أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - صادق البصري - المقتل كماهو .. بداية نشوء الاسلام الفارسي!













المزيد.....

المقتل كماهو .. بداية نشوء الاسلام الفارسي!


صادق البصري

الحوار المتمدن-العدد: 6998 - 2021 / 8 / 24 - 20:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بسبب قمع الفيسبوك للٱراء الحرة ولطرح الحقائق وقمع الافكار وهي سياسة تنتهجها شركة الفيسبوك بالتواطئ مع حكومات وسلطات بلداننا الداعشية المليشاوية التي تتعمد طمس الحقائق ولما لاقيته من قمع في الفيسبوك لاقول رأيي هاجرت الى الحوار المتمدن الذي لايظلم لديه احدا وجهود الباحثين الأفذاء منبر حر الحلقة 63: إماطة اللثام عن البدايات المُبكِّرة لنشؤ دين الإسلام ٦٣ ج٢

** إعداد و تقديم: الباحث شريف عبد الرّزّاق
** تصويب و تدقيق: د. سام مايكلز Dr. Sam Michaels

لقد تمّ طرح الكثير من التّساؤلات حول البدايات الحقيقية لدين الإسلام، خصوصا" في الفترة الأخيرة، حيث تم التشكيك في الرواية التاريخية الإسلامية، التي تتضمن ثغرات كثيرة سواء" فيما يتعلق بلغة أو خط أو جغرافية القرآن، أو بموقع مكة التي تبعد عن الخط التجاري المعروف للقوافل الذي كان يمر قرب البحر، و كذلك لانعدام الأدلة و البراهين العلمية على صدق هذه الرواية. و من أبرز من تناول هذه القضية بالنّقاش جون وانسبرو John Wansbrough الذي استنتج أنَّ القرآن قد تطوَّر بشكل تدريجي خلال القرنين السابع و الثامن الميلاديين، و خلال فترة زمنية طويلة من التناقل الشفهي عندما كانت الفرق و الطوائف اليهودية و المسيحية تتحاور باستمرار و تتبادل الأفكار مع بعضها البعض في مكان آخر يقع في الشمال من مكَّة الحجاز و المدينة، و الذي بات يشكِّل الآن ما يُسمى بسوريا و الأردن و فلسطين و العراق. و أضاف وانسبرو أنّه لا مكان للقرآن في منطقة الحجاز سوى أن نبحث عن ذلك في أراضي سوريا و بلاد ما بين الرافدين، و أنّ لا تاريخ زماني له سوى أن نموضعه بدءاً من القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) و ما تلاه

و قد سار على نهج وانسبرو كل من باتريشيا كرون و مايكل كوك في كتابهما [الهاجرية] و الذي توصلا فيه إلى أن جغرافيا الإسلام و لغة القرآن تنتميان إلى شمال شبه الجزيرة العربية أي بلاد الشام و ليس الحجاز! كذلك أنجزت باتريشا كرون عملاً آخر في التنظير و توثيق النص أركيولوجياً و هو كتاب [تجارة مكة و نشوء الإسلام]، إذ ناقشت الكاتبة موثوقية موقع مكة الحجاز في طريق التجارة الدولية القديمة بقراءة مقارنة بين الكتابات البيزنطية و الرومانية و الخرائط القديمة و كمركز تجاري لم يُذكر مطلقاً في المصادر العلمية القديمة، و من هنا بدأت في تساؤلاتها و تشكيكها بصحة القصة المروية. كما تساءلت الكاتبة في بداية الكتاب ما الذي جعل مكة محور التجارة الدولية بين شمال و جنوب شبه الجزيرة العربية و هي ليست ذات مورد مائي أو غذائي و لا إنتاج صناعي، كما أنها تبعد عن الخط التجاري المعروف للقوافل ما يقارب المئة ميل. هذه التساؤلات طرحتها في دراسة مطولة وصلت بها إلى الإستنتاج بأن مكة الحجاز ليست هي مكة القديمة و أنها بحسب الإشارات تقع إلى غرب الفرات على الحدود ما بين العراق والشام في الهلال الخصيب

كما لاحظت كرون أنه لا توجد إشارات على وجود مكة قبل القرن السابع الميلادي، و ذكرت أن صمت مصادر القرن السادس لا يرجع إلى فقدان تلك المصادر، لكنه يرجع إلى أن المصادر كتبت عن مكة و قريش بعد انتشار الفتوحات [1] … كما ذكرت أن مركز قريش التجاري لم يكن هو المكان الذي كانت له شهرته بين المسلمين [2]، فمكة لم تكن معروفة قبل ظهور الإسلام! و قد شكك في الرواية الإسلامية من الباحثين العرب سليمان بشير في كتابه [مقدمة في التاريخ الآخر] الذي ذكر أن سيرة النبي محمد نُسجت على منوال سيرة محمد بن الحنفية. كما ظهرت بعض الآراء التي تثبت أن القرآن كُتب في الأصل باللغة الآرامية، حيث ذكر كريستوف لوكسمبورغ أن القرآن إذا قُرِئَ بلغته الأصلية أي السريانية الآرامية يتم حل الكثير من الأمور الغامضة التي حار الفقهاء و المفسرون في فهمها و تفسيرها

قام بعض التابعين بتأليف كتب حول سيرة الرسول منهم عروة بن الزبير بن العوام، لكنها ليست سيرة بالمعنى المُتعارف عليه بقدر ما كانت مجموعة من الأخبار المتفرقة عن النبي و يُقال أن عروة توفي سنة 92 هجرية، ثم جاء أبان بن عثمان بن عفان المتوفى سنة 105 هجرية فألّف في السيرة صحفا" جمع فيها أحاديث حياة الرسول [3]. لكن هذا يبقى كلام دون أي دليل لأننا لم نتوصل لأي وثيقة كتبها هذان الشخصان أو غيرهما. لكن أول مرة دُونت فيها السيرة بالمعنى الصحيح كانت في عهد أبي جعفر المنصور حينما أمر محمد بن إسحاق بأن يكتب سيرة للنبي محمد حوالي سنة 140 هجرية، لكن هذه السيرة أيضا" ضاعت أو تم إتلافها، و لا نعرف هل فعلا" كتبها إبن إسحاق أم لا؟!، ثم جاء إبن هشام بعد حوالي مئتي سنة للهجرة، و أّلف سيرة جديدة للنبي زعم أنه استند إلى سيرة إبن إسحاق في تأليفها، لكنه تصرّف فيها بأن حذف كثيرا" من الأشعار و المواقف، لأنها كانت "غير مناسبة لصورة النبي" على حدِّ قوله!

لكن من خلال ما تم اكتشافه فيما بعد من مصكوكات و نقوش و مخطوطات بدأ الشّك يراود الباحثين و المفكرين الذين بدأوا يطرحون أسئلة حول مصداقية ما تم تدوينه حول بدايات تاريخ نشؤ دين الإسلام. و أول ما يُمكن ملاحظته عند دراسة التاريخ الإسلامي هو أن السبعين 70 سنة الأولى منه مبهمة و ضبابية بسبب قلّة المصادر الأجنبية التي تناولت هذه الفترة، و على الرغم من قلتها فإن مقارنتها بالمصادر الإسلامية تجعلنا نقفز من الصدمة، فالمصادر الإسلامية تخبرنا بأن فتوح الشام و العراق كانت بعد وفاة النبي المحمد إلا أن المصادر الأجنبية تؤكد العكس تماما"؛ حيث يذكر بعضها أن "محمد" كان يقود بنفسه جيوش العرب التي فتحت بلاد فارس و العراق و الشام و مصر. فإذا كان النبي المحمد هو الذي قاد جيوش المسلمين خارج شبه الجزيرة العربية فكيف إذا" نفسر ما حدث فيما يُسمى ب"حروب الردة"؟!!، و مقتل مسلمة الحنفي و خلافة كل من أبو بكر و عمر و عثمان و علي؟ و المصادر الإسلامية نفسها تُثبث أن فتوحات الشام و العراق و فارس حدثت في عهد النبي محمد، و سنُثبت ذلك من خلال ما أورده الطبري في تاريخه. و قد توصل بعض الباحثين إلى أن العربية التي كتب بها القرآن ليست عربية مكة و لكنها عربية المناطق الشمالية النبطية، البتراء و سوريا تحديدا"، و كذلك الخط المُستعمل في كتابة القرآن فقد أكد كثير من الخبراء أنه ينتمي إلى شمال شبه الجزيرة العربية، و القرآن نفسه يذكر أن قبيلة قريش كانت توجد في مكان ما في الشمال في المكان الذي كان يتواجد به قوم لوط

إضافة" إلى ذلك فإن المصادر الأجنبية و المصكوكات و النقوش ذكرت الخليفة معاوية دون أن تذكر أنه كان خليفة" للمسلمين أو أن تذكر أنه كان إبن أبو سُفيان، بل أشارت له على أنه كان مسيحي بايعه الناس في جبل الجلجثة ثم نزل منه و صلّى في قبر مريم و اقترن إسمه بالصليب و برموز مسيحية أُخرى حيث نجد في الحوليات المارونية ما يلي: "تجمّع الكثير من العرب في القدس و جعلوا معاوية ملكا" و صعد و نصب (ملكا") في الجلجثة (مكان صلب المسيح) و صلى هناك. و ذهب إلى الجسمانية و نزل إلى قبر مريم المباركة و صلّى به". و المُلاحظ هو غياب أي دليل إسلامي سواء" نقوش أو مصكوكات أو أي أثر أركيولوجي أو وثائق أو مخطوطات تدل على وجود النبي أو أحد الخلفاء من بعده أو على وجود الإسلام قبل العام 72 هجرية أي خلال فترة حكم عبد الملك بن مروان، باستثناء عملة نقدية يُقال أنها تعود لعبد الله بن الزبير (أو الزبيل أو الزنبيل بحسب العملات التي وُجدت في بلاد فارس) في فترة صراعه مع عبد الملك، فلم يُكتشف نصبٌ تذكاري واحد بُني بأمرٍ من أحد الفاتحين يُمكن أن نرجعه و نحن مطمئنين إلى تاريخٍ يسبق عهد عبد الملك، فأقدم بناء ديني يذكر النبي محمد و الإسلام هو قبة الصخرة، فلم يُكتشف رغم البحث المتواصل عن مسجد واحد يعود لما قبل فترة عبد الملك، لكن بعد سنة 72 هجرية ظهرت المساجد و العملات و النقوش التي تحمل إسمي الإسلام و النبي محمد و عبارات رسول الله و لا إله إلا الله بكثرة!!

محمد، الفاتح العسكري:

إن عدم وجود دليل مادي على وجود محمد ليس دليلا" على عدم وجوده، بل كان موجودا" و قائدا" للجيوش و قام بأعمال جبّارة كان منها إطاحته للعرش الفارسي الساساني، و تقزيم الإمبراطورية البيزنطية باستيلائه على معظم الأراضي الشامية بما فيها فلسطين و كذلك إقليم مصر و النوبة (السودان) و الرواية الإسلامية لبدايات الإسلام لم تُخبرنا بما حدث بالفعل، بل روت ما أراده السياسيون و الحاكمون سواء" بنو أمية أو بنو العباس، فالسيرة النبوية كُتبت في عهد العباسيين، كتبها إبن هشام نقلا" عن إبن إسحاق الذي كتبها في خلافة أبو جعفر المنصور، بأمر من هذا الأخير، روى فيها ما أراده ذلك الحاكم العبّاسي. ثم جاء آخرون بعد مرور قرنين على الأحداث المحمدية و ألّفوا ما شاؤوا من كتب نذكر منها على سبيل المثال: السيرة النّبوية لإبن هشام المتوفى سنة 218 هجرية الذي أضاف إليها و حذف منها ما شاء و كتاب المغازي للواقدي المتوفي عام 822 م ـ 207 هجرية، و كتاب طبقات لإبن سعد المتوفي عام 845 م ـ 230 هجرية، و تاريخ الطبري المتوفي عام 922 م ـ 310 هجرية، و مجموعة كتب “الصحاح” الموضوعة جميعها في نفس الوقت: البخاري المتوفي عام 870 م ـ 256 هجرية و مسلم المتوفي عام 875 م ـ 262 هجرية، و إبن ماجه المتوفي عام 886 م ـ 273 هجرية و إبن داوود المتوفي عام 888 م ـ 275 هجرية و الترمذي المتوفي عام 892 م ـ 279 هجرية و النّسائي المتوفي عام 915 م ـ 303 هجرية. هذه الكتب كلها تم تأليفها في العصر العباسي و من الواضح أنه تم تأليفها برغبة من الحكام و إرادتهم و بتشجيع منهم على غرار ما حدث مع إبن إسحاق، و بالتالي فإن صورة النبي التي نعرفها الآن هي من صناعة العبّاسيين الذين مزجوا بين محمد الذي كان يؤمن به العراقيون و الفرس و محمد الذي كان يؤمن به الأمويون، و أضافوا لسيرته أعمالا أُخرى لأشخاص آخرين كزواج أبرويز من السيدتين ماريا بنت الإمبراطور موريق (موريس) و شيرين، حيث نجد في السيرة أن المقوقس أهدى النبي فتاتين اختار واحدة لنفسه هي ماريا و وهب الثانية و اسمها شيرين لشاعره حسان بن ثابت!، كذلك سياسة الإغتيالات التي انتهجها أبرويز لتصفية أعدائه كاغتيال بهرام شوبين في بلاد الترك، و النعمان بن المنذر و خاليه بندويه و بسطام و غيرهم حيث دون إبن هشام نقلا" عن إبن إسحاق أن النبي محمد سن كذلك سياسة الإغتيالات لتصفية خصومه كاغتيال إبن أبي الحقيق و أم قرفة و عصماء بنت مروان و كعب بن الأشرف والتي تشبه طريقة إغتيال بسطام كما رواها المؤرِّخ الأرمني سيبيوس حيث ذكر أن بسطام (و هو للعلم خال أبرويز) كان قد ساعده على القضاء على ثورة بهرام شوبين هو و أخوه بندويه، و كانا قد قتلا هرمز والد أبرويز، فلما استحكم الأمر لأبرويز قتل بندويه و أراد قتل بسطام، لكن هذا الأخير عرف بالأمر، فجمع جيشا" قويا" في منطقة طبرستان و توجه إلى العاصمة الفارسية (طيسفون) من أجل قتل أبرويز و الإستيلاء على العرش، و كان قد تزوج من إمرأة تُدعى كردية كانت زوجة بهرام شوبين أي كان عريسا" في ذلك الوقت مثل كعب إبن الاشرف، فلحق به ملك الكوشانيين في عدد قليل من الأفراد، و كان بسطام قد ابتعد عن جيشه، فترجّل ملك كوشان عن حصانه و سجد لبسطام سبع مرات، تقدّم نحوه بسطام و طلب منه النهوض و امتطاء صهوة جواده، لكن ملك كوشان كان قد هيأ كمينا" على الطريق، ثم تقدّم من بسطام و طلب منه تنحية حراسه بعيدا" لأنه يريد قول شيء للملك (بسطام) فقام الملك (بسطام ) بتنحية الحراس، و سار الملكان جنبا" إلى جنب يتحدثان و فجأة خرج الكمين الذي كان قد وضعه ملك كوشان على الطريق و قتل بسطام [4]، بينما نجد في الرواية الإسلامية أن بسطام قتلته زوجته كردية و التحقت بأبرويز و تزوجها. و كذلك الكنز المدفون في خيبر عقب فتحها من طرف النبي حيث تم تعذيب أحد اليهود من أجل أن يدلّهم عليه، و الذي يذكرنا بالصندوق الذهبي الذي يحتوي خشبة الصليب المقدس حيث تم تعذيب البطريارك زكريا من أجل إرشادهم إليه فوجدوه مدفونا" في مبقلة أو حديقة في القدس. و كذلك فتح أحد حصون خيبر الذي فتح بابه رجل واحد هو علي بن أبي طالب و الذي يذكرنا بفتح حصن السوس على يد سياه الأحمري أو صاف بن صياد!

الظروف الدينية قبل الغزو الفارسي لأراضي الدولة البيزنطية:

كانت الأوضاع الدينية في الشرق الأوسط خلال بداية القرن السابع مضطربة و متوتّرة، خصوصا" بين أتباع السيد المسيح بجميع طوائفهم و الذين كانوا يُشكِّلون أغلبية السكان، خصوصا" و أن الديانة الزرادشتية في إيران عرفت تراجعا" كبيرا" حتى قيل أن كسرى أنو شروان غير ديانته و اعتنق المسيحية، فقد ذكر سيبيوس أنه عندما اقتربت ساعة وفاة أنو شروان آمن بالمسيح و قال هذه الكلمات: “أؤمن بالإله الواحد الذي خلق السماوات و الأرض و الذي يخدمه المسيحيون؛ الآب و الإبن و الروح القدس، الإله الواحد و لا يوجد إله إلا الذي يعبده المسيحيون”[5]. بحسب رأينا فإن كسرى الأول لم يعتنق ديانة أعدائه البيزنطيين و إنّما اعتنق شكلا" آخر من أشكال المسيحية و هي النّصرانية التوحيدية غالبا" النسطورية أو نصرانية توحيدية أُخرى كالإبيونية أو الآريوسية مثلا"، و كذلك الشّأن بالنّسبة لأبرويز، و هذا ما توصل إليه أميت سكوت Emmet Scott الذي اعتبر أن الإسلام بدأ في عهد كسرى أبرويز حفيد كسرى أنو شروان، الذي اعتنق الإبيونية (اليهودية المُتَنصِّرة)، لذلك نجد على النقود الفارسية رمز الهلال و النجمة التي ظهرت قبل بداية الإسلام بعشرات السنين، و اعتبر أن "الفتوحات الإسلامية" ما هي إلا الحروب التي خاضها هؤلاء الفرس أنفسهم ضد أعدائهم البيزنطيين بقيادة القائدين سين أو شاهين و شهر باراز أو شهر فاراز [6]، و يذكر كريستنسن أن الموابذة لم يكونوا سعداء بعودة كسرى (خسرو) الثاني إلى العرش لأنه قد تأثّر أثناء إقامته في الإمبراطورية الرومانية و مال إلى الإيمان بجميع الأوهام و الخُرافات المسيحية التي كانت سائدة فيها، و قد لبث على هذه الميول تصرفه إليها امرأة [7]، و المقصود بهذه المرأة: ماريا بنت الإميراطور موريس أو شيرين من خوزستان. يقول إبن العميد: "و في الثانية من الهجرة بعث أبرويز عساكره إلى الشام و الجزيرة فملكها، و أثخن في بلاد الروم، و هدم كنائس النصارى و احتمل ما فيها من الذّهب و الفضة و الآنية، حتى نقل الرّخام الّذي كان بالمباني، و حمل أهل الرّها على رأي اليعقوبيّة بإغراء طبيب منهم كان عنده فرجعوا إليه و كانوا ملكيّة .. و عندما انتصر هرقل رد النّصارى اليعاقبة إلى مذهبهم الّذي أكرهوا على تركه [8]، هل اعتنق أبرويز المذهب اليعقوبي؟ .. لما استولى فوقاس على الحكم في بيزنطة اتخذ موقفاً حازماً من الشقاق الذي كان قد حل بكنيسة أنطاكيا بين المونوفيزيين (الطبيعة الواحدة للمسيح) اليعاقبة و الأرثوذوكسيين أبناء الكنيسة الجامعة فأيد هؤلاء تأييداً تاماً، و منع اجتماع اليعاقبة و ضيّق على بطريركهم أثناثيوس الجمّال في مقره في القبة بين حلب و منبج. لكن اليعاقبة تذمروا و تشجعوا فعقدوا اجتماعاتهم و تشاوروا، و توافد رؤساؤهم على أنطاكيا و اجتمعوا في إحدى كنائسها فاضطرت السلطات أن تفرقهم بالقوة، فامتنعوا فأكرهوا و كثُرت ضحاياهم. و وصل إلى أنطاكيا في السنة 608 أنسطاسيوس بطريرك الأقباط المونوفيزيين و اجتمع بزميله أثناثيوس الجمّال، فخالف بعمله هذا أوامر الإمبراطور و استهدف جزاءه، فنهض القائد بونوسيوس إلى أنطاكيا و أمر بفض الإجتماع، فثار اليعاقبة في وجهه فأخضعهم بالقوة. و تناولت سيوف جنوده عدداً كبيراً منهم فكانت مجزرة مؤلمة". و يقول المؤرِّخ ثيوفانس أن فوقاس رغب في تنصير اليهود فأمر بتعميدهم فثاروا في أنطاكيا فجرّد بونوسيوس قوة عليهم فذبحهم تذبيحاً. لكن كولاكوفسكي المؤرِّخ الروسي الذي بحث في هذا الأمر بحثاً دقيقاً يرى أن ثيوفانس يخلط في أمر تعميد اليهود بين فوقاس و هرقل و يؤكد أن الذين ثاروا على فوقاس هم اليعاقبة لا اليهود. و يأخذ كولاكوسكي برواية أنطيوخوس، فيرى أن اليهود استغلوا الموقف فأيّدوا السلطات في نزاع سياسي بينها و بين اليعاقبة فأوقعوا بهم خسائر كبيرة في الأرواح [9]

من خلال ما سبق طرحه يتَّضح لنا أن اليعاقبة المونوفيزيين قد تعرضوا للإضطهاد و التّعنيف، مع العلم أن ماريا بنت الإمبراطور موريس و زوجة كسرى أبرويز كانت تنتمي إلى هذه الطائفة و كذلك زوجته الأُخرى شيرين، و قد جاء في تاريخ أنطيوخوس أنّ أبرويز أودع خشبة الصليب المقدس التي أرسلها له شاهين أو شهر باراز من بيت المقدس (أورشليم ) زوجته المسيحية فحفظتها في مكان أمين في طيفسون. و هذا ما يؤكّده إبراهيم رمزي في كتاب [باب القمر] حيث ذكر أن اليعاقبة سمعوا بعض القساوسة و الرهبان يشيرون على الأسقف في فرحهم بهذا الفوز الباهر (فوز الفرس على البيزنطيين في عهد أبرويز) أن ينهض فيقصد بهم الحيرة، و يدعو أُسقف بني تغلب ليذهب معهم هو و قسانه وفدا" إلى ماريا زوجة كسرى أبرويز و أختهم في المسيحية اليعقوبية، رافعين لها آيات الشكر على برّها بدينها، إذ حملت زوجها على قتال الروم و ابادة دين الكفر، و يقيموا الصلوات في الكنيسة التي أقامتها لعبادة الرب في بلاد المجوس، ليتم لها النّصر بالإستيلاء على بيت المقدس، و تخليص الصليب المقدس من أيدي أدعياء الولاية عليه من بطاركة الروم على أن تعطيهم إياه ليحفظوه عندهم في كنيسة نجران بعيدا" عن أيدي الطامعين [10]، فلماذا أراد اليعاقبة أخذ خشبة الصليب إلى نجران؟ .. إنّ الحرب التي شنّها أبرويز على البيزنطيين كانت حربا" دينية لأجل مُعاقبة "المُشركين" المسيحيين على اضطهاد اليعاقبة المونوفيزيين (الطبيعة الواحدة للمسيح / المُوَحِّدين)، و ذلك بتأثير من زوجتيه ماريا و شيرين اليعقوبيتين! و كذلك هرقل عندما أراد غزو فارس في 25 مارس من سنة 624 م غادر القسطنطينية على رأس جيش كبير، و خلال ثلاثة أيام تُلِيَت الصلوات و أُقيمت الطقوس من أجل حث الجنود على الحرب و تحضيرهم للإستشهاد، و تم رفع تمثال المسيح أمام الجيش، هذا التمثال الذي قيل أنه لم يُصنع بأيدي البشر بل وُجِدَ في بئر في قرية كبادوكيا سنة 570 م، و قيل أن هرقل لمّا خرج من العاصمة لم يعد إليها إلا بعد الإنتصار على الفُرس نهائيا"، و هذه الحملة تم اعتبارها انتصارا" للكنيسة المسيحية على الفرس المزديين (نسبة للإله الزردشتي أهورا مَزدا) حيث تمّ استرجاع خشبة الصليب المقدس، و تمّ اعتبار هذه الحرب أول حرب صليبية أوحرب مقدسة في التاريخ! .. كما قلنا سابقا" هذه الحرب كانت حربا" دينية قادها أبرويز من أجل الإنتقام من المسيحيين الأرثوذوكس، أما القول بأنه خاض هذه الحرب من أجل الإنتقام لصديقه موريس فهو إدّعاء فقط، فقد أخبره هرقل لما أصبح حاكما" على بيزنطة بأنه قد انتقم له من قتلة موريس أي فوقاس و جنرالاته و أن الإستمرار في الحرب لا مُبرر له فلم يعبأ أبرويز لكلامه! و لما انتصر الفرس سنة 614 م و احتلوا المدينة المقدسة عند المسيحيين و اليهود (أورشليم) عقد أبرويز إجتماعا" من أجل توحيد الدين على كامل تراب الإمبراطورية الجديدة التي كانت تضم أراضي الإمبراطورية الساسانية و الإمبراطورية البيزنطية التي باتت على وشك الانهيار، أي من حدود الهند و الصين إلى المحيط الأطلسي باعتبار شمال أفريقيا كانت مُقاطعات تابعة للبيزنطيين، فعند القضاء عليهم كانت مُستعمراتهم ستُصبح تابعة للفرس بشكل تلقائي. نقم كسرى أبرويز على الأرثوذوكس و استعان بالكنيسة الفارسية فأذخر عدداً من أساقفتها و قساوستها النّساطرة و المونوفيزيين و ألحقهم بجيشه و أحلهم محل الأرثوذوكسيين حيثما حل. فخلت جميع الأبرشيات الأنطاكيّة الشرقية من أكليروس الكنيسة الجامعة الأرثوذوكسية. إضافة" إلى ذلك عقد أبرويز إجتماعا" دينيا" في العاصمة الفارسية طيسفون سنة 614 م عقب احتلال القدس أو أورشليم، على غرار المجامع المسكونية التي كان يعقدها الأباطرة الروم، و كان المسيحيون أو بعبارة أدق؛ أتباع بعض الهرطقات المسيحية، قد دخلوا في طاعته ألوفاً و أفواجا"، فتعهدهم برعايته الشخصية و دعا رؤساءهم إلى الإجتماع في قصره في طيسفون للتداول و التّشاور و الإتفاق، فتوافدوا على العاصمة أساقفة و فلاسفة أي "رهباناً" و كان بينهم زكريا بطريرك أورشليم الذي سيق إلى طيسفون أسيراً. و ترأّس إجتماعهم بأمر الشّاه كل من سمباد بغرتوني الأرمني و طبيب الشّاه الخاص و اشترك أبرويز في أعمال هذا المجمع شخصيا". و قد بحث المجتمعون قرارات مجامع نيقيا و القسطنطينية و أفسس و خلقيدونيا. و يُستَدل من نص المؤرِّخ سيبيوس أن أبرويز تكلّم في الطبيعة و الطبيعتين و أنه لم يوافق على موقف النّساطرة فأمر بإخراجهم من المجمع ثم أقر الأرمن في موقفهم و أصبح القول بالطبيعة الواحدة في نظر السلطات الفارسية هو القول الحق [11]. و في سنة 614 استعمل الفرس القوة المفرطة ضد مسيحيي القدس و هذا دليل على أن ابرويز لم يكُن مسيحيا" بل نُصرانيا". كان أبرويز المعروف بخسرو الثاني يُهيء نفسه ليصبح ملك الدولتين الفارسية و البيزنطية بعد القضاء على هذه الأخيرة خصوصا" و أن هرقل نفسه طلب منه توقيع معاهدة سلام، لكن خسرو الثاني رفض لأن العاصمة (القسطنطينية) أصبحت على حافة الإنهيار و السقوط، و قال أنه لن يُوقف الحرب حتى يقضي على ديانة الإله المصلوب [12]، أي الديانة المسيحية ديانة بيزنطة، فالقضاء على الإمبراطورية البيزنطية أصبح مسألة وقت ليس إلا ،و نتيجة" لهذا الوضع الكارثي أراد هرقل تحويل العاصمة نحو قرطاجة في تونس، لكن الأعيان و كبار المسؤولين رفضوا ذلك. فلو غيَّر هرقل مقر العاصمة إلى تونس لتغيّر مجرى التاريخ عما هو عليه الآن. أما أبرويز فقد عقد إجتماعا" في العاصمة طيسفون من أجل إيجاد صيغة موحَّدة للديانة التي سيفرضها مُستقبلا" على كافة أرجاء الإمبراطورية المُستقبلية و التي ستضم أراضي الروم و الفرس و الشعوب التابعة لهما. أما استيلاء الفرس على خشبة صلب المسيح فليس لتدميرها إو إهانة المسيحيين بل لتخليصها من "المُشركين" المسيحيين الذين اتخذوا من المسيح إلها"، وحملوها إلى طيسفون من أجل تسليمها إلى النّصارى الموحِّدين (النّصرانيين نواة المسلمين فيما بعد) أو إلى اليعاقبة المونوفيزيين، و ربما كان هدف أبرويز جعل العاصمة الدينية للنّصارى إما في بلاد فارس أو في نجران، حيث سيتم بناء كنيسة كبيرة تضم الصليب المقدس، بدلا" من القدس، و يكون هو راعي هذه الكنيسة، و بهذا يجمع ما بين السلطتين الدينية و السياسية على كامل أراضي الإمبراطورية الجديدة التي كان يحلم بها و التي تضم أراضي الفرس و البيزنطيين و العرب و شمال أفريقيا باعتبار أن هذه البلاد الأخيرة كانت تابعة للبيزنطيين!!!

الأوضاع السياسية في بلاد فارس قبل غزو الأراضي البيزنطية:

في أواخر سنوات حكم الملك الفارسي هرمز إبن كسرى أنو شروان تمرَّد أحد كبار جنرالات الفرس و هو القائد بهرام شوبين من أسرة المهرانيين على الأسرة السّاسانية الحاكمة، و كان للملك الفارسي هرمز إبن إسمه خسرو الذي كان ملتجئا" في آذربيجان عند أخواله الأصبهبذان، هاربا من أبيه نتيجة خلاف كان بينهما، لمّا سمع خسرو ما قام به بهرام من القيام بالتمرُّد و الثورة على أبيه عاد مسرعا" إلى العاصمة و قاد جيشا" لمواجهة القائد الثّائر لكنه هُزِم، فدخل على والده و أخبره بالهزيمة و طلب نصيحته في الإستعانة بالعرب الذين هم تحت الطلب، لكن هرمز [بحسب الفردوسي] لم يرضى لقلة مالهم و ضعف عديد الجيش الذي بقي تحت أُمرتهم، و أشار عليه بملك الروم [13] فساعده خالاه بسطام و بندويه من أسرة الأصبهبذان على الهرب و طلب النجدة من الإمبراطور البيزنطي موريس، و أثناء هرب خسرو طلب من ملك المناذرة النُّعمان بن المنذر أن يعطيه جواده ليهرب عليه لكن النعمان رفض، فنزل له إياس بن قبيصة الطّائي عن فرسه فنجا عليه [14]، و نجوا جميعا"[15]. قبل التّوجه إلى بيزنطة لطلب المعونة خاف بسطام و بندويه من أن يقع صلح و تحالف بين بهرام شوبين و هرمز إبن كسرى فقررا التّخلص من الملك، و بعد استشارة خسرو قاما بقتل أبيه هرمز، و لمّا وصلوا إلى الأراضي البيزنطية أرسلوا إلى الإمبراطور موريس رُسُلا" من أجل مساعدة خسرو على استرداد عرشه الذي سلبه منه بهرام شوبين، و وافق موريس على الطلب رغم معارضة كبار رجال دولته و أرسل معه جيشا قويا" استطاع بواسطته أن يهزم القائد الثّائر الذي فرّ إلى الشّرق و احتمى بملك التُّرك و بقي هناك إلى أن تمّ اغتياله بتخطيط أبرويز / خسرو الثاني نفسه

و قد استعاد أبرويز العرش السّاساني سنة 590 م (أبرويز معناها المنصور) و تزوج من إبنة الإمبراطور موريس البيزنطي ماريا و أرسل له الهدايا الكثيرة شاكرا" إيّاه على المُساعدة التي قدّمها له و عاشت الدولتان الفارسية و البيزنطية فترة من الزمن في سلام و وئام لكنها للأسف لم تطول لأكثر من 12 سنة حين قام أحد القُوّاد البيزنطيين و يُدعى فوقاس بقتل موريس و جميع أبنائه في عام 602 م، ما عدا واحدا" منهم نجا و التجأ إلى بلاد فارس عند أبرويز ليساعده على استرداد عرشه من فوقاس كردٍّ للجميل كما فعل أبوه من قبل مع أبرويز. و لمّا سمع أبرويز خبر مقتل موريس و جميع أولاده تقريبا" حزن حزنا" شديدا" و بكى عليه و لبس الأسود و أمر كبار رجال دولته بلبس السّواد كذلك، و شرح لرجاله الدّور الكبير الذي قام به موريس في نُصرته و مساعدته و مدِّه بجيش قوي عندما ثار المُتمرّد بهرام شوبين و انتزع التّاج السّاساني!!

الغزوات الفارسية لأراضي الإمبراطورية البيزنطية (غزوات الرّسول):

استغل كسرى (خسرو الثاني / المنصور) هذا الحدث و قرر احتلال أراضي الإمبراطورية البيزنطية، فوجّه قائدين كبيرين هما ١. رميوزان و سمّاه "شهر باراز أو شهر فاراز" و يعني لقبه "خنزير المملكة" و هو من أسرة المهران الذين كانوا يُقدِّسُون الإله (مهر) أي إله الشمس ميثرا، و الخنزير هو أحد تجليّات الإله مهر [16] كما رأينا سابقا" أن الخنزير كان أحد تجليّات الإله سيت في ديانة المصريين القُدماء فهو كان حيوانا" مُقدّسا" عند تلك الحضارات و منه أتى تحريم أكل لحمه في الديانات اليهودية و اليهودية النُّصرانية أي الإسلامية لاحقا")، أما القائد الآخر ٢. فهو شاهين أي الصّقر و أسماه "بهمن زادكشان" و يعني لقبه هذا الصّديق و هو أحد تجليات إله القمر الإله سين و لذلك يُطلق عليه في الكتابات اليونانية سين Saïn. يقول نولدكه أنه كلن ينتمي إلى إحدى الأسر السّبع المشهورة في إيران و لكن لا نعرف إلى أي منها كان ينتمي [17] (هذا قد يُفسِّر الضبابية و الغموض الذي يلف نسب الرسول في الرواية الإسلامية و مدة حمل أمه به الذي دام أربع سنوات). و قد ذكر الطبري القائد شاهين على أنه "فادوسبان المغرب أو الغرب" و المقصود به السّواد (بسطام خال أبرويز كان أصبهبذ السّواد أي العراق) و فادوسبان معناها "دافع الأعداء" [18]، و شاهين هو نفسه إياس بن قبيصة الذي عيّنه كسرى أبرويز / خسرو الثاني حاكما" على مملكة الحيرة و عيّن معه شخصا" آخر يُقال أن إسمه "النخيرجان أو الهمرجان"، و تضاربت الروايات حول دور كل منهما، فتوصلنا إلى أنّ النخيرجان أو الهمرجان كان هو الحاكم بينما كان لإياس بن قبيصة دور عسكري فقط أي دفع الأعداء و قمع الثورات و بالتالي كان يعمل تحت إمرة الهمرجان. و الصقر أو شاهين أو النسر يرمز عادة" للملوك، و كان شعار الإمبراطورية الفارسية، و قد وصفهم أشعياء “بالكاسر من الشرق” (أش 46: 11) [19]، فرتبة (شاهين) كانت عالية في الإمبراطورية السّاسانية فهو حامي المملكة و قائدها الأعلى. أما شهرباراز فكان حاكم نيمروز أي اليمن [20]

و كما هو معلوم فإن كسرى أنو شروان كان قد قسّم الإمبراطورية الفارسية إلى أربع جهات: يقول المسعودي في كتاب [فنون المعارف و ما جرى في الدُّهور السوالف]: ما ذهبت إليه الفرس و النّبط في قسمة المعمور من الأرض و تسميتهم مشارق الأرض و ما قارب ذلك من مملكتها خراسان، مشرق الشمس فأضافوا مواضع المطلع إليها و الجهة الثانية و هي المغرب خربران و هو مغيب الشمس، و الجهة الثالثة و هي الشمال باخترا، و الجهة الرابعة و هي الجنوب نيمروز (اليمن)، ففرّق كسرى هذه الولاية و المرتبة بين أربعة أصبهبذين، منهم أصبهبذ المشرق و هو خراسان و ما والاها، و أصبهبذ المغرب، و أصبهبذ أذربيجان و ما والاها، و أصبهبذ نيمروز، و هي بلاد اليمن . بينما ذكر الثّعالبي أن كسرى أنو شروان قسّم مملكته أرباعا" فالربع الأول خراسان و ما يتّصل بها من طخارستان و زبلستان و سجستان و الربع الثاني كور الجبل و هي الري و همذان و نهاوند و الدينور و قومس و أصبهان و قم و قاشان و أبهر وزنجان و أرمينيا و أذربيجان و جرجان و طبرستان و الربع الثالث فارس و كرمان و الأهواز والربع الرّابع العراق إلى اليمن و حدود الشام و أطراف الروم، و ولّى كل من قُوّاده و مرازبته ما يستحقه منها [21]. فإن كان ما ذكره الثّعالبي صحيحا" فإن جيش شاهين كان مكونا" من عرب العراق و اليمن، و إن كان فعلا" من العَبَاد أي الأصبهبذان فقد احتوى جيشه على قوات من آذربيجان و خراسان حيث كان يحكمهما أبو خسرو الثاني فروخ هرمز و أخوه رستم الذي كان يُلقَّب بالآذري نسبة" لآذربيجان، باعتبار أن مقر الأصبهبذان في ذلك الوقت كان في آذرربيجان. مع العلم أن الأصبهبذان هم أخوال كسرى أبرويز، و قد ذكر سيبيوس أن أصلهم من أرض البهلو في الشرق يعني خراسان و طبرستان

أرسل أبرويز القائدين الكبيرين شهرباراز و شاهين لاحتلال أراضي الدولة البيزنطية، فتم الإستيلاء على أرمينيا و بلاد الأناضول و سوريا بكاملها ثم فلسطين، و تم أخذ خشبة الصليب المقدس التي قيل أنّ المسيح قد صُلب عليها و إرسالها إلى العاصمة الفارسية طيسفون، ثم تمّ الإستيلاء على مصر و النوبة. و لم يتبقّى في أيدي البيزنطيين إلا العاصمة القسطنطينية. في سنة 610 م جاء هرقل من قرطاجة و معه جيش من المقاطعات الغربية (أي من الأمازيغ) [22]، فقتل فوقاس و استلم عرش بيزنطة، لكنه عندما شاهد قوة الجيش الفارسي و رأى أنه من الصّعب عليه مقاومته أرسل إلى كسرى الهدايا و طلب الصُّلح فأجابه كسرى بما يلي (و هو لم يكن يعلم بعد أن هرقل سوف يتمكّن من قتله و بواسطة لا أحد سوى قائدي جيشيه شهرباراز و شاهين أنفسهم): "لقد رفضتَ أن تكون خادما" لي و أعطيت نفسك إسم ملك و استوليت على أملاكي و استعنت بالمرتزقة و اللصوص. ألم يصل إلى علمك أني قضيت على اليونانيين و أنت تزعم أنك تستعين بإلهك، لماذا لم يُنقذ مني قيسارية و أورشليم و الإسكندرية؟ لكني أسامحك على أخطائك، خذ زوجتك و أبناءك و تعال عندي، سأُعطيك الجواري و الأراضي و تعيش في خير و هناء، و لا تعتمد على المسيح إلهك الذي لم يستطع إنقاذ نفسه من الصّلب على أيدي اليهود، فبالأحرى أن يُنقذك منِّي؟!، و لو غصت في أعماق البحار سأمدُّ يدي و أقبض عليك" [23]. لما سمع هرقل هذا الكلام قرّر تغيير مقر العاصمة إلى قرطاجة في تونس إلا أن كبار رجال الدولة من السياسيين و رجال الدين أقنعوه بالبقاء في القسطنطينية و زودوه بالمال الذي كان موجودا" بالكنائس، فكوَّن به جيشا" قويا" و رشى (من الرشوة) ببعضه قبائل الآفار و السّلاف الذين كانوا يهددون العاصمة من الشّمال. و كان الجيش الفارسي قد احتلّ كل أراضي البيزنطيين باستثناء العاصمة القسطنطينية، و تضاربت الروايات حول المواقع و الأماكن التي استولى عليها كل من القائدين شهرباراز و شاهين، فذكر الطبري أنّ شاهين سار حتى احتوى على مصر و الإسكندرية و بلاد النّوبة و بعث إلى كسرى مفاتيح الإسكندرية في سنة ثمان و عشرين من ملكه، أما شهرباراز فقصد القسطنطينية حتى أناخ على ضفّة الخليج القريب منها و خيّم هناك، فأمره كسرى فخرّب بلاد الروم غضبا" مما انتهكوا من موريق / موريس وانتقاما له منهم. بينما نجد في تاريخ نيسفور و كان بطريارك القسطنطينية ما يلي: أرسل كسرى أبرويز جيشا" قويا" بقيادة سين و أرسله لمواجهة البيزنطيين، فاستولى على الإسكندرية و أخضع مصر كلّها و دمّر و غَنِمَ منطقة كبيرة في الشرق، و قبض على كثير من الأسرى ثم حاصر خلقيدونيا و عندما طال الحصار تمّ الإتِّصال بين هرقل و شاهين على أن يتم لقاء بينهما، و هذا ما حدث، فيما يلي اللقاء و الحوار الذي تمّ بين عليا / الرسول محمد و هرقل عظيم الروم: تجهّز هرقل في موكب فخم و قطع البوسفور، عندما شاهده سين سَجَدَ إحتراما" و إجلالا له و قال له: إن أمنيته هي أن يتفق كل من ملك الفرس و ملك الروم على إحلال السّلام و العيش في أمان و أن يحترم كل واحد الطرف الآخر، فلا توجد قوّة تضاهي قوة المملكتين فليس من العدل أن تُدَمِّر الواحدة الأُخرى و أن تستمر الحرب بدل اللجوء إلى السِّلم و الحوار، فلن يجني الإنسان من الحرب إلا المتاعب و الخسائر و الخزي و الموت، و أقسم سين أنه يتمنّى من كل قلبه أن يسود السّلام بين الدولتين. فلما سمع هرقل هذا الكلام أُعجِبَ به و وافق على إحلال السّلام بشرط أن يوافق عليه ملك الفرس. فردّ سين: إذا كنت تثق بي إبعث له سُفراء لهذا الغرض فإني لا أشكُّ أنه سيخالفني. أُعجِبَ هرقل بطراوة و ليونة كلمات سين و عاهده أن يُنفذ ما قال، و بعد مشاورات مع كبار رجال دولته أرسل هرقل رُسُلا" من كبار الأعيان من أجل ملاقاة و محاورة كسرى أبرويز، لكنّ هذا الأخير كان له رأيا" آخر سيغيِّر مجرى التّاريخ و يتسبب بانهيار الإمبراطورية الفارسية و نشؤ دين الإسلام [24]. لمّا وصل رُسُل هرقل إلى العاصمة طيسفون قبض عليهم خسرو الثاني و قام بوضعهم في مطامير و أوصى بأن يُضرَبوا بالعصي حتى الموت! و قد استشاط غضبا" من شاهين و قال: بدلا" من أن يُرسِل لي هرقل مُقيّدا" بالحديد يقوم بالسُّجود له و يُغيِّر ولاءَه؟!! ثم أمر بقتله و سلخ جلده، لكن سين هرب (هاجر) من وجه كسرى لمّا بلغه ذلك. و هناك رواية أُخرى تقول أن كسرى الثاني ملك الفرس عيّن جنرالين كبيرين؛ شاهين أي الصقر، و شهرباراز و معناه خنزير المملكة، توجّه شاهين إلى الغرب و استولى على سليسيا و وسط الأناضول في أقل من سنتين، و في سنة 610 م وصل إلى خلقيدونيا على ضفاف البوسفور قبالة القسطنطينية و هذه الإنتصارات العسكرية واكبتها إنتصارات سياسية حيث أن الشُّعوب غير اليونانية تحالفت مع الفرس و ساعدتها في الحرب [25]. و يذكر بعض المؤرخين أنّ شاهين قام بحصار القسطنطينية، ذلك أنه لمّا اقترب من القسطنطينية، أنشأ خسرو الثاني جيشا" قِوامُه خمسين ألف جندي مُختارين و مُدربين تدريبا" جيدا" سمّاها "كتيبة الذّهب" (الفرقة الذّهبية)، و سلّم قيادتها لشاهين من أجل الإستيلاء على القسطنطينية [26]. لكن هناك رواية أخرى نعتقد أنها هي الصحيحة ذكرت أنّ جيش شهرباراز بقي على شاطئ القسطنطينية يحاول عبور الماء بينما انصرف القائد شاهين إلى دمشق و بيت المقدس ليُجهز على مملكة الروم في الشّام و فلسطين [27]. بحسب رأينا فإن شاهين هو الذي استولى على الشّام و فلسطين و بيت المقدس (و من فتحه للقدس حاز على لقبه الجديد: النّبي / المُحمّد / المُمجّد) ثم مصر، و أخذ خشبة الصليب بعد أن عذّب البطريرك زكريا من أجل أن يدلُّه عليها لأنها كانت مدفونة و مُخبأة في حديقة و هذا ما ذكره الدينوري في كتاب [الأخبار الطوال] عندما سأل شيرويه أباه أبرويز و عاتبه لأنه لم يُرجِع خشبة الصليب المقدس التي أرسلها له شاهين إلى الروم [28]. و كانت خشبة الصليب المقدس قد وضِعَت في تابوت من ذهب و طُمِرَ في بُستان و زُرِعَ فوقه مبقلة و ألحّ عليهم القائد الفارسي حتى دلُّوه على موضعها فاحتفر عنها بيده و استخرجها و بعث بها إلى كسرى في أربع و عشرين من ملكه [29]. و تعذيب البطريرك زكريا من أجل الحصول على الصّندوق الذّهبي الذي حوى بداخله خشبة الصّليب تذكرنا بقصة ما فعله الرّسول في غزوة خيبر مع أحد اليهود و هو كنانة بن الربيع من أجل أن يدلّه على الكنز المدفون هناك [30]

في 5 أبريل من سنة 622 م خرج هرقل في حملة ضد الفرس، و في خريف هذه السنة انتصر في حرب مهمّة على شهرباراز في منطقة الجسر، و في 25 مارس من سنة 624 م غادر هرقل القسطنطينية على رأس جيش كبير و كان في نيّته التّوجه إلى الحدود الفارسية، و طيلة ثلاثة أيام تُلِيَت الصلوات و أُقيمَت الطّقوس من أجل حث الجنود على الحرب و تحضيرهم للإستشهاد. ثم توجّه هرقل إلى أرمينيا و دخل مدينة جنزاك أو تخت سليمان و كان هناك كسرى أبرويز الذي فرّ هاربا" و اتبع سياسة الأرض المحروقة. و في سنة 625 م أرسل كسرى ثلاثة جيوش بقيادة كل من شهرباراز و شاهين و شهربلاكان من أجل استرجاع الأراضي التي استولى عليها هرقل، لكن في يوليو من سنة 626 م تلقّى شاهين هزيمة على يد تيودور شقيق هرقل و جُرِحَ فيها (هذه هي موقعة أحد في الرواية الإسلامية) قرب مدينة ساطالا (صاداك حاليا")، في نفس الوقت أي حوالي 626 و 627 م غضب كسرى من شهرباراز نتيجة فشله في اقتحام العاصمة البيزنطية، و كذلك نتيجة الثّروات الهائلة التي استطاع أن يستولي عليها و القوة العسكرية المُتنامية التي أصبح يمتلكها. فحاول كسرى اغتيال شهرباراز بواسطة أحد رفاق هذا الأخير أو بواسطة شاهين نفسه إلا أن الرّسائل التي كان كسرى قد أرسلها لاغتياله وقعت في يد هرقل الذي أظهرها لشهرباراز، فسخط هذا الأخير على ملكه و التقى بهرقل في خيمة و اتّفقا على إطاحة خسرو الثاني عن العرش الفارسي و وعد ه هرقل بمساعدته على الإستيلاء على عرش فارس. و هكذا أصبحت الظُّروف ملائمة لهرقل من أجل مهاجمة العاصمة الفارسية. هذا اللقاء يذكرنا بالتحكيم الذي تم بين علي بن أبي طالب و معاوية و كان بطلاه أبو موسى و عمرو بن العاص حيث كانت النّتيجة مبايعة معاوية و خلع علي، فهرقل و شهرباراز اتّفقا على خلع أبرويز و مبايعة شهرباراز ملكا" لفارس. في بداية شهر ديسمبر من سنة 627 م وقعت المعركة الفاصلة بين القوات الفارسية بقيادة راهزاد الأرمني و القوات البيزنطية بقيادة هرقل لكنها انتهت بانتصار البيزنطيين و هزيمة الفرس و مقتل قائد جيشهم الأرمني، فتوجّه هرقل جنوبا" و استولى على مدينة (دستجرد) فهرب كسرى إلى العاصمة لكنه وجد في انتظاره القائد شاهين (علي / محمد) الذي قبض عليه و أجلس مكانه إبنه شيرويه (قباذ الثاني) و كان ذلك في سنة 628 م

القطيعة بين كسرى و قائده شهرباراز:

هناك تضارب في الروايات حول سبب الخلاف بين شهرباراز و كسرى أبرويز، هذا الخلاف الذي سيغيّر مجرى تاريخ المنطقة و العالم! و من هذه الروايات ما ذكره أنطوان غودو ذلك انه لما حاصر شهرباراز مدينة خلقيدونيا لمدة سنتين، طوال مدة الحصار كان خسرو الثاني يشكُّ في إخلاصه له و ظنّ أنه كان يتآمر مع البيزنطيين ضده لذلك أعطى أمره بقتله، فلمّا علم شهرباراز بالخبر رفع الحصار عن المدينة و تواطأ مع هرقل على الإطاحة بخسرو [31]. غضب خسرو غضبا" جمّا" من القائد شهرباراز لأنه ابطأ في القضاء على البيزنطيين و تلكّأ باحتلال القسطنطينية، لذلك بدأ يرسل له الرسائل لحثِّه على الإسراع بإنهاء تلك المهمة بأقصى سرعة ممكنة، فلمّا لم يتحقق هذا الأمر بدأت الشُّكوك تُساوِرُه و أراد التّخلّص منه كونه أصبح مصدر إزعاج له خصوصا" و أنه أضحى يمتلك جيشا" قويا" و مدربا"، بينما يقول البعض أنّ القطيعة بين كسرى و جنراله حدثت حينما أرى هرقل رسائل كسرى لشهرباراز التي توصي بقتله فأقسم هذا الأخير أن يُساعد هرقل على الإطاحة به. و هنا بحسب رأينا بدأت هزائم الفرس أمام قوّات الروم، فهي ليست هزائم بالمعنى الحقيقي لكنها تواطؤ بين القائدين شهرباراز و شاهين من جهة و بين هرقل من جهة أُخرى، و نفس هذه الهزائم حدثت في معارك العرب مع الفرس كمعركتي ذي قار و القادسية و غيرهما

معركة ذي قار / "المعركة التي انتصف بها العرب من الفرس":

ذو قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها و بين واسط، و حنو ذي قار على ليلة منه و فيه كانت الواقعة الشهيرة بين بكر بن وائل و الفرس، و كانت "أول يوم انتصف فيه العرب من العجم و برسول الله انتصفوا"، و هي من مفاخر بكر بن وائل [33]. و يختلف المؤرخون في زمن موقعة ذي قار هذه، فذهب فريق إلى أنها إنما كانت يوم مولد المصطفى و من ثم فإن هناك رواية تذهب إلى أنه (محمد) قال: “هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم و بي نصروا”، بينما ذهب رأيٌ آخر إلى أنها إنما كانت سنة أربعين لمولد النبي الأعظم و ذهب رأي ثالث إلى أنها إنما كانت في العام الثالث من مبعث المصطفى، بينما رأى فريق رابع إلى أنها كانت بعد الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، على أن فريقا خامسا" رأى أنها كانت بعد موقعة بدر الكُبرى مباشرةً، و ربما بعدها بأشهر معدودات، و قد ذكر اليعقوبي: وحاربت ربيعة كسرى، و كانت وقعتهم بذي قار، فقالوا: عليكم بشعار التهامي، فنادوا: يا محمد يا محمد فهزموا جيوش كسرى و قتلوهم، فقال رسول الله: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم و بي نصروا، و كان يوم ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر أربعة أو خمسة [34] بينما يروي صاحب كتاب [نهاية الأرب] ما يلي: وقعة ذي قار كانت في العام الذي هاجر فيه رسول الله إلى المدينة من مكة، فاتفقت بكر بن وائل على أن يجعلوا شعارهم بإسم رسول الله: “يا محمد، يا منصور”، و ذلك قبل أن يسلموا [35]! و قيل: إنّ حديث ذي قار كان فِي سنة سبع من الهجرة [36]، أي في سنة 629 م و هي نفس السنة التي وقعت فيها معركة مؤتة. و نحن نظن أن معركة ذي قار كانت بعد الهجرة بين سنتي 624 و 627 م، فهذا ما يؤكِّدُه إبن بلخي الذي يروي أنّ أبرويز لمّا أراد أن يقتل شهرباراز هرب هذا الأخير و التحق بهرقل و اتفق معه على صد أي هجوم يقوم به أبرويز، فضعف أبرويز بعد أن أعيته الحيلة في القيام بعمل إنتقامي، إضافة" إلى أنه كان قد أرسل إياس بن قبيصة إلى بني شيبان لتسليمه ودائع النُّعمان بن المنذر الذي كان أبرويز قد قتله [37]. فمعركة ذي قار كانت في فترة ضعف كسرى أبرويز، أي في فترة خِصامه مع قوّاده العسكريين، أي بين سنتي 624 و 627 م، في وقت كان كل من القائد شاهين و شهرباراز يفكّر بكيفية التّخلُّص من خسرو الثاني لأن الثّقة كانت قد انعدمت بينهم تماما"!! .. في هذا الوقت انتفض العرب جنوب العراق و أثاروا الرُّعب و الهلع في نفوس سكان الحدود الفارسية العربية، و ربما كان هذا الأمر بتحريض من الرجل القوي شاهين / إياس بن قبيصة، فلم يجد كسرى شخصا" في مثل قوة هذا الأخير و حنكته في الحروب ليرسله للقضاء على ثورتهم، فاستدعاه رغم شكِّه في إخلاصه له حينها، و هذا واضح من خلال ما رواه المؤرّخون خصوصا" عندما استشاره في حرب قبائل بكر فردَّ عليه شاهين بأنه من الأفضل عدم حربهم الآن! فأجابه كسرى بأنهم أخواله و لن يألوهم نُصحا". لكن استمع إلى تلك النصيحة شخصٌ آخر هو السّفاح التغلبي و اسمه الكامل النُّعمان بن زرعة التغلبي، فعلاقة كسرى أبرويز بشاهين / إياس بن قبيصة لم تكن على ما يرام في تلك الفترة. و معلوم أن كثيرا" من جنود شاهين / إياس بن قبيصة هم من عرب العراق و خصوصا" (كتيبة الدوسر) المعروفة بقوتها و بطشها حتى صار يُضرَب بها المثل حتى كان يُقال: أبطش من دوسر، بالإضافة إلى كتائب أخرى ك(الصنائع) و (الوضائع)، أما (الشّهباء) فكانت كتيبة فارسية شاركت في الحرب تحت إمرة إياس بن قبيصة، فكانت العرب ثلاثة آلاف، و كان الهامرز على ألف فارس من الأساورة، و جنابرزين على ألف، و بعث كسرى معهم اللطيمة، و هي قافلة تجارية كانت تخرج من العراق فيها البزّ و العطر و الألطاف لتوصل إلى باذام عامله باليمن، و قال: إذا فرغتم من عدوِّكم فسيروا بها إلى اليمن، و أمر عمرو بن عدي أن يسير بها. هذه المعركة تشبه معركة بدر، ذلك أن المكان الذي وقعت فيه المعركة توجد به بئر أو آبار مياه، لذلك يُسمى المكان "ماء بدر". و كذلك الأمر بالنسبة لذي قار حيث ذُكِرَ أنّ “هانئ بن قبيصة” رئيس بكر كان يشغل القلب في أثناء الهجوم على الفرس يوم الجب في ذي قار. كما أن سبب معركة بدر هو اعتراض المسلمين لقافلة أبي سُفيان، فلماذا ذكرت قافلة عمرو بن عدي (أبو جهل) التي كانت متوجِّهةً إلى اليمن هنا؟، و ما علاقتها بمعركة ذي قار؟ إذا ربطنا الحدثين معا" يتضح أنهما حدثٌ واحد؛ فقبائل بكر بن وائل كانت تقطع طرق القوافل التجارية الفارسية المُتّجهة إلى اليمن و ربما إلى الشّام أيضا"، لذلك استدعى كسرى أبرويز إياس بن قبيصة / شاهين و استشاره في محاربتهم و تأديبهم، فقال إِياس: المصلحة تقتضي التّغافل عن هانئ بن مسعود المذكور حتى يطمئن، ثم نتبعه فندركه، فقال له أبرويز: إِنه من أخوالك، و لا تألوه نُصحاً، فقال إِياس: رأي الملك أفضل [38] أو قال له: قد بلغني أنهم أخوالك و أنت لا تألوهم نُصحا" [39]. فإياس بن قبيصة / شاهين كان يُريد تفادي وقوع الحرب مع قبائل بكر لان أمّه منهم و هانئ بن مسعود هو أحد أخواله، و بهذا تكون أُمُّه عربية من ربيعة من قبائل المناذرة و لذلك كان يُنشِد:

و ما ولدتني حاصـن ربعيـة لئن .. أنا مالأت الهوى لأتباعهـا
ألم ترَ أنّ الأرضَ رحبٌ فسيحةٌ .. فهل تُعجِزني بقعةٌ من غِيابهـا
و مبثوثةٌ بـثُّ الدبـا مسبطـرة .. رددتُ على بطآئها من سِراعها
و أقدمتُ و الخطي يخطرُ بيننـا .. لأعلمُ مَن جَبَانَها مِن شُجاعِهـا [40]

فإياس حينما حارب بني شيبان في معركة ذي قار إنّما حارب أخواله و عشيرة أهله. لكن قبل المُضي بالحديث عن معركة ذي قار لا بُدّ من معرفة الظروف السياسية التي كانت سائدةً آنذاك خصوصا" بين الفرس و العرب. بدأ العرب قبيل ظهور الإسلام يشعرون بانتمائهم و تنامي قوّتهم خصوصا" و أن الفرس و خلال سنين طويلة كانوا يضربون العرب بعضهم ببعض، كما حدث مع قبيلة إياد سابقا" حينما أرسل أحد الملوك الفرس جيشا" عربيا" بقيادة رجل عربي حيث يقول د. جواد علي: أرسل كسرى جيشًا" ضدّهم (يقصد قبيلة إياد)، وضعه بقيادة “مالك بن حارثة” و معه قوم من “بكر بن وائل” فأرسل عندئذٍ “لقيط” إليهم إنذاره فلم يحفلوا به، فوقعت بهم خسائر كبيرة في “الحرجية”، و فرّ قسم كبير منهم إلى بلاد الشام [41]، و هذا ما حدث كذلك في يوم "الصّفقة" في أوائل القرن السابع للميلاد حين ضرب الفرس بني تميم ببني حنيفة لأنهم استولوا على قافلة تجارية قادمة من اليمن إلى فارس، فالفرس كانوا يسعون بكل قوّة إلى تفريق القبائل العربية من قُطّاع الطُّرُق عن طريق زرع الفتن و الفرقة بينهم، فبدأ يتكون وعي لدى شعوب القبائل المُتاخمة للفرس فبدأ يتنامى الإحساس بالوجود العربي في مواجهة الوجود الفارسي في العراق، و خلال فترة حكم النُّعمان بن المنذر (585 م ل 602 م) أُصيب أبرويز بالقلق نتيجة القوة المتصاعدة التي أصبح العرب يمتلكونها، و خاصّةً بعد أن وصلته أنباء تُشير على رغبتهم في الإستقلال عن الفرس، و باتَ ملك المناذرة النُّعمان يُشَكِّل مصدر قلق لهم، نتيجةً لما كان يقوم به من تحسين علاقته بالقبائل العربية، حيث انتهج سياسة جديدة تختلف عمّن سبقه من ملوك الحيرة، و ذلك بتقرُّبه من العرب و دعواته المُستمرّة للإجتماع بهم في الحيرة و دعوته لهم بتوحيد مواقفهم و نبذ خلافاتهم التي لا يستفيذ منها إلا الأعداء. و قد أثار هذا الأمر الرُّعب في قلب الملك السّاساني، حيث اجتمع مع الوفد الذي بعثه النُّعمان إليه ليُعَرِّفَهُ بأنهم أصبحوا من القوّة و البأس ما يجعلهم أحرارا" لا يخضعون لأي أحد، لذلك قال خسرو بعد أن غادر الوفد بلاد فارس: "ما خفت من العرب قط كخوفي منهم اليوم" [42]. لقد نقم أبرويز على النُّعمان المُلَقّب ب"أبو قبيس" (جبل أبو قبيس المُطل على الكعبة في مكة نظن أنه لتخليد ذكراه) فاستدعاه إلى العاصمة و قدّم له الكلأ (العشب) عوضا" عن الخبز، فشعر النُّعمان بتلك الإهانة المقصودة و غضب بشدّة، فأرسل إلى بني عمومته من معد فخرّبوا و سبوا أماكن متعددة في بلاد فارس، لكن أبرويز كان قد اتّخذ قراره بالتّخلص منه، و لذلك قال لإبنه شيرويه قبل أن يقتله: "أنّ النُّعمان و أهل بيته واطؤوا العرب، فاعلمهم خروج الملك إليهم، و قد كانت وقّعتُ إليهم في ذلك كتب" [43]

بدأ النعمان يطوف على العرب من أجل توحيد كلمتهم و يُمنّيهم بامتلاك كنوز كسرى و قيصر. تقرّب النعمان من العرب و لم يمنعهم من الإغارة على الممتلكات الفارسية، أو قطع طرق القوافل التجارية المارّة من الحيرة و المتوجهة إلى اليمن و الشّام (هذه هي القوافل التجارية التي ذُكِرَت في القرآن؛ رحلة الشتاء و الصيف)، فقد أدركَ قُرب أفول نجم الدولة السّاسانية في نهاية القرن السادس الميلادي. و هناك أيضا" شيء مهم تجب الإشارة إليه ألا وهو الدّور الذي لعبه النُّعمان في ثورة بهرام شوبين حيث أن هناك بعض الآراء ذكرت أن بهرام شوبين قدم إلى العاصمة طيسفون من جهة الجنوب [44]، و هذا أمر يثير التساؤل، و هو العلاقة التي كانت قائمة" بين النُّعمان و بهرام شوبين، و هذا يدفعنا إلى طرح تساؤل آخر و هو التّشابه بين قصة بهرام شوبين و بهرام جور، فبهرام جور بن الملك يزدجرد المعروف ب"الأثيم" تربّى في بلاد العرب و لما مات والده اتفق الأعيان على إبعاد أبنائه عن وراثة العرش و ملكوا عليهم شخصا" اسمه خسرو (أي كسرى)، فاستعان بهرام جور بالنُّعمان الذي قاد جيشا" من العرب و حاصر العاصمة فاضطر الأعيان إلى الإذعان و ملكوا عليهم بهرام الذي غزا التُّرك بعدد قليل من الجنود و انتصر عليهم و حارب البيزنطيين! و هذا ما حصل مع بهرام شوبين الذي حارب التُّرك كذلك بجيش قليل العدد و انتصر عليهم و حارب الروم، ثم حاصر العاصمة الفارسية و انتصر على خسرو أبرويز الذي كان وليا" للعهد في ذلك الوقت، و انتزع الملك السّاساني لمدة سنة، دون أن ننسى أن أبرويز نفسه كان يعرف اللغة العربية، أي أنه تربّى في بلاد العرب، فما كان دور النُّعمان في ثورة بهرام شوبين؟ خصوصا" إذا لاحظنا التّشابه بين كلمتي شوبين و شيبان، و أيضا" الروايات الإسلامية تُشير بطرف خفي إلى العلاقة السّيئة التي كانت بين النّعمان و أبرويز خصوصا" لمّا أراد هذا الأخير الهرب من أمام بهرام شوبين طلب من النّعمان أن يعطيه جواده ليهرب عليه فرفض النّعمان فأسرها في نفسه، لكن إياس بن قبيصة (سيكافئه خسرو فيما بعد بمنحه رتبة شاهين أعلى رتبة أو لقب عسكري في المملكة) سلّمه حصانه [45] فهربا معا" و نجوا. و كما أسلفنا أعلاه فإن كسرى أبرويز قد تربّى في بلاد العرب و هذا ما يُشير إليه الدينوري حيث قال أن أبرويز لمّا هرب من أمام بهرام شوبين هو و بعض أصحابه تلقاهم أعرابيٌ، فوقفوا عليه، فسأله كسرى، و كان يحسن بالعربية شيئا"، من هو ذاك الذي أعطاني حصانه؟ فأخبره أنه من طيّء، و أن إسمه إياس بن قبيصة [46]

كان السبب المباشر لوقوع معركة ذي قار كما قيل لنا، هو أنه بعد مقتل النّعمان، (و قد تعددت الآراء في كيفية مقتله فبعضها يُشير إلى أن النّعمان سلّم نفسه لأبرويز الذي أودعه السجن في ساباط إلى رأي آخر يقول أن النّعمان مات دهسا" تحت أرجُل الفيلة إلى رأي ثالث يقول أن أبرويز أرسل جماعةً ألقوا القبض على النّعمان في البادية و جاؤوا به فرُمِيَ به تحت أرجُل الفيلة، و استباح خسرو أمواله و أهله و ولده و أمر أن يُباعوا في أسواق النّخاسة كالعبيد [47]). طلب كسرى من عامله على الحيرة إياس بن قبيصة الطّائي أن يضمّ ما كان للنعمان، و يبعث به إليه، فبعث إياس إلى هانئ: أن أرسل إليّ ما استودعك النّعمان من الدّروع و غيرها (احتمال أن الدّروع كان قد أرسلها أبرويز إلى عامله باليمن فاستولى عليها العرب، أي أن هذه الحرب كان لها علاقة بقطع طرق القوافل التجارية القادمة من فارس و المتوجهة إلى اليمن أو بالعكس) فأبى هانئ أن يُسلم خفارته، فغضب كسرى، و أظهر أنّه يريد أن يستأصل بني بكر بن وائل، لكنه تريث بناءً على نصيحة من رجل يحب هلاك بكر، هو النّعمان بن زُرْعة التغلبيّ، فلما حلّ القيظُ نزلت بكر حنو ذي قار، فأرسل إليهم كسرى النّعمان بن زرعة التغلبيّ، فنزل على هانئ، ثم خيّره بين ثلاث: ١. إمّا أن تُعطوا بأيديكم فيحكم فيكم الملك بما شاء، ٢. و إمّا أن تُعَرُّوا الدّيار و تغادروها ٣. و إمَا أن تأذنوا بالحرب. و في رواية أُخرى نجد أن إياس بن قبيصة هو الذي أرسل لقبائل بكر بن وائل يُخيّرهم خِصلةً من ثلاث: ١. إما أن يُسَلِّموا تِركةَ النّعمان و ولده فيسلموا، ٢. أو يسيروا ليلا" في البوادي و البراري فيمثل على كسرى أنهم هربوا، و كان إياس كارها" لمحاربتهم، ٣. فإن أبوا هاتين الخصلتين خرجوا إلى الحرب [48]. فتشاور البكريون في ذلك، ثم أخذوا برأي حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي الذي قال لهم: لا أرى إلا القتال! فآذنوا الملك بالحرب و حينئذٍ قرّر كسرى أن يضرب البكريين، فاتخذ إجراءات تذكّر بالأسلوب الذي ضُرب به الإياديون سابقاً، فقد عقد كسرى للنّعمان بن زرعة على تغلب و النمّر، و عقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة و إياد، و عقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، و معه كتيبتاه: الشهباء و الدّوسر، و عقد للهامرزْ التُّسْتَريّ، و كان على رأس جيش كسرى بالسّواد، على ألف من الأساورة، و عقد لخنابرين على ألف، و كتب إلى قيس بن مسعود، و كان عامله على الطّف، طَفّ سَفَوان، و أمره أن يوافِيَ إياس بن قبيصة، ففعل. و بذلك تتوضح لنا خطّة كسرى، و هي ضرب العرب بأيدٍ عربية، بل ضرب القبيلة بكر بأيدي أبنائها كقيس بن مسعود! إلا أن العرب لم يبلعوا الطعم هذه المرّة كما حدث لهم سابقا"، بل تواطؤوا مع بعضهم و كان ذلك في غالب الظن برغبة القائد إياس بن قبيصة، ذلك أنه لمّا دنت جيوش الفرس بمن معهم و اقتربت من العرب في ذي قار، انسلَّ قيس بن مسعود ليلا" فأتى هانئا"، فقال له: أعطِ قومكَ سلاح النّعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعا" لأنفسهم، و كنت قد أخذت بالحزم، و إن ظفروا ردُّوه إليك ففعل و قسّم الدّروع و السلاح في ذوي القوى و الجلد من قومه [49]، بل أنّ إياس بن قبيصة نفسه كان يتهيأ للهرب ليمنح لأخواله فرصةَ الإنتصار، لذلك أرسل إلى أبي ثور و هو من بني تيم الموجود في جيش بكر (و من المفترض أنّه عدّوه) أن يرسل إليه فرسه (الحمامة) التي تسبق الريح ليهرب عليها فسلّمه إياها [50]. و نلاحظ أصل القصة الإسلامية الشهيرة هنا: أبي ثور و الحمامة، فالرسول و صديقه أبو بكر عندما هربا من قريش اختبأا في غار ثور و وضعت الحمامة بيضها على باب الغار، فلمّا رأى الكُفَّار الحمامة و بيضها تأكدوا بأنه ليس في الغار أحد، فنجا الرسول و أبو بكر من شرِّهم!!

الأمر الواضح هنا هو تواطؤ العرب الموالين للفرس مع عرب بكر و القبائل المُتحالفة معها، و كذلك أرسلت إياد إلى بكر سًراً، و كانوا أعواناً لبكر مع إياس بن قبيصة: أي الأمرين أعجب إليكم؟!، أن نطيرَ تحتَ ليلتنا فنذهب، أو نقيم و نفرّ حين تلاقوا القوم؟ قالوا: بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم. و ولت إياد منهزمة كما وعدتهم، فتبعتها قوات من جيش الفرس. فبكر لم تُقاتل الفرس وحدها بل قاتلت معها قوى عربية فاعلة، سواء" بطريقة مباشرة كتميم و عجل و سكون و غيرها، أو بطريقة غير مباشرة كإياد التي انهزمت و تبعها الفرس. دبّت الفوضى في أرض المعركة، و قديما" دَرَجَ الفرس على أن يهربوا من ساحة المعركة إذا هرب قائدهم كما فعل داريوس الثالث أمام الإسكندر، رغم أنّ هذا الأخير كان في جيشٍ قليل العدد بالمُقارنة مع الجيش الفارسي الإخميني، فعندما هرب الملك هرب الجيش كله! يقول أمين مورسالين: “إن الفرس لم يكونوا ذوي بأس في الوغى، فإنهم لم يتعودوا النِّضال في جسارة إلا أن يكونوا على مسافة بعيدة من أعدائهم و إذا أحسّوا أنّ فرقهم تتراجع كانوا يتقهقرون سِراعا" كالرِّيح العاصفة مُطلقين سهامهم من خلفهم كي يخففوا من جرأة عدوهم و هو يقتفي أثرهم”[51]

ساعد تنامي الوعي بالإنتماء "العربي" على تقوية البكريين، و على إضعاف جبهة الفرس و عملائهم، فانتصر البكريون العرب و انهزم الفرس و عملاؤهم، و قُتِلَ الهامرز، و خُنابِرزين، لكن لم يُقتَل إياس بن قبيصة، فكيف أسهم الوعي بالإنتماء "العربي" في تحقيق ذلك؟ الجواب هو لأنّه لم يحارب بنو شيبان لوحدهم بل شاركتهم مجموعة من القبائل، فقد اشترك بالحرب إلى جانب بكر، يزيد بن حمار السَّكوني و قومُه، و كانوا نزولاً في بني شيبان، و كان ليزيد رأي في تلك الحرب، فأخذ به البكريون، حيث أشار عليهم في أثناء المعركة بأن يكمنوا للفرس كميناً، فأخذ البكريون برأيه، و جعلوه رأسهم في ذلك الكمين، و شاركت في الحرب قبيلة عجل التي أبلت بلاء" حسنا" في معركة ذي قار، و اشتركت قبائل أُخرى في تلك المعركة كقبيلتي عبس و تميم [52]، و بذلك يتبيّن لنا أن البكريين لقَوا دعماً عربياً كبيرا"، و أنهم أفسحوا المجال لمن قرِبَ منهم من العرب كي يشاركوا في محاربة الفرس، كذلك لقي البكريون دعما" من العرب المتواجدين في الجيش الفارسي و كل هذا كان بتخطيط و مُباركة من القائد الداهية إياس بن قبيصة!! فانتصار بكر في معركة ذي قار لم يكن نصرا" قبليا" فقط بل نصرا" "عربيا" أعطى درسا" للآخرين المُتخاذلين على أنّ الوحدة تُنتج المُعجزات، و جعلت الذين لم يشاركوا في المعركة يشعرون بالنّدم و الحسرة، و لو شاركوا لحصل لهم الشرف بذلك و لحصلوا على الغنائم! قال الأعشى:

لو أنَّ كلَّ مَعَدٍّ كانَ شاركَنَا .. في يومِ ذي قارَ ما أخطَاهُمُ الشَّرَفُ

انهزم إياس و هرب على الحمامة و كانت لا تُلحَق، و فيها يقول إياس بن قبيصة:

غذاها أبو ثور فلمّا رأيتها .. دخيساً تفوتُ العينَ حين تراها [53]

انهزم إياس في ذي قار بعد أن تواطأ مع بني شيبان، فكان هو أوّل من انصرف إلى كسرى بأخبار الهزيمة، و كان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلّا نزع كتفيه (أي نزع عنه الرُّتب العسكرية)، فلمّا أتاه أياس سأله عن الخبر، فقال: هزمنا بكر بن وائل، و أتيناكَ بنسائهم، فأُعجب ذلك كسرى و أمر له بكسوة، و إنّ إياس استأذنه بعد ذلك قائلا": إنّ أخي مريض بعين التّمر، فأردت أن آتيه، و إنّما أراد أن يتنحّى عنه، فأذِن له كسرى، فترك فرسه «الحمامة» و هي التي كانت عند أبي ثور في الحيرة، و ركب نجيبة فلحق بأخيه [54]، لكن لمّا علم أبرويز بالخديعة أراد قتل إياس لكن شاهين كان قد هرب و ولّى الأدبار!! يقول إبن قتيبة الدينوري في تفسيره: “كان كسرى أرسل إلى مال إياس ليأخذه فنفرت عن ذلك طيء، و قد أراد أن يبطش بأناسٍ منهم. فلمّا رأى ذلك كسرى، كتب لهم كتابًا في أمان، فقال زيد الخيل هذين البيتين فيه، يحض قومه، و ينهاهم أن يقبلوا كتابه أو يطمئنُّوا إلى قوله:

أفي كُلِّ عام سيِّدٍ يفقدونه .. تحكُّ من وجدَ عليه الكلاكلُ
ثم يكون العقلُ منكم صحيفةً .. كما علّقت على السليم الجلاجلُ

و لم يذكر إبن قتيبة تفسيرا" للسبب الذي دفع كسرى إلى المطالبة بمال إياس؛ هل كان ذلك بسبب اختلافه معه، أو بسبب آخر، و لا يُعقل أن تكون هذه المُطالبة في حالة صلح و علاقات طيِّبة بين الجهتين، بل لا بد من أن تدل على ظروف سيئة لم يتطرّق إليها الدينوري! في هذه المعركة قال شاهين : «اليوم انتصف العرب من العجم و بي نُصروا"، قيل إنّ ذلك كان بمكّة و قيل بالمدينة بعد وقعة بدر بأشهر [55]

مقتل كسرى أبرويز:

في سنة 628 م هاجم هرقل العاصمة الفارسية من الشّمال بينما دخلها القائد شاهين من الجنوب بعد أن تواطأ مع أخي خسرو الثاني المدعو رُستم الذي كان قد ثار على أخيه أبرويز في الشرق [56]، و تواطأ كذلك مع أعيان الإمبراطورية فأطلق سراح المسجونين و تم نقل إبن خسرو المدعو شيرويه (قباذ الثاني) إلى دار زادان فروخ (فرخ زاد)، و أبرويز غارق في النّوم عند شيرين و في الصباح سمع الناس يصيحون "شاهن شاه قباذ" أي "ملك الملوك شيرويه" فهرب و اختبأ في حديقة، لكن زادان فروخ قبض عليه و تمّ قتله [57]. و أجلس شاهين إبنه شيرويه / قباذ على العرش الساساني مكانه. يذكر الطبري أنّ هرقل لمّا نزل نصيبين، كان شاهين (فاذوسبان المغرب) بباب كسرى لموجدة كانت من كسرى عليه، و عزله إياه عن ذلك الثغر [58]، و ذكر الفردوسي أن زاد فرخ جاء إلى العاصمة الفارسية في إثني عشر ألف جندي فدخلوا القصر و أمرهم زاد فرخ بالفوضى و كثرة الشكوى (القيام بمُظاهرة) من حكم أبرويز، ثم دخل على الملك يعلمه بشكواهم و كثرة بلواهم، ففطن أبرويز إلى تلك الحيلة، لكنه لم يستطع أن يفعل شيئا" لأن زاد فرخ كان قد تواطأ مع رجال خسرو على خلعه و تنصيب إبنه شيرويه مكانه و لازم زاد فرخ باب أبرويز [59]. و ذكر آخرون أنّ فرخ زاد (الذي سنعرف فيما بعد أنه هو نفسه شاهين) كان قد جمع جيشا" كبيرا" و تحالف مع خسرو شنوم بن سمباط بغرتوني الأرمني و توجّها معا" إلى العاصمة الفارسية و أنزلا كسرى / خسرو الثاني عن العرش و كان ذلك في سنة 628 م [60]

يتّضح مما سبق أن شاهين عاد بجيش قوي إلى العاصمة طيسفون، و حاصر طاق (قصر / إيوان) كسرى و عزله عن العرش و ذلك بالإنفاق مع هرقل عظيم الروم، و هذا ما جعل هذا الأخير ينسحب من حصار العاصمة طيسفون و يعود إلى بلاده. لقد ساعد العرب الروم على الإنتصار على خسرو الثاني (كسرى / أبرويز)، بحيث تواطأ معهم كل من القائدين شهرباراز و شاهين و الجيوش التابعة لهما و المُكَوّنة أساسا" من العرب أي من البدو الرّعاة، و لذلك فرح المؤمنون بعد انتصار الروم و انهزام الفُرس و مقتل أبرويز، و كان هرقل قد وعد طائفة" منهم و هم أتباع الجنرال شهرباراز بأن يساعدهم على حكم فارس. بعد مقتل أبرويز (كسرى / المنصور) عمّت الفوضى الإمبراطورية الفارسية - يُتبع في الجزء الثالث



#صادق_البصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حشد مقاومة !؟ ان الله وملائكته حيل مستغربين !
- دهن المقاعد علاجا للديكة المهتاجة !
- شوصتك عباية !
- سرحان شماعية !
- حريبي بالبوجات !
- الميت الى الحفرة والحي الى السفرة !
- بين حانة /علگ ومانه / خرط !
- شيخنا كولهه متلازمه من الباب للمحراب !؟
- فوت يسير يسير ؛ سينه سينه!
- ماكو منه ..!؟
- عكيرة عالفتل جو فاش..
- كائنات ال DNA
- جوهر الاختلاف !
- لقطات ملونة 3
- الأسياد الأموات لهم طول البقاء ..
- حلوى مالحة ..
- ذكرى عطر
- الهر هانز العبوس
- الحياة اليومية
- يقين العم عبد النبي ..


المزيد.....




- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - صادق البصري - المقتل كماهو .. بداية نشوء الاسلام الفارسي!