أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصعب قاسم عزاوي - الدور السلبي للبرجوازية الدمشقية في سياق الثورة السورية















المزيد.....


الدور السلبي للبرجوازية الدمشقية في سياق الثورة السورية


مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)


الحوار المتمدن-العدد: 7077 - 2021 / 11 / 14 - 15:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


على مر التاريخ كانت الثورات والانتفاضات الشعبية حركات يقوم بها المظلومون مطالبين بحقهم في تحسين ظروف حيواتهم وحيوات أبنائهم، وقلما تجد في التاريخ ذكراً للفئات الميسورة والمنتفعة من واقع اجتماعي ما طالبت بتغيير ذلك الواقع إلا في حالات نادرة ارتبطت بمجموعات مستنيرة في تلك الفئات كان محركها الأساسي وعيها وليس واقعها الاقتصادي والاجتماعي الذي طالما كان المحرك والزناد القادح للمطالبات بتغيير ذلك الواقع والانقلاب عليه.
وبمقاربة عقلانية موضوعية لا يمكن استثناء الثورة السورية وكل ثورات الربيع العربي الموؤودة من ذلك التوصيف السالف الذكر، إذ أن كل تلك الثورات مجتمعة كانت ثورات لجحافل المظلومين المفقرين المهمشين المهشمين على امتداد عقود طويلة بمفاعيل النظم الأمنية الاستبدادية وآليات النهب والتهشيم المافيوي الشامل للمجتمعات والبشر المظلومين المفقرين الذين تغولت على كل تفاصيل حيواتهم وأحلامهم ولقمة عيشهم.
وبشكل أكثر تبئيراً، ففي الحالة السورية فمنذ صعود عائلة الأسد إلى قمة هرم السلطة للدولة السورية في العام 1970، جرت عملية ممنهجة لتحويل النظام الهش العسكرتاري المتخبط في سعيه للبحث عن نهج خاص به لبناء الدولة جراء هشاشة أرضيته المعرفية والفكرية، وانحشارها في خانة الخطابات الإيدلوجية المستقاة من هنا أو هناك، والتي تراوحت بين خطابات القومية الاشتراكية على الطريقة البعثية السالفة لحقبة آل الأسد بخلطتها العجائبية بين فكر القومية الاشتراكية المستورد من فكر حزب العمال الألماني الاشتراكي القومي، والذي عرف شيوعاً بالحزب النازي، أو أقرانه في الحزب القومي الفاشي الإيطالي، والذي كانت تعني فيه الفاشية اتحاداً لبعث القومية وحضارة روما الآفلة، وهو ما قام باستجلابه «على علاته وعواره» مؤسسو حزب البعث العربي الاشتراكي، وظل عماد أيديولوجيتهم الشمولية حتى انقلاب حافظ الأسد «البعثي الخلبي» على رفاقه في العام 1970، معيداً تعريف حزب البعث بأنه شخص حافظ الأسد نفسه، قائد «الأمة السورية إلى الأبد»، ومحولاً نظام الدولة السورية إلى نظام أمني بامتياز تحكم فيه الأجهزة الأمنية كل حركات وسكنات المجتمع، بالتوازي مع تحويل الجيش من جيش وطني مهمته الدفاع عن حدود وكرامة الدولة، إلى مليشيا عسكرية تتبع لأوامر النظام الأمني واجبها الأوحد الحفاظ على تماسك وهيبة النظام الأمني حتى لو اقتضى ذلك إبادة مدن بأكملها كما كان في حالة إبادة مدينة حماة في سياق وأد انتفاضة الشعب السوري المعتم عليها إعلامياً في العام 1982، والتي كانت المقدمة لإظهار الوجه الحقيقي البربري للنظام الأسدي الذي لم يعد يخجل من إبراز ذلك الوجه بعد أن أصبح مرادفاً لرعب مقيم و متأصل في المجتمع السوري، ومقدمة لتوطيد الخط الأقلوي الذي اختطه أسلاف حافظ الأسد من البعثيين «البدائيين» الذين انقلب عليهم حافظ الأسد في العام 1970، ليقوم بعد ذلك بإعادة تعريف نظامه الأمني بعد تلك المرحلة بأنه نظام يعمل لأجل «إنصاف الأقليات المذهبية والدينية»، وخاصة «أبناء الطائفة العلوية» ذات المرجعية الفلاحية من منطقة جبال العلويين في ساحل بلاد الشام، والتي كانت بالفعل مجموعة مظلومة ومهمشة اقتصادياً واجتماعياً على امتداد قرون طويلة لعدم رضى الحكام العثمانيين لبلاد الشام عن عقيدة أولئك الذين ظلوا محصورين ومقيدين بشروط الزراعة في مناطقهم النائية الجبلية حرصاً على عدم التماس مع عسف الحكام العثمانيين المدن السورية السهلية، وهو الواقع الذي لم يختلف كثيراً في مرحلة ما بعد استقلال الدولة السورية عن مستعمريها العثمانيين في العام 1918، ومن ثم مستعمريها الفرنسيين في العام 1947، والذي تمخض عنه سيطرة للبرجوازيات المدينية «السنية» على مفاصل الدولة الناشئة، والتي لم تعر انتباهاً للظروف الاقتصادية الكالحة التي كان يعاني منها «أبناء الطائفة العلوية» في جبال الساحل السوري، وهم الذين التقطوا بأن المهنة الصالحة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن يدخلوا إلى جسم الدولة الناشئة هو تكثيف انخراطهم في جهاز الجيش السوري المستحدث. وذلك الواقع التاريخي المؤوف لأسباب متعرجة ومتداخلة فيها الكثير من عناصر العطب الذاتي والموضوعي كان المقدمة التي دخل منها «حافظ الأسد» إلى جسم الجيش السوري، وهي الحقيقة التي قام باستغلالها «بخبث مريع» لإقناع أبناء الطائفة العلوية في سورية بأنه «المخلص» لهم من شرور «الجوع والفاقة» وتغول أثرياء المدن عليهم، وأن لا سبيل لهم لتحقيق ذلك سوى بالانخراط في جهازه الأمني الذي أصبح بمثابة «الصنبور الذي لا ينقطع صبيبه» من خلال إطلاق يد كل العاملين في الأجهزة الأمنية، والذين أصبح جل الممسكين بمفاتيح الحل والعقد فيها من أبناء الطائفة العلوية، ومن لف لفهم من انتهازيين من التركيبات المجتمعية الأخرى في كيان الدولة السورية، وخاصة ذات المرجعيات الفلاحية التي وجدت في ذلك الانخراط أسهل الطرق لانتشال نفسها من واقع ظروف الحياة الزراعية الريفية الشاقة، والانتقال إلى حياة المدن الأكثر يسراً من الناحية النسبية، مستقين من قاعدة النظام الأسدي الأمني الأسمى في عمل أجهزتها الأمنية، والمتمثلة في إطلاق يدها بكل أشكال الفساد والإفساد في المجتمع السوري عمقاً و سطحاً و عمودياً و أفقياً مقابل التزامها الحديدي الذي لا توان فيه بالحفاظ على استقرار النظام الأسدي، وعدم ظهور أي تهديد حتى لو كان جنينياً مضمراً في خلد أي نفس سراً أو أحلاماً أو ثرثرة في مقهى أو جلسة عائلية تحول فيها كل المواطنين إلى مخبرين «بالقوة» خشية اتهامهم بجريمة «كتم المعلومات» إن لم يقوموا بالإخبار عن تلك «النفس الآثمة الأمارة بالانعتاق»، أو حتى تخيل شكله ولونه وطبيعته.
وأفضى ذلك الواقع إلى تحويل الدولة السورية إلى دولة أمنية بامتياز منذ العام 1970، وإلى تعضي النظام الأمني ليصبح نظاماً مافيوياً فاسداً مفسداً يعمل وفق قوانين المافيات وأنهاجها واشتراطاتها. وترتب عن ذلك تراكم ثروات هائلة جراء عملية النهب المنظم لمقدرات الوطن السوري بأكمله في يد طغمة من الفاسدين المفسدين الذين يشكلون لحمة الأجهزة الأمنية، والذين كان يعوزهم الخبرات في استثمار الأكداس الهائلة من الثروات المنهوبة التي راكموها خلال صيرورة شفطهم لمقدرات الشعب السوري، خاصة أن مرجعياتهم «الفلاحية والريفية الزراعية» لم تكن لتقدم لهم حلولاً ناجعة في أي استثمار يتسق مع «جشعهم الهذياني» لتعظيم ثرواتهم، والتي لم تكن الزراعة ومتطلباتها الشاقة لتحقق لهم ذلك. وهنا أطلت البرجوازية الدمشقية بخبراتها التجارية التاريخية التي تراكمت خلال قرون من قيام تلك البرجوازيات المدينية بدورها التجاري المحض في محيطها الاقتصادي ذي المرجعية الزراعية الفلاحية، لتقوم بالتعريف عن نفسها للطغمة المافيوية الأمنية في سورية بأنها الشريك الأصلح لغسيل وتبييض عوائد فساد وإفساد تلك الطغمة، واستثمار تلك الثروات وتعظيمها من خلال تلك الشراكة المأفونة التي يلتقي فيها «السحت بالوصولية الذرائعية المحضة». وفعلياً لم يكن للنظام الأمني الفاسد من شريك محتمل للقيام بتلك المهمة سوى البرجوازية الدمشقية إذ أنها كانت الأنسب من بين أقرانها من البرجوازيات السورية، وخاصة الحلبية، نظراً لأن مركز ثقل النظام ومركز إدارة آلته القمعية وسلسلة فروع أجهزته الأمنية التي لا تعد ولا تحصى، كان في العاصمة دمشق، وهو ما خلق تقارباً جغرافياً ومكانياً بين موئل الثروات المنهوبة، وبين الجارة البرجوازية الدمشقية الجاهزة للقيام باستثمار تلك الثروات لصالح شركائها الجدد من النهابين الفاسدين.
ولم تكن أي من البرجوازيات السورية الأخرى في الحواضر السورية العريقة الأخرى وخاصة حلب وبدرجة أقل حمص وحماة مؤهلة للقيام بذلك نظراً لبعدها الجغرافي عن مركز ثقل السلطة الأمنية في دمشق، بالإضافة إلى تجربة الهلع التاريخي التي عانتها تلك المدن في سياق حرب الرعب والإبادة الجماعية التي خاضها النظام الأسدي على شعبه في العام 1982، وأفضت إلى تدمير مهول في مدن حماة وحلب ودير الزور، وإبادة جماعية لعشرات الألوف من سكان مدينة حماة و تغييب عشرات الألوف من أبناء تلك الحواضر السورية؛ بالإضافة إلى سبب محوري يتمثل في أن البرجوازيات في المدن السورية الأخرى، هي وليدة سياقات اقتصادية تكونت تاريخياً بشكل وثيق مع تكوين المجتمعات الناهضة فيها، والذي أساسه الجوهري «زراعي- قبلي- عشائري»، يعرف فيه الكل أصل الكل إلى جده السابع وما بعده في كثير من الأحايين، وهو ما كان يقتضي تحرك تلك البرجوازيات مع نسيج المجتمعات الموجودة فيها كجسد واحد في ظروف الشدة، وهو ما تمثل في انخراط البرجوازيات الحموية، والحلبية، والحمصية، والديرية «نسبة إلى دير الزور» في الإضراب العام الذي كاد أن يسقط النظام في العام 1982 لولا عدم انخراط البرجوازيات الدمشقية فيه، ورفض رموزها من «شيوخ الكار»، وكبار التجار فيها الانسياق مع متطلبات الرهط الساحق من مواطني سورية، مفضلين آنذاك الحفاظ على شراكتهم «الآثمة المربحة» مع رموز النظام السوري، وهي الشراكة التي كانت في بواكيرها آنذاك، وأخذت بعداً استثنائياً عميق الوشائج في ما بعد مرحلة توثق النظام السوري من قدرته على سحق شعبه كليانياً إن اقتضت الضرورات «الأمنية» ذلك دون يرف جفن لأي من كان في شرق العالم وغربه لما كان يفعله من جرائم بحق شعبه.
وعلى المستوى التاريخي فإن تكوين البرجوازية الدمشقية بطابعها الحِرْفِيِ والتجاري يتفارق عن تكوين البرجوازيات المدينية الأخرى في بلاد الشام، المرتبطة عضوياً قبلياً وعشائرياً وإنتاجياً واجتماعياً بنسيج البنى الاجتماعية والتاريخية الناشئة في ضمنها، إذ أن البرجوازية الدمشقية، والدمشقيون عموماً، على اختلاف النسيج التاريخي لأبناء بلاد الشام، جلهم من «الجَلَبِ» إلى دمشق الحاضرة التجارية والحرفية من أصحاب المهن من كل حدب وصوب من أصقاع المعمورة، وعلى امتداد قرون طويلة قد يكون أبرزها قرون حكم المماليك ومن بعدهم العثمانيين لبلاد الشام، مفضياً إلى تشكل نسيج اجتماعي من «البشر المجتمعين في نفس الزمان والمكان»، والذين لا يربطهم في الواقع أي نمط من العلاقات الاجتماعية السائدة في مجتمعات المنطقة الأخرى، حيث تتأسس علاقاتهم فيما بينهم على شكل من «المصالح التجارية والحرفية المشتركة» القائمة أساساً على استغلال حاجات كل المجتمعات المحيطة بها في بلاد الشام لخدماتها التجارية والحرفية وما كان على شاكلتها.
ومن الناحية الأنثروبولوجية يمكن توصيف الأطروحة السالفة بالنظر إلى كنيات وألقاب العوائل الشامية المرموقة، والتي قلما تجد في أي منها نسبة إلى مكان جغرافي أو قبيلة وإنما في غالب الأحيان إلى حرفة أو صنعة بعينها. وذلك التكوين الهجيني للمجتمع الدمشقي وبرجوازياته التجارية تاريخياً، وتفارقه عن نسيج المجتمعات المحيطة به، دفع بأبناء ذلك المجتمع لمحاولة استنباط «بديل تلفيقي» عن نسق الروابط القبلية والعشائرية التي تربط عرى مجتمعات الجوار الأخرى، تمثل في تخليق منظومة سلوكية عمادها «التدين الظاهري» لتعمية «الجوهر التجاري المحض» الناظم لسلوكها اليومي المشخص بالمقولات الكبرى الناظمة لعقلية «الشامي القح»، والمعبرة عن ذلك «النهج السلوكي الريائي» المستبطن في جل حركاته وسكناته، والتي قد يكون أهمها مقولات «اليد التي لا تستطيع كسرها، قَبِّلْها وادع عليها بالكسر»، و«إذا رأيت أعمى فأبطحه أرضاً فلست أرحم من ربه الذي ابتلاه بالعمى»، و«الذي يأخذ أمي يصبح عمي»، و«ألف أم تبكي ولا أمي تبكي»، والقياس على ذلك كثير في عقل ووجدان من خبر نهج «الشوام الريائي الانتهازي المخاتل الموارب».
وذلك النموذج من تكوين البرجوازيات الدمشقية بنيوياً ووظيفياً واقتصادياً وسلوكياً، وشراكتها العضوية مع نظام عائلة الأسد اتخذ بعداً جديداً في مرحلة ما بعد انخراط نظام الأسد في نسيج «الأتياس المستعارة» التي استجلبتها الولايات المتحدة لتلمع بها «شرعيتها الدولية الخلبية» إبان حربها لتهشيم العراق في العام 1991، وانخراط جيش حافظ الأسد «القومي العقائدي » مع الجيوش المُعَرَّفة «بالإمبريالية وقت القاموس البعثي النفاقي»، و على رأسها الولايات المتحدة، بعد أن استشعر حافظ الأسد بقرون استشعاره الخبيثة أفول ولي أمره السالف في الاتحاد السوفيتي بعد ما رأى تخلخله وتداعي قبضته الأمنية على من كان يهيمن عليهم في منظومة حلف وارسو خاصة بعد انهيار جدار برلين في العام 1989، ووجد بأن الانخراط في لفيف أتباع الولايات المتحدة أجدى له، وهو ما استتبعه تغيير بوصلة نظام الأسد من «الاشتراكية الأمنية، على طريقة نظم حلف وارسو الآفلة» إلى «انفتاح اقتصادي وحشي على طريقة الليبراليين المستحدثين» لاستدامة رضا السادة أصحاب الحل والعقد في واشنطن على سلوكه، و هم ما كان لا بد أن يفضي إلى «زلزال اقتصادي» في المجتمع السوري عموماً لم يكن محضراً أو مستعداً له تمثل في تخليق «فئات مستحدثة من تجار الكمبرادور والوساطة والاستيراد غير المبرمج»، وعملية «نهب سعاري لمدخرات الفئات الوسطى» المحدودة في سورية عبر استنزافها في قطاعات استهلاكية غير إنتاجية محولاً إياها إلى سيارات مستوردة، وهواتف جوالة، وصحون التقاط للبث الفضائي وما كان على شاكلة ذلك.
وفي الواقع لم يكن للقطاع الأمني الأسدي في تلك الحقبة خير من «البرجوازية الدمشقية الانتهازية الوصولية» لتقوم بدور الشريك «المجرب» في عملية النهب المنظم لمدخرات الفئات الوسطى السورية، إذ أن البرجوازيات الدمشقية التجارية التقليدية التي أصبحت بين عشية وضحاها كمبرادورية من العيار الثقيل، كانت تعرف تماماً الحصة الواجب دفعها «كإتاوة إلى جهاز الفساد والإفساد الأسدي» مقابل إطلاق يدها بمهمات «شفط الرمق الأخير» من مقدرات الاقتصاد السوري الإنتاجي والذي كان جله زراعياً، وتحويله إلى مستهلكات من نتاجات اقتصاد الانفتاح، وتحويل أكداس هائلة من المنتجين فيه من «مزارعين» إلى «سائقي تكاسي» يحلمون بأن ريع العمل كسائقي سيارات مأجورة سوف ينقلهم إلى حيز «حياة المدينة وبحبوحتها» دون أن يلتفتوا إلى أن جل دخلهم كان لا بد أن يذهب لسداد أقساط سياراتهم و ترقيع اهتلاكها وقطع غيارها، والأهم من ذلك الرشاوى التي لا بد من دفعها لشرطة وعسس ومخبري الدولة الأمنية الطفيلية القائمة على معادلة إطلاق يدها فساداً وإفساداً بشرط حفاظها على ديمومة النظام الأمني الذي يوفر لها ذلك، وهو ما حول جل الفئات الوسطى السورية التي كانت بالكاد تقيت أبناءها سالفاً إلى فئات من البروليتاريا الهامشية التي تجاهد لإيجاد عمل لها يمكن لها من خلاله سداد الديون والفوائد التراكمية التي أُوقعوا في شباكها في حقبة ائتلاف النظام الأمني الأسدي والبرجوازيات التجارية الشيطانية الكمبرادورية المستحدثة في سورية، والتي كان دائماً على رأس قائمتها الطويلة من الانتهازيين والوصوليين وقناصي الفرص لفيف البرجوازية التجارية الدمشقية الخبير بفن «تحليل السحت والحرام»، والضحك على ذقن ذاك الذي في السماء بفتاوى وعقود خلبية يتم من خلالها تحويل «الربا المحرم» والذي لا يمكن لمؤمن طاهر من أبناء «الشوام» أن يقربه إلى «حلال زلال مصفى تلفيقاً وتزويراً» بينما هو في حقيقة الأمر استغلال وحشي بربري لا يقل في بربريته عن وحشية «شايلوك اليهودي» في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير.
وفي سياق الحركة الوطنية في سورية التي اشرأبت قليلاً بعد اندثار مؤسس حكم عائلة الأسد في سورية «حافظ الأسد» عن وجه البسيطة في العام 2000، وفي المرحلة التي سبقت توطيد هيمنة خلفه وابنه بشار الأسد على كل مقاليد الدولة الأمنية السورية التي رسخها أبوه من قبله بالحديد والنار، وهي حقبة النهوض المؤقت الذي عرف مجازاً وشيوعاً بأنه «ربيع دمشق»، فقد انحصرت مشاركة «الدمشقيين- الشوام الأقحاح» في الحراك الاجتماعي والثقافي والمدني آنذاك من خلال عدد من المخبرين والبصاصين المنمقين بلبوسات ثقافية وإبداعية واهية وشفيفة لا يمكن أن تخفي عوارهم وبؤسهم الحضيضي فكرياً ومعرفياً، بالإضافة إلى مجموعة من الشخصيات التي كان من الممكن أن تعد على أصابع اليد الواحدة أو اليدين الاثنتين كحد أقصى من المستنيرين الفنانين أو الأكاديميين الذين كانوا على الرغم من مرجعيتهم «الشامية» غير منخرطين في البنية التجارية السمسارية الريائية للبرجوازية الدمشقية المتداخلة عضوياً مع منظومة الفساد والإفساد للدولة الأمنية السورية.
وعندما اندلعت الثورة السورية في آذار/ مارس من العام 2011 لم يكن من البرجوازيات الأخرى في المدن السورية الطرفية خارج العاصمة دمشق إلا الانخراط التدريجي في جسد ولحمة الانتفاضة الشعبية الكليانية في الجسد الوطني السوري لكون تلك البرجوازيات لم تكن قادرة على الانسلاخ عن مفاعيل تآثرها وتعشق مسنناتها الاقتصادية والاجتماعية مع نسيج المجتمعات الزراعية العشائرية التي تكونت في رحمها وظلت تعمل تاريخياً تحت مظلتها، وهو ما كان الحال في سيرورة الانخراط التتابعي لكل البرجوازيات المدينية في نسيج الثورة السورية بدءاً من درعا ودير الزور وحمص وحماة وصولاً إلى آخر محطاتها النوعية في حلب، دون أن يَقْرَبَ ذلك الطوفان من حياض وسور «قلعة البرجوازية الشامية» في العاصمة السورية، إذ وجد الدمشقيون أنفسهم حينئذٍ بأنهم مستفيدون ومشاركون ومنخرطون في بنيان الفساد والإفساد، ومتنفعون من مفاعيل الدولة الأمنية التي انتفض في وجهها أبناء الشعب السوري من «الفلاحين» كما يروق «للشوام» تسميتهم، وهو ما يعني انتفاء أي محفز ذرائعي انتهازي يمكن أن يحضهم على التضحية بمكتسباتهم من أجل الانخراط في ثورة هدفها الأساسي تهشيم بنيان الفساد والإفساد الذي يمثل أحد أهم مداخلهم لتعظيم «تجارتهم» وثرواتهم وعقاراتهم وما كان على شاكلتها من أهداف البرجوازيات بأشكالها الكبيرة والصغيرة. وبناء على ذلك كان هناك قرار جمعي غير معلن اتخذته البرجوازية «الشامية» يتمثل في لعب دور «المتفرج الصامت» على مخاض الثورة السورية وصراع الأفرقاء فيه دون التضحية بأي من مكتسباتهم وثرواتهم و«ليراتهم» وواجهات محلاتهم وشركاتهم التجارية التي ظلت مفتوحة على مصاريعها بينما أغلقت كل نظائرها في المدن السورية الثائرة، والأهم من ذلك كله عدم المساهمة بأي قطرة دمع أو دم في سياق انتفاض الشعب السوري المظلوم انطلاقاً البديهية «الشامية الخالصة» التي مفادها بأن «ألف أم تبكي ولا تبكي أمي» كما أشرنا إليه آنفاً.
وفي الحقيقة فإن خذلان «الشوام» لباقي أطياف الشعب السوري المظلوم لم تكن المرة الأولى في خيانته للثورة السورية العارمة في العام 2011، فقد سبقتها خيانة لا تقل عن خليفتها خزياً تمثلت في خيانتهم للشعب السوري الذي انتفض في مطلع الحقبة الأسدية السوداء على سورية في العام 1982، ووقفتهم متفرجين على جحافل النظام السوري ومرتزقة جيشه وهي تذبح وتنكل وتغتصب وتقطع أجساد أبناء مدينة حماة أساساً، وبدرجة أقل في حلب ودير الزور، على الرغم من أن المحرك الأساسي للثورة آنذاك كان «الإخوان المسلمون»، والذين لا يبتعدون كثيراً في نهجهم الفكري الظاهري عن نموذج الوعي الديني الانغلاقي القروسطي التزويقي الناظم لنهج و سلوك «الشوام» أنفسهم.
وفي سياق تغريبة مئات الآلاف من السوريين عن أرضهم المحروقة وبيوتهم المهدمة أو المستولى عليها من قبل مليشيات ومرتزقة «الولي الفقيه» هاربين إلى دول الجوار ومنها إلى أوربا إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، والتي كان من المحتمل أن يبحثوا في بلدانها عن مستقر لهم بدل التحول إلى نموذج جديد من اللاجئين الفلسطينيين المظلومين في مخيمات مزمنة أصبح عمرها عقوداً طويلة، لعبت «الطبقات الوسطى الميسورة» من «الشوام»، والتي لم تكن في قمة الهرم الاقتصادي التجاري «الشامي» دوراً معيقاً وسلبياً أعاق إمكانية وصول الكثير من السوريين المعذبين إلى بر أمان حقيقي يستحقونه في أوربا، عبر تدفق أعداد كبيرة من تلك «الطبقات الوسطى الشامية»، والتي تلمست بقرون استشعارها الذرائعية، بأن محصلة خسائرها بما سوف تتركه وراءها إن قررت الارتحال عن سورية، والتلبس والتنكر على «صورة المعذبين السوريين الأحقاق» في تغريبتهم ولجوئهم إلى القارة الأوربية، سوف تنتج ربحاً على المدى البعيد من خلال إدراك «مستقبل أفضل لأولادهم في أوربا» على حد التعبير الشائع لكل «الأرذال» الذين لم يناهضوا النظام السوري مرة في حياتهم، ولم يخرجوا في مظاهرة سلمية أبداً، ولم يهتفوا بكلمة حق تنفي عنهم صفة «الشيطان الأخرس» اللصيقة بهم، ولم ينكل بهم في دهاليز وسراديب الفروع الأمنية، ولم يصفع خدودهم المتوردة وكروشهم المنفوشة «سحتاً ورياءً» كرباج جلاد أمني في عديد الفروع الأمنية السورية التي لا تعد ولا تحصى. وهو الخيار الذي سخر له الكثير من أبناء الطبقات الوسطى الشامية مدخراتهم الوفيرة، والتي لا يمكن مقارنتها بمدخرات «الفئات الفلاحية» المظلومة في باقي نسيج الحطام السوري، مما أدى إلى كارثة إنسانية بكل ما تحمل الكلمة من معنى تمثلت في زيادة صاروخية وفلكية لتكاليف الهجرة والارتحال من الهشيم السوري إلى القارة الأوربية، جعلت من تلك الرحلة حلماً مستحيلاً على الملايين من الذين يستحقون «حق اللجوء» إلى أوربا وتركتهم عالقين في مخيمات مزرية بائسة في دول الجوار السوري، بينما تمكنت الطبقات الوسطى الشامية، ومن كان على شاكلتها من إدراك أهدافها من خلال تحويل مسارب الهجرة و«التهريب» إلى أوربا إلى «مزادات بازارية» البقاء والنجاح فيها «للأكثر مالاً ومداهنة»، وليس «الأكثر استحقاقاً بحق اللجوء والإعانة» على كربه ومصابه العميم المهول.
وأغلب الظن الذي يمليه استقراء التاريخ واستبصار مآلاته بسوابقه بأن «الشوام» سوف يستمرون بلعب دور سلبي وانتهازي وصولي في سياق مآلات الوضع السوري الكالح لحرصهم الأوحد على «تجارتهم» دون أن يعنيهم أن تكون «خاسرة» بالمنظار الأخلاقي كحد أدنى، وأن يكون ارتكاسهم تجاه جلجلة ومعاناة أبناء الوطن السوري الذبيح وصمة عار بحق أي من «يتفاخر» بالانتساب إلى عديدهم لا بد أن تبقى راسخة وموثقة في عقل ووجدان وخاطر أي مراقب حصيف متعقل موضوعي وقارئ للتاريخ السوري الأليم، ومخاضات وقروح شعبه المستضعف المظلوم المقهور.



#مصعب_قاسم_عزاوي (هاشتاغ)       Mousab_Kassem_Azzawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف تتفاعل مورثات وخلايا البدن مع المؤثرات البيئية؟
- إرهاصات ومفاعيل حرب الخليج الأولى
- مفاعيل الضغط والتوتر النفسي على الصحة العقلية والبدنية
- عوار الأمم المتحدة والقانون الدولي
- مفاتيح جوهرية لترقية الصحة
- جرائم الإبادة الجماعية
- الميل الطبيعي للسَّلْمِ والسلام
- هل الأدمغة الأكبر حجماً أكثر ذكاءً؟
- الحروب والخلافات البينية العربية
- سبل التكيف المثلى مع شيخوخة الجسد
- مفاعيل النظام العالمي الأشوه
- دور السموم البيئية في سُعَارِ الوباء الكوني لبدانة الأطفال
- العرب ولعنة النفط
- آفاق الإعلام البديل
- نسق الاتحاد الأوربي وترياق الفوات العربي
- مقاربة نقدية لطوفان الإدمان على المخدرات
- الفُصام والاكتئاب وخلل الكيمياء العصبية الدماغية
- بصدد ملامح العقد الاجتماعي والمجتمع المنشودين
- هل يمكننا مقاومة الشيخوخة؟
- بصدد التفارق بين المثقف والكاتب


المزيد.....




- أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط ...
- -أمل جديد- لعلاج آثار التعرض للصدمات النفسية في الصغر
- شويغو يزور قاعدة فضائية ويعلن عزم موسكو إجراء 3 عمليات إطلاق ...
- الولايات المتحدة تدعو العراق إلى حماية القوات الأمريكية بعد ...
- ملك مصر السابق يعود لقصره في الإسكندرية!
- إعلام عبري: استقالة هاليفا قد تؤدي إلى استقالة رئيس الأركان ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: الولايات المتحدة تبارك السرقة وتدو ...
- دعم عسكري أمريكي لأوكرانيا وإسرائيل.. تأجيج للحروب في العالم ...
- لم شمل 33 طفلا مع عائلاتهم في روسيا وأوكرانيا بوساطة قطرية
- الجيش الإسرائيلي ينشر مقطع فيديو يوثق غارات عنيفة على جنوب ل ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصعب قاسم عزاوي - الدور السلبي للبرجوازية الدمشقية في سياق الثورة السورية