجربةٍ أصبحت من الصعوبة بمكان الحصول عليها، فالملمس العاطفي يبقيها على تماس مع الغرائبي المحض بمفهومه المقدس بعيد المنال، الذي لا يمكن للإنسان إلا أن يتنبأ به بالدليل ودليلها التشخيص المستقل المقترن بالشرط والغاية والصفات، وبالتالي لا يمكن أن تفصل الذات عن الهوى فهي الأمل المفسر فوق الواقعي الذي لابد منه، كما عبر عن هذا تودوروف بعد أن قدم تصنيفاً لكذا حالة من هذا المورد بقوله: " تتلقى الأحداث التي تبدو على طول القصة تفسيراً عقلانياً في النهاية، أما إذا كانت هذه الأحداث قد أدت بالشخصية إلى الاعتقاد في تدخل فوق الطبيعي ص205". وكما قلت في دراساتي السابقة عن الشاعرة نازك الملائكة، ربما يصعب على القارئ التأمل في تفسير الميثولوجيا العباسية بعد اتساع الزمن بأحداثه المختلفة تتحدث عن الأفكار التي تتقارب من بعضها البعض، وإن كان الباحث يقرر ويكشف عن الأسطورة بالتعليل العلمي السليم بحالته الذكية التي تعتمر الفصاحة الذاتية توليفاً لا يستبدل به المجاز بالحقيقة من حيث الاختلاف في: التشبيه، والتوشيع، والتطريز، والايضاح، والاطراد، والتخيّل. تلك العلوم التي ترفع من قيمة بديع المعنى، وهذه المسالك في توظيفها اللغوي نلمسه مجتمعا في تجلي النفس البشرية المؤشرة بدلالاتها البحثية في صيغة المعنى المشار إليه بالوصف، ولكون ثقافة الخزرجي الأدبية بمتونها ووجوب معانيها تعتمر اللغة الصوفية الوجدانية منبعاً جلالياً، لتصب قياس ألفاظها من طراز تنقحت بأسرار البلاغة في سياق ثبوت شاعريتها على صفحات التاريخ.
"ليتني متّ في هواك فما أكــرم / في حبك الممات وأحلى / إيه بغداد يا عروس الليالي / فقت في العز بدرها إذ تجلّى / وبدنيا الأمجاد كان لك السبــق / تباعا والقِدْح فيها الْمُعَلَّى".
وهنا فالرابط الفني المقنن بمعانيه يلامس العنوان "بغداد"، وبغداد ترتدي لباس الظلم الذي وصل إليها من غياهب المسافات البعيدة من دائرة الحركة الزمنية التي أدارها الحاكم الجاهل، وبعد أن استقروا مارسوا الفعل الإجرامي فتكون الموالفة التقنية منذ البدء قد أدت نسيجها عبر لغة الإيماءة المحمولة على الإيجاز، أي أننا أمام قصيدة تستهل فاعلية التبليغ الوجداني من المرسل بأداء التنزيل التصويري الذي جاوز حدّ البلوغ، باستدامة التركيب النوعي ذات زوايا فاعلة ومهمة اجتمعت في عضوية النص وهي:
أولها: تعددت مداركها اللفظية لأداء محاسنة الكشف والنظر في مشاهد التشبيه، والاشتقاق، والمراد.
وثانيها: هي لا تحتكم إلى المطلق بأطواره التي جعلت من النسبة مقرونة بتوليف الترميز، وقولها: "إيه بغداد يا عروس الليالي"، أي إنها مازجت المنسوب التاريخي بإقامة الصفة في المقام الدؤوب بفعلها. ولذا فالنسبة عندها تتوجه نحو الموصوف في مجد بغداد، الذي وجب أن يكون واقعاً بعيداً عن تصغير ما كان ماضيه يمثل السيادة على الأرض، من حمورابي حتى أبي حنيفة النعمان وهارون الرشيد .
7- تودوروف، نزيفيان: كتاب مقدمة الشاعرية، دار الينابيع، سوريا / دمشق، الطبعة الأولى 1981، ص 205.
وثالثها: فتحت أبواب المدينة للتجلي ومناداة المحب حيث أشارت إليها بذا "فقت في العز بدرها إذ تجلى".
إذن من مبدأ التواصل العضوي بين المدينة والإنسان، بترتيب الصور والافكار التي أحاطت المناداة بنجوائها المعبر من وارد تميّز أحاسيسها الدال على منظورها الصوفي المنتج القيمي والمتبحر في الشعر، بالإيحاء والإضاءة وذلك باستيلاء الهيئة النفسانية حيث تجدها الشاعرة في مقام مدينتها بين عواصم العالم في قولها: "وبدنيا الأمجاد كان لك السبق"، ولأجل ما تقدم نستمر نعلن عن جمالية النص على جهة الإجمال، الذي عرفنا أن شعر الحماسة ناسج معنى المُعلى الذي تصفه الشاعرة بمعنى توحد بغداد بهذه المكانة الرومانسية بلغة الشاعرة التصوّرية. وهو ناتج البلاغة في حياكة اللغة أرقها عند الإنسَان عما يحدث له بعد خراب بغداد بالتأكيد الذي أشارت إليه بتيمة: "كان" والدليل هو الماضي، خاصة والمد الطائفي ينمو ويتوسع. فوقعت المعاصي والوسواس والهواجس، بعد أن ظهر الانقلاب السيء على بغداد في المرحلة الخاتمة من حياة الشاعرة، بعد أنْ أدى بها إلى التوحد فأصبحت كما لو أنها تمارس دور الطبيب الرَّحماني القادر على الإرشاد والتكميل في معالجة الآفات في شعرها الصوفي الناجز بالعرفان، مما سنقرأ بعضه في هذه القصيدة:

هواك هواي الذي يعرفون
أحبك فوق الهوى والظنون
هواك هواي أيا عالما
تملكني جملة جملة
فبعضي وكلّي به موكل
وسرّك سرّي فما ينكرون ...؟
وفوق الذي يحب العاشقون
تقاصر عن وصفه الواصفون
وهان له كلّ ما لا يهون
تعاليت عما به يشركون
استطاعت الشاعرة الخزرجي بموهبتها وقدرتها الفنية أن تجسد الإحساس الوجداني بمراد لطائف الأفكار وذلك بإيضاح سياق الكلام من الوظائف المُحْدثة الخيال الذي تتأثر النفس منه قبضاً وبسطاً، حتى احاطة المعاني باجتذاب بيان صورة التعليل المركب بفصاحته المبنية على أساس النظم المعلنة في تنصيص شقائق الفلسفة البيانية، ودليلها المرسلة من حيث مساقاة الإشارات المقننة بأجزاء الشعر ما يتركب منه الوزن على مراد فنيتها الشعرية، وتلك الأجزاء ثمانية: "فاعلن، وفعولن، ومفاعيلن، ومستفعلن، وفاعلاتن، ومفعولات، ومفاعلتن، ومتفاعلن." وهذه الأجزاء مكنت اللغة الشعرية باتفاق اللازم النحوي المتدفق من حيث مصبات تحتمل أموراً في إيراد الصوّر الشعرية من وازع الابتداء المسند بالعلوم اللغوية التي تتفق أحوالها اللفظية مع المعاني، في قولها: "هواك هواي الذي يعرفون / أحبكَ فوق الهوى والظنون". إذن فالشاعرة تحاور وحيها الذي تمثلت به أمام الحبيب، وهذا المعنى أي الهوى الذي تبوح به هو مسندا إليه، ومحدثا عنه بحالتها غير المتناهية، وكأنها تطالب وجوده في حياتها باليقين الواضح، حتى وأن ظن الآخران هذه العلاقة ليس على صواب، لكنه التحدي المعاين الذي يتجاوز موضعة عقدة العادات والتقاليد، أما الاختيار عندها فهي تتفق مع ثقافتها مع حرية الاختيار، وتتجاهل مَسَخ الظنون، فتكون مختلفة في غاياتها، وجوهرها، ومبادئها، وغلوها، وتمردها، وعنادها. وتلك صفاتها جعلتها تتجاوز الخوف من التخلف ودليلها بيان تصحيف هُدى التخارج بينها وبين إحكام تخصيص العلوم عند أهل الفصاحة المتمثلة برأي الشجعان.
إذن فالشعر يتشكل كرابط مقدس بين الشاعرة ومولودها الغرامي في اختيار طريقها الذي تكافح من أجله، لأن دليل المشاعر عندما يتحد في تثوير تجليات أشارت إليها بالإصلاح والسعادة، من مقايسة بنيتها العاطفية التوليدية التي اتخذت من الإيضاح والإرشاد السلس اجتناب التعقيد والظنون، فتكون القصيدة كل جزؤها يبوح لها كلها في هذا المنقى: " هواك هواي أيا عالما / تملكني جملة جملة / فبعضي وكلّي به موكل / وسرّك سرّي فما ينكرون..؟" ففي تدانيها بالأصالة تفصح عن معنى: لماذا ينكرون؟ والجواب يكون اليقين عندها هو الرضا للنفس، في حين يبقى اعتقاد الآخر للآخر!! وليس في مفهومها التمدين المتحرر من الشوائب الاجتماعية، لأنها تضد الجهل ولا تطلبه إيذاء يعكر صفو الحب المصيب، فباعتقادها أن بناء العلاقات الودية إنما تتجنب الخطيئة، وتكسب الرضى في عشقها الكامن في قوة الإيمان الذي هو اختيارها، وهي تؤكد الطلب على أن هواك هواي، ومن خلال المعيون الدلالي الذي يجسد البرهان بصفاء مسرة الطمأنينة بينهما، أنه يتملكها جملة فجملة، وثقتها به هو اليقين الذي يوحي إلى رؤية العيان، ودليلها إزالة كل شك وريب، والحب فرض يحلي الإيمان بمعتقده، إذن لم الخوف مادام سرك سري، وفي ذات المعنى تشير لماذا ينكرون، في حين تأخذنا بلاغتها إلى الفصاحة الصوفية التي آمنت بها في ذاتها وبجمال مقصدها بهذا الوزن والمعنى: " وفوق الذي يحب العاشقون / تقاصر عن وصفه الواصفون / وهان له كلّ ما لا يهون / تعاليت عما به يشركون". والدليل بما تعني لم يكن ذلك إلاَّ عيشاً يسيراً إذن لماذا لا تستثني السيئة من الآخرين؟ بينما هي في حقيقتها تستحسن الرفاهية بالرضا الحقيقي في ميلان النفس إلى من تهوى المرأة بخصوصية ميولها الأنثوي بالسكينة ولا شأن لها سواه، وهما حالتان تتعدى الخوف وتروم نحو الإفاقة فوق الذي يحبه العاشق بالتأكيد والاتصال، لأن ميلان النفس إلى ما تستلذ من الشهوات دليل قناعة العاشقة بمشاعر الحبيب المُسَلَم بها، فانظر إلى الهبة الإلهية الخالصة في بيان جهة الإجمال في تفصيل وزنها ومهواها.
ولي أن أميز أمراً في عزيمة الخزرجي أنها وإن اختلف المقام النوعي بينها وبين شاعرة أخرى خاصة في الجناس الذي يختص بالتجلي الرضواني الصوفي، الذي هو تحصيل في قدرتها أنها أولت هذه الفلسفة أولوياتها التي لا يمكن أن ينكرها الناقد في المقصد والإدراك والسلوك. فتلك المشاعر الحالمة في قولها تقاصر عن وصفها الواصفون، لكنني لم أقصر بالتحليل والهداية وهبة الوقوف على مبتدأ المعنى وآخره، لأنها أصبحت لي دنيا خاصة مشيئتها الكتاب، والقارئ يتواصل معها ومع من عايش هذا التلاقي في المعقول الكلي. أما المختلف التوليدي في هذه الصوَّرة الشعرية المحكمة بالحبكة الصوفية، فقد جعلت من تيمة "ما لا يهون" تجانس البديع بفصاحته، وسر الوجد ببلاغة المؤتلف بالرضا المتجرد من التعقيد. أما الحياة التي طلبتها الشاعرة من الحبيب بفعل خاتمة المعنى قولها: " تعاليت عما بها يشركون" الحكمة في المعنى يدل على تجنيس المبتدأ لأنها تؤكد على.. "هواك" ولم تقل غير ما أرادت أن تجعل من المعنى أن يكون مرتبكاً بغير "هواك" لكانت قد أغلقت المعنى على ذاته. لكنها أكدت المغزى على أن هواه هو هواها بعد أن أصبح هذا التوليف هو القاسم المشترك بينها وبينه في العلاقة الحبية، يعني الحياة الكاملة المتكلمة في كل ترصيع جوانحها، الذي اجمع عناصر الحياة كل حسب تدوين منظومته، فتجاوزت إيمان المتطرفين الذين صَيّروا مفهوم الشعر هو الشرك، وفي حقيقة الأمر أنهم منافقون غير مأمونين في آرائهم، في حين لو قلبنا التاريخ نجد أنّ الأقربون إلى الله كانوا شعراء، وبينهم وبين أهل الميثاق إيمان الشعر. لأن الله يقول في الشعراء: "يقولون ما لا يفعلون"
ونحوَ هذا جَعَلَتْ من تفعيلتها جناس غير مخل في إعلاء الترشيح الفجائي التوليفي الفني على الوزن وضبط المعنى بدقة في اختيار الألفاظ المناسبة. إذن فالمعنى يستقيم في المضمون والفحوى، ويكون في الوقت ذاته المؤشر الواضح في توليف دقة العلانية وجعلها تتعدى بلاغة التصوف المتعارف عليه عند الحلاج وغيره من المتصوفة، من حيث عطاء عشقها الوجداني المنسجم روحياً مع لغتها البديهية أي ما وقع من شعر عليها من غير تكليف، وتلك الجبلة المعنية في ترتيب مشاعرها الروحية، تأخذ بتدوير النص من الناحية العشقية إلى تلازم المعاني ببعضها المدور على بعضه، وجعله يلازم طريقتها السمحة التي اشترك بها النحو والوزن والعلوم اللغوية على مراد اختلاف بيانه، حتى أنها صَيّرتْ ميثاق اجتهادها يتمحور في الذات الشاعرة من حيث الزوايا المقنعة في تجريد المنظوم الشعري من العلل والاخفاق والإيهام، وهنا نشير إلى ركيزة بلاغية أخرى ولدت بتعبير مختلف الإيحاء من منظور سعة افتتانها، الذي أتسم بدليل الإعجاز والتبليغ بلغة صافية، على أن الشاعرة حققت من خلال مسيرتها الشعرية حياة مستبطنة من وعيّها، ففي قولها الذي يدلنا على أن: "تعاليت عما به يشركون" فقولها تعاليت تعني النزاهة والهيبة، أي ما خطته على لوح مخيلاها معبراً عن رؤية الأغيار بعين الرضا عند الآخر، لأنها تدرك جيدا أن الحق بذاته نور، بالنحو الدال على انبهار المصداقية الواضحة بالميزة المعبرة عن المدرك البصري، فتكون هذه الأبيات الوسطية بين الحب الذي تملك الشاعرة والحبيب معبراً معنوياً في مقصده، الذي نويت الوصول إليه عبر:

اصارحك القول أني احبك
وأنك عندي
تخبئ بصدري كنبضي
فيجتاحني الشوق
سيلا من الوجد
****
اصارحك القول
أني احبك
ولكني تعبت
تعبت من الرقص فوق الجمر
تعبت من اعادة
تشييد قصور الرمل
ومن اسكات هذا الوجع
النازف من الضلع
ولكني
اصارحك القول
أني مازلت احبك
تستمر الشاعرة تبسط جناس روض اشتقت لغته من اقتداء يجاري التقدير الصحيح من تفاعلات اللغة الصوفية، التي تجدها صورة مقدسة تحكم متصلين في المعنى، في البدء والمنتهى قولها: " وأنك عندي تخبئ بصدري كنبضي ... وأني مازلت أحبك" وهكذا فالرجاء يكون معبراً عن نكهة تراود النفس، ومع هذا فهي ليس أسوأ حالاً بل هي أرفه وأسعد حيث أنَّ الظفر والمغفرة من الله، والدليل في الرجاء يعبر عن أن الفؤاد تارة يجتاحه الشوق سيلا من الحب، وتارة نجدها توضح له أنها تعبت من الرقص على الجمر، وأرق ما في هذا النداء أنها تعالج مشاعرها بتأثيرات الغرابة المحضة، من ملموس يقين هيبتها والمقتضى المنظور في اعتقادها أنها مؤمنة بهِ، ولا شك فأنَّ الحب العجائبي المحض لا يعَرَفْ بالهجر والنسيان كما يصنفه تودوروف، وتلك أنماط تخضع المشاعرية إلى التفسير، لأن البنية الحبية قائمة على رؤية العيان المصحوب بالإيمان والبرهان والطمأنينة المحكمة بالأسرار الصادقة، البعيدة عن الشك والريب، ولأن الشاعرة جعلت من تيمة "اصارحك" أشبه باليمين المعبر عن قوة الشرع الذي يُحكم به ثبوت المحمول الغرامي وليس بالمُفَارَقةِ، فالشاعرة أوقعت عفويتها المقنعة بحساب الذات الطيعة، لأن شعرها استلاب فنتازيا تتحد فيه المشاعر التي تختزل الحب الوجداني، وتناقشه بالصورة الشعرية التي نلتمس في حواسها أنها غنية المقاصد والهيبة، وفي هذا البناء الفصيح يلتقي جنوح الغرام في وضوح الحالة الحبيَّة، وهي تبرهن على قدسية العرفان المحض، باعتبار أن شاعريتها المقررة بالصوفية تختزل الدعاء والرجاء بتخصيص العقلانية أو مطلق الإحساس بالهيئة التي تعتريها بجواز أن اللفظ الفصيح يحكم إرادة المعنى، فإن كلاًّ منهما أي العاشق والمعشوق هما هيئة وضاءة للحب وبينهما القصيدة العرفانية، فذلك لأنها صورت مشاعرها وهي تعتمر طابعاً غير مألوفٍ في تصوراتها الحسيّة، بعد أن تأملت من عشيقها الاجابة، ترى من يُسكت هذا الوجع النازف تحت الضلع، والمقصود هنا القلب، وهل بمقدور الحبيب أن يرسل لمسة حنان تعطف وتشفي آلامها، لأنها مازالت تُشَيّد قصور الرمل، عبر محاكاة مجروحة ومؤلمة تخاطب بوجدها المحبوب الكلي الذي هو الحقيقة، من حيث أنه يقرأ النداء ويرى بالعقل المحض، من منظور الهداية والرمز الذي اختارته من بين البشر، خاصة وأن هذا النداء يثبت له أنها مازالت تطالبه بالعطف الذي استولى عليها في هذا الرجاء: " تعبت من إعادة / تشييد قصور الرمل / ومن إسكات هذا الوجع النازف من الضلع / ولكني أصارحك القول / أني مازلت احبك"
في قصيدة أخرى نلتقي بها مع الشاعرة على بساط مشروعية الهبة الإلهية التي فتحت لها إدراك بلاغة الوحي الكلي، ذلك المتعلق بالمحسوسات العقلية التي تحكم فصاحة المنظوم من الشعر في كليته الخاصة بهذه القصيدة:

قصيدة :
أمانة..
يَهُونُ عَلَيْكَ اليَوْمَ مِثْلِي وَلَمْ أَكُنْ
لأَحْسَبُ يَوْمَاً أَنَّنِي سَأَهُـونُ
يَلَذُّ لَكَمْ ذُلِّي فَأُنْكِـرُ عِزَّتِـي
لَدَيْكُمْ وَيَقْسُو قَلْبُكُمْ وَأَلِيـنُ
فَحَتَّامَ أَرْجُو وَالرَّجَـاءُ يَخُونُنِـي
وَقَلْبِي عَلَى العِلاّتِ لَيْسَ يَخُونُ؟
فَدَيْتُكَ ، هَلْ تُرْجَى لِمِثْلِي شَفَاعَـةٌ
لَدَيْكَ وَهَلْ لِي في هَوَاكَ مُعِينُ
وَكَيْفَ اصْطِبَارِي عَنْكَ وَٱلشَّوْقُ عَقَّنِي
وَأَمْرُكَ أَعْيَانِي فَلَسْتُ أُبِيـنُ
وَهَذِي ٱلنَّوَى تَرْمِي المَرَامِيَ بَيْنَنَـا
وَتِلْكَ سُهُولٌ دُونَنَا وَحُزُونُ؟
تَمَنَّيْـتُ لَوْ أَنِّي وَإِيَّـاكَ نَلْتَقِـي
لَوْ أنّ المُنَى مَقْضِيَّةٌ فَتَكُـونُ
وَأَنْ يَلْتَقِي طَرْفِي وَطَرْفُـكَ لَحْظَـةً
فَترْتَاح نَفْسٌ أَوْ تَقَرّ عُيُـونُ
وإلاَّ فَطَيْفٌ مِنْ خَيَالِـكَ طَارِقِـي
إذَا جَنَّ لَيْلٌ وَٱسْتُثِيرَ حَنِيـنُ
فَدَيْتُـكَ ، ذَا قَلْبِي لَدَيْـكَ أَمَانَـةٌ
وَأَنْتَ عَلَيْهَا ، مَا حَيِيتُ ، أمينُ
تمتعت الشاعرة الخزرجي ببلاغة الجواب فهي تعاتب الروض الخصب، وفي ذات الحال تجيب على العتاب بلغة قل نظيرها عند شعراء المعاصرة من شعراء النهج الصوفي، ففي حقيقة الأمر نحن القراء نتمتع بهذه اللغة الرصينة، لأن لها في الوقوف ابتداء لتفطن دقيق المصاهرة بين: اللغة الصوفية ولغة الكتاب في زمنية الشاعرة، وهذا إدماج أن يكون أحدهما مندرجا في الآخر باللزوم الظاهر في المعاني المولدة للطباق، وبهذا فأنها أحسنت تجنيس المودة في تخصيص الغرام، فيكون الوفاء هو إيفاء بالقسم لغرامها به، ومن جهة أخرى فهي تطلب الرحمة أن لا يهون عليك ذلها فتفقد عزتها، لأن من هداها إليك عذريتها، فأنتَ تقتني التطفيف وحكمهُ يؤلمها، ومن جهة الوصال في خطابها فإن هذا الفعل مستنكر تنفر منه الطباع الحسنة، فهل لقلبكم أن لا يقسي، لكن الشاعرة أومأت في نهاية النص قبول يحاكي هوى النفس، وسوارها الفصيح أنه يناجي المحبوب كما لو أنها تحاكي اسم الجلالة، في البيان والتقدير الدائري في نصها على وجهين متساويين في المعنى:
الأول يعبر عن الذائقة التي تدل على جواب التمني.
والثاني: يعبر عن دلالة الشرط المؤهلة للقبول، حين تدع الزمن مفتوحا بتمثيلاته العسيرة في تيمة: "اليوم أو يوماً" من جانب الصمت فيه، لكنها تخترق نظامه التقليدي، فتقول: " يَهُونُ عَلَيْكَ اليَوْمَ مِثْلِي وَلَمْ أَكُنْ / لأَحْسَبُ يَوْمَاً أَنَّنِي سَأَهُـونُ / يَلَذُّ لَكَمْ ذُلِّي فَأُنْكِـرُ عِزَّتِـي/َ لدَيْكُمْ وَيَقْسُو قَلْبُكُمْ وَأَلِيـنُ"
تبدأ الصورة الشعرية تدور بنيتها التشكيلية بظاهرها المركب، ولاسيما السريان والتضمين، يتساويان مع التعريج على زيادة المقنن بإظهار ملامح محسوسة بألفاظها الظاهرة المتبادلة في فهمها، لتعود الصورة ثانية تمتهن الفصاحة التي وَلَدَتْ المعاني من فيها، لتكشف عن قوة الدلالة في نهاية ذلك السريان، فالمعاني هنا على وجهين في إيماءاتها وهي:
أولهما: أن العلاقة مصانة بقدسيتها، فالإظهار المعنوي واضح في ولادة الاشتقاق، وكما يقول الطائي: "لا يسعد المشتاق إلا مشتاق مثله" وكأن الشاعرة تقف على بوابة الميثولوجيا التي هي مجموعة من الأساطير، تصنع لغة تدخل العمق التاريخي لتكشف عن قدرتها عن ولادة أسطورة معاصرة في نهجها الصوفي، وكأنها تروي شرفا مرتفعاً لم يرد مناجياً أنه بالموقف الذي اطمأنت له فحدثته.
ثانيهما: خلوص المعاني من التنافر والصور المفككة بالإضافة التقديرية لمعطيات دلالية غنية في فصاحتها، المحصن مفهومها على واقع أواصر الاقتناء الإيحائي المولد لحداثية الابتكار.
والمعنى في كلتا الحالتين صالح لأمرين: الموازنة، والتصريع. ويستعمل في صيغتين: التعليل، والترميز، لأنه في طرائقه البلاغية يشير إلى التكميل لتأويل تداخل العلاقات المعنوية بالزمن، ومن وازع هذا التخصيص المُحكم تكشف الشاعرة عن الفنون البلاغية وإيضاحها بالإشراق في بيان يسلط الضوء على القيم الجمالية المحققة للنص تفوقه، من خلال الأنظمة الصوتية التي لا تخضع إلى تفريغ الحوار من مفهومه. وفي القصيدة هذه وبكل شطر فيها هو مُؤْذِنٌ بقافيتها، حيث تنسجم في طبيعة الذات الشعرية التي تنقل التوضيح على ترتيب صحيح، ونسق يسهل جريانه إلى معنى يلابسه، وبهذا الائتلاف يشار إلى التلميح في صيغتي اللزوم في الزمن، والحوار من طرف واحد في كل بيت "الشطر والعجز"، كون علامة كل تيمة في هذا الترميز جاءت بصيغة النداء. مع أن الشعراء اعتادوا أن يجعلوا من المنحى الدلالي للحب، مسكناً، ومبتغى. أما الخزرجي فقد ابتعدت عن مكننة السجع وإن كان في كثير من الأحوال معبراً دقيقا للحالة الحبية، إلاّ أنها أبعدته بامتياز منح قصيدتها الإيقاع الداخلي المولد لما تقتضيه جوابات الماهية النوعية في الصورة الصوتية المتآخية ببعضها البعض، وقد جاء التفعيل وارد على وجهين أحدهما لاقح تدوير المعاني المحكمة بالدلالة على الائتلاف. وثانيهما أن تكون لغة التعليل مولدة للاستعارة والتشبيه والكناية وإدامة الضخ المجازي في تحقيق المشتق من قولها: "فَدَيْتُكَ ، هَلْ تُرْجَى لِمِثْلِي شَفَاعَـةٌ / لَدَيْكَ وَهَلْ لِي في هَوَاكَ مُعِينُ / وَكَيْفَ اصْطِبَارِي عَنْكَ وَٱلشوق عَقَّنِي / وَأَمْرُكَ أَعْيَانِي فَلَسْتُ أُبِيـنُ" وهنا فقد جعلت من توظيف الشعور المعنوي يشير إلى أن القصيدة الوصفية للحالة التي أصبحت عليها الشاعرة بأنها لا تبان من فعل ما جرى بها من توقد شوقها للحبيب، حتى أنها عجزت من نداء الترجي، بمعنى مفهوم من ذا الذي يشفع؟ حتى أنها لم تجد المعين الذي يصبرها لأن الأمر أعياها، وأن حياتها أصبحت فاقدة قدرتها على التواصل. وبهذا يدلنا الناقد العراقي البصري عبدالرزاق صالح، إلى أن " طاقات الشاعر، هي طاقات حافلة بصورة الخيال، حيث تكون مخيلة الشاعر نبعاً صافياً وتجسيداً مادياً للرؤية التأملية، والقدرة الشاعرية، لدى الشاعر في أدراك وجوده، الجو المحيط به، وإبداعاته في تخيل أشكال القوى التي تحيط بوجوده."
وفي القصيدة التالية تحية حب من خلال ورودها المتساوي في أوزانه، ومن متسق شعرها رشيق الاعتدال حيث تقول:
8- صالح، عبدالرزاق: كتاب الأسطورة والشعر، دار الينابيع، سوريا / دمشق، الطبعة الأولى 2009، ص66.



قصيدة:
بلادي...
تَمَهَّلْ - أَبَيْتَ اللَّعْنَ – جُرْتَ عَنِ القَصْدِ
فَلَيْـسَ لِمِثْلِـي أَنْ تُقَابَـلَ بِالصَّـدِّ
بِلاَدُكَ - إِنْ تَرْشُدْ - بِلاَدِي وَإِنَّهَـا
عَشِيرِي وَأَحْبَابِي وَأَنْفَسُ مَـا عِنْـدِي
هَوَايَ بِهَا ، مَا حِدْتُ عَنْ عَهْدِ حُبِّهَـا
وَحَاشَا لِمِثْلِي أَنْ تَحِيدَ عَـنِ العَهْـدِ
وَكَيْفَ وَقَدْ مَلَّكْتُهَا كُلَّ مُهْجَتِـي؟
وَإنِّي لأُخْفِي في الهَوَى فَوْقَ مَا أُبْدِي
هَوَايَ بِهَا ، إنِّي نَذَرْتُ جَوَانِحِـي
إِلَى كُـلِّ شِبْرٍ في العُرُوبَـةِ مُمْتـَدِّ
إِلَيْكُمْ ، إِلَى الصَّحْرِاءِ ، لِلرَّمْلِ ، لِلرُّبَـى
لِمَوْجِ الخَلِيجِ الثَّرِّ ، لِلرَّوْحِ مِنْ نَجْـدِ
لِمَكَّةَ ، لِلْبَطْحَاءِ ، لِلْخيفِ مِنْ مِنَـىً
لِسَيْنَاءَ ، لِلجَوْلاَنِ ، لِلْقُـدسِ ، لِلْخُلْـدِ
إِلَى كُـلِّ عِرْقٍ في العُرُوبَةِ نَابِـضٍ
وَكُـلِّ فُـؤَادٍ يَذْكُـرُ اللهَ بِالحَمْـدِ
إِلَى تُونِسٍ ، أَوْ لِلجَزَائِـرِ ، لِلْهَـوَى
بِمَغْرِبِنَا الأَقْصَى القَرِيـبِ عَلَى البُعْـدِ
يَمِينَاً لَقَدْ أَحْبَبْتُكُـمْ حُـبَّ زَاهِـدٍ
وَأَعْنَفُ أَهْـوَاءِ المُحِبِّيـنَ في الزَّهْـدِ
وَمْنْ أَجْلِكُمْ أَرْجُو الشَّهَادَةَ في الهَـوَى
فَلِلّـهِ مَـا يَلْقَـى الأَخِلاّءُ في الـوُدِّ !
لِئَنْ كَانَ في بَغْـدَادَ مَهْـدِي فَإِنَّنِي
أَرَى أَهْلَكُمْ أَهْلِي وَمَهْدَكُـمُ مَهْـدِي
« وَهَلْ أَنَا إلاّ مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَـوَتْ
غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ فَفِي رُشْدِهَا رُشْدِي»
يَمِينَاً لَقَـدْ أَحْبَبْتُكُـمْ حُـبَّ وَالِـهٍ
يُفَدِّيكُـمُ بِالنَّفْـسِ وَالمَـالِ وَالوِلْـدِ
وَهَلْ بَعْدَ بَذْلِ النَّفْسِ في الحُبِّ غَايَـةٌ
وَهَلْ عِنْدَكُمْ في الحُبِّ بَعْضُ الذِي عِنْدِي؟
يَمِينَاً لَقَدْ أَحْبَبْتُكُمْ حُـبَّ رَاهِـبٍ
يَرَى غَيْرَ حُبِّ اللهِ في اللهِ لاَ يُجْدِي
وَهَلْ بَعْدَ هَذا الحُبِّ في الحُبِّ غَايَـةٌ
وَهَلْ عِنْدَكُمْ بِاللهِ بَعْضُ الذِي عِنْـدِي؟
أرادت الشاعرة الخزرجي أن تستحضر الذات القومية حتى تعلن عن وحدة التآخي بين الشعوب العربية، بالمحبة مع الأولين والمعاصرين في أمصارهم وبواديهم، كي ترسل لهم بوادر تواصلها الأخوي، وأن الوطن العربي وحدة لا يتجزأ في لغته ولا في عاداته وانتمائه لبعضه، وعلى امتداد هذا التاريخ الانتقالي الذي عبرت عنه الخزرجي بدون مساجلة سلبية تذكر القارئ العربي تبليغ يقضي بتمام الجيرة، ومن خلال طبيعة هذه المحاكات تتولد طبيعة النظرة من معيون الأطر العاملة في سجال لغوي يكشف عن حاصل الاسرار المتعلقة بالبلاغة ونحوها، وذلك بتأثير محاسنة مدياتها الجمالية على وفق تمظهر الطبقات الفنية الشعرية، التي تؤسس وتكشف عن تفاعل الفرد مع محيطه في الخاص والعام، وهو ما يحقق الظهور العياني لاستلاب المخيل كلوحة تتحلى ألوانها ورموزها في تعبيرها القائل: " بِلاَدُكَ - إِنْ تَرْشُدْ - بِلاَدِي وَإِنَّهَـا / عَشِيرِي وَأَحْبَابِي وَأَنْفَسُ مَـا عِنْـدِي / هَوَايَ بِهَا ، مَا حِدْتُ عَنْ عَهْدِ حُبِّهَـا / وَحَاشَا لِمِثْلِي أَنْ تَحِيدَ عَـنِ العَهْـدِ "
وبهذه المسايرة الروحانية التي تفصح عن المتعة الصوفية في لغة اشتغال الشاعرة في صورتها الملائمة لمقاصد الخواتيم المسوقة على اعجاز جعل من المعنى يدور بالنزعة الرحمانية من الذات إلى حول الذات، بتنزيل يستنطق معرفة التاريخ البدوي وتنقلاته الاجتماعية والثقافية من عصر إلى عصر مغاير، وفي التضمين جعلت المقصود من لوحتها الشعرية أن ترمز إلى طبقات الفصاحة المؤرخة في المهد العربي، التي بقيت ماثلة في الصورة الشعرية العربية ماضيها وحاضرها، الممكن أن يتفق معه السجال البيني في المنحى الكلاسيكي بكل تحولاته، أي أن الشاعرة أكملت التقدير بما وقع في علم البديع الوصفي على أتم وأخلق ترويد بالشغف اللازم احتماله، لمجرد ملامسة الذكرى المعرفية الملتزمة بالعلاقات اللغوية، بما أشارت إليه بقولها المأسور في تسويق ما يبان في كل تجديد للصورة البصرية التي تعبر عن الغنى أن يروم إلى قوة صدى المعنى في كل تيمة جانست مَلَكة الشاعرة مثل: "تَرْشُدْ" وهي لفظة غنية بتوليفاتها الروحية القيمية المباحة في أحوالها المعبرة عن متانة الملقح بأحوالها، ومن الناحية اللغوية فهي تندرج في معنى: "الإرشاد والهداية"، فكيف يتجلى التوقد إذا لكز الارشاد المعنوي أحاسيس خيالها الممهور بالنداء الذي يوحى إليها؟ من كنف تلاقى في مضماره الاجتماعي.
ولكي نكشف عن قدرات الذات الملهمة للتنزيل التعبيري، في ساح التأمل الصوفي عند الشاعرة، كان لابد من استكشاف المراد الحسي الذي أنجز التمايز العفوي في خصوبة الذاكرة المحصنة بلغتها ونحوها، بعد أن أجزلت موهبتها في العطاء الإبداعي، فكان للوحدة العضوية "كما أسماها أرسطو" أن تتلقح من بنيتها الداخلية، بالتجاذبات الإدراكي، الحاصل في الوسيلة البلاغية التي تشتق منها الافكار. وعليه وجدت من الانصاف أن نكشف للقارئ الكريم عن البداهة التعبيرية العفوية عند الخزرجي، فيما تقتضيه من تعاظم سريان حنكة المدركات النحوية في لطائف ندائها، وعليه فالخاصية النقدية تحتكم إلى ثوابت تحدد استخراج النتائج من الإحالات الأولية في الصفاء العقلي المتعطش لصفيته العميقة، إلى حيث تجليات مراتب الحس الخليق بالإضاءة النوعية. يقول الجرجاني في اسرار البلاغة: "اعلم أن معرفة الشيء من طريق الجملة، غيرُ معرفته عن طريق التفصيل."
نقرأ تفاعل الشاعرة بالنص على منوال فيما بين قصيدة الشعر الكلاسيكي، وبين شعر التفعيلة التي يتجه بعض الشعراء بأنظمتها إلى المبالغة، خاصة تلك التي تعتمد الخيالي على نحو خاص بالأشكال التي تنتمي إلى إثارة رؤيتها من القرب العاطفي المسجل، الذي يحتمل مقدار التركيز على فاعلية الطيف التقريري، بما يهوى وما يذاع، أو في رؤية أخرى ما ينصاع إلى التحريف والالتباس حين يحاكي النفس المغرورة. فالكتابة إذا تعددت مشاربها المتكررة تكون أقل متعة وتلقي، ولكيلا نجعل من الشاعرية نظام مقرر نهجه، نجده يبتعد عن الاعتبارات التي تتبنى مشروعاً للتلاقي الجناسي الأدبي الذي يؤثر وسنانه النقي في كل عصر، فما زلنا نقرأ: للحلاج، وطاغور، والمهلهل، والفرزدق، وأبي حنيفة النعمان، وبدر شاكر السياب. وسوف يبقّى أولادنا يقرأون سعدي يوسف، ونازك الملائكة، ومي زيادة، وناجية المراني، ومحمود درويش، وعاتكة الخزرجي، وحسن عبدالله، وأمل دنقل. وألفية ابن مالك، أو خنساء أخرى، أو رابعة العدوية، أو الرصافي، أو جرير. وهكذا هم الأدباء الذين أناروا التاريخ بملكاتهم البديعة من منظور السياق في جواهر اللغة المحصنة. ولأننا نحتاج إلى التنوير من أوسعه في هذا القصد نتبين صحيح طراز الديباجة التي تشهد للنص بالمقام الشعري، ومثالنا السياق في قصيدة الخزرجي المثيرة لشهوة القراءة، أو حتى حفظها، حيث يمكننا من مجالسة معانيها بالتفاضل بين مقدار القيمة الفنية، والموازنة اللفظية وغاياتها اللغوية. في هذا السياق القومي:
" وَكَيْفَ وَقَدْ مَلَّكْتُهَا كُلَّ مُهْجَتِـي؟ / وَإنِّي لأُخْفِي في الهَوَى فَوْقَ مَا أُبْدِي / هَوَايَ بِهَا إنِّي نَذَرْتُ جَوَانِحِـي / إِلَى كُـلِّ شِبْرٍ في العُرُوبَـةِ مُمْتـَدِّ إِلَيْكُمْ / إِلَى الصَّحْرِاءِ ، لِلرَّمْلِ لِلرُّبَـى / لِمَوْجِ الخَلِيجِ الثَّرِّ / لِلرَّوْحِ مِنْ نَجْـدِ / لِمَكَّةَ ، لِلْبَطْحَاءِ لِلْخيفِ مِنْ مِنَـىً / لِسَيْنَاءَ ، لِلجَوْلاَنِ ، لِلْقُـدسِ ، لِلْخُلْـدِ / إِلَى كُـلِّ عِرْقٍ في العُرُوبَةِ نَابِـضٍ / وَكُـلِّ فُـؤَادٍ يَذْكُـرُ اللهَ بِالحَمْـدِ / إِلَى تُونِسٍ ، أَوْ لِلجَزَائِـرِ ، لِلْهَـوَى / بِمَغْرِبِنَا الأَقْصَى القَرِيـبِ عَلَى البُعْـدِ / يَمِينَاً لَقَدْ أَحْبَبْتُكُـمْ حُـبَّ زَاهِـدٍ."
تتحد العناوين بأسماء الدول العربية على أنها لُحمَة كجسد الإنسان بوحدة لا تتجزأ بالفتوة والمروءَة، لأنها أي الشاعرة أرادت بهذا الجمع التاريخي أن ترفع من شأن لغتها إلى العلا الذي يجمع هذه الشعوب الناطقة بها على وجه الأرض، وكما يقول أبو نُوَاس:
"وَإذَا مَررتَ على الديارِ مُسَلماً -- فلِغيرِ دارٍ أُمَيْمةَ الهِجْرَانُ" ص437
ومن خلال هذا التَّمييز بين الصحراء والمكان الأخضر بمحيطه المائي كدجلة والفرات والنيل والعاصي أن تكون الصورة مَعْقَدْ النص، فنقول في تيمة "مَلَّكْتُها" والتي هي الصفة الراسخة في النفس، وهي الاستعداد العقلي الخاص بالطلب والاختيار، كما هو الحال في تناول الشاعرة قصيدتها بحذق ومهارة، التي أرادت بها أن تحسن الرمز في الحالة التي تلازم محتوى ومبتغى النص بما يشتهيه التنوع المصاحب للمعاني الدائرة بطيفها، من بلاغة التوصيل المعنوي الذي يعبر عن محاكاة التبليغ الذي يصلنا بما يبلغه المضمون من ايعازات ونوازع وميول وألق، أما ما كان في قيمة، "نذرت جوانحي". التأثر بما ملكت النفس أن تصاحب المكان العربي في مبغاها الروحي، المشار إليه في "إلى كل شبر في العروبة نابض" هو الوصال، والتلاقي، أو الدار والضّيَافَةِ، فأنت تعود إلى حيث تذهب تلتقي بمحب وهكذا في: " يَمِينَاً لَقَدْ أَحْبَبْتُكُـمْ حُـبَّ زَاهِـدٍ" للبلاغة مقعد وفير في توليفها للجملة الشعرية ومهواه ما يحقق التداخل والتجانس في مقام الميول العاطفية الخصبة، على أعتاب وجد الزاهد، لأن النص يعبر عن الحالة الأخلاقية ومؤشراتها المفتوحة على تقدير بُعْدها القيمي غير المحدود في المعاينة الاعتراضية، بكونها منحة تجاوبت مع تنزيه نسب عواطفها إليه، مع أنها تجيز الرؤية الإدراكية في بعدها الزمكاني الذي يحتضن تلك الدول التي تناولتها الشاعرة بالاسم، بما يتلوها من سياق يتم من خلال اهتمامها المعنوي القومي عبر محصنات الذات ب
8- بن حمزة، يحيى: كتاب الطراز، الطبعة الثالثة، دار الكتب العلمية، بيروت / لبنان، الطبعة الثالثة 1954، ص 210.
"إِلَى كُـلِّ شِبْرٍ في العُرُوبَـةِ مُمْتـَدِّ" القيمة الحاصلة في معنى "كُلِّ" أو ما يماثلها سواء أكان في الشعر أم في جناس أدبي آخر هو واحد، والمضارب تعني القرى المترامية في البادية، نقول مثلاً "مضارب بني أسد". أما ونحن في الشعر فنقول هو يضارب إنتاجها الشعري فيما أشرنا إليه في موضع المواطنة قاطنة كل فرد على أرضه، حيث وصلت بتوضيحها الأجدى بالتعبير عن حبها للعروبة او القلب النابض لما يحاصل الانتماء، ولأنها تبصم في الوجد أن محبتها ذات يقين يؤرخ الشغف في نفسها، والمعنى إدامة هذه الحبية أن تستمر في التجمل، فما من شيء ينسي تلك المضارب عوضاً عن نفسها، لأنها بمجمل القول إنها تعاين فصاحة الصورة الشعرية الإنسانية .
تستمر الشاعرة في عرض تخيلي يشاغل الأطراف العربية من أوسع تجلياتها، فتضيء ذلك الإحساس بتداعي العناق والضم للجمع العربي الذي تبسمت فيه الوجود فأضحى وكأنه بالوشم النِّيْلَجي ممهوراً، ومن خلال هذا التعيين الملموس يكون التاريخ العربي يضيء على امتداد الصحراء وفي كل شبر ممتد، يعزز الكرم في كل نبض، وما الجليس في تلك اللحظات الموقدة بالحب سوى التركيز على الأخوة، ربما هو عوز في يومنا هذا يبني اللقاءً المنتظر، أو خيمة تجمع هائمين من سفر، نجد الشاعرة تنسج المشاعر وهي تطوف على الروح كحبات المطر بغير انتظام، وليس آخره فالألفة توطد التماس بين الفرد والمجتمع، حيث يرتوي الشجن المباح. وأمام هذا التقدير الجمالي في شاعريتها نجد الشاعرة نبذت المثالية في عقلية الشيوخ، على مر تاريخ الفكر الاجتماعي، أي أنهم كانوا يحاولون الإتيان بالأقوال التي تنفعهم في استمالة الناس، فليس همة الشيوخ الجهلة أن يعظوا الناس إلى اتباع الأخلاق المحمودة.
نتلمس الفطرة التي ترد في شعر الخزرجي، تفيض في الذات المبدعة المعبرة عن الموهبة والاحساس بالإيحاء، أو لنقل الزائر المُؤْذِنُ بالوحي، ولا مدح إن قلنا أن الخزرجي قد أبانت عن إدهاش تأنق بالذائقة والرشاقة الظاهرة في مضمون النص الصوفي وابعاده باقتدار ملحوظ، فالوحي الشعري أشبه بالتفويض التخصصي وما تقتضيه السعة من أفانين جواهر الكلام، وأيضاً ما يوحيه الكلام بأحواله من خلقٍ أصيل، فيكون فيه الطباق المعرفي بين الشاعرة ونصها ملقحا بعضوية واحدة، بحيث لا يظهر فيه أثر الكلفة، بل يرد على عناصر مختلفة المراتب التي تعبر عن الحياة، حيث نجد الشاعرة غيورة على نصوصها، تحميها بعناية فائقة من العن والخلل والقبيح، وبعد هذا فهي ذكية وناجعة بشخصيتها الكتابية، حسنة النظم، فهي لم تر نفسها دون شعرها المحاك من نبض أفكارها النقية، وديدانها إنها لم تخل في البناء الإيقاعي، ولا في السياق اللفظي المؤدي إلى انفتاح جريرة المخايلة على أوسع مبنيات المعاني. ففي قولها الآتي نستدل على قصدنا، ونحن نشير إلى استمرارية تلاقح التصريع، حيث لم ينقطع المنثور العاطفي عن زخ سريان المشاعر فيما تقدم أو تأخر. ومثاله من حيث التصريع قول أمرئ القيس في قصيدته اللاميّة:
"أَفاطَمِ مهلاً بعضَ هذا التذَللِ = وإن كنت قد أزمَعْتِ صَرْمى فأجْمِلي"
ولها قصيدة تعتمر التنوير الصوفي أن يكون مفلسفاً كفكر علمي تصحيحي لمسيرتها في التجديد الفكري المعبر عن الرؤية الخاصة في نواحي الأدب العربي المعاصر بتوجهاته القيمية التي ارتقت إلى مستوى التطور المختلف فيما ورد على مستوى شاعرات عربيات استطاعت الخزرجي أن تصل إلى المستوى الأمثل نقرأ قصيدتها:

قصيدة:
تحية...

عِيدُكَ يَا مَوْلاي عِيدُ الجَمَـالْ
عِيدُ الفَتَى الفَرْدِ العَزِيـزِ الْمَنَالْ
لا زِلْتَ فِي يُمْنٍ وَفِي رِفْعَـةٍ
تَعْنُـو لَكَ الدُّنْيَـا وَفِي خَيْرِ حَالْ
لا زِلْتَ يَا مَوْلاي نَفْـحَ الهوى
هَمْسَـاً حَنُونَـاً فِي شِفَاهِ الجَمَالْ
لا زِلْتَ سِـرَّاً فِي ضَمِيرِ الْمُنَى
وَحْيَـاً أَمِينَـاً فِي بَنَـاتِ الخَيَـالْ
لا زِلْتَ مِثْلَ النُّورِ .. مِثْلَ النَّدَى
مِثْلَ الشَّـذَى ، مِثْلَ رَفِيقِ الظِّلالْ
مِثْلَ الحَفِيفِ الْحُلْوِ ، مِثْلَ الصِّبَا
مِثْلَ الرُّبَـى ، مِثْلَ سُمُوقِ الجِبَالْ
مِثْلَ ابْتِسَامِ الوَرْدِ ، مِثْلَ الرُّؤَى
مِثْلَ الْمُنَـى ، مِثْلَ غُرُورِ الدَّلالْ
لا زِلْتَ يَا مَوْلايَ لِيْ ذَاكِـرَاً
رَغْمَ النَّـوَى ، رَغْمَ اللَّيَالِي الطِّوَالْ
وَلَمْ أَزَلْ مَـوْلايَ تِلْـكَ الَّتِي
عَرِفْتَ ، لَـنْ أَنْسَى عَلَى أَيِّ حَالْ
* * *
لَوْ مُثِّلَ الحُسْـنُ عَلَى صُـورَةٍ
لَكُنْتَهَـا ، يَا عِـزَّهُ مِنْ مِثَـالْ
أَنْـتَ عَلَى قُدْرَتِـهِ آيَـةٌ
بُورِكْتَ بَارِي الخَلْـقِ يَا ذَا الجَلالْ
بِاسْمِكَ كَمْ سَبَّحْتُ يَا خَالِقِي
مَا خَفَـقَ القَلْـبُ لِهَذَا الجَمَالْ
*من ديوانها :" أفواف الزهر " .
- - -
تبدأ قصيدتها بالطباق الحاصل في رد العجز على الصدر، أي ما يتصل أوله بآخره، ففي البيت الأول قولها: "الجمال.. المنال" وزنهما واحد، ومتساويان في الزنة أي ما يعادل ويوافق اللفظ للمعنى، يحل من الفصاحة في محل منيف، لأنه نوع من أنواع البديع، على أساس تفعيل قولها قائم على الإيمان والتلميح بأنّ قرارها ثابت في تيمة "لا زلتَ" لتكون الصورة الشعرية مبنية لغتها على لطافة رشيقة، تحكم التكافؤ بالمقابلة ببراعة رائقة الصوت الواصل في حرف "ج"، وحاصل المنظوم الإتيان بالترصيع الذي يضع أجزاء الكلام كل في محله، وهذا شأن فصيح، حيث تستمر القصيدة من غير تقييد بعد أن اكتفت في التفصيل بما يظهر من البيت في قرينه، خلال سياق كل لفظ أن يعبر عن بيانه، وهو ما يعادل مقابلة اللفظ بمثله في قولها: " الدلال، الطوال، الجمال، المنال، حال، الخيال، الظلال، الجبال مثال، الجلال" ولأن التفعيلة تتطلب أن تكون المرجعية لكل شطر بمعنى يختلف في اللفظ ويتحد في الوزن، وهذا دليل معرفة الشاعرة بتفويض الموازنة بين الأحكام والإحكام، ثم بعد ذلك تضيف إلى كل لفظ ما يليق به من معنى محكم، فما هذا حاله من البلاغة في مقابلة الوجهين ومقصد الشاعرة الخزرجي في هذا لا يخفى على من يمتلك النباغة والمعرفة في تحليل منظومها العبقري في قولها: "عِيدُكَ يَا مَوْلاي عِيدُ الجَمَـالْ / عِيدُ الفَتَى الفَرْدِ العَزِيـزِ الْمَنَالْ / لا زِلْتَ فِي يُمْنٍ وَفِي رِفْعَـةٍ / تَعْنُـو لَكَ الدُّنْيَـا وَفِي خَيْرِ حَالْ"
ولأجل ما توصلت إليه الشاعرة من لغة اتسمت بالبلاغة النحوية، أجدني ومن خلال منظوري النقدي، أنني لست مع التقطيع بين تيّمْ الجملة الشعرية الواحدة بواسطة الفاصلة أو التنقيط، وإن تكررت اللازمة وهي "لا زلت و مثل" في تشابه وتعدد اتجاه المعنى، فالتقطيع في قصيدة التفعيلة أو في قصيدة النثر يتم بواسطة السطر فيكون ذو علاقة بعدد الكلمات، حتى وإن أخذ المجاز نصيبه لأكثر من تواصل في فلسفته التي يختارها الشاعر / الشاعرة في تلوين النص بفصاحة تخدم التراكيب العضوية، ومنها الملقحة التي تعطف الجملة بأكملها على ما قبلها وما بعدها، حتى يتم التخصيب الإحداثي للرؤية البصرية بتمام المتخيل المعنوي، لأن الإبصار التقني جيء لتحقيق النظير المختلف عن لغتنا اليومية، خاصة وأن دلالة الاختلاف تشير إلى جمع الأضداد في البيت الشعري، لأنْ يجعل المعنى مركباً بنفسه في توسع فضاءات المضمون، لذلك جعلت من مفهوم الدليل الذي يوسع من التأكيد أن يكون المعنى يشع بالنضوج من خلال هذا التوليد المعنوي بتأمله المجازي، وفي الوقت ذاته يجب أن يكون المضمون دليل الملاقاة الروحية في وحدة النص، حيث تجعل من انسياب الاستمرارية الإيقاعية والمعنوية في الروح الداخلية تمتع بها الجملة الشعرية، ولكي نجعل من البيت أو السطر الأول مرتبطاً بالثاني نوصل المعنى باللفظ في المعنى الملقح للجملة التي تليها، ومثاله قول الشاعر فؤاد الخطيب:
" لمن المضارب - في ظلال الوادي / طي الرحاب - تغص بالرواد"
فلكل واحدة من هذه المصاريع قائمة بلفظها المبني على ما يليها من حكمة النغمية الجارية على ملتقى رابطها الإيقاعي في تسامي المعنى، والذي ميَّزَ الخزرجي عن بقية الشاعرات تلك المسلمات الفصيحة التي رسمت الألفاظ على صفحتها التشخيصية، خاصة التركيز على العمق الملحمي، وتداول تهذيب زوايا الحبكة، والحرص الشديد بإتقان ماهية تنظم التيمة المكونة ببلاغتها بالإحساس نحو تصوير أشد تلاقحا في المضمون، وإيقاع المبنى الصوتي للفظة التي تشكل للمعنى تأثيراً في القراءة المعبرة عن رهافة التلقي، كما هو الحال في هذه الصوّر الفنية المحكمة بجماليتها قولها:
" لا زِلْتَ سِـرَّاً فِي ضَمِيرِ الْمُنَى / وَحْيَـاً أَمِينَـاً فِي بَنَـاتِ الخَيَـالْ / لا زِلْتَ مِثْلَ النُّورِ .. مِثْلَ النَّدَى / مِثْلَ الشَّـذَى ، مِثْلَ رَفِيقِ الظِّلالْ / مِثْلَ الحَفِيفِ الْحُلْوِ ، مِثْلَ الصِّبَا / مِثْلَ الرُّبَـى ، مِثْلَ سُمُوقِ الجِبَالْ / مِثْلَ ابْتِسَامِ الوَرْدِ ، مِثْلَ الرُّؤَى / مِثْلَ الْمُنَـى ، مِثْلَ غُرُورِ الدَّلالْ."
الأسلوب الذي اختلفت به الخزرجي ومَثَلَ لها خصوصية هو زرع اللازمة في سياق البنية الفنية عندما تجدها نافعة البناء شديدة وبارعة العروض في العلم الحديث، وجعل الرابط الأساسي للاقتباس مرهوناً بتضمين الصورة الذوقية من حيث الحركة والثبات، عبر شواهد تتأثر بها الشاعرة دون غيرها من المشاهدة الملموسة، في تيمة: " مِثْلَ " التي تكررت في جمل عديدة، حتى جعلتها تمثل المذهب الانطباعي كما هو الحال عند أبو القاسم الشابي، وأنا أجد هنا أن موسيقية البنية الشعرية عند الخزرجي وليدة المنحى الذي تجسد في شاعرية السياب التي تجانست في التلوينات الشفافة المكثفة باشتقاقها للمعاني بما يدل على مطابقة مقصدها، وموافقاً لغرضها المُبين لجمالية الصورة، خاصة وأن شعرها يميل إلى التلميح المجازي المطيع للفلسفة والتصريع، ربما هو تقارب عفوي حددته الشاعرة ليكون واضحَ التأثير في أسلوبيتها الخفيفة على السمع، ولأن التشبيه بالمشبه به حاصل فني فقد جعلته يتصل اتصالا معنوياً بالدليل الموعز إلى طرح مشاعرها بين يدي الموصوف، بالصور المنقحة بالجلال الرمزي التوليدي في عاطفةٍ ذابت بالإحساسات الداخلية المضمنة عشقها الذي تعلن عنه وتعترف به، المنطوي على تعين تميّزَ اجتماعياً تستحضر صوراً ذات انعكاسٍ ببرق متغيّر، وكأن الشاعرة في هذا الاتجاه تتحسس التفصيلات القائمة في الأعماق قبل الشكل المنظور بواقعه الذي ركز على بناء النفس وتربيتها، خاصة ونحن أمام لطف وقلق بآن، من معيون التعبير الدال في قولها المبني على تضمين المعنى لمعنى يعادله في الطباق، نقرأ: "لا زلت سرا في ضمير المنى / مثل ابتسام الورد / مثل الرُّؤى" هكذا نكون قد أمعنا التناسق بين جملة شعرية وأخرى في بناء يهيج تلاقحٍ المعاني بالتأويل التوليدي الذي قصدته الشاعرة، في تيمة "مثل" فأصبحت هي الرابط المشبع بالمبادئ التي تجعل الاعتراف وسيلة للكشف عن حكايتها المثيرة.
أما ما أثارته المعاني هنا من مصاهرة تشتد قوتها وتتآلف في سلة واحدة، خاصة قولها: "مثل سموق الجبال / مثل ابتسام الورود / مثل الرؤى" هي الاثارة التي تتولد فيها المناجاة التعبيرية عندما تكون الشاعرة في صفوة تجلياتها المخصوصة في ورود الإيحاء حين تشتد العاطفة في سموها الشعري، وهي تكشف عن خفايا الضمير على نحو رمزي تنطوي صياغته على فن تعددت في أعماقه معاني اللفظ المعبر عن مألوفة بحد ذاته، الذي يأخذ إلى امتداد السياق من منظور التطور المعيون في نسج الجملة الشعرية، نحو مادة تزداد غنى من أجل الإيضاح وسحر البيان المجرد من التعقيد، وفي هذا الاتجاه نجد الشاعرة تساعدنا على كشف اتجاه العواطف المنسابة في ولوج الفيض السياسي المتوتر والغامض في زمن عز على الشعر أن يعبر عن آلام المشاعر والأفكار في الضمير المتخيل بحال كتابة القصيدة، وهذا ما كان يدفع الشاعرة إلى معالجة سرية سرعان ما تود طرحها، وكأنها تدعو القارئ إلى مشاركة نجواها الملزمة بالوضوح، فإذا تجلى الشعر من حيث فصاحة المعاني، أن يدرك خلوصها من التنافر لتكون الرؤية فيها واضحة في بصيرة النص، وتلك الحساسية تتوسع من فيض حدس المتخيل في تداخل العلاقات المعنوية، الذي يحدد آلته اللاقطة للصورة الشعرية المعبرة مفاهيمها العفوية عن فتح نافذة التمني على أوسعه، لكي يتسنى للقارئ أن يطاوع مقصده بمزيد من الدقة للصورة الصوتية اللائقة بمشاعره، خاصة وأن الخزرجي أبدعت في هذا النظم الذي هو غايتي في أتجاهي النقدي، لأن الحرفية الظاهرة في دراسة القصيدة المعاصرة كثيرا ما يتجه بعض النقاد إلى ما يتعلق بمشكلات قصيدة النثر، خاصة تطويع الشاعر بمؤثرات مجتمعه، حتى يبقى الاتجاه الأفضل إعطاء تحليل دقيق لمفهوم الشعر العمودي والتفعيلة، وهذا كله يخضع إلى الأثر الأدبي المعاصر بالتتويج اللغوي النحوي، والتحديث من خلال تنوع يتغذى بكل ما هو جديد في مجايلة الصورة الشعرية البيانية التي تهتم بمصاهرة العلوم اللغوية.
وذا اشتقاق من معنى إلى معنى مجانس بذات القيمة في قولها المحصن ببلاغة التصوف الرحماني " مِثْلَ الْمُنَـى ، مِثْلَ غُرُورِ الدَّلالْ". على هذا النحو الفلسفي كأننا أمام الأناشيد العرفانية، وهذا الجلال يأخذ القارئ إلى مقام البحث عن التصوف وميزته في البحث عن الآثار المقدسة، باعتبار أن الخيال الرضواني المرئي في إيحاء الشاعرية العاطفي تتجسد فيه الأفكار المتسلسلة بعفويتها وغنى الألفاظ التي تقع في وصف الإشارات البديعة، لأن يكون البيان قد أحسن المعالجة بين اصطلاح المعاني وتوصيل ينشد الاستدلال من منبعه الفصيح، لما تضمنته هذه النواجذ من ضم يلائم سير السياق الفني في رشاقة مقبولة للتلقي، وطبعاً هذا يعود إلى القدرة والمهارة الايحائية، وكما لا يخفى على القارئ المثقف، أنّ ما كان يبحث عنه في المدهش الفني في لغة الطراز الذي جرت عليه نصوص الشاعرة الخزرجي ترك أثرا محكماً دل على فلسفتها المركبة الواضحة في ميولها ولغتها ونحوها المحصن، والذي سوف يترك لها مقاماً تحترمه الشعوب التي تجعل من الشعر لغتها وعنوان هويتها، وفي الوقت ذاته نجد الطرف المهتم والحريص على الصيّغ الإبداعية الحقيقية، المحصنة بالفصاحة تتحد عواطف ميوله الحسية متابعة الشعرية العربية المبنية أساسا على عبقرية الصورة الحسيّة من حيث المبنى الفني، ولهذا فنحن نجتهد في البيان والمعرفة لتوصيل الشاعرة إلى بقائها على صفحات التاريخ الذي أغنى الأدب العالمي بمنجزات قيمية في إصالة حداثويته وتجديده النوعي من مرتبة إلى مرتبة أسمى، لا سيما أن تلك النصوص الملهمة بذائقتها وأصالتها واكتسابها المثالي أوقع البعض فيها حسن نبضها.
= = =



#جعفر_كمال (هاشتاغ)       تôôèô‏_ؤôéôم#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الروابط المقدسة بين الشاعرة والوطن / عند الشاعرة آمال عبدالق ...
- الصدفة المُيّسَرَة
- وقار - هايكو -
- سوريا الجريحة
- شكثر صعبه
- الذات، والمدن الصامتةجعف
- الذات، والمدن الصامتة
- كورونا إلى متى؟
- ابنة الحدائق
- أمي المساء
- نلتقي
- خَلِيَّةْ الانتقال في: شاعرية كاتيا راسم.
- الوطن والناس
- تجليات الصورة.. المحاكية للأشكال
- عبدالفتاح المطلبي.. في.. تخصيب مبنيات الدلالة
- الجارة
- المثقاب
- قطرة تنتظر
- فوتكرافيك معرض
- موسوعة الجنسانية العربية والإسلامية قديما وحديثاً


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - الإحكام والعرفان في إرادة التصوف عند الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي