أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد جدعان الشايب - انعطافة لابد منها..... قصة















المزيد.....

انعطافة لابد منها..... قصة


أحمد جدعان الشايب

الحوار المتمدن-العدد: 7027 - 2021 / 9 / 22 - 02:29
المحور: الادب والفن
    


يقول غوته: ( الحياة التي لا فائدة منها.. موت مبكر)
هذا صحيح , لكن الحياة التي لا حب فيها , إرضاء لتقاليد البيئة الاجتماعية , هي موت دائم , التمرد عليها فن عظيم.
_________________________________










- أنا جاهز للخروج.
وقف في مدخل الباب , نظيفاً , وسيماً , معطراً برائحة أنعشت خيشومها.. لامعاً كنجم , أنيقاً , يسوي ربطة عنقه بأصابعه, سعيدا.
لكنه لم يتلق اهتماماً منها , حتى التفاتة عابرة , ولا كلمة , خيّبت لامبالاتُها رهجه . كانت ترتّب قطع الغسيل بهدوء . ببرود , تطوي قطعة وتضعها بروية . تبقي يدها فوقها , تسرح وتفكر , تنسى نفسها , وفجأة تنتبه فتأخذ قطعة أخرى وببطء وملل , تطويها.
فوجئ بتجمد اللحظة , بدلو ماء بارد اندلق فوقه ،كآبة دهر تتغلغل في نفسه , كالسقوط في قعير مجهول.
هي التي طلبت منه الخروج في نزهة قصيرة إلى المدينة , أرادت أن تكسر رتابة الأيام , أن تغيّر لون الرماد مع من أحبت , لتصهل في الحدائق الفسيحة , لتزقو على الأرصفة بلا رقابة , تشارك نساء المدينة الدلال المنساب طبيعيا من غير تكلّف , وليفرح هو بها ومعها , ليحسد نفسه على سعادتهما , لن تطلب منه أي شيء , لا تحتاج , لديها كل شيء , فهي ما تزال عروساً , لم يمض على زواجها أشهر, لكن الصدمة التي نشبت في ذهنها واستقرت , قلبت حساباتها , غيرت من مسار تطلعها , كسرت أفق الفرحة , هشمت أباريق أملها.
تسّمر مكانه , مسحت الدهشة وجهه , خلطت ألوان نهاره بعشوائية , توقع شيئاً في نفسها .
- دعي الغسيل حتى نعود.. البسي بسرعة .
أرخَت تنهيدة كوته , فاضت سخريتها على شفتيها ابتسامة مرتعشة , مترددة.
- وماذا ألبس؟
فتح يديه ليشرح استغرابه , اختلج مكانه.
- كل هذه الفساتين و الجينزات و الكنزات ..لا تكفي!؟
- وما الفائدة منها أذا كنت سأغطيها بجلباب رمادي وأخفيها؟
لا أحد يراها.. ولم أخرج بها.. لن استمتع.. سأبدو أكبر من عمري بعشرين سنة.
- ليس باستطاعتنا تغيير شيء ..هي فترة قصيرة نقضيها في المدينة.
- ولماذا لا نغير؟ ما الذي سيحدث ؟
- هنا لابد من مراعاة المشاعر و العادات
- كلما فكرت بالذهاب إلى المدينة أغتمّ .. مع أني أحبها.. وخاصة معك.
- إذن هيا بسرعة.. البسي.. افرحي ولا تغتمّي أبداً.
شدّها من يدها , داعبها , وضحكت , ضمها إليه وقبّل رأسها.
- ما أسعدني بك.. أمنيتي أن أراك سعيدة مدى الحياة.
مشى بها إلى خزانة الملابس , كانت تتنطّط وتقفز , وهي تلبس ثم تخلع وتجرب كل ما تملك من لباس العرس , تعرض نفسها أمامه , وأمام المرأة الكبيرة , كان يصفها في كل واحدة وصفا يليق بعروس لم تفقد بعد جاذبيتها , يعجبها قوامها ورشاقتها , وكل ما فيها يعجبه , وقبل أن تبدل اللباس , يأخذها بين يديه, يقبلها , كأنه مع امرأة جديدة , أكثر فتنة من سابقتها.
هذا هو نعيمه الذي يسعى إليه , تحقق , لم يعد يفكر بالنساء. تخلص من عذاباته , ولبى حاجة عواطفه , وذلل العقبات , كافح وناضل , وصبر, وفي النهاية ظفر بحبيبته ربى , ومما زاد في تعلقه بها , اسمها , ربى, يذكره بروابي بلاده وتلالها , مخضرة يانعة في كل الفصول ,كعينيها , كطلعتها الزهراء ، المشرقة, لا فرق بين ضحكتها , وبين نداء العصافير فوق شجر الصنوبر و الكينا , ألحت عليه أن يختار لها ما يناسبها أكثر , لكنه تحير, لم يشأ أن يحدد أي واحد , فهو يراها بعيني محب , وهي أميرة في أي هيئة كانت , حتى بجلبابها الذي يمقته.
انتظرته , لفت بجذعها , لوحت بشعرها الكستنائي المنسدل أسفل كتفيها , لكنه خرج وهو يشعل لفافته وقال:
- اختاري ما تشائين .. كنت في كل لباس ..أروع من الأخر .. أسرعي ..لا تتاخري.
بقيت وحدها مع مرآتها وبدلاتها , مدت يدها إلي فستان يزدحم فيه الزهر وينساب طويلاً حتى القدمين , محتشماً , لبسته فأدهشها , بدت أطول , أضفى عليها وقارا وأناقة , اختارت قطعة حريرية سماوية اللون , جربتها فوق رأسها , لملمت شعرها . وعقَدَتها لكنها نزعتها متأففة , وطوقت عنقها بها , تركتها تتدلى على صدرها , وهزت رأسها , فانتفض موجه .
تمنت لو أنها تستطيع الخروج كما هي الآن , فكرت أن تعرض عليه أخر مشهد , أسرعت إليه بخطوات راقصة , وقفت في باب الغرفة , دارت حول نفسها , وراحت تسوي ربطة العنق على صدرها.
فتحت الدهشة عينيه وشفتيه , كتم سيجارته في طبق، نهض إليها , حل عقدة العنق , جمع شعرها وغطى بها رأسها , ثم اخذ جلباباً مرمياً , البسه لها وقال بحسرة:
- لا نستطيع ان نكون أحرارا بلا مقابل ..سنكون حكاية يلهجون بها و يتندّرون .. ماذا نفعل ؟
- ولكننا محرومون حتى التمتع بما نلبس .
- حبيبتي.. حريتنا لا تنمو هنا ..التربة عقيمة ومالحة.. استصلاحها يحتاج إلى معجزة.. هيا نخرج ..الوقت يسرقنا .
في إحدى حدائق المدينة , يجلسان على مقعد خشبي, يقضيان وفتاً قصيرا , ريثما يحين موعد الغداء في مطعم الروابي , كان دائم التلفت حوله وخلفه ، قرأت في ملامحه خوفاً وحذراً , ودون أن تحس , تمردت خصلة شعر من أسرها , تدلت تبحث عن شمس وهواء , لمحها فأسرع بكفه يغطيها , وبلهفة , لمها وأعادها تحت الغطاء بلا اهتمام منها , دون أن تنظر إليه , فردت ابتسامتها الساخرة , فأحس بها وارتبك , وراح يبحث عن تبرير يدافع فيه عن نقص يعانيه , شخصيته كاملة إلا في هذا الجانب , اخذ يلعن في سرّه ما اكتسبه عبر سنوات عمره , نشأ عليه رغم عدم اقتناعه به قال لها متردداً:
- ليست هذه قناعتي ومبادئي ..اعذريني حبيبتي ..أخشى أن يرانا أحد من البلدة ..تكون فضيحة
بتنهيدة آلمته , ارتج صدرها , أخذت ترتب شعرها تحت الغطاء بإحكام , كي لا يمد برأسه ثانية مثل حية صيفية , خوف ان يلدغ الناس بعطره , أو يشوه الحديقة بتموجه.
شاهدت كشكاً قرب باب الحديقة , نهضت.
- سأشتري أي شيء نتسلى به .
مشت بثقة وحدها ,. الكشك يقابل عينيه , يتجمع حوله فتيات وشباب وأطفال، يبتاعون البزر و الفستق و البسكويت , وأشياء أخرى , صارت بينهم .
هاجمته فكرة أرعبته ، هجس :(لو رآها أحد من البلد وحدها بين الشباب .. يفضحنا )
قفز بضع خطوات وأخذها من يدها بعيدا.
- أرجوك ابتعدي .. أنا أشتري ما ترغبين.
ذاب كيانها في ضباب السديم , وحالة من الغثيان تهاجمها , عادت بخطوات بطيئة نحو المقعد , تنتابها دفقات من اليأس والإحباط , تذكرت حريتها المفقودة الآن , حرية نشأت عليها في بيئة مسالمة , تخلو من قواعد اجتماعية صارمة , قاعدتها المحبة والتسامح, يعيشون حياة فطرية , كأنهم تعلموا من فولتير قوله : ( كن كريما وشريفا وافعل ما شئت) . كتمت غيظها , وحطت بثقلها على المقعد , وانكمشت , تفكر في المستقبل , غموضه يثقل أحمالها , بحثت عن اتهامات جزافية , تقرا كل ما يدور في ذهنه , تعرف انه منطلق , حر, شريف , كريم لكنه خائف , مرعوب , يريد أن يمد يده لأحد ينقذه من سجنه , يعتقه , يفك قيوده ليتحرر, ليستغل كل يوم في حياته ليعيش لحظات تحسب من عمر شبابه , ليشترك مع الناس في فعاليات الحياة , وهي معه , تظل تحبه , لا تفارقه , ينجبان أطفالا بعيدا عن المعتقدات والقيود الاجتماعية , وعن الأصابع المتّهِمة لينشَؤوا في كنف الطبيعة الحرة , ليتعلموا كل شيء بلا أسوار, رفعت رأسها المرمي في حجرها , شاهدته قادماً يفتعل المرح , ابتسم , ابتسمت له ، رثت لحاله , فالتمست له ألف عذر.
جلس بجانبها، فتح كيسا كبيرا ممتلئاً.
- أتيت بكل ما ترغب به نفسك .. ولكن لا تشبعي .. إياك أن تعطلي الغداء.
- شكرا يا حبيبي .. كأني أتعبتك يا ربيع.
- سأبحث عن سعادتنا .. حتى بين النجوم
مرّ من أمامهما شاب وفتاة , يطوق خصرها العاري بذراعه , يضم كفَّه بكفها، تتحسس شعيرات الأصابع, يتهامسان, يقترب بأنفه من شعرها الأغيَد، يتنشق نسيمه, يقضم أذنها أحيانا فتغيد و تزقو.
لمحها تتابعهما بنظرها صراحة حتى ابتعدا. قال لها متسائلاً :
- هل تحسدينهما؟
- أهنئهما.
تنفث الطبيعة همومها وكآبتها زفرات رياح.. وتنفث النفس ألامها أهات. تأوه مطولا , قال:
- لماذا توقف الناس عن غرس الأزهار في القلوب.. ورفضوا الربيع ؟
- وتوقف الخيال عن التحليق في الفضاء مع النجوم .
- حتى لم نعد نرسم الحدائق و البساتين على أرديتنا وجلابيبنا.
- علينا أن نبحث عن حل.. لتكون الحياة مليئة بالجمال .
بشق النفس , وجد النادل مكانا مناسبا في المطعم، هيأ طاولة صغيرة وكرسيّين بسرعة .
جلسا بسعادة مؤقتة , كان الطعام ساخنا ولذيذا, كسخونة العواطف , ولذة السهرة ,أضفى البهاءَ على الجو, دفءُ الغناء و الموسيقى, والرقص. امتد الوقت بهما حتى أفول الشمس , تقدم بعض الراقصين والراقصات , طلبوا من بعض الحاضرين المشاركة في الساحة الدائرية , نهض رجال ونساء , رقصوا على أنغام شعبية , وإيقاعات جبلية , الفرح حمامات بيضاء ترفرف فوق الرؤوس, تقدّم شاب وفتاة يلهثان رقصا , أخذا ربيع من يده إلى الحلبة , تمنعّ وهو يبتسم , لكنهما شداه بإصرار . كان كل عضو فيه يرقص على كرسيه و يدندن مع الغناء , وجدها فرصة ليفرغ شحنة مكبوتة في كيانه , يريد أن يلهو مع الشباب و الفتيات , لا لطمع في النفس يدينه , ولكن لرغبة عارمة بالرقص , مثل كل الفرحين , يحس أن الرقص يحقق له إنسانيته , ومما شجعه على النهوض والاستجابة في المشاركة , ربى, التي وقفت تشده , تحثه , تدفعه , قالت:
- يا لله ربيع .. لا تخجل.. ما أحلى رقصك .. هيا.
رقص مع الشباب والصبايا , أخذته فتاة من يديه , رقصت معه , إيقاع الطبل يحفزه على الاستمرار حتى الفجر, خلع سترته , حل ربطة عنقه , زاد التصفيق و التشجيع , وقف الكثير من الراقصين يتفرجون , دهشوا , بزّهم جميعا ,تبدلت الفتيات على الرقص معه, وكانت زوجته تصفق له بسعادة وهياج، كأنها ترقص على مقعدها , سال عرقه على وجهه ورقبته , شاب وفتاة أخذا بيدي ربى , يدعوانها إلى الحلبة , لتشارك زوجها , شاهداها ترقص جالسة , لمح ربيع المشهد فجأة من مكانه, توقف عن الرقص، أسرع نحوهم بعد أن وقفت معهما ربى تمايلت قليلا , فشدها من ذراعها بقوة , فسقطت على مقعدها .
نبتت في ذهنه رعونة عطلت إنسانيته , صرخ:
- ما هذا الغباء .. سترقصين ! ؟
ألا تخافي أن يراك أحد أبناء بلدتي ؟
أدارت رأسها باتجاه النافذة الواسعة, واستدرّت عيناها دموعا غسلت وجهها . كانت بعض العيون من حولها تراقب بحسرة انكسارها وخشونته , أحس بهم ، غدا الموقف في غير صالحه , لكنه , كلحظة الصحو من غيبوبة الألم , همس لها همسا , لم تلتفت , مدّ يده نحوها , أمسك بساعدها فأبعدته. قال:
- أنا آسف .. آسف جداً .. ليس بيدي .. لم أع ِكيف فعلت هذا .
كانت مثل محارب يخوض معركة بلا أمل , التفتت إليه , مسحت دموعها , ونهضت .
- خذني إلى البيت .. بسرعة أرجوك .
في الطريق , بالقرب من ساحة النقل العام , سبقها بخطوتين فجائيتين , وراح يمشي أمامها تماماً , خيل إليها أن شيئا قد حل به، فأسرعت إلى جانبه لتستوضح من ظنها , وحين فوجئ بأنها اقتربت منه , مد ذراعه ليبعدها خلفه , ويبقى هو أمامها , حل الظلام , كانت أعداد متفرقة تسير باتجاه مدخل الحافلات, حاولت أن تلحق به ثانية صارت تجانبه, فمد ذراعه معترضا وهو يتلفت حوله , ليتفحص عيون الناس ووجوههم، عساها تكون منشغلة بسواهما دفعها لتبقى خلفه. قال بصوت خافت :
- امشي خلفي حتى نصعد الحافلة .. أرجوك.
- ولم ! ! صرتُ سُبّة عليك ! ؟
أرجوك توقف .. توقف.. أفهمني ما تريد..
- اجعليني هدف خطواتك.. مسبار الطريق.. كبش فداء.. اجعليني ما تشائين.. المهم أن تكوني خلفي .
- ولماذا أسير خلفك ؟
- هنا .. قد يرانا أحد المسافرين من بلدنا.. فتكون فضيحة لي .
- وإذا مشيتُ خلفك .. لا تكون فضيحة ؟
- لا استطيع التمرد على عاداتنا .. الناس يلوكوننا بألسنتهم . ويصفوننا بأوصاف منحطة .. عليك فقط أن تتبعيني وكفى .
- ولكن قد يكره الإنسان ظله ويحتقره .. لأنه دائماً يتبعه .
- لا .. هم يرحبون بهذا .. ويجلّونه
- يمقتون الحرية الشخصية .. ويكرهون أن تكون المرأة إلى جانب زوجها.. ما هذه البلاد.. ؟ ما هذه الحياة ..؟ شيء عجيب ! !
- الحرية الشخصية هو ما يتفق مع رؤيتهم.
- ولكني أحب الحياة المليئة بالفرح .
- يكرهون الفرح.
- أود ان تراني العيون جميلة.. رشيقة .. فرحة.. وأكره هذا اللباس المعتم لا أرغبه.
- هم يقولون إن المرأة جوهرة.. علينا ان نحميها ونحافظ عليها .. ونخبئها من الأعين والنوايا .
- نحميها بتوعيتها وانطلاقها .. بالثقة بها لتثق بهم وبنفسها.
- يقولون .سيطمع فيها الرجال .. وتكون فتنة .. يريدونها أن تظل بعيدة لا يراها أحد ولا ترى أحداً .
- لا أحس إلا بعكس هذا .. إنها تصير سوداوية التفكير .. فتحتقر مجتمعها.
- دعينا الآن نصل إلى بيتنا .. هناك نقول ما نشاء.
- لا أود الكلام أبداً .. لا هنا ولا في البيت .. أرجوك يا ربيع.. أنا تعبت.
ساد صمت كالجليد طيلة الرحلة , كأن أطرافه ابتعدت عنه أيضاً , لم يعد يحس بامتلاكه أي شيء , حتى علبة التبغ , محرم عليه الاقتراب منها , وفي الاستراحة القادمة سيعبُّ منها ما استطاع.
تلقي ربى بوجهها على الأضواء الهاربة عكس اتجاهها , تشاهد قرى ومزارع وأعمدة , كلها تمضي مسرعة بعكس الاتجاه , مثلما يسرع ذهنها برمي الأفكار المتزاحمة الموجعة.
حاول ربيع ملاطفتها , أحس أنه أكثرَ مِن تأسفه عن أفعاله , ولكنه مرغم عليها , رغم رفضه القاطع , فعلها بحكم تعوده ونشأته , صارت قيد يديه ورجليه وعنقه.
ظلت ربى غائبة عن ملامسته, أو الاستماع لهمساته, أو الالتفات إليه مسافة الطريق.
أسرعت إلى غرفة الملابس , رمت عنها جلبابها وغطاءها , ثم جلست إلى قطع غسيلها المرمي في ارض الغرفة , بينما جلس ربيع على مقعد منكفئا على نفسه , حيادي الملامح , منكمشا في جلسته كالمستغفر, يضطرب نبضه ,يختلس نظرة سريعة متفحصة.
الموقف با جمعه صقيعي , فر الكلام من لسانه إلى الداخل , ابتلعه فغص , احتضن كفّه اليسار باليمين , فركهما , طقطق أصابعه. كانت هي منشغلة بطيّ الغسيل المبعثر منذ خرجا. كلما طوت قطعة , تقذفها فوق كومة مطوية فتنقلب إلى جهة أخرى وحين تنتهي من مجموعة , تعيد ترتيبها من جديد .
نزقها المصطنع , جعله يتجمد في مكانه كمتهم , لا يكاد يمد ذراعه نحو تبغه بحرية , كأنه مراقب , محاصر, يشهق البرودة في أحشائه مجفلاً , كلما رمت بقطعة قماش بنزق , كأنها جدار ينهدم على رأسه , يلجأ إلى شهيقه وزفيره, يساعده على التخلص من اختناق حنجرته , يهيئه لاستعادة التكيف, ويعبر بها عن ضيقه .
كانت تلتفت إليه بين لحظة وأخرى, تنشج, تعرض عليه دموعها خطفاً , ثم تتوقف بلا سبب , تهدأ , تقذف بنظرها خلال النافذة , يهرول القمر ضاحكا بين الغيوم القطنية , كطفل يفرح بندف الثلج , كمهرة تلهو بين البيادر, تتأمله , وترخي آهة مخنوقة , تحب الحياة لتعيشها بحرية مع حبيبها وزوجها بلا رقابه , بعيداً عن قوانين مجتمعه الصارمة , العادات المذلة , القيود اللئيمة , كلها تشل المشاعر, تعطل الأحاسيس , الموت عندها أعز من حياتها بلا حرية وانطلاق , و مشاركة في كل الفعاليات التي تبدع المرح .أحرق علبة تبغ كاملة في وقت قصير, تناول علبة أخرى أشعل سيجارة، تجرأ بعد مرور ساعات على صمت أرعف الغرفة حتى فاضت , وفاض به كيل تحمل الانتظار بلا جدوى , سعل سعلة مصطنعة , أحّ أحيحاً متكرراً , ليُذيل تكدّر الجو بينهما , ويشجع نفسه على الكلام , قال :
- حبيبتي ربى .. صدقيني.. أنا أعاني فقدان الحرية أضعاف ما تعانين .. ولكن ما العمل ؟
- .................................
لا ترد, تنظر إليه خطفا ً, وتحوّل وجهها باتجاه أخر.
- ساعديني على إيجاد حل ..ساعديني .. نحتاج حلا يخلصنا من قيودنا لماذا تريدين إحراجي ؟
كأنها اكتشفت كنزا , اتجهت إليه , فتحت عينيها العسليتين باهتمام شديد , شعرت بجدية طرحه للأمر, امرأة ذكية , واعية , أرادت ان تقطف ثمرة اللحظة الحاسمة , قالت بجدية :
- تقولها صادقاً ؟..أحقا تريد أن تجد حلاً ؟
- وغداً ننفذه .. إن كان يناسبنا..
- نرحل...
- نرحل !! لا لا ..لن أرحل عن وطني ..
ابتسمت , ابتسم لها , مسحت وجهها بمنديل , نظفت عينيها وأنفها قالت :
- لا يا حبيبي .. داخل الوطن .
- رحيل داخل الوطن !! إلى أين ؟
- إلى بلد يصنع الحرية ويحميها.
- أي بلد تقصدين ؟
- ما رأيك بمدينة ..طرطوس. . أو صافيتا.. أو أي مدينة يعيش فيها جميع الناس بحرية.. وفيها جميع أطياف المجتمع؟.
تريث وبدا يفكر، هو يحب البحر, ويحب طرطوس بالتحديد، زارها مرات عديدة ، لكنه لايدري لماذا يعشق حمص وأهلها.. زجوها ومناخها، أخذ رأسه بكفه ، أغمض عينيه , تخيل منزلاً صغيراً في ضاحية , وعملاً متواضعا يكفيه الحاجة والكثير من الحرية, أسرّ لنفسه ( لا نحتاج إلى دراسة كافية لاتخاذ قرار ) .
عزم أمره على أن ينقل عمله , وحاجاته المالية , وكل ما يتعلق بحياته ، إلى حمص , وهناك يعيش معها ، سيحب الحياة أكثر ألف مرة , سيستمتع بتفاصيل الأيام بحرية ، قال لها :
- ربى .. سوف نرحل إلى حمص .. غدا نسافر إليها لنبحث عن شقة صغيرة..
قفزت إليه كقطة , شعرت بأنها فقدت كامل عقلها لثانية , غيبته فرحة لم تعشها من قبل , وقف , لفته بذراعيها وأمطرته برشقات من القبل في كل أنحاء جسمه, أراحت رأسها على كتفه, وانفجرت حنجرتها ببكاء مثل زغرودة طويلة .



#أحمد_جدعان_الشايب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المغفل يستخدم عقله...... قصة
- مبادئ وقناعات متحولة......قصة
- القارض لم يمت
- المأزق....... قصة
- حق مشروع... قصة
- مشوار العذاب
- البدائل لأساليب التدريس القديمة.
- الصرخة.. وعناق الأرض...... قصة
- طرق التعليم التقليدية.. القمع الأسري والمدرسي للأطفال
- خفقات القلب الأخيرة.... قصة
- أسود.. وأسود.... قصة
- أهمية الكتاب والقراءة.. وتعميم الثقافة.
- مأساة إيزادورا...... قصة
- الغلس....... قصة
- الكمين....قصة عن أحداث الجزائرفي نهاية القرن الماضي
- ضد الفطرة....( قصة)
- وسوسات التحدي الكبير
- الجرح............... قصة
- عليّ بحماري.................قصة
- المأزوم


المزيد.....




- متحف -للنساء فقط- يتحول إلى مرحاض لـ-إبعاد الرجال-
- إيران تقيم مهرجان -أسبوع اللغة الروسية-
- مِنَ الخَاصِرَة -
- ماذا قالت الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز بشهادتها ضد ترامب؟ ...
- فيلم وندوة عن القضية الفلسطينية
- شجرة زيتون المهراس المعمر.. سفير جديد للأردن بانتظار الانضما ...
- -نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا ...
- فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد جدعان الشايب - انعطافة لابد منها..... قصة