أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أم الزين بنشيخة المسكيني - تأملات فلسفية في الحياة الرقمية















المزيد.....

تأملات فلسفية في الحياة الرقمية


أم الزين بنشيخة المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 7045 - 2021 / 10 / 12 - 20:27
المحور: الادب والفن
    


تُحاصرنا العوالم الرقمية شيئا فشيئا وتبتلعنا حتى نخال أن العالم الواقعي قد انتهى وأنّنا قد نتحوّل قريبا إلى كائنات افتراضية. بحيث لا أحد منّا يفلت اليوم من الشبكة العنكبوتية ومن منصات التواصل الإجتماعي كما لو كان الإفلات من الواقعي إلى الافتراضي هو الطريق إلى سجن جديد..هل انتهى عصر التفكير بأنفسنا وبدأ عصر اللعب بأسرارنا وبذواتنا الهشّة؟ هل سقط البشر في أفخاخ ذكائهم الاصطناعي الذي صمّموه بأنفسهم؟
لا تزال الثورة الرقمية التي تسيطر على العالم برمّته حدثا سحريّا كونيا، يغري الجميع ويبتلعه في شبكاته المعولمة. في كلّ مكان من العالم تجد البشر عالقين بشبكات الانستغرام والواتساب وعمالقة العالم الرقمي غوغل ويوتوب، وإغراءات النوافذ الافتراضية الصغيرة للرسائل الحميمة والعلاقات الأيروسية الافتراضية، وأساليب التدجين والبروبغندا والسيطرة على العقول والمشاعرعلى نحو عالمي، وذلك في ضرب من الرقابة المعولمة والمعممة لحياة الناس وأفكارهم ومشاعرهم الأكثر خصوصية. ماذا ستفعل بنا الثورة الرقمية؟ هل ستعزّز التواصل العالمي بين البشر عبر منصّات التواصل الاجتماعي كما يجسّده فايسبوك؟ أم ستزيد من هشاشة الأفراد في عصر قيم السوق وبروبغندا رأس المال ولوبيات القائمين على مصالح ما تبقى من الدول؟
يبدو أنّ الثورة الرقمية ليست مجرّد تغيّر تكنولوجي حصل في أدوات التواصل بين البشر، إنّما هي حدث تاريخي نزّله بعض المفكّرين ضمن المسار المعرفي الطويل لاكتشاف الآلة وسطوها على الحياة الحديثة أكثر فأكثر. بحيث اعتبر الفيلسوف الفرنسي ميشال سار صاحب كتاب "الإبهام الصغير"، أن الرقمنة هي الثورة الثالثة الكبرى في تاريخ المعارف الإنسانية وذلك بعد اكتشاف الكتابة منذ حضارات الشرق القديمة واختراع الطباعة في عصر النهضة. إنّ ما حصل في رحاب المجال الرقمي هو تغيّر عميق في بنية المعرفة والذكاء والذاكرة معا. إنّنا اليوم نودع ذاكرتنا وذكاءنا الى الكمبيوتر كما لو أنّنا لم نعد مجبرين على أن نكون أذكياء. لكن هل يمكن الاطمئنان إلى عمالقة الرقمي أي غوغل وفايسبوك وتويتر وجيمايل ويوتوب، وائتمانهم على معطياتنا الشخصية وأسرارنا ؟ وماذا عن هذا الاستسلام العالمي إلى هذه الكائنات الرقمية ؟
في هذا الأفق الرقمي الوسيع ظهر ضرب جديد من الزمن الذي يكسر الزمن الخطي الكرونولوجي التقليدي، زمن الذاكرة وزمن التقدم. إنّه الزمن الرقمي أو الافتراضي الذي لا يقف في مستوى القبض على الأفراد فرادى أمام شاشاتهم الصغيرة وحواسبهم أو هواتفهم الذكية، بل تتعدى مفاعيله إلى أبعد من ذلك بكثير. وقد تصل هذه المفاعيل إلى توفير مساحات افتراضية لاستراتيجيات فيروسية أو للوبيات إرهابية تولد وتنمو وتزحف وتدير ألعابها على شبكات الثورة الرقمية بكل صفاقة لا إنسانية ساخرة من كل علم بريء ومن كل عقل رصين ومن كل مكاسب الحداثة الإنسانوية. إلى جانب ذلك ثمّة ديمقراطيات تُدار أيضا وتبنى أو تهدم على ظهر الزمن الرقمي وصفقات تهريب وشبكات اتجار بالبشر تمرّ أيضا فوق السطوح الرقمية دون أدنى شعور بالذنب من طرف أحد. وذلك لأنّ الزمن الرقمي هو زمن اللاأحد، وزمن أيّ كان معا، هو مساحة للعبور غير الشرعي لكلّ من يملك القدرة على العبور الى أيّ عقل أو قلب أو مدينة..ههنا لا شيء يحصّن الذوات التي تبحر في الزمان الرقمي من خطورة ما يمكن أن يحصل لهم. فالجميع يسقط في أحابيل الشبكة، فيصطدم بخطوط إفلات من الواقع تتيه في أيّ اتجاه لا متوقّع. كلّ الأفراد في هذا الزمان والمكان الرقميين هائمون صلب الشبكات..بلا رقيب خاصّة أطفالنا، أطفال عالم الديجيتال ، ولكن أيضا بدون أيّة ضمانات أخلاقية.
إنّ الزمن الرقمي الذي يولد فوق سطوح العالم الافتراضي وفي فخاخ شبكاته، هو زمن آلي يزعزع ، عبر مسطّح المحايثة العالمي الذي يخترعه، كل مسلماتنا البيولوجية والاتيقية والسياسية، بل هو يمثّل ضربا من الأرضية الأركيولوجية لما يسمّيه الفلاسفة اليوم "الفكر ما بعد الإنساني". لكن أيّ معنى لهذا الزمن الرقمي وأيّ فكر يمكن توقيعه في أفقه؟ وماذا عن مفهوم "ما بعد البشر" هذا؟ هل يعني هذا أنّ نهاية الانسان البشري تبشّر بولادة نمط جديد من سكّان الأرض من نوع الربوتات التي صارت الى واقع علمي تحتفي به تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي والثورة السيبرنيطيقية؟ وماذا عن الإنسان كبشر يأتي من أديم الأرض، هل سينجح في البقاء بشريّا جدّا، أم هو مهدد بالسقوط الى مرتبة "ما دون الانسان"؟
هكذا يخترع الزمن الرقمي مجتمعات الهشاشة أو ما يسميه المفكّر البولوني زيغمونت بومان (1925-1998) "المجتمعات السائلة". إنّ مجتمعات التواصل مسكونة بمفارقة مفزعة : في حين توهمنا التكنولوجيات الرقمية أنّنا نتقاسم معا فضاء الحياة والآمال والآلام، فإنّها تخلق في نفس الوقت أشكالا جديدة من العزلة، بحيث نفقد الصلات الحقيقية بيننا كأفراد اجتماعيين، من أجل أن نستسلم لتواصل افتراضي لاكتئاب عالمي معولم. إنّه البؤس الرمزي المعمّم تخفيه إغراءات الشبكة وحلولها الوهمية، وعيون المتطفّلين على حيواتنا الحميمة، واستسلامنا إلى المجهول بعد أن خنقنا الواقع في لحميّته المفزعة. إنّ ما يحدث هو اذن تسليم أنفسنا عن طواعية الى شبكات افتراضية هي في نفس الوقت شبكات مراقبة معولمة تنزع الى القبض على العالم برمّته. فهي تنزع المواطن من وطنه وتلقي به في فضاء افتراضي سائل زائل هو اللامكان، هو أيضا الترحّل والضياع. إنّه الزمان يخرج عن طوره كما في مجاز شعري جميل لشكسبير.
نحن اذن بإزاء براديغم جديد للزمن: هو ما تسمّيه الفيلسوفة الفرنسية بوسي غلوكسمان، كوجيطو الزائل. بحيث يتمثّل هذا الكوجيطو في هذا التحوّل العميق الذي حدث في الثورة الرقمية من ثقافة السلع إلى ثقافة الصور المتدفقة، أي ثقافة الشاشات والأشباه والأشباح. إنّ هذا النوع الجديد من ثقافة الشاشات لا تعيد إنتاج الزمن بالمعنى التقليدي الخطّي له، إنّما هي تنتج زمنا آليا خاصّا، زمن التأثير والإثارة، زمن الآلات المجرّدة المعولمة.
غير أنّ الزمن الرقمي هو زمن المفارقات بامتياز : فهو زمن افتراضي زائل، لكنّه مخزّن ومبرمج ببرمجيات دقيقة ومضبوطة. إنّه صيرورة بلا ذاكرة لكنّه زمن مكتظّ بالمعطيات والمعلومات. هذا الزمان لا يسيل على إيقاعات الزمن التقليدي والبيولوجي للإنسان، هذا الإنسان الذي يجد نفسه منفصما ومنقسما بين الواقعي والافتراضي. لكن على سطح الزمن الرقمي لا يحدث فقط التواصل الاجتماعي، ولا تشتغل شبكات الإرهاب والتهريب، ولا ترعبنا الشبكات الرقمية بألعاب الفيديو التي يدمن عليها أطفالها الى حدّ تحولها الى ألعاب قاتلة، بل ثمّة مساحات خلاّقة وموجبة للعوالم الرقمية، تجد في الفنّ الرقمي عبارتها المبدعة.
إنّ الفن الرقمي بوسعه اذن أن يؤثث العالم الافتراضي على نحو مغاير، وذلك بأن يمنحنا أشكالا جديدة من الذاتية لا تعيش وفق الزمانية البيولوجية بل وفق زمنية الآلات. لكن لا ينبغي التفكير في هذا النمط من الزمن على نحو سالب. إذ بوسعنا التفكير فيه على نحو موجب عبر الفن الرقمي الذي يجد صياغته ضمن نموذج أوبرنامج من قبيل النماذج الافتراضية لفن المعمار. وهنا تشير علينا بوسي غلوكسمان مرة أخرى ضمن أفق جماليات الافتراضي التي توقّعها إلى أنّ أهمّ ما يمكن أن نغنمه من الفن الرقمي هو ما يلي :
أوّلا : ظهور أشكال جديدة من الوساطات بين الفنّ والعلم .
ثانيا: هو فنّ ما بعد استعماري يربط بين الثقافات بحيث يمكن للصورة الرقمية أن تحتضن كلّ الأرشيفات الافتراضية للاختلافات بين الثقافات.
ثالثا: تنصيب مدن افتراضية تقترح طريقة جديدة في هندسة المدن وتنظيم الفضاء، وتخترع فضاءات ذكية مغايرة للفضاءات الواقعية.
رابعا : أصالة الفن الرقمي وجدّته ضدّ حداثة تفصل بين المرئي والمقروء وضد حداثة قائمة على استقلالية الفنّ عن بقية مجالات المعرفة. بحيث أنّ جماليات الافتراضي انما هي جماليات "متعدّدة الأحاسيس أي هي جماليات بوسعها إعادة تنضيد المحسوس وتأسيس المعنى.
خامسا : الفنّ الرقمي يخترع مكنات للنظر ومفاعيل جديدة ومشاعر مغايرة وكائنات رقمية هي أكثر ممّ يقع وأبعد ممّ نتوقّعه من أحداث. تهجين للكائنات وللأمكنة داخل براديغمات جديدة تواصل صناعة المعنى وتأثيث العالم الذي يكاد يسقط كل يوم تحت سطوة حضارة السلع في قحط الثقافة وبؤس عزلة الأفراد والاكتئاب العالمي المعولم.



#أم_الزين_بنشيخة_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة والمقاومة
- سردية الوهم والدم
- ملاحظات حول السؤال عن الحداثة الجمالية عربيا
- تأملات في فلسفة الرواية المضادة
- الفن في زمن الكورونا
- هل يمكن الحديث عن فلسفة عمومية ؟
- الحب في ثقافة المقاومة
- كيف بإله ينصف حلم السمك ؟
- سياسات العبث ..قد تعمّر طويلا
- لن تجنّ وحيدا هذا اليوم في جمالية الخطاب الواصف
- لا شيء يشجّعك على أن تبقى واقفا - من روايتي -لن تُجنّ وحيدا ...
- حلم يتشرّد ...
- تراود الحرف على التعب ..
- ما الذي يحدث على عتبة - الله الاسلامي - ؟
- أي رحيل يشبه رحيلهم ؟...
- أضناها القرنفل ذات مساء ..
- شهقة الياسمين
- تضاريس على قلق...
- العنف و الهوية
- جاء يؤجّل قتله ليلة أخرى ... الى روح الشهيد شكري بلعيد في أر ...


المزيد.....




- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أم الزين بنشيخة المسكيني - تأملات فلسفية في الحياة الرقمية