أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - ثقافة النحر والانتحار!















المزيد.....


ثقافة النحر والانتحار!


ياسين المصري

الحوار المتمدن-العدد: 7035 - 2021 / 10 / 1 - 03:29
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يمكن للمرء تحت ظروف نفسية معينة أن يفكِّر في الانتحار وقد ينتحر أو يفكر في نحر غيره، فينحره بالفعل. هذا ما تعهده ونشهده باستمرار في جميع أرجاء المعمورة، ولكن كثيرًا ما نجد أيضًا جماعات تشكِّل قطيعًا، ينتحر بكامله أو ينحر غيره بالجملة، ونادرًا ما نلتفت إلى شعوب بأكملها تتبنى ثقافة الانتحار والنحر، قاتل أو مقتول!، ما طبيعة هذه الشعوب، ولماذا تتشبث منذ عهود طويلة بضلال هذه الثقافة؟
***
يوجد لدي الفرنسيين تعبير شائع هو: ”خرفان بانورج moutons de Panurge“، يعود إلى قصة رمزية، تعني بانسياق الجماعة بلا وعي أو إرادة خلف آراء أو أفعال الآخرين. وقد كتبها الروائي وأحد أعلام النهضة الإنسانية في فرنسا، هو فرانسوا رابليه François Rabelais (ولد ما بين 1483 أو 1494 وتوفي 1553)، هنا لمحة عن حياته:
http://arab-ency.com.sy/detail/4630
تقول القصة إن رجلًا يدعى ”بانورج“، كان في رحلة بحريّة على متن سفينة. وكان على نفس السفينة تاجر الاغنام ”دندونو“، ومعه قطيع من الخراف بغرض بيعها. وكان ”دندونو“ تاجرا جشعا لا يعرف معنى الرحمة، ويمثل أسوأ ما في ذلك العصر وهو غياب الإنسانية.
حدث أن وقع شجار بينهما على سطح السفينة، فصمم على أثره ”بانورج“ أن ينتقم من التاجر الجشع، فقرّر شراء أكبر الخراف وقائدها من التاجر بسعر عال وسط سعادة دوندونو بالصفقة الرابحة. وفي مشهد غريب مسك ”بانورج“ بقائد الخراف من قرنيه وجرَّه بقوة إلى طرف السفينه ثم ألقى به إلى البحر، فما كان من أحد الخرفان إلاّ أنْ تبع خطى الخروف القائد الغريق ليلقى مصيره، ويلحقه الثاني فالثالث فالرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في ”طابور مهيب“ لتمارس دورها في القفز في كل الاتجاهات. جن جنون تاجر الاغنام وهو يحاول منع القطيع من القفز بالماء، لكنّ محاولاته كلها باءت بالفشل، فقد كان ”إيمان“ الخرفان بما يفعلونه أرسخ من أن يُقاوم. وبدافع قوي من الجشع، اندفع للإمساك بآخر الخرفان الاحياء أملا في إنقاذه من مصيره المحتوم، إلّا أن الخروف ”المؤمن“ كان مُصِرّا على الانسياق وراء الخرفان الأخرى، فسقط الإثنان في الماء ليموتا غرقًا.
بالتأكيد لم يكن فرانسوا رابليه ليكتب هذه الرواية ما لم يكن قد رصد حدوثها المتكرر في تاريخ البشرية، مثلًا:
المؤرخ اليهودي ”يوسيفوس فلافيوس“ الذي ولد في القدس عام 37 وتوفي في روما عان 100م، في كتاب صدر في عام 78م، بعنوان: ”تاريخ اليهود“، على الرابط التالي:
https://www.christianlib.com/3882.html/كتاب-تاريخ-اليهود-المؤرخ-يوسيفوس
ذكر قصة انتحار جماعي في عام 73م، لحركة دينية سياسية، أنشأها الزعيم اليهودي يهوذا الجليلي، بإسم ”سيكاري“، عندما فشلوا في الدفاع عن منطقة مستادا المطلة على البحر الميت، إذ قبل اقتحام القوات الرومانية للمنطقة، حوصر 960 شخص منهم فوق هضبة “مسعدة”، فبدأ الرجال بقتل أسرِهم وقتل بعضهم البعض مفضلين الموت على الاستسلام للقوات الغازية.
وخلال القرون الوسطى حدثت اضخم عملية انتحار جماعي في التاريخ، عندما تقدمت قوة عسكرية من طائفة تيوتوني المسيحية الألمانية بإتجاه قلعة في وسط مدينة ليتوانيا في عام 1336م لاحتلالها، وعندما أدرك سكانها أنهم لن يستطيعوا الدفاع عن بيوتهم والصمود في وجه العدو، اتخذوا قراراً بحرق ممتلكاتهم وقتل أنفسهم بدلا من الاستسلام. دخل أكثر من 4000 شخص إلى قلعة المدينة وأضرموا النار بأنفسهم ولقوا حتفهم.
وفي بداية القرن العشرين وتحديداً في 14 سبتمبر 1906م، حاولت قوة عسكرية هولندية الاستيلاء على مدينة بالي في إندونيسيا، خلال حقبة الاستعمار الهولندي لمناطق شاسعة في جنوب وشرق آسيا. وعند اقتراب القوات الهولندية من المدينة، قام المواطنون بارتداء اللباس الأبيض التقليدي المستخدم عادة أثناء حرق الجثث، وحرقوا جميع ممتلكاتهم في المدينة ثم اتجهوا جميعًا بمن فيهم الأطفال والنساء والكهنة بإتجاه القوات الهولندية. وعلى مرآى منها، قام أحد الكهنة بغرس خنجره في قلب الأمير “راجا” كإشارة لبدء مراسم ما سمي فيما بعد “البوبوتان“، ثم بدأ الجميع بقتل بعضهم البعض. والبوبوتان هو مصطلح يرمز لطقوس الانتحار الجماعي تجنباً للخضوع إلى ذل الاستسلام للعدو. وفي ذلك اليوم قُتل نحو 1.000 شخص من سكان بالي، ويقوم سكان المدينة حتى يومنا هذا بالاحتفال بـ”البوبوتان“ ويُعيدون تمثيل أحداثه في كل عام.
https://en.wikipedia.org/wiki/Puputan
وفي يونيو 1944 وخلال الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تخوض معارك ضارية في مواجهة القوات اليابانية بهدف السيطرة على جزيرة سايبان الإستراتيجية. وقد خسر الطرفان أكثر من 50 ألف جندي خلال المعارك التي استمرت نحو ثلاثة اسابيع. وعندما تأكد اليابانيون بأن القوات الأمريكية حققت انتصارات ميدانية وأصبحت على وشك احتلال الجزيرة، قام امبراطور اليابان بإصدار أوامر إلى جميع سكان سايبان بقتل أنفسهم بدلاً من الاستسلام. وعلى الرغم من طمأنة الأمريكيين لسكان الجزيرة عبر مكبرات الصوت. فإنهم لم يكترثوا إلى هذه التطمينات، وقام أكثر من 1000 شخص بإلقاء أنفسهم من على حافة هاوية في مياه المحيط وسُميت تلك الهاوية في ما بعد باسم “الهاوية الانتحارية”.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في عام 1945، أقدم أكثر من 900 شخص من سكان بلدة ”دمين“ الألمانية على الانتحار بطرق مختلفة كإطلاق الأعيرة النارية على أنفسهم وقطع شرايينهم وتناول السموم، بينما قام آخرون بشنق أنفسهم. أما الأمهات، فقمن بقتل أطفالهن قبل انتحارهن. وقد كانت عملية الانتحار الجماعي تلك خوفاً من اجتياح القوات السوفييتية، التي عُرفت بجرائمها البشعة للبلدة. وعقب تلك الأحداث، قامت الحكومة الشيوعية في المانيا الشرقية بتحريم الانتحار وتم دفن من قتلوا أنفسهم في مقابر جماعية.
أما واقعة ”جونز تاون“ والتي راح ضحيتها 918 شخصا، ثلثهم من الأطفال والنساء، فقد وصفها المؤرخون بأنها أكثر الحوادث خسائر في الأرواح في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، قبل أحداث الـ 11 من سبتمبر. فقد تمكن ”جيم جونز“ من إقناع أتباعه بقرب نهاية الزمان وحلول القيامة، وبقرب حرب وشيكة بالأسلحة النووية، وأمرهم في 18 نوفمبر 1978 بـ”الانتحار الثورى“ للتخلص من شرور هذا العالم، بتناول مادة السيانيد شديدة السمية.
https://ar.wikipedia.org/wiki/جونز_تاون
وما بين عامي 1994 و 1997 أقدم 74 شخصاً على الانتحار من أتباع طائفة معبد الشمس التي تأسست في سويسرا وكندا، على يد ”جوزيف دي مامبورو“ في عام 1984. لاعتقادهم بأن كوكب الأرض سيواجه كارثة مدمرة بحلول عام 1990، وبأنهم سيتحولون إلى نجوم في السماء بعد وفاتهم. وبأن موتهم سيكون هروباً من “النفاق والظلم المتفشي في العالم”. وكانت عمليات الانتحار تتم بأساليب متعددة فمنهم من شنق نفسه ومنهم من تناول السم ومنهم من أطلق النار على نفسه.
وفي الـ 26 من مارس 1997، اقدم 39 شخصاً من أتباع طائفة “بوابة السماء” على الانتحار الجماعي في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وقد تأسست هذه الطائفة على يد ”مارشال هوايت“ الذي آمن بأنه من سلالة النبي عيسى، وأنه يجب عليه الانتحار مع أتباعه لتذهب أرواحهم في رحلة على متن سفينة فضائية تخترق حاجز السماء وتوصلهم إلى الجنة. وقد تراوحت أعمار القتلى بين 26 و 72 عاماً وقاموا بقتل أنفسهم من خلال تناول حبوب “فينوباربيتال” ووضع أكياسٍ بلاستيكية على رؤوسهم لتسهيل عملية الموت. وتُعد هذه الطريقة الأغبى على الإطلاق من بين جميع محوالات الانتحار الجماعي.
وفي الـ 18 من مارس 2000، اقدم أكثر من 800 شخص من اتباع الجماعة الدينية “الوصايا العشر” على الانتحار جماعياً في أوغندا. وقد لقي منهم 530 شخصاً حتفهم عندما أضرموا النار بأنفسهم داخل كنيسة بالقرب من العاصمة كمبالا، بينما لقي الآخرين حتفهم طعناً وخنقاً وتسميماً. وقد انشقت جماعة “الوصايا العشر” عن الكنيسة الكاثوليكية بهدف “استعادة الوصايا العشر من الله” وبأن يوم الـ 17 من مارس 2000 سُيوافق نهاية العالم. ولم تستطع السلطات الأوغندية تحديد عدد القتلى بدقة بسبب تفحم العديد من الجثث بشكل كامل داخل الكنيسة.
https://ar.wikipedia.org/wiki/حركة_استعادة_وصايا_الله_العشر
***
هذا عن قطعان الخرفان والبشر المنتحِرين دون نحَر الآخرين، بينما في بلادنا قطعان تنتحر وتنحر غيرها، ويحظون دائمًا بلقب ”شهداء“، على أساس أنهم مؤمنون اشترى الله منهم {أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}؟ )التوبة (111. هذه القطعان يتم تعزيزها وترسيخ وجودها بنمط معين من ثقافة الكراهية، مما يؤدي بها إلى ما يسميه دوركايم «الانتحار اللامعياري» (Suicide anomique). إي ”الانتحار الذي يعكس الارتباك العقائدي للفرد في غياب «بوصلة» ثقافية واضحة، تحميه من الاضطراب الدراماتيكي للمجتمع والاقتصاد، فيعيش حياته في ظل مستويات عالية من التوتر والإحباط“. لقراءة الكتاب أو تنزيله:
https://foulabook.com/ar/book/الانتحار-pdf-1
ملخص له بالإنجليزية:
https://en.wikipedia.org/wiki/Suicide_(Durkheim_book)
***
نلاحظ في رواية ”خرفان بانورج“ أن الخرفان قذفت بنفسها إلى الموت بدافع غريزة الانتماء إلى القطيع، والولاء لقائدها وزعيمها، فهي لم تتهيَّأ ذهنيًا ونفسيا للإقدام على الانتحار، ولا تعرف ماذا ينتظرها بعد القفز إلى الماء، ولكنها شاهدت زعيمها يلقى به في البحر، ففعلت ذلك بنفسها تلقائيًا، بينما نلاحظ في أغلبية الجماعات المنتحِرة أن الدين لعب دورا رئيسيًا في تهيئة المؤمنين للموت، والدفع بهم إلى الانتحار الجماعي دون النحر، وعندما تتبنى ديانة ما ثقافة الكراهية يتم إعدادهم لمواجهة المكروهين إمَّا بنحرهم أو بنتحر أنفسهم، وهذا يقلل من نسبة الانتحار الفردي بينهم، كما هو ثابت بين العربان والمتأسلمين، إذ ينشأ لديهم الاستعداد النفسي للنحر والانتحار الجماعيين معًا، السبب في ذلك أن هذه الثقافة تُريح الغالبية العظمى من أتباعها، طالما يخضعون لمن يسيطر عليهم جسديا وذهنيا ونفسيا، ويستريحون إليه، وإلى الخرافات التي يبثها ويحيطهم بها. يهربون من تصديق الحقيقة، ومعرفة أنهم مختطفون، يقضون حياتهم بسعادة في الوهم بلا وعي وبلا إرادة!. يقول عالم الفلك الأمريكي كارل إدوارد ساغان (1934 - 1996): «نستطيع أن نرى مدى تقدم عقولنا بمدى جرأتنا على السؤال، بمدى رغبتنا في معرفة ما هو حقيقي، بدلاً من تصديق ما يريح قلوبنا».
في ثقافة الكراهية يتسم الراعي بالاستبداد، والعمل بكل ما في وسعه على اختطاف رعاياه جسديًا وذهنيا ونفسيًا، فيجنِّد كافة الوسائل الإعلامية والتعليمية والمنابر الدينية ووسائل الردع كالشرطة والجيش والقضاء والبيروقراطية لحمل المواطنين على طاعته التي يجعلها من طاعة الله، وتحويل الدولة بكاملها إلى سجنٍ يسكنه الخانعون لإرادته والمُغيبون بأيديولوجيته والخاضعون لقوانينه وتعليماته وحده!، إي أنه يعمد إلى تسييس رعيته تبعًا لتصوره الشخصي، بحيث يتشكل لديه قطيع متجانس ظاهريًا من الحوَش والغوغاء أو الهمج والرعاع كما أسماهم المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه ”سيكولوجية الجماهير“. وفي هذا المضمار يندرج - على سبيل المثال - فرض العثمانيين الطربوش على رعاياهم، وفي دول الخليج يتم أيضًا فرض زي مميز على المواطنين، ويلتزم المتأسلمون الحقيقيون في أفغانستان باكستان وغيرهما بأزياء وهيئات موحّدة لنفس الهدف!، ولكن الأهم من التجانس المظهري، هو التجانس النفسي داخل القطيع، حيث تنصهر الروح الفردية في الروح الجماعية المستكينة والخانعة والمغيبة تمامًا، ومن ثم تنخفض الملكات العقلية والتمايزات الشخصية لدي الفرد، وتتشكَّل له عقلية جمعية دون مستوى عقليته الفردية، فلا ترى الواقع من حولها إلَّا بعيون الراعي، وبذلك ينضبط سير الرعاع في الطريق الذي يرسمه لهم، ويعيِّن لحرسته ”كلابًا“ متوحِّشة ومدَرَّبة، فلا مجال لخروج أحد منه عن الخط المرسوم والمحدد سلفًا، وبذلك يسهل عليه دفعها إلى القيام بتصرفات سلبية لا يستطيع القيام بها شخص بمفرده. وقد قدَّم ميكافيلي في كتاب (الأمير) لأولئك الحكام الحبال التي يجرُّون بها قطيعهم إلى سلطتهم، وفرض إرادتهم عليه، وإخضاعه لشهواتهم وقراراتهم!.
الرعاع من جانبهم يتجاهلون حقيقة أن الراعي جاءهم بالذبح، طالما ينقذهم يوميا من الموت جوعًا ويتركهم يرعون الكلأ ويأكلون عشب الآخرين ويشبعون حاجاتهم الأساسية الأخرى على حساب غيرهم، فيخضعون لإرادته ويطيعون أوامره ويلتزمون بتعليماته وقراراته، ويكتفون بالقدر المسموح لهم من تلك الحاجات، يجدون الطاعة مريحة ومفرحة، فيتوقَّف لديهم عمل العقل الفردي ويحل محله عمل العقل الجمعي. يصبحون عندئذ مُسَيَّسين ومتدينين. كلُّ منهم لديه الغاية تبرر الوسيلة، وكأن لا شيء آخر في الحسبان. وهذا وحده هو ما يريح الراعي ويريح القطيع بالمثل، فينام الجميع مطمئني البال، مرتاحي الضمير، وقد فعلوا ما عليهم؛ الرعاع في زرائبهم والراعي في قصره!، وقد تحققت لديهم قدر كبير من الامتنان والرضا!. ولكن للعقل الفردي حساباته واتجاهاته ومساراته الأخرى التي تختلف حتمًا عن العقل الجمعي للرعاع، فهو لا يعرف الكسل ولا يركن إلى الراحة، ولا يمكنه الاكتفاء بإشباع الحاجات الأساسية وحدها، ويرنو باستمرار وبحسب ”هرم ماسلو“ إلى تحقيق الحاجات الأرقى والأفضل، يسعى دائمًا أن يكون المرء إنسانًا، وليس رقمًا في قطيع، فيخرج على المسار ويشذ عن غيره، مما يثير حفيظة الحوَش والرعاع والهمج والغوغاء، فتبرز غريزتهم المتوحشة، وتنطلق كلاب الحراسة في الانقضاض عليه بوحشية في محاولة لاحتوائه أو للقضاء عليه ماديًا ومعنويًا!، وذلك لأن: « أكثر ما يكرهه القطيع هو إنسان يفكر بشكل مختلف؛ القطيع لا يكره رأيه في الحقيقة، ولكن يكره جرأة هذا الفرد على امتلاك الشجاعة للتفكير بنفسه، ليكون مختلفا وهذا تحديدًا ما لا يعرفه القطيع!»، بحسب قول الفيلسوف الألماني الشهير شوبنهاور (1788 - 1860).
***
روبرت جاي ليفتون أستاذ متميز في الطب النفسي بكلية جون جاي للعدالة الجنائية بجامعة مدينة نيويورك، نشر لأول مرة في عام 1961، وطبع مرات عديدة، كتابًا بعنوان: إصلاح الفكر وعلم النفس الكلي، دراسة لغسيل الأدمغة في الصين.
Thought Reform and the Psychology of Totalism، a Study of Brainwashing in China, UNC Press re-print-.
يمكن الحصول عليه باللغة الإنجليزية في العنوان التالي:
https://books.google.pt/books?id=K783CwAAQBAJ&-print-sec=frontcover&dq=lifton+thought+reform&hl=en&sa=X&re-dir-_esc=y#v=onepage&q=lifton%20thought%20reform&f=false
تناول فيه، بشكل رئيسي، تحليل كيفية تشكيل تلك الجماعات المؤدلجة دينيًا وسياسيًا، ورصد سلوكياتها، ومناقشة الخطوات التي يمرّ بها الفرد عند انضمامه إليها. وفي بداية الكتاب عرِّف الجماعة، بأنها مجموعةٌ من الأفراد، يؤمنون بأيديولوجيةٍ تحتوي على معتقداتٍ مشحونةٍ عاطفيًا عن علاقة الإنسان بأمورٍ غيبيةٍ لا يمكن التعرف عليها ماديًا، وتدفعه باتجاهٍ شمولي، أي تجعل هذه الأيديولوجية تهيمن على جميع جوانب حياته. وعادةً ما يكون فكر هذه الجماعات مرتبطٌ بالدين، لكن ليس بالضرورة دائمًا، فقد يكون مرتبطًا بالسياسة أو الإثنين معًا.
وقد ركز ليفتون على الأيديولوجيا الشيوعية في الصين تحديدًا، ولم يضع العقيدة الإسلاموية والجماعات الإرهابية الناجمة عنها نصب عينيه عندما كتب الكتاب، لعدم ظهورها بشكل فج في ذلك الوقت على الساحة الإسلاموية وانتشارها كالوباء على الساحة العالمية. لم يكن يعرف آنذاك أن المتأسلمين جميعهم يشكلون جماعة معها يد الله الباطشة، لا تتوقف عن الانتحار ولا تتردد في النحر، لارتباطهم المرضي بعقيدتهم وارتباط عقيدتهم بالسياسة. ومن الصعوبة بمكان أن يتخلوا عن عقيدتهم في ظل تعرضهم لوابل من الأفكار التي ترسخت منذ زمن في وجدانهم، ومن الصعب إقناعهم بأنهم ضحايا التلاعب بعقولهم وحياتهم بالكامل، ولذلك يميلون ميلا لا محدود إلى حب الأقوياء ويخافون من فقدانهم، بل ويتنمَّرون بالضعفاء و يستأسدون عليهم.
في الثقافة الإسلاموية، كما هو الحال في ثقافة الاستبداد الفاشية، تتم صناعة العبودية والطاعة العمياء لله ولرسوله وألي الأمر منهم (أي الحكام والقادة وأصحاب الهيمنة)، ويتم تحويلهم إلى أصنام، على المرء أن ينحني أمامها وينضم إلى القطيع الموالي ولاءً أعمى لها، ويقدم على الانتحار أو النحر في سبيلها. ولأن هذا الأمر لا يتم تنفيذه بالدقة المطلوبة من قبل الأغلبية العظمى من المتأسلمين، تنشأ على مر العصور جماعات مختلفة تتبناه وتعمل به. ومن ناحيتهم يحيط الأصنام أنفسهم وعقيدتهم بهالةٍ من القداسة، بحيث يُنظر إليهم على أنهم مُلْهَمون وعقيدتهم هي الرؤية الأخلاقية المطلقة للوجود، ويمنع أي نقد أو مناقشة لهذه “المسلمات”، ويستعملون أقصى أساليب الابتزاز العاطفي مع منظومة من التهديدات وأنواع مختلفة من العقاب، مع كل من يتجرّأ على معارضتها، ممَّا يُرغم الفرد على تقديسهم وتبجيلهم وكل من يرتبط بعقيدتهم سواءٌ كانوا أحياءً أو أمواتًا، وتصل درجة التقديس هذه إلى استعداد المؤمنين للتضحية بأنفسهم أو بأسرهم مقابل الحفاظ على قدسية رموز جماعتهم وعقيدتهم. إنه استغلال سيء لإحساسهم بهشاشة الهوية وبعدم تحقيقها إلَّا من خلال التماهي مع الجماعة والانضمام إلى القطيع، مما يتيح للراعي أن يدفع بهم لارتكاب جرائم بحق الآخرين الذين تتعارض أهدافهم مع أهدافه. ويتبع في ذلك أساليب العمل على عزلهم نفسيًا وجسديًا عن العالم الخارجي وغرس في أذهانهم، فكرة “العدو الخارجي” أي الآخرين خارج القطيع أو ما يُسمى “نحن و هم”، وحثِّهم على الاعتقاد بأنّ ديانتهم دين الحق وعداها باطل. وأن لهم أسوة في رسول الله، بل هم مثل رسول الله، أصحاب رسالةٍ إلهيةٍ أو تاريخيةٍ وأنهم مختارون من الله لتوصيل هذه الرسالة إلى البشر، وإلزام الناس على سماع ما يقولونه والاقتناع بأنّ تنفيذ ما يأمروهم به، هو السبيل الوحيد لخلاصهم.
الإسلاموية والنظم الفاشية تنظر للوجود على أنه إما طاهر أو مدنس، نقي أو ملوث، خير أو شر، أبيض أو أسود، معنا أو ضدنا، لا ثالث بينهما، وبالطبع المتأسلمون وحدهم هم الأطهار الأنقياء والأخرون جميعًا هم المدنَّسون والأشرار. وعلى المتأسلم أن يلجأ بشكلٍ مستمرٍّ إلى الاستغفار والاستعاذة بربه، في محاولة عبثية للمحافظة على “طهارته ونقائه”، وهو مجرد هروب من النزوع الإنساني نحو الشعور بالذّنب والعار. وبما أنّهم يمثّلون الخير المطلق، وكلّ من هو خارج عنهم يُعتبرونه شرّا مطلقًا، يتوجّب عليهم القضاء عليه، فالقضاء عليه ليس محلّ اختيارٍ بل هو واجبٌ على كل عضوٍ في الجماعة الإسلاموية، فالمتأسلم لن يكون متأسلمًا حقيقيًا ما لم ينتحر أو ينحر غيره في يوم ما، وهو لديه القابلية لذلك، ومهيأ نفسيًا له بحكم عقيدته! حتى وإنْ لم يفعله بنفسه، فكيف تكون له في رسول الله أسوة حسنة ويجيء الآخرين بغير الذبح؟!
مقالتان عن نفس الموضوع:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=574792
و
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=689703



#ياسين_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أطلق الوحش؟! 2/2
- مَن أطلق الوَحْش؟! 1/2
- لماذا أفغانستان؟
- الركض وراء لقمة العيش في مصر!
- مصر بين البيادة والقيادة
- وجود الله أو عدم وجوده!
- الانحلال السياسي في مصر
- سياسة ”حلال علينا حرام عليكم“
- شهوة الكلام ونشوة التباهي
- خدعوك فقالوا إنها ”قضية فلسطينية“!
- تجديد جديد الخطاب أم تجديد الدين؟
- عن فقه ابن سلمان (رضي الله عنه) !
- مفهوم الميغالومانيا والتواضع لدي المتأسلمين
- كيف دمر العربان الهوية المصرية 2
- كيف دمَّر العربان الهوية المصرية؟
- إنسداد الأفق السياسي في بلاد العربان
- ما بين الأنبياء والأمناء في مصر، ”مشِّي حالك!“
- عن القيم الدينية والقيم الإنسانية
- الغباء السياسي وانعدام الأخلاق
- عقبات في طريق ثقافة التنوير والحداثة في عالمنا الإسلاموي


المزيد.....




- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - ثقافة النحر والانتحار!