أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - ثقافة اللاّعنف















المزيد.....



ثقافة اللاّعنف


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 7069 - 2021 / 11 / 6 - 13:29
المحور: الادب والفن
    


د. عبد الحسين شعبان

محاضرة ألقيت في 22 أيار/ مايو 2021 بدعوة من منتدى الحوار المدني الديمقراطي

تمهيد وأسئلة:
إن قضية اللاّعنف قضية واسعة ومتشعّبة ومتداخلة محلياً ودولياً وفي جوانب الحياة ومسالكها المتنوعة، ولذلك سيقتصر حديثنا بالجانب الثقافي في قضية اللاّعنف.
سنتناول في هذه المحاضرة عدد من المحاور وهي محاور متفاعلة ومتراكبة مع بعضها، لدرجة الاشتباك أحياناً.
أسئلة اللاّعنف
ومن خلال ذلك نطرح الاسئلة التالية:
- هل اللاّعنف فلسفة ؟
- هل هو نظرية ؟
- هل هو آيديولوجيا ؟
- هل هو غاية أم أنه وسيلة ؟
- أم أنه يجمع كلّ هذه الصفات ؟
- فما هو المعنى الذي نقصده باللاّعنف ؟
- وما هو المبنى الذي نتحدّث عنه في قضية فلسفة اللاّعنف؟
- هل اللاّعنف فكرة غربية أي منتج غربي؟ خصوصاً وأن الكثير من الصرعات أو الصيحات، أو النماذج التي يجري الحديث عنها غالباً ما تُتّهم بأنها صناعة غربية، فهل حقيقة اللاّعنف هي صناعة غربية ونتاج فكر غربي خالص؟ أم أنه منتج شرقاني أو شرقي إلى حدود غير قليلة ؟ أليس اللاّعنف هو منتج إنساني بغض النظر أين تكون جغرافية هذا المنتج غربية أم شرقية ؟

اللاّعنف بين الوسيلة والغاية
- كيف يمكن الحديث عن اللاّعنف في غاياته وفي وسائله ؟
- ما العلاقة بين الوسيلة والغاية ؟
- أثمّة تطابق أم توافق أم تعارض ؟
- وكيف السبيل لإحداث التوازن والتساوق بين الغايات والوسائل ؟

ثم سنأتي على الأنساق الثقافية الخاصة باللاّعنف بجوانبها المختلفة وقد حدّدتها بـستّة أنساق لللاّعنف
وسنتحدث في فقرة قبل الاخيرة عن اللاّعنف بين المستحيل والممكن.


اللاّعنف والتغيير
لنتوقف قليلاً عند فكرة اللاّعنف ومسألة التغيير في مجتمعاتنا بشكل خاص.
يوم 10 تشرين الثاني 1998 ،أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة "العقد الدولي لإعلاء ثقافة اللاّعنف والسّلام لصالح أطفال العالم"، وهي بادرة ايجابية ابتدأت من الأمم المتحدة التي من مسؤوليتها حماية السلم والأمن الدوليين، ونبذ استخدام القوّة في العلاقات الدّولية كما جاء في ميثاقها، واللجوء إلى الوسائل السّلمية لحلّ المنازعات بين أعضائها، ولذلك فإن الأمم المتحدة بتبنّيها فكرة من هذا القبيل، يعتبر تطوّراً كبيراً على صعيد نشر ثقافة اللاّعنف وإعلاء قيمته.
وقد دخلت هذه الفكرة حيّز التنفيذ منذ العام 2000 واستمرت لنحو 10 أعوام، حيث بوشر بالعمل فيها من مطلع العام 2010.
القرار الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، دعا إلى اتخاذ التدابير لتعليم ممارسة اللاّعنف والسّلام على المستويات كافة، في جميع المجتمعات، لا سيّما في المؤسسات التعليمية. وهذه الفكرة لا بد أن تأخذ مداها في السنوات المقبلة بعد أن شهد العالم حروباً ليس أقلّها حربين عالميّتين، راح ضحيتهما أكثر من 80 مليون إنسان، ودمّرت البنى التحتية للعديد من دول العالم، وتوقّفت تنميتها، كما شهد العالم بعد ذلك حروباً وصراعات، وسالت دماء غزيرة على مدى عقود من الزمان بعد الحرب الباردة وعند انتهائها في أواخر الثمانينيات .
لقد استلهمت البشرية أفكاراً جديدة بالرغم من قيمتها المعنوية، لكنها لم تحول دون استخدام العنف واستخدام القوّة في حلّ النزاعات، حتى بعد أن وقعت حروباً طاحنة، على سبيل المثال حرب المئة عام في أوروبا، والتي جاء بعدها حرب الثلاثين عام التي انتهت بصلح ويستفاليا عام 1648 وكان هذا الصلح مقدّمة لإحلال سلام في أوروبا، حيث أعلنت فيه الدول الموقّعة على الصلح استعدادها للتعاون فيما بينها، واحترام سيادة كل منها لبعضها البعض، وحماية المصالح المشتركة، وفتح الأسواق والحدود لكي تعبر منها البضائع والسلع، مع الأخذ بعين الاعتبار سيادة كل دولة في حدودها الجغرافية بما لا يؤدي إلى اختراقها من جانب الدول الاخرى. وكان هذا بدايات تشكيل ما سمّي بالدولة القومية.

العنف ينتج العنف
لو رددنا على العنف بالعنف ماذا ستكون النتيجة ؟
سيكون العنف سائداً وحيداً لا يمكن بأي شكل من الاشكال ردّه، لأن العنف سيولد العنف، والعنف المضاد سيولد عنفاً مضاداً وهكذا...
نستعير هنا قولاً لبوذا يقول: "إذا رددنا على الحقد بالحقد، فمتى سينتهي الحقد ؟"
بمعنى أنه إذا رددنا على العنف بالعنف إذن متى سينتهي العنف؟
كيف يمكن أن نضع حدّاً للعنف باستخدام وسائل لاعنفية ؟
بهذا المعنى أن الفكرة أخذت تتبلور بالتدريج عبر بعض الممارسات اللاّعنفية التي أثبتت جدواها سواء في السابق أو في الحاضر. ومع ذلك أقول أن الفكرة ما يزال يكتنفها الغموض، وما تزال الفكرة ملتبسة وعليها أحكام مسبقة، سواءً بالتنديد أو التأييد، وهي فكرة قابلة للنقاش ومثيرة للجدل في ظل عالم يتّسم بسيادة "مبدأ القوّة" من الناحية العملية وليس "مبدأ الحق".
هناك حديث عن أنواع من العنف. هناك عنف الأقوياء، وهناك عنف الضعفاء. ولذلك لا بد من الحديث عن العنف كظاهرة وهذه الظاهرة خاضعة للنقاش اليوم أكثر منها قبل ثلاثة أو أربعة عقود من الزمان على أقل تقدير، خصوصاً وأن هناك حديث عن انتقال سلمي، عن تحول ديمقراطي سلمي، وإن كان هذا التحول السلمي اعترضته وتعترضه وستعترضه عقبات وتحديات عنفية بالدرجة الأساسية، وهذه مسألة مهمة لا بدّ من وضعها في الحسبان عند الحديـث عن ثقافـة اللاّعنف، باعتبـاره فريضة واجبة الأداء للوصول إلى مستوى إنسـاني يليـق بالبشر.

مرتكزان لثقافة اللاّعنف
ثقافة اللاّعنف تقوم على مرتكزين أساسيّين:
1ـ احداهما تاريخي : لأن القاعدة السائدة في التاريخ هي العنف، وجميع الأيديولوجيات زيّنت العنف باعتباره محايث للعمل الإنساني وملازم له. أي أن العنف ضرورة وقاعدة سائدة في علاقات البشر بين بعضهم البعض، وبين الدول بعضها البعض.

2ـ وثانيهما استراتيجي وهو بعد أيديولوجي، وهذا الأخير يعتبر العنف ضرورة وحاجة للتطوّر، وهذه الضرورة جاءت على لسان فلاسفة ومفكرين كبار أيضاً .
ولهذا نحن نتحدّث في معاكسة للتاريخ ومناهضة لما هو استراتيجي، سواءً بجانبه التاريخي لإظهار عكسه، أو لتأسيس فلسفة استراتيجية لاعنفيّة، وهذه لن تتم الاّ بالإرادة الواعية وبالعمل، وبإرادة المساواة وإرادة العدالة التي لا يمكن أن تتحقق الاّ بإحداث تغيير في موازين القوى، بحيث تتحوّل الطاقات اللاّعنفية بمواجهة الطاقات العنفية، وتتمكّن هذه القوى اللاّعنفية، التي أطلق عليها الصديق مقدّم هذه الندوة بأنها "جزء من القوّة الناعمة" تتحوّل إلى قوّة كبرى يمكن أن تؤثر في مجرى الصراع وتحويله من صراع عنفي إلى صراع لا عنفي، بحيث ينتصر اللاّعنف على العنف في معاكسة للمسار التاريخي، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه لدى كل انسان طاقات أو كوامن لاعنفية، حتى إذا كان لديه شحنات عنفيّة، ولديه أيضاً خزين لا عنفي، ممكن أن يظهر في لحظة ما، ويتبلور في طاقة ما، بحيث يمكن جمعه لكي يؤدّي الدور المطلوب منه.

غاندي وثمن الانتصار
لقد دفع غاندي، وهو رائد من روّاد الفلسفة اللاّعنفيّة، أو فلسفة المقاومة المدنيّة، حياته ثمناً بعد أن حقق انتصاراً على أعظم امبراطورية في العالم وهي بريطانيا، حين تقدّم أحد الهندوس المتطرّفين ليطلق النار عليه ويُرديه قتيلاً وهو في ذروة مسعاه للحيلولة دون تقسيم الهند . ومعلوم أن الهند قسّمت إلى الهند والباكستان، وحاول أن لا يؤدي هذا التقسيم إلى احتدام طائفي أو ديني، إذ من المعلوم أن القسم الأكبر من المسلمين كانوا في الباكستان، في حين كان القسم الأكبر من الهندوس موجود في الهند، ولكي لا يصبح الصراع دينياً وطائفياً فيما بعد، حاول غاندي أن يرمي بثقله في هذا الميدان، لكن مسعاه الايجابي المتفاني جوبه من جانب متطرّف هندوسي.



عبد الغفّار خان "غاندي المُسلم"
لم يكن غاندي وحده، إنما كان هناك أحد القادة الكبار اللاّعنفيين الذي يمكن الحديث عنه بالتفصيل وهو عبدالغفّار خان الذي التقى مع غاندي، ونسّق معه أيضاً في موقفهما من إضراب الملح العام 1930، حيث قادا تحرّكاً شعبيّاً ضدّ بريطانيا "المحتلّة" تحت عنوان رفض دفع "ضريبة الملح". وعبد الغفّار خان مُسلم يرفض التقسيم أيضاً، ورَفض انشطار الباكستان عن الهند وقد دفع ثمن مواقفه هذا أيضاً ثلاثين سنة من حياته في السجون بسبب مواقفه اللاّعنفية.
عبد الغفار خان، أسّس جيشاً لا عنفياً قوامه اكثر من 100,000إنسان لا عنفي. آمنوا باللاّعنف، وبصدور عارية واجهوا البريطانيين الذين حصدوهم حصداً، وكانوا يتسابقون لمواجهة الرّصاص لكي يقدموا حياتهم إيماناً بفكرة اللاّعنف. سُجن عبد الغفار خان أيام الاحتلال البريطاني للهند، وسُجن في الباكستان فيما بعد وقضى بقيّة حياته بالإقامة الجبرية ،وحين توفي في العام 1989 نقل جثمانه إلى أفغانستان، وهو من البيشتون وهم على الحدود الباكستانية ـ الأفغانية، بمسيرة تشييعيّة كبرى قطعت لمئات الكيلومترات عبر الحدود، ليُحتفى به إحتفاءً كبيراً في أفغانستان أيضاً ، ومنحته الهند جائزة كبرى لم تُمنح إلاّ للهنود في حين هو من حيث الجنسية لاحقاً اعتُبر باكستانياً، لكنه كإستثناءٍ منح لشخصية إستثنائية ولوضع إستثنائي، هذا ما حصل لعبد الغفار خان.

إتّجاهات اللاّعنف الخمسة
خمسة اتجاهات يمكن أن نحدّدها إقتفاءً لأثر الفكرة اللاّعنفية
دائماً الحديث عن اللاّعنف يثير إلتباساً وغموضاً كما أشـرنا، لـذلك توزّع النظر إلى فلسـفة اللاّعنف عبر اتجاهات خمسة:

ـ الإتجاه الأول: هو الإتجاه الرافض أو الإنكاري .
وهو الذي اعتبر فكرة اللاّعنف دخيلة ومستوردة وهي صناعة غربية خالصة وبدعة لتحقيق مآرب سياسية هدفها تحبيط عزائم الشعوب المقهورة والمسحوقين المظلومين لكي لا يثوروا على ظالميهم وحكّامهم، أو لكي لا يطلبوا الاستقلال والتحرر من مغتصبيهم. ومثل هذا التفسير بواقع الحال لا علاقة له بالفلسفة ذات النزعة الإنسانية الخاصة باللاّعنف.
الفلسفة اللاّعنفية تدعو للتمسك بالحق والمقاومة في سبيل إحقاق هذا الحق، لكن هذه المقاومة تتّخذ طابعاً سلمياً مدنياً لا عنفياً وليس طابعاً عنفياً. ونحن كشعوب ربما نحن معنيون أكثر من غيرنا بثقافة اللاّعنف، لاسيّما العيش بسلام واختيار طريق التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بحريّة ودون إملاءات خارجية ودون استبدادات داخلية اذا جاز التعبير.

ـ الإتجاه الثاني : هو الإتجاه الرّيادي الإنعزالي .
ما علاقة الرّيادة بالإنعزال ؟
هذا الإتجاه يرفض فكرة اللاّعنف لأنه يقول أنها غير موجودة في تاريخنا وفي شرائعنا الدينية، واعتماد فلسفة اللاّعنف سيقود إلى التحلّل وانعدام الغيرة على الدين، وأن في الشريعة، لا سيّما الشريعة الإسلامية هناك إجابات على كلّ شيء وهي صالحة لكلّ زمان ومكان، فما الحاجة إذن لفلسفة جديدة نضيفها مُبتدَعة ومُخترعَة ومُستورَدة من الخارج نُطلق عليها اللاّعنف ؟
لدينا حسب هذا الإتجاه الرّيادة ولدينا الأفضلية ولدينا التميّز على جميع القوانين الوضعية. وهذا الإتجاه يُرجِّع كل شيء إلى الماضي أي أن كل ما في الحاضر موجود لدينا في الماضي. ولذلك لا حاجة لنا لمواكبة التطوّر الكوني إستناداً إلى القاعدة الفقهيّة التي يقول بها الإسلام قبل غيره "تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان"، ولذلك يظهر التناقض في هذا الإدّعاء الذي يقول نحن لدينا كل شيء وأن بضاعتنا ردّت الينا.

ـ الإتجاه الثالث : هوالإتجاه الإنتقائي والتوفيقي
يحاول أصحاب هذا الإتجاه التوليف بين مفاهيم متعارضة ، لا سيّما بإهمال نقاط ساخنة وحسّاسة في موضوع اللاّعنف. هناك رغبة في الإصلاح، لكن يجري انتقاء بعض الأفكار اللاّعنفية ووضعها "منزلة بين منزلتين"، أي لا هي عنفيّة ولا هي لاعنفيّة. يريد أن يأخذ قليلاً منها ويريد أن يواخيها مع أفكار عنفيّة سائدة واعتاد على قبولها في فلسفات وفي آيديولوجيات قائمة.

ـالإتجاه الرابع : هو إتجاه اغترابي ينطلق من نقد للإتجاهات الثلاث المذكورة، ولكن بالمقلوب حين يعتبر التمسّك بالتراث والخصوصيّة خارج نطاق الحداثة ومناقض لها، وأن أي تفكير خارج نطاق الحداثة هو محاولة عقيمة ويائسة، وعلينا كمجتمعات شرقية، عرب أو مسلمين أو غير ذلك، اذا أردنا السير في طريق التطوّر، الإقرار كليّاً بمفاهيم الحداثة من دون زيادة أو نقصان بما فيها أفكار اللاّعنف "المجرّدة. هكذا بإختصار يحاول أن يصادر التاريخ والتراث، وكل ما بني في المجتمعات من تراكم وتطوّر تدرّجي بتلاقح حضارات وثقافات، ويلغيه باعتماده فقـط على فكرة الحداثـة وربما ما بعد الحداثـة إنطلاقـاً من فكرة العولمة التـي فيهـا كل شيء.

ـ الإتجاه الخامس : هو الإتجاه الواقعي
إتجاه حضاري يزاوح ما بين الحداثة والتراث وما بين المعاصرة والأصول والخصوصية والشمولية، مع الآخذ بعين الاعتبـار التطـوّر التاريخي الكوني والإنفتاح والتفاعـل معه للإرتقـاء بفكرة اللاّعنف لتصبح فلسفة عمـل، أي أنهـا منهـج حيـاة والبحث فـي تراثنـا، بـل التنقيب في التـراث بمعـول جيولوجي عن تجـارب لاعنفية عرفتها مجتمعاتنا.
علينا أن نفكر كلّ منا من موقعه في مجتمعاتنا الصغيرة والأكبر عن نماذج لاعنفيّة، ونستخدمها في رؤية الحاضر واستشراق المستقبل. هل توجد نماذج لاعنفية ؟ كيف نكبّر (نعظّم)هذه النماذج اللاّعنفية، نعطيها نفحة إنسانية بحيث تكون مرشداً لنا في العمل ونستفيد منها عند الحديث عن قضية اللاّعنف بقراءة الواقع برؤية جديدة تستند إلى فكرة اللاّعنف.

نعتقد أن التلاقي الحضاري والتفاعل الإنساني والتطوّر التاريخي للأمم والشعوب والجماعات، لا يحصر الفكر في أمّة من الأمم أو شعب من الشعوب أو قارة من القارات أو تيّار فكري أو اجتماعي واحد، مثلما هي فلسفة اللاّعنف، عبارة عن تزاوج وتلاقح وتطوّر طويل الأمد يمتدّ جذوره عميقاً في التراث الإنساني ويجد صورته الحالية بفكرة الحداثة، مع وجود خلفيات لفكرة اللاّعنف في فلسفات الكثير من الأديان والأفكار والأيديولوجيات، ونظن أن هذه قضية مهمة وأساسية نحتاج أن نتوقف عندها لأنها مسألة تتعلق بصلب فلسفة التعاون وبصلب أفكار التعاون التي يجري الحديث عنها.

العنف والشجاعة
إن فكرة اللاّعنف باعتباره وسيلة ناجعة لحل مشاكل المجتمع، تضع أسئلة مقلقة أمام الباحث
- كيف يمكن الحديث عن اللاّعنف في إطار ما هو سائد من افكار عنفيّة ؟
- الا يُعتبر ذلك استسلاماً فكيف تواجه العنف باللاّعنف؟
- ثم أليست تلك فكرة مثاليّة وخياليّة ناجحة عن ترف فكري وتأمّل نظري منفصل عن الواقع؟
- هل يعتبر العنف دليل شجاعة أم علامة من علامات الجبن ؟
- هل الذي يمارس العنف شجاع أمانه جبان ؟
- ما هي العلاقة بين العنف وبين تدمير الآخر؟ وهل تدمير الآخر يعني نصراً أم تدميراً؟
- هل القضاء على الآخر يعني نصراً ام تدميراً ؟
- هل تدمير الآخر لا يشمل تدمير الذات ؟

لو أنك تمارس العنف ضدّ الآخر تستطيع أن تحطّمه بفعل توازن القوى أحياناً وبفعل خيارك باللّجوء إلى إقصاء الآخر، لكنك أيضاً ستدمّر نفسك، أي ستلغي جزء كبير من إنسانيتك عندما تقوم بممارسة العنف. أنت تدمّر الآخر لكنك ستدمّر إنسانيتك بتدميرك للآخر أيضاً.

هناك سؤال آخر ربما يوجّهه من يستمع إلى هذه المحاضرة وهو:
- هل اللاّعنف هو دليل عدم القدرة على استخدام العنف ؟
اذا كان الأمر كذلك لجبن ما أو لعدم كفاءة ما، أو لعدم قدرة ما، فسيكون دليل ضعف واستسلام. ولكن ماذا لو كان بإمكانك أن تستخدم العنف وتلجأ إلى اللاّعنف، هل سيكون دليل ضعف واستسلام؟ أم دليل قوة وشجاعة ربما استثنائية، وهي غير موجودة لدى من يقوم بممارسة العنف.

لكن سيرد سؤال وهو سؤال مشروع :
- أليس تعالياً منك يا شعبان، وعدم واقعية وأنت تتحدّث عن اللاّعنف في حين قبل يومين كانت غزّة تقصف يومياً بالمدافع والطائرات وتدمّر وتهدم المنازل والعمارات على رؤوس ساكنيها، وتُقتل النِّساء والأطفال وتُهدر الحقوق؟ أليس هذا نوعاً من التعالي على الواقع؟ أم ثمّة رؤية أخرى يمكن أن تطرحها؟

- كيف تكون فكرة اللاّعنف فكرة واقعية وليست فكرة مثالية أو اقرب إلى اليوتوبيا ؟

اللاّعنف واليوتوبيا
يمكن القول أن في فكرة اللاّعنف قوة ذاتية كامنة، هذه القوة ليست قوة العنف، إنها قوة روحية أو روحانية. نحن بحاجة في علاقاتنا الشخصية اليومية، في مجتمعاتنا، في صراعاتنا، أن تسود هذه القوة الروحانية التي هي قوة اللاّعنف، أنها أقـل خطورة وأقـل تدميراً من قوّة العنف وقـد يكـون خياراً راجحاً في المستقبل.
وهنا نسأل:
من الذي يميل إلى العنف؟ الضحية أم الجلاّد، المستلب أم الطاغية؟ هل المحتلّ هو الذي يلجأ إلى العنف، أم الذي احتلّت أراضيه سيضطر للدفاع عن نفسه؟ اذن هناك فارق كبير بين من يستخدم العنف لغرض الهيمنة والتسيّد، وبين من يلجأ إليه دفاعاً عن النفس وضدّ الإستلاب، وهو ما ينبغي أن تنتهي مهمّته لاحقاً، بحيث تسود علاقات اللاّعنف والسلم والتفاهم.

الجلاّد هو الذي يمارس العنف لانتزاع ما يريد من الضحية لإذلالها ونزع عقيدتها، لإجبارها على الخضوع والخنوع. قوّة الضحيّة في صمودها لا عنفيّاً، في مُثُلِها. الضحيّة قويّة بالمُثُل، بقيمة الحريّة، بالعدالة، بالمساواة، وبالدعوة للشراكة والمشاركة، قوّتها في تحدّي العنف.
العنف سيلوّث المبادئ الإنسانية النبيلة. لا يوجد دين، ولا توجد أيديولوجيا، ولا أي فلسفة أو فكرة تستطيع أن تعفي نفسها من إرتكاب المعاصي فيما إذا لجأت إلى العنف ضدّ الآخر لبسط سلطانها بزعم إمتلاك الحقيقة، إذ لا عصمة من إرتكاب الجرائم باسم المبادئ، مهما ادّعت من نبل وإنسانية اذا ما استخدمت وسائل عنفية خسيسة لإذلال الضحايا، أو في محاولة لإستخدام هذه الوسائل العنفية لأهداف تدّعي أنها أهداف شريفة ولغايات شريفة، سواء ضدّ الشعوب التي تريد إخضاعها، أو ضدّ الجماعات الثقافية، أو ضدّ الأفراد المختلفين.

ربما الشائع الغالب هو العنف لكن النادر الضائع هو اللاّعنف. نحن نبحث عن النادر الضائع ليصبح بالتدرّج سائداً، وكلّما ارتقت إنسانية الإنسان واشرأبّت نحو المُثُل والقيم العليا، كلّما ازداد رصيد اللاّعنف وكبُر معسكر اللاّعنفيين باتجاه تحقيق الأهداف والمُثُل العليا.

هل يمكن مواجهة العنف بالعنف؟
نعم يمكن مواجهة العنف بالعنف، وقلنا سابقاً أن "العنف الرجعي" يقابله "العنف الثوري". ولكن ماذا كانت النتيجة؟ تدمير المجتمعات بعنف وعنف مضاد، ثم عنف ثورة مضادة، وهكذا كانت مسلسلات من العنف والإنقلابات العسكرية، والعنف الذي استُخدِم في مجتمعاتنا كان عنفاً دموياً إلى حدود كبيرة.
إذا استخدمنا العنف بالعنف لتحقيق الأهداف، سنكون أمام وسيلتين لا اختلاف بينهما، الجلاّد سيمارس العنف والضحيّة ستردّ بالمثل وهناك عنف مضاد، وربما يدخل طرف ثالث وطرف خارجي لاستخدام العنف بتأجيجه لكي يستمر النزاع عنفياً بين الضحايا والجلاّدين فيستمر التدمير ويعمّ.

أستطيع القول، رذيلتان لا تنجبان فضيلة، إذا كان العنف رذيلة فبمقابلته بالعنف رذيلة أخرى، ورذيلتان لا تنجبان فضيلة، وجريمتان لا تصنعان سلاماً، وظلمان لا يولِّدان عدلاً. من يقوم بقتل وقتل مضاد وقتل الآخر وهكذا... سيكون المجتمع كلّه مقتول، والقتل لا يصنع العدالة. الذي يصنع العدالة هو العدالة، العدالة هي التي تصنع العدالة، والسلم هو الذي يصنع العدالة. ولذلك عنفان لا يولّدان سلاماً.
من عِبر التاريخ أن من يحكم بالعنف ستكون الحصيلة هزيمة العدالة وهزيمة الحق وهزيمة السلام.
بالعودة إلى كتاب ميكافيلّي، والكتاب صدر قبل أكثر من خمسمائة عام، إحتفلت ايطاليا بالعام 2013 بمرور خمسمائة عام على كتاب ميكافيلّي "الأمير"، هو الذي أدلج لفلسفة العنف فقد كان الإفتراق مثيراً، عندما اعتبر الغاية تبرر الوسيلة. أيقتضي إذن علينا ونحن نتحدث عن اللاّعنف توحيد الوسيلة بالغاية ؟

شخصيّات لاعنفيّة
اذا اردنا إعادة السؤال هل أن العنف منتج غربي؟ فعلينا إستعراض بعض الشخصيّات اللاّعنفية
دعونا نسمّي عدداً من الاسماء اللاّعنفية،

ـ تحدثنا عن غاندي الهندي الهندوسي، المهاتما غاندي الذي انتصر على بريطانيا وحقق استقلال الهند بالوسائل اللاّعنفية منذ اضراب الملح عام 1930 وقبل ذلك، وصولاً إلى أن بريطانيا اضطرت للإنسحاب. كان تشرشل يقول: سنستخدم العنف حتى آخر جندي هندي. لكن بريطانيا العظمى هُزِمت بالصدور العارية التي واجه بها غاندي وأعوانه المحتلين البريطانيين.

ـ وتحدثنا عن عبد الغفار خان الهندي الباكستاني الأفغاني وهو أحد رجالات المقاومة المدنية السلميّة اللاّعنفية. وهما آسيويان أحدهما هندوسي والآخر مُسلم ولا علاقة لهما بالبضاعة الغربيّة المصدّرة حسب بعض الآراء.

ـ ويمكن أن نتحدث عن الزنجي الاميركي من أصل إفريقي مارتن لوثر كينغ. وهو قِس قاد عملية المقاومة المدنية السلمية من أجل الحقوق المدنية منذ العام 1955 واستطاع أن يحقّق النصر في العام 1964 عندما صدرت قوانين إلغاء العنصرية وتحقيق المساواة بين السّود أو بين الزنوج من أصول أفريقية وبين الأميركان البيض. لكنه قُتل بالعام 1968، في حين أن المكاسب المدنية كانت في ذروتها وهو كان في ذروته.

ـ وكان قد سبق غاندي وعبد الغفار خان ومارتن لوثر كينغ، ليو تولستوي الروائي الشهير الذي تحدّث عن اللاّعنف وكانت رواياته خصوصاً رواية "الحرب والسلام" رواية أساسية لتبشيع صورة العنف وإعلاء صورة اللاّعنف، خصوصاً رسم المآسي الإنسانية على نحو مثير، وهو دعوة لنبذ الحروب والعنف واستخدام السلاح. إستفاد تولستوي في البداية من الحرب الروسية ـ اليابانية عام 1904 والتي انتهت بهزيمة روسيا عام 1905. واعتُبر مثل هذا الصراع بين المسيحيين والبوذيين عبثيّاً، لأن اليابانيين بوذيين في الغالب، كما أن الروس مسيحيين في الغالب. لذلك اعتُبر صراعاً دينياً كان لا بد من وقفه، مستفيداً هو ممّا وفّره في حديثه عن اللاّعنف وفي قناعاته اللاّعنفية.

ـ نستطيع أن نضيف أيضاً الجنوب افريقي نيلسون مانديلا الذي قضى 27 عاماً في سجون جنوب أفريقيا العنصرية حتى تمكّن من الوصول إلى السلطة بانتخابات لكل الأعراف ولكل الأجناس ولكل المناشيء الإجتماعية، ففاز في انتخابات ديمقراطية عام 1994، وأصبح رئيساً لجنوب أفريقيا.
لم ينتقم مانديلا حتى من جلاّديه، بل أنه التقى بأحد جلاّديه في مطعم ودعاه للجلوس معه إلى طاولة، وكان الجلاّد يرتعب خوفاً ويزداد قلقاً كلّما حاول مانديلا ملاطفته، معتقداً أنه سينتقم منه وهو رئيس للبلاد، فإذا به يجلس معه على طاولة واحدة ويتحدث معه وكأن شيئاً لم يكن، ولأن ما حصل أصبح من تراث الماضي إنطلاقاً مـن مبادىء المصالحة والعـدالة الإنتقـاليـة التي دعـاه إليهـا نيلسون مانديـلا. فالإنتقـام ليس الوسـيلة المثلى لتحقيـق العدالة.

العدالة الإنتقاليـة
يمكن إدراج فكرة العدالة الإنتقالية في إطار قضايا اللاّعنف أيضاً، أي تسوية الخلافات بالوسائل السلمية وعبر المصارحة والمصالحة وعبر الإقرار بالمسؤولية، وتحديد هذه المسؤولية عبر المساءلة، ومن خل الجبر الضرر وتعويض المتضررين من الضحايا أو أسَرِهم، وإصلاح الأنظمة القانونية والدستورية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون، وصولاً إلى تحقيق المصالحة المجتمعيّة، أي وضع حدّ للعنف والإنتقام، ولكي لا تتحوّل العدالة من عدالة هدفها تحقيق العدالة بمعناها المعروف، إلى أي شكل من أشكال العدالة الإنتقاميّة.

ـ ونود أن نلفت النظر إلى الصديق جان ماري مولر أحد فلاسفة اللاّعنف المعاصرين، وهو عضو في مجلس أمناء جامعة اللاّعنف في بيروت التي أسّسها كل من الصديقان وليد صليبي وأوغاريت يونان، وهما مفكران لاعنفيّان عملا لنحو 30 عاماً على قضية اللاّعنف وتُوِّجت جهودهما الخيِّرة في العام 2008 ـ 2009 بتأُسيس هذه الجامعة كجامعة للدراسات العليا، وهي تمنح حالياً درجة الماجستير، كما ستمنح في السنوات القادمة شهادة الدكتوراه، خصوصاً أن هناك حوالي 100 متخرّج من هذه الجامعة.
جان ماري مولر حصل على شهادة نوبل الشرق اي جائزة غاندي لللاّعنف وهي جائزة شرقية تضاهي جائزة نوبل، وهو ما سنأتي على ذكره

ديالكتيك الوسيلة والغاية (جدلية الترابط العضوي)
الغاية حسب المهاتما غاندي مثل الشجرة، اما الوسيلة فهي مثل البذرة إلى الشجرة. الغاية موجودة في الوسيلة، كما أن الشجرة موجودة في البذرة.
الوسيلة ملموسة، أمّا الغاية فهي مجرّدة Abstract ، هي بعيدة المدى، وغير منظورة أو غير ملموسة، في حين أن الوسيلة هي المعلومة والراهنة، الأمر الذي لا بدّ أن تكون هناك علاقة عضويّة بين الوسيلة والغاية، فالغايات تُطبَّق عبر الوسائل. ولذلك ستكون الوسيلة جزء من الغاية، بل أنها ستمثّل شرف الغاية. لا غايات شريفة بدون وسائل شريفة. الغايات دائماً متشابهة، كلّ الأديان، كلّ الأفكار، كلّ الفلسفات تقول بأنها تريد أن تحقق العدل والخير والمساواة الخ...
لكن ما السبيل للوصول لتحقيق هذه الغايات؟ لا بدّ من وسائل، وهنا المحكّ الحقيقي لاختبار مدى عدالة وشرفيّة هذه الغايات من خلال الوسائل. الوسيلة هي المقياس لتقييم الغايات والأهداف والأفكار والمبادئ وحتى الممارسات الدينية. لذلك هناك تلازم عضوي بين الوسيلة والغاية وتلك مسألة جوهرية وليست مسألة عابرة أو ثانوية، أي أن الوسيلة تتوحّد بالغاية، لا انفصال بينهما.
لذلك عندما نتحدّث بالسياسة لا بدّأن يكون هناك معيار، هذا المعيار هو الوسيلة، والوسيلة معيارها أخلاقي بالدرجة الأساسية. ستكون السياسة، مهما تحدّثت عن الأفكار العظيمة والنبيلة والإنسانية، ستكون كريهة وبشعة وقبيحة إذا استُخدمت فيها وسائل غير إنسانية أو وسائل غير شريفة أو وسائل خسيسة أو غير أخلاقية. لذلك من يريد أن يعمل في حقل السياسة، عليه أن يلاقح السياسة بالأخلاق، والأخلاق ستكون فاعلة ومؤثرة حين تتّحد بالسياسة.
وحسب عبد الرحمن ابن خلدون مؤسس علم الإجتماع العربي، أوأحد علماء علم الإجتماع الكبار، أو من أوائل علماء الإجتماع الكبار في العالم، يقول إن السياسة هي تحقيق الخير العام. بهذا المعنى فاعلية السياسة بمدى تحقيق غاياتها النبيلة وهذا يتم بالوسائل النبيلة أيضاً.

البديل عن العنف
ـ هل هناك بديل عن العنف ؟ هل يأتي البديل سريعاً ؟
ـ هل أن اختيار اللاّعنف يعني تخفيض سقف المقاومة أو خيار المقاومة ؟
ـ هل نحتاج إلى إدخال فلسفة اللاّعنف في مناهجنا الدراسية، بعد أن قلنا أن العنف هادم، في حين أن اللاّعنف
هو بناء، هو يَبني والعنف يدمِّر؟
ـ هل يستطيع الإنسان أن يتخطى ضعفه ويلجأ إلى خيارات اللاّعنف منتصراً على ذاته أولاً وعلى الآخر ثانياً؟ النصر هنا سيكون نصرين :
الانتصار على الذات، لأنه بإمكانك أن تستخدم العنف، لكنك لا تستخدمه وستنتصر على الآخر حين ينتصر اللاّعنف على العنف. ولهذا اطلق مارتن لوثر كينغ على اللاّعنف "قوّة المحبة"، وأسماه غاندي "القدرة على المقاومة" و "قوة الحقّ والتسامح"، وقال عنه مانديلا "أنه مصالحة وعدالة وحرية"، أما تولستوي فقد اعتبره "مساواة وتسامح".
يمكن أن نقول نعم للمقاومة ولكن لا للعنف. المقاومة نعم لها وباللاّعنف. إنها السلاح الأفضل. انتفاضة العام 1987 في فلسطين المحتلة انتصرت على المحتل الإسرائيلي باللاّعنف، انتفاضة الحجارة كان لها صدى كبير على المستوى العالمي، ودخلت حتى كلمة انتفاضة في القواميس العالمية بسبب كونها لم تستخدم العنف.
اللاّعنف بهذا المعنى هو مُنتج حضاري مدني وعصري وإنساني، وهذا هو القاسم المشترك الأعظم.

سيادة اللاّعنف (الواقع والفُرص)
يمكن الحديث عن سيادة اللاعنف كطموح مستقبلي ارتباطاً بتحويل الحاجات إلى فرص ليس على المستوى الفردي وانما على المستوى الجماعي.
فاللاّعنف يمكن اعتباره قضية قانونية بقدر ما هو قضية ثقافية وسياسية وإجتماعية ودينية في ذات الوقت.
ولذلك يمكن أن نتحدث عن الأديان ورسالة اللاّعنف بهذا المعنى.
في رواية دستوفسكي الشهيرة "الأخوة كارامازوف" يتحاور ايفان وايلوشيا وهما شقيقان بخصوص عذاب الاطفال. يقول ايفان لشقيقه بما معناه القصاص أو العقاب عندي لا يساوي دمعة من عين طفل. أوَ تقول لي (يخاطب أخيه) إن الجلاّدين سوف يتعذبون في الجحيم، أي في اليوم الآخر؟ لكن يتساءل ما جدوى ذلك ؟ إنه يطلب الغفران وزوال العذاب.
إستذكرتُ هذا النص وأنا اقرأ كتاب جان ماري مولر الذي هو بعنوان "نزع سلاح الآلهة المسيحية والإسلام من منظور فريضة اللاّعنف"، خصوصاً بعد حوار دار بين أحد الزعماء الشيوعيين الجزائريين واسمه بشير الحاج علي، حيث كان الجلاّد يعذبه، وكان بين جلسة وأخرى يرفع رأسه من المغطس، ويسمع ألماً وأنيناً وكلمات تصدر من أحد الشباب الذين يُعذَبون معه يقول: "سنعذّبهم مثلما يعذبوننا"، حتى وهو في هذه الحالة أراد أن ينشر ثقافة اللاّعنف، فأجابه على الفور وهو بعد جلسة مغطس حيث رأسه في الماء كاد أن يختنق إلى أن يرفعه الجلاّد إلى الأعلى، قال له :"وما الفرق إذن بيننا وبينهم ؟ لو مارسنا ما يمارسه الجلاّدون، سنكون نحن وإيّاهم في قارب واحد أو أننا سننام في سرير واحد".
هذا هو الذي أسماه دستوفسكي التناغم الابدي.

جان ماري مولر
ودار حوار بين جان ماري مولر في جلسة خصوصية مع اثنين من فقهاء الدّين أحدهم الشيخ حسين شحادة في بيروت، والسيد علي فضل الله العلامة نجل السيد محمد حسين فضل الله العلامة الكبير. قال له الشيخ حسين شحادة لماذا أسميت الكتاب نزع سلاح الآلهة؟ ألم يكن أجدر أن تسميه نزع سلاح الشياطين بدلاً من الآلهة ؟ أجابه مولر على الفور ودون لحظة تأمل، ولكن الآلهة هم الشياطين على الارض. أما الإله فهو واحد وهو الإله الحقيقي. الإله منزوع السلاح لأن الله محبّة، والمحبة لا تجتمع مع العنف تحت سقف واحد.
اذا نسبنا محبتنا إلى الآلهة فهذا خطأ فظيع لأن الآلهة هم من صُنْع البشر، أما الله مقصود به المُطلق فهو الخير والسلام والتسامح واللاّعنف. الله هو الذي خلق الانسان. خلقه ودوداً وعاقلاً ومسالماً وخيِّراً. وحيثما وجد الإحسان وجد الله ووجدت المحبة. وحيثما وجدت الطيبة، حضر الله. لأن هدف جميع الأديان نشر الحبّ والرّحمة والسّلام وليس العنف والقمع والانتقام والإرهاب والحروب.
استكمل السيد علي فضل الله هذا الحوار فقال: ألا تعتقد بدل مصطلح "اللاّعنف" يمكن أن نستخدم كلمة "الرِّفق" أو "الرّفقة" وقد سبق أن استخدمها العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله وهي تعني التواصل، المودّة، التسامح، والمشترك الإنساني، وهو ما أخذ به فولتيرVoltaireحيث أخذ بفكرة الرِّفق والصّبر أيضاً مثلما أخذ بفكرة التسامح. التعصب لا ينتج سوى منافقين، لان البشر خطاؤون، لهذا السبب قال فولتير، علينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.

يمكن أن نتوصّل إلى التسامح كل منّا في طريقته، نأتيه كفضيلة أو كفريضة من مواقع مختلفة ومن أوطان مختلفة ومن شعوب مختلفة.
جان ماري مولر انتقل إلى التسـامح وإلى اللاّعنف بعد أن رفـض التجنيـد ورفض الذهـاب إلى الجزائـر لخـوض الحرب مع الفرنسيين ضد الجزائريين في العام 1960. رفض الجندية فاعتُقِل لـستّة أشهر وخلالها تحول إلى اللاّعنف.

الأنساق الثقافيّة اللاّعنف
ـ النسق الأول: النسق القانوني
الأنساق لثقافة اللاّعنف ينبغي أن تُكرَّس قانوناً أي "حكم القانون" Rule of lawوهو الذي يضفي المشروعيّة الدستوريّة القانونيّة على أي حكم.
المشروعيّة الدستوريّة والقانونيّة تختلف عن الشرعيّة السياسيّة. الشرعيّة السياسيّة تقوم على رضا الناس، كأن تُحقق للناس منجزات اجتماعية، اقتصادية الخ... ولكن قد لا تستطيع أن تحقق لهم مشروعيّة قانونيّة، حيث تبقى هناك هوّة بين رضا الناس وحكم القانون حتى لو تحققت الشرعيّة السياسيّة، أما المشروعيّة القانونيّة فيمكن تحقيقها عبر حكم القانون. وإذا ما اتّحدت المشروعيّة القانونيّة أو الدستوريّة مع الشرعيّة السياسيّة سنكون قد وصلنا إلى القمّة. فلا بدّ إذن من حكم القانون في تعميم ثقافة اللاّعنف، وحسب مونتسكيو يقول "القانون مثل الموت ينبغي أن ينطبق على الجميع دون استثناء". أي أنه لا يستثني أحداً.

ـ النسق الثاني: وهو النسق السياسي
طبيعة النظام السياسي، هل هو نظام ديمقراطي، استبدادي، أوليغارشي، برلماني، ديكتاتوري، ملكي، جمهوري الخ...؟ هناك نسق معيّن يأخذ مدى علاقة الحاكم بالمحكوم في إطار القوانين والأنظمة السائدة والمرعيّة، ويحتاج إلى إرادة سياسية وتوافق سياسي ومجتمعي.


ـ النسق الثالث وهو النسق الإجتماعي
كل نظام سياسي يستند إلى خلفية إجتماعية. فإلى أي مدى يمكن تحقيق تكافؤ الفرص وتقديم الخدمات لعموم الناس، لا سيّما الخدمات الصحيّة والبلديّة والتعليميّة، فضلاً عن العمل. وإذا ما حدثت أي اختلالات على هذا الصعيد، أي في النسق الاجتماعي سيتولد العنف ويتراكم ويسبب ردود فعل قد تسبّب عنف مضاد عشائري، قبلي، قومي، إثني، ديني...، خصوصاً في ظل أنظمة تمتاز بالتمييز.

ـ النسق الرابع وهو النسق الثقافي
أي العلاقة بين الهويّات. هناك هويّة عامّة جامعة وهناك هويّات فرعيّة. هل ستحترم الهويّة العامة الجامعة الهويّات الفرعيّة أو كيف تتعامل الهويّة الكبرى مع الهويّات الصغرى؟ وبأيّ نسقٍ ستكون هذه العلاقة ؟
الروائي اللبناني أمين معلوف تحدّث عن "الهويّات القاتلة"، خصوصاً في ظلّ غياب العقلانيّة والنسبيّة والإنسانية. كل شيء في الحياة نسبي حسب علم الفيزياء. والهويّة الجامعة بقدر استيعابها للهويّات الفرعيّة وتنميتها يمكن أن تتجنّب الانزلاق إلى الإقصاء والتهميش والعنف لاحقاً.

ـ النسق الخامس وهو النسق التربوي
وهو مهم جداً خصوصاً وأن التربية المدرسية هي الأساس. هل هناك تمييز بين الأديان؟ بين القوميات؟ هل هناك استعلاء قوموي؟ هل هناك تسيّد من فئة على حساب أخرى؟ تارة بحجّة الأغلبية، أو بحجّة المظلومية، أو بحجة الأفضليات، أو بحجة امتلاك الحقيقة؟ هذه كلها إذا سادت في النسق التربوي ستؤدي إلى العنف وهنا لا بدّ من إحداث تغيير في النسق التربوي لكي ننتقل إلى الأنساق الاخرى.

ـ النسق السادس والأخير هو النسق الإعلامي
الإعلام يمكن أن يلعب دواً مهمّاً، وهو سلاح ذو حدّين كما يُقال، فهو مدفعية ثقيلة خطيرة. إذا لم نُحسن استخدامه، سيؤدي إلى كوارث ويُحدِث تصدّعات من الصعب معالجتها أحياناً، كما يؤدي إلى خلق فِتَن وحساسيّات تتعلّق بالكرامة والوجود والمساواة.
اصبح الإعلام يصنع الرأي العام. وإذا كان سابقاً يساهم في صناعة الرأي العام، فهو الآن أصبح يصنع الحروب ويجري تغييرات في أنظمة ودول وبلدان ومصارف وبنوك وأموال وأعمال عنف وارهاب. داعش والقاعدة وجبهة النصرة لم تُخلق هكذا مرّة واحدة، وساهم الإعلام بطريقة أو أخرى في خلقها أيضاً.

ـ سنتكلم عن نسق أخير لم نعطه رقماً لأنه نسق مهم يوازي هذه الانساق وهو النسق الديني.
تلعب المؤسسة الدينية دوراً كبيراً في قضية العنف واللاّعنف. القراءة الماضوية للنصوص الدينية يمكن أن تؤدي إلى العنف. والعنف سيأتي عبر التعصّب، والتعصّب ينتج التطرّف وهذا وليده، وسيؤديان بالنتيجة إلى العنف إذا ما تحوّل التطرّف إلى سلوك، بل إنه سيصبح إرهاباً، وإرهاباً دولياً إذا عبر الحدود، واستهدف إضعاف ثقة الدولة بنفسها، وثقة المواطن والمجتمع بالدولة. نحن شيعة أفضل من السنّة، والسنّة ستقول هؤلاء نواصب نحن أفضل منهم، والمُسلم سيقول أنا أفضل من المسيحي، والمسيحي سيقول ديني أكثر تسامحاً من الإسلام، واليهودي وهكذا...
الثقافة الدينية والمؤسسة الدينية، تلعب دوراً خطيراً. ولذلك لا يمكن إصلاح بيئة العنف الاّ بإصلاح البيئة الدينية وإصلاح المجال الديني، والحقل الديني. وحسب هوبز لا يمكن إجراء أي إصلاح في المجتمعات دون إصلاح المجال الديني.

هل يصبح اللاّعنف بعد هذا الحديث مستحيلاً، أم أنه ممكن ؟ وهل التغيير ممكن باللاّعنف ؟ نقول نعم ممكن التغيير باللاّعنف إنّما بتوفر شروطه .
حصل التغيير في تونس باللاّعنف، وحصل التغيير في مصر باللاّعنف. لا نريد أن نعمّم ولكن هذه التجارب علينا أن نتوقف عندها ونحن نشاهد فوضى العنف موجودة في سوريا واليمن وليبيا، فكيف السبيل إذن لنشر وتعميم ثقافة اللاّعنف وتجنيب الشعوب ويلات استفحال ظاهرة العنف؟


_____________________



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوهم الديمقراطي
- مناظرة السليمانية : واستذكارات الحوار العربي - الكردي
- السلطة ذكورية ولا كتابة حقيقية دون جرأة
- كورونا والسلام العالمي
- المناخ والنفط
- الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل
- مآلات الربيع العربي- وقفة مراجعة
- صاحب الحكيم وسوسيولوجية الشيوعية في النجف
- الطائفية وأسئلة الضرورة
- مئوية الدولة العراقية
- الإرهاب الدولي : قراءة مغايرة
- من دروس التجربة المغربية
- الإختفاء القسري
- صالون 15 في بيروت... لماذا؟
- الملك فيصل الأول والهويات القاتلة
- ايران وشط العرب: صاعق التفجير (5)
- تونس ومفترق الطرق
- تركيا: مشروع الغاب.. للتحكم بمياه سوريا والعراق (4)
- رسائل روسية إلى طالبان
- البارومتر الساخر والمحرّض


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - ثقافة اللاّعنف