أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ماهر عزيز بدروس - مستقبل الرهبنة القبطية: إلى أين؟















المزيد.....


مستقبل الرهبنة القبطية: إلى أين؟


ماهر عزيز بدروس
(Maher Aziz)


الحوار المتمدن-العدد: 6979 - 2021 / 8 / 5 - 00:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بدأت الرهبنة القبطية حركة اعتزال للعالم حين قرر رجل لا نعرفه أن يهرب إلى الصحراء فراراً من شيء ما يمنعه من الاستمرار في العيش وسط الناس، وربما كانوا بضعة رجال هربوا إلى الصحراء فراراً من ذنب أو جرم أو مصيبة.. وحين وجدوا أنفسهم معلقين هكذا بين الأرض والسماء لم يجدوا ما يفعلوه إلا أن يُؤَمِّنُوُنَ مأكلهم ومشربهم، ثم يرفعون رؤوسهم إلى السماء ليطلبوا التوبة والعون الذى يجعلهم يستمرون في العيش في الصحراء.

كانوا بضعة رجال فروا من مصيرهم المحتوم دون المخاطرة بأخذ نسائهم معهم، حيث كان القرن الرابع الميلادى، وقد تحول المصريون جميعهم إلى المسيحية، لكن ألواناً بقيت قائمة من الخلافات الهرطقية والاضطهادات وشظف العيش والمخاطر والمطاردة، سواء لأسباب عقيدية أو معيشية أو سلطوية أو خلافية أو أخلاقية، التي جعلت كثيرين يطلبون الفرار إلى حيث لا يصل إليهم أحد ممن يطلبون رؤوسهم للفتك بهم أو للقصاص منهم.

وشيئاً فشيئاً ظهر من بين أولئك الفارين، من ذوى الشعور الدينى القوى، مَنْ ربط بين الفرار الصحراوى والروح الدينية، بادعاء أنه هروب لأجل اللـه من زئير العالم وجمره، وفى محاولة سيكولوجية لتقبل أنفسهم من حالة الفرار والهروب الصحرواى دعا زملاءه لتزجية الوقت المار بطيئاً متثاقلاً في التعبد، ورفع القلب للـه.

وحيث لا تجود الصحارى سوى بأقل القليل من المناعم؛ ولانتشار الفكر الغنوسى المختلط عبثاً وارتباكاً بالفكر المسيحى في ذلك الزمان -الذى لا تزال رواسبه عالقة بالفكر المسمى "الآبائى"- ساد الادعاء بين هذه المجموعات الهاربة بأن الفقر الاختيارى، والعزوف عن الملذات في العالم، تقترن حتماً بالتعبد.

وحيث هو مجتمع ذكورى قح ينعدم فيه النساء الهاربات من العالم.. انتشر الادعاء بأن هذا النمط من الهروب التعبدى هو أيضاً هروب من الجنس لأجل اللـه.. في محاولة لتوظيف كلمات يسوع عمن نذروا أنفسهم للـه دون زواج: "ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. مَنْ استطاع أن يقبل فليقبل"(مت 19 : 12)، رغم عدم انطباقه سوى على قلة نادرة من البشر، ورويداً رويداً ارتبط الهروب الصحراوى لأى سبب بادعاء التعبد للـه الذى أحد أركانه الابتعاد عن المرأة..

بدأ الأمر بالهاربين فرادى على ابتعادات مسافية في الصحراء بين شخص وآخر، ثم جاء من جَعَلَهُم يعيشون معاً، واكتسب لقباً أطلقه المؤرخون بأنه "أب الشركة".. الذى طفق يضع بعض القواعد التي تحكم هذا التجمع من الهاربين والفارين.

وشيئاً فشيئاً صار هذا المجتمع الذكورى الصحراوى، الذى احترف العبادة، ينسج حول ذاته الأساطير التى تغسل عثراته وخبيئاته للساكنين في العالم، فتظهرهم بمظهر القداسة التي تخلب عقول وأرواح الساكنين في العالم.. وزاد الأمر هولاً حين سَرَتْ كالنار في الهشيم فرَّية أنهم تبتلوا لأجل المسيح.. فأكبر الساكنون في العالم ذلك إكباراً خرافياً، جعل منه حجر الزاوية في أسطورة القداسة الشعبوية.. ألا وهو المرتبط بعدم ممارسة الجنس مع النساء، باعتبار ذلك قمة الطهر.. ومن ثمَّ.. قمة القداسة؛ وسرت الأكذوبة كالنار في الهشيم أن هؤلاء أطهار لأنهم بعيدون عن النساء، بينما الساكنون في العالم دنسون لأنهم قريبون من النساء.. لأن كل رجل في العالم متزوج من امرأة لا يُكَوِّن أسرة سوى في الاتحاد الزيجى لينجب الأطفال؛ والاتحاد الزيجى يقتضى ممارسة الجنس، والجنس هو الدَّنَس، هكذا اعتقدوا ولا يزالون.. وبهذه الأسطورة الخبيثة راحوا يحقرون الفعل الطبيعى الذى خلق اللـه لأجله الرجل والمرأة وقَدَّسَه بالحب، مقابل تمجيدهم الخرافى الشعوذى لاعتزال الجنس الطبيعى في الصحارى، بزعم التكريس للـه في التعبد، متنكرين لحقيقة أن الطهارة أمر رافق رجال اللـه الأتقياء، بينما جُلّ الأنبياء والرسل كانوا أزواجاً لنساء، وآباءً لأطفال كثيرين.. فالطهارة ليست وقفاً البتة على الذين لا يمارسون الجنس الطبيعى، لأنها حالة يبلغها كذلك المتزوجون بامتياز؛ لكن الخبل الشائع في تصورات القداسة المجنونة راح ينفخ في هذه النقطة على الخصوص ليلصق بأولئك الساكنين في الصحارى قيمة الطهارة حصرياً، ويمتنع بها على الذين في العالم، فيبقى مجتمع الانعزال الصحراوى هو القمة الأعلى في القداسة التي يتعين أن تنحنى لها كل الرؤوس والركب، بينما الواقع يشى بأنه قد يشوب الحياة الجنسية للكثيرين في الصحارى والأديرة أحوال متنوعة من الخطايا الجنسية والشذوذ المكتوم غير المُعلن!!

لكن الأسطورة لم تتوقف عند هذا الحدّ، فمنذ تسموا بالتسمية الشائعة الآن بوصفهم "رهباناً" راحت افتراءات القداسة تتفرع عنهم في كل صوب وبكل سبيل، خاصة بعدما صار كثيرون منهم يحصلون على الرتب الكهنوتية، وأيضاً منذ ذلك الزمن الردئ الذى اتجه فيه الأقباط لاختيار رئيس أساقفتهم وبابا كنيستهم من بين الرهبان، حتى صار ذلك اختياراً حصرياً لا يمكن العودة عليه، انسياقاً بالأخص من الأسطورة الشعبوية الشاذة التي تربط اعتزال الجنس الطبيعى في الرهبنة بالطهارة.. ومن ثَمَّ.. القداسة!!!

ومن هذه الافتراءات المزعومة بالقداسة ما يشاع في الكتب الرهبانية والكنسية والنقل التراثى والشفاهى الكنسى عن وجود اثنى عشر راهباً منتقلاً إلى العالم الآخر يحلقون حول الأديرة، ولا يتغير عددهم عن اثنى عشر، يسمون "بالسواح"، الذين قد يهبطون إلى مذبح إحدى كنائس الأديرة ليقيموا القداسات، ويتركوا خلفهم آثار إقامة القداسات، حيث لم يوجد أحد ممن في الأديرة قد أقام هذه القداسات!!!

وأسطورة "السواح" هذه مؤكدة رغم عدم تقديم دليل عليها سوى أغلظ الإيمان بأنها حدثت وتحدث.. كلها قصص وروايات دون دليل، إمعاناً في إحاطة المجتمع الرهبانى بالقداسة الشعبوية الشعوذية الخرافية!!!
حتى لقد شاع في التراث والتعليم الكنسى، بإصرار خطير لا يلين ولا يفتر، أن الرهبان هم "بشر سمائيون وملائة أرضيون"، وهم كذلك "أصحاب الأجنحة الروحية التي يطيرون بها".. هكذا يتعلم النشء في الكنائس، وهكذا يَشِيِعُ التعليم الكنسى المنقول عبر الأجيال بكل قوة، ليغطى حفنة الرجال المعتزلين في الصحراء بقداسة خرافية تتناقص بالقياس إليها قداسة اللـه ذاته، ليظل أولئك الرهبان فقط يحتكرون البركة والمال والسلطان الرهيب.. سلطان القداسة الملعونة التى تَشُدُّ البشر إليهم من كل صوب وحدب ليسجدوا لهم، ويتمسحوا بأهداب أثوابهم، ويلقوا في حجرهم بأموالهم، ليلتمسوا منهم أسباب تطهرهم وغسل آثامهم وأوهامهم هكذا بالتبرؤ في عينى أنفسهم من قذارات وأدناس وتجاوزات وخطايا اقترفوها في العالم بدلاً من أن يتطهروا حقاً في الخلاص بالمسيح!!!

صارت هذه القداسة المهولة الملعونة هي الوسيلة السحرية التي يحجب الرهبان بها أنفسهم عن العالم، لينخدع بها أهل العالم، فتكون هي جوهر وجودهم الذى يسلبون به وعى العالم المعذب في نجاساته ليتطهر بالتمسح في خرافات قداستهم بديلاً عن التطهر في الخلاص بالمسيح.

وصارت المفارقة الحزينة الساخرة أن وعى الأقباط وعقولهم ونفوسهم تقبل بثقة وإيمان جازم أن إبراهيم أبو الآباء يخطئ ويغامر بزوجته أمام فرعون في سبيل سلامته، أما الرهبان "فبشر سمائيون"، وأن داوود الذى قال عنه الكتاب في حديث الذات الإلهية: "فتشت قلب داوود فوجدته حسب قلبى" يقتل ويشتهى ويزنى، أما الرهبان "فملائكة أرضيون"، وأن شمشون "مسيح الرب" يخون شعبه ويتمرمغ في أحضان امرأة أجنبية وثنية، بينما الرهبان "أصحاب الأجنحة الروحية التي يطيرون بها"، وأن بطرس ينكر المسيح أمام جارية أما الرهبان "فبشر سمائيون"، وأن بولس "الرسول العظيم" يختلف مع زملائه الرسل في الكرازة حتى يتركون بعضهم البعض مفترقين، أما الرهبان "فملائكة أرضيون"..

بينما لا يعرف الناس عنهم أبداً – سوى الذين قرأوا قليلاً في التاريخ – أن منهم من وشوا بالكنيسة لدى عمرو بن العاص وهو بدهائه قد لعب على الحبلين معاً..

وأن منهم مَنْ دس السم لبابا الكنيسة قاصداً قتله..

وأن منهم مَنْ استقوى بالحاكم الجائر على بعض من إخوته طمعاً في أن يجلسه هو على كرسى البابوية..

وأن منهم من تعنت مع الإكليروس الأقل في الرتبة حتى أماتهم غيظاً وحُرْقَةً وكمدا..

وأن منهم.. وأن منهم.. وأن منهم..

لكن الكنيسة تخفى ذلك بكل سبيل لأن صورة القداسة الملعونة التي غَّيَبَتْ وعى الناس كان لابد أن يحتفظوا بها حية فوق كل نقص وكل عَىّ وكل نسبية!!

فأية أكاذيب شيطانية، وأى تدليس شعوذى، أمكنهم أن يعلموه للناس؟؟؟ ولا يزال هو التعليم السائد!!

البيوت التي يدمرها هذا التعليم الذى يشوه الجنس الزيجى ويعاند الحياة، تحيا – ولا شك – إذا تبدل التعليم تماماً عن خرافة الطهارة الرهبانية بوصفها المجد الوحيد للحياة، بينما هي صورة شديدة المحدودية – إذا صحت وتبرأت من أي فساد – للحياة والخدمة.. ودونها صور أخرى عظيمة للحياة مملوءة طهارة وبراً..

إن المرأة التي هي في جوهرها بنت الطبيعة وحاملة الأنوثة ونبع الحنان، وهي ذاتها التي تتقدس الحياة في أمومتها وحبها، فيتقدس الجنس فيها كذلك بالأمومة والحب، لا يمكن أن يعطى لحياتها أبداً مثال الرهبنة.. بل يُعْطَى لحياتها نموذج عريس وعروس سفر نشيد الأَنشاد.. الذى يرسم مجد الحياة الزوجية الطاهرة المباركة المقدسة في الحب، لأن الحب يغسل الدنس، والأمومة تاج الأنوثة..

هكذا يجب أن يتبدل التعليم الكنسى تماماً ويقلع إلى غير رجعة عن تمجيد الرهبنة كنموذج شاذ معاند للحياة يدمر كل البيوت القبطية التي يدخلها.. فتبدو في الظاهر ببريق التماسك الخادع بينما هي "خربانة" في الجوهر.

ولتختف إلى الأديرة كل الكتب التي تهدم حياة المسيحيين وتقتلها "كبستان الرهبان" وأمثاله.. لأنه لا يمكن أبداً تقديم أمثلة الحياة المعزولة الشاذة المائتة للحياة المجتمعية الطبيعية الحية..

الحق أنه في الوقت الذى يمجد فيه سفر نشيد الإنشاد الحياة الزوجية في الحب الزيجى الطاهر البرئ، يكثر الأدب الرهبانى الذى يمجد الحياة الإنفرادية الشاذة والروح الغنوسية الفاسدة التي تحتقر الجسد وتفتخر بتعذيبه، ليغوص هذا الأدب الرهبانى بانتشاره الضارب في التراث والتعليم الكنسى كله، ويفسد حياة جحافل الأرثوذكسيين منذ ذلك الزمن الذى هرب فيه ذلك الرجل المطرود من العالم إلى الصحارى ليعيش فيها ويتبعه الكثيرون هرباً من مواجهة الحياة.. حتى يومنا هذا..

ولن أحكى عن البيوت القبطية التي خَرَّبَها التعليم الرهبانى حتى اليوم، و"بهدل" حياتها، و"شندل" عيشتها، ودمرها تدميراً، حين قدمت لها الكنيسة تراثها الرهبانى الذى يمجد حياة الاعتزال، ويحيطها بهالات القداسة الخادعة، وبدلاً من أن تقدم الكنيسة للناس نموذج الزوجية الرائعة في عريس وعروس نشيد الأَنشاد، راحت تقدم لهم نموذج الاعتزال الرهبانى بوصفه قمة الحياة، بينما هو يقصر تماماً عن إرادة الحياة..

فَهِمَتْ الكنيسة بمقتضى هذه الرهبانية المسيطرة المتغلغلة تعليم يسوع على غير مراده وأهدافه وغايته، وفَسَّرَت قول السيد المسيح عن "خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات" (مت 19 : 12) بأن تلك هي قمة الحياة الروحية، بينما هي مجرد موهبة فقط – كأى موهبة معطاة من اللـه – لقلة نادرة من البشر لأجل مهام خاصة، ولا تجعل منهم البتَّة مُفْرَزوُن في القداسة أو الروح، وهذه القلة النادرة من البشر موجودة في العالم، متبتلة بالجسد والروح، لمقاصد معينة، وليست بالضرورة منخرطة في حياة الرهبنة والديرية مطلقاً، وقد لا توجد أبداً في الديرية والرهبنة!!

ولقد تركوا هذا التعليم الكاذب المخبول الفاسد يتغلغل في الإرث الكنسى المنقول ليثبت على نحو مخاتل ومُدَلِّس هذه المقولة الجنونية بأن الرهبان هم "ملائكة أرضيون"، ما غَرَسَ في فكر الأقباط وضمائرهم أن المثل الأعلى للحياة هو الرهبنة، في تجاهل خطير للمثل الأعلى للحياة الذى جبله اللـه ذاته – عز وجل – في آدم وحواء..

ولقد تجلت إحدى ظواهر المأساة التربوية يوماً في الخدمة في الستينيات، حين ظلت إحدى الخادمات تلقن بنات فصلها من مراهقات المرحلة الثانوية أن الرهبنة هي المثل الأعلى للحياة، وإذا بها فجأة تتزوج، لتدخل بعض فتياتها في الخدمة على الفور إحدى المصحات العقلية من هول الصدمة!!

كان ذلك حدث عاصرته بنفسى في الخدمة..

على أنه يتبقى للرهبنة بعض مآثر للحياة الروحية والمدنية لا يمكن تجاهلها:

• فلقد أفرزت الرهبنة على مدارج استمرارها وتطورها مجموعة من الأديرة التي صارت قلاعاً للحفاظ على الإيمان بسبب الصلوات التي ترفع في كنائسها لا بسبب ساكنيها..
• ولقد شَكَّلت هذه الأديرة على مَرِّ التاريخ ملاذاً آمناً للفلاحين الأقباط كلما اشتد عليهم الاضطهاد في الوادى المزروع تحت حكم الولاة القساة الطغاة، الذين أفرطوا في فرض الجزية، فكانوا يهربون إلى الأديرة من العبودية والذل والقتل على الهوية.
• ولقد كانت كذلك منذ نشأتها موطناً لقامات روحية حقيقية غير دخيلة، وغير هاربة أو فارّة.. قامات على قِلَّتِهَا وندرتها نذرت ذاتها حقاً للملك المسيح، فكان منها المقارات الثلاثة، وأولاد الملوك وغيرهم من الأسماء الكبيرة في المَجْمَع.
• ولقد صارت هذه الأديرة كذلك ملاذاً للإيمان الذى حُفِظَ في متون الرقائق والمخطوطات والكتب، مثلما صارت خزانة لكتابات آبائية حافلة بالتأملات والشروحات والتفسيرات التي كونت مكتبة قبطية غنية بالتاريخ واللاهوت والفكر الدينى..
وكان منها منارات عديدة صارت على التاريخ مقصداً للباحثين والمؤرخين والمفسرين فضلاً عن دارسى اللاهوت والتراث الروحى..
بل إن منها ما قد صار تحت قيادات نادرة مستنيرة مدرسة لاهوتية خرجت منها مؤلفات ومباحث أمينة، صارت مراجع لا يُستغنى عنها، التي من أمثلتها المدرسة المقارية الشهيرة قبل أن تطالها يد التخريب بفعل فاعل، اللهم إلا بقية من رموز لا تزال متوهجة تضئ بإنتاجها الرصين الغزير من كتب الفكر الدينى مشاعل شتى!!
• ولقد كانت منبعاً للعديد من الرجال الأتقياء الذين تبوأ بعضهم كرسى البابوية بأمانة وتجرد، بينما كانت في الوقت ذاته مصدراً لرجال أوقعوا بالكنيسة أوجاعاً لا تزول..
• ولقد تجاوز أثرها حدود البلاد، فارتحل إلى القارات الأخرى، وعلى مسيرة التاريخ أخذت عنها الكنائس كافة – خاصة الكنيسة الكاثوليكية – نهج الرهبنة ذاته، ولكن على نحو مختلف تماماً، نقل أثر الدير في أوربا على الخصوص إلى حياة الناس المباشرة، فانتشرت أساليب الرهبنة الخادمة التي نزلت إلى الناس جميعاً، وشيدت معاقل التعليم المدنى الملتزم، وعلمت النشء وأبدعت فى تربيته، وشيدت بيوت اليتامى والأرامل والمسنين وخَدَمَتْهُمْ، بل وجابت إرسالياتها الدنيا كلها تبحث عن المعوزين والمفتقرين والمزدرى بهم لتدفع إليهم بالحياة الكريمة..
بل إن منها ما صار كذلك قلاعاً للبحث العلمى الذى أنتج إضافات حاسمة للعلم..
وزاد أثرها العظيم في أزمنة الكوارث والحروب، ففتحت أبوابها لتأوى المُطَاَرَدِيِن والذين في الخطر، وتداوى جروح المجروحين، وتقدم ديارها منزلاً يستشفى فيه الذين أَلَمَّ بهم المرض أو الوباء..
لَكَأَنَّ العناية الإلهية قد دَشَّنَت الرهبنة في صورها الملتزمة الكارزة الخادمة، وحَوَّلَتْهَا إلى عون حقيقى للناس في الحياة، لتؤكد بكل قوة أن الرهبنة الحقيقية المباركة هي للحياة وليست للموت عن العالم كما يَدَّعُون!!
• ولقد انسحب أثرها كذلك على البنات فصارت الكثيرات راهبات ، وبنيت الأديرة كذلك للبنات المترهبات، لكن الرهبنة النسائية كانت غالباً بمنأى عن هواجس وأكاذيب القداسة المصنوعة، ربما لأنهن يمتنع عليهن الكهنوت، فأُفْلِتْنَ من الاحتكار الحصرى للروح القدس، الذى يشيع الإكليروس الأقباط أنهم وحدهم يحتكرونه، وينشرون لذلك أنهم وحدهم مصدر القداسة، بينما المؤمنون جميعاً هياكل اللـه وروح اللـه يسكن فيهم (رو 8 : 11).. وتلك واحدة من الإدعاءات الكبرى التي تمسحوا فيها عبر التاريخ، ليحفظوا لأنفسهم أوهام القداسة الملعونة، التي طالما أعمت الأقباط المغيبين، وسلبتهم وعيهم وكرامتهم، بل وجردتهم من إيمانهم باللـه لِتُحِلَّ محله إيمانهم بالإكليروس!!! وعلى الأخص الرهبان منهم؟؟؟

غير أن الرهبنة النسائية في نموذجها الغربى كان لها فضل كبير على البشرية في التعليم، والعناية بالأطفال، والحدب والعطف والرعاية للمحتاجين والذين فى الضيقة..

كذلك فمحدودية الرهبنة النسائية بالقياس للرهبنة الذكورية تشى بأن نسبة اللاتى نذرن أنفسهن للمسيح حقاً أكبر بكثير من النسبة ذاتها في الرهبنة الذكورية التي تغلب عليها نسبة الهاربين الفارين، أو العاطلين الطامعين في الثراء الفاحش السهل والسلطان الغاشم المتجبر الدخلاء غير المُعْطَّى لهم موهبة البتولية، كما أن الأمومة الكامنة في المرأة تفجر في الراهبات روح البذل والإشفاق والرحمة، وتعفيهن من معظم المثالب التي ترتبط عادة بالرهبان الذكور.

فإذا انتقلنا من مآثر الرهبنة إلى مستقبلها نتوقف بالضرورة أمام السؤال: على أي نحو إذن يتبدى مستقبل الرهبنة القبطية؟

لقد حفلت الرهبنة القبطية على طول تاريخها بأوجاع كثيرة مثلما حفلت أيضاً بالمآثر؛ لكنها في العقود الأخيرة انحرفت انحرافاً جائراً عن القصد السماوى، وراحت أوجاعها تترى في انفجارات مروعة بلغت حد القتل لرئيس أحد الأديرة، في جريمة كشفت عن انهيارات حادة، وانعكست هذه الانهيارات بمفاسد شتى في الشعب القبطى.

ولقد انتهى بالرهبنة القبطية إلى هذه الجريمة الفاجعة عديد من الإجراءات التخريبية التي حاقت بها في نصف القرن الماضى، والمناخ الفاسد الذى خَلَّفته هذه الإجراءات التخريبية في الكنيسة مَكَّنَ الكثيرين من المارقين والمرتزقة وأصحاب المآرب أن يتاجروا بالشعارات الفجة التي تتوزع فيها الاتهامات جزافاً على الأبرياء، وتصير فيها عبارات فارغة خرقاء – "كالدفاع عن الإيمان"، و"مجد الكنيسة" – قذائف ملتهبة.

لقد تراجعت الرهبنة القبطية تراجعاً جوهرياً على نحو صار مفارقة صارخة للرهبنة التقليدية في مظانها الروحية والتكريسية..

على أن هذا التراجع لم يحدث فجأة، لكنه حدث على نحو زاحف مع الزمن، متمثلاً في التغيرات التي أحدثها العلم والعقل خلال رحلة الصعود الزمنى من القرن الرابع الميلادى حتى القرن الحادى والعشرين، ولم يعد هنالك الآن موضع لطمس الكذب والتدليس والخرافة التي تراكمت في أزمنة الجهل والشعوذة، وتوطنت في التراث الرهبانى والكنسى توطناً مشيناً.

ولقد كشفت ظواهر عديدة لا حصر لها على مَرّ التاريخ، خاصة في نصف القرن الأخير، عن عطب مكين تَلَبَّسَ بخلق وسلوك الذين اعتلوا مناصب البابوية أو الأسقفية، لعل أبرزها قسوتهم الهائلة على بعضهم البعض أو الإكليروس تحت رئاستهم متى استحوذوا على السلطان والثروة، وقسوتهم كذلك على كل من يختلف معهم، بل وتوجههم الأفدح إلى مناعم السلطان والثراء الفاحش، والقبض على مقاليد الأمور بتجبر وافتراء، منحرفين كُليَّة عن رسالة المسيح، وسارقين جميعهم لمجده.

إن الأفكار الخاطئة الشعوذية المتداولة في القصص الرهبانى العاطفى المؤثر عن نَذْر الذات، التي تَدَّعِى أن هبة العمر للـه تعنى فقط التَّرَهُّب، والتي شَكَّلَت فساداً متأصلاً للعقل القبطى، يروجون له بالقصص الشعبوى الفولكلورى عن المعجزات التي يتداولها الكهنة والخدام على منابر الوعظ وفى فصول التربية الكنسية، وعلى وسائط الاتصال بدءاً من البرامج التليفزيونية وحتى وسائط التواصل الاجتماعى؛ تمجد كلها الرهبنة، وتؤثم الحياة الطبيعية، في جريمة قائمة دائمة ضد كل ما عَاشَهُ يسوع وكَرَزَ به على الأرض.

إن نذر الذات للـه لا تعنى العزلة فى الصحارى؛ فنحن نصلى في العالم ونخدم اللـه بين الناس، ومثلنا الأعلى في ذلك خدمة يسوع.

ينقلنا ذلك مرة أخرى للسؤال المُلِحّ:
على أي نحو يتبدى لنا مستقبل الرهبنة القبطية الآن؟

إن الرهبنة القبطية الآن على مفترق طرق حاسم:
- إما أن تكون أو لا تكون؛
- وإما أن تسلك سبيل الرسالة السماوية.. الذى انحرفت عنه؛
- وإما أن ينتهى زمانها نهائياً دون رجعة؛
- إما أن تتجدد على نهج التجرد الصحيح؛
- وإما أن تغرق في شهوة الدنيا بالسلطان والثروة فلا تعود رهبنة حقيقية بل سلم هابط للمخازى والعار.

إن إجراءات جوهرية أمام الكنيسة الأرثوذكسية كى تأخذ بها الآن لإنقاذ الرهبنة القبطية من التهاوى أو الزوال يجب تنفيذها دون إبطاء:

أولاً: يتعين على الرهبنة القبطية أن تحدد هويتها على نحو واضح صريح، فتنهى جملة واحدة وإلى الأبد هذا الالتباس الذى يفسد دورها، بل يفسد وجودها كله..

فالكنيسة القبطية مُطَالبَةٌ الآن أن تحدد هل هي رهبنة متعبدة أم رهبنة خادمة؟.. فإذا كانت رهبنة متعبدة ينتهى على الفور الإنخراط في الأنشطة التي تتلهى بإدارة المشروعات والمبيعات وحسابات الربح والخسارة..

وينتهى على الفور الاختلاط بالبشر وأقاصيص الناس وثرثراتهم..

وينتهى على الفور - قبل ذلك كله – السعي الدنيوى الخسيس لمناصب الثراء والسلطان والكبرياء والتجبر في الكنيسة.

وإذا كانت رهبنة خادمة فلتتحول عاجلاً إلى نهج الرهبانية الغربية التي أبدعت صنوفاً من الخدمة الباذلة المضحية، وفعلت فعلاً مسيحياً خالصاً لأجل اللـه في حياة الكثيرين، مستهدفة في الجوهر تجسيد عناية اللـه بالبشر، وفداء المسيح العجيب لخلاصهم..

ثانياً: يتعين على الرهبنة القبطية إذا انتهجت التعبد والخدمة معاً أسلوب حياة وممارسة أن تُبْدِع معادلة جديدة لوجود الرهبنة، تتحول فيها كل أنشطة توليد الدخل اللازم للخدمة إلى شركات مستقلة، يديرها جهاز إدارى علمانى منفصل انفصالاً كاملاً عن الديرية والرهبانية، يتبع كل دير على حدة، ويتحول فيها الراهب إلى عابد للـه خادم للناس على نهج الخدمة الغربية لليسوعيين الأبرار.

ثالثاً: يتعين على الرهبنة القبطية فك الارتباط الحالي بين الرهبنة وإحراز الرتب الكنسية..

فالسعى للرتب الكنسية بين الرهبان قد أفسد نهج الرهبانية، وطعنها في الصميم طعنة نجلاء، أجهزت على كل فضائلها التاريخية ودمرتها تدميراً..

بَيْدَ أن الكنيسة القبطية أمامها الآن لحظة نادرة لإصلاح هذه النقيصة من جذورها..

فالعودة إلى الكنيسة الأولى تقدم لنا الفرصة الذهبية لاتباع النهج الكتابى الذى يؤكد " أن يكون الأسقف بلا لوم، بعل امرأة واحدة، ..." (1 تيموثاؤس 3 : 2)؛

ولينته إلى الأبد وقف اختيار الأسقف من بين الرهبان، وعدم التقيد في اختياره بالبتولية من عدمها، لأن الذين يخدمون بأمانة يستطيعون تقديم الخدمة سواء كانوا متزوجين كتيموثاؤس، أو غير متزوجين كبولس، ولم يكن أحدٌ منهم أبداً من الرهبان.

إن الأمل لينعقد الآن على الجيل الجديد الذى يعيش مخرجات الثورة العلمية الرابعة.. فمهما كان فريسة للخرافة لديه على الأقل بعض المعطيات الكفيلة بأن تنتشله، ليفكر في مسلمات الشعوذة التي تدأب الكنيسة على محاصرته بها.

والأمل كذلك معقود على غرس حياة روحية سامية في حياة الناس، وارتباطهم أكثر بكلمة اللـه الحية فى الكتاب المقدس، الذين يجعلهم عالم الطقوس الكثيفة مغتربين عنه؛

فالأمل معقود على أن يقوم خدام أمناء يثيرون نهضة وعى روحى أصيل في قلوب الناس، فيسعون إلى حياة البر دون وسيط، ودون اعتقادهم المُغَيَّبْ بأن ذنوبهم ونجاستهم يكفرون عنها على عتبات الأديرة بالمال الأثيم الذى يبعثرونه في حِجْرِ حفنة من البشر يسقط وعى الناس تحت أقدامهم بما يخدعونهم به من أخيلة القداسة الملعونة.



#ماهر_عزيز_بدروس (هاشتاغ)       Maher_Aziz#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجمهورية الجديدة.. بين الحلم والواقع
- فى الذكرى الخامسة عشرة لرحيله: الأب -متى المسكين- بين التشوي ...
- ما الدين؟
- سبعة قادة فى الاتحاد الأوربى يدعمون القوى النووية
- مشروع قانون الأسرة للمسيحيين-2: ثقوب واسعة فى ثوب مُبَقَّع
- مشروع قانون الأسرة للمسيحيين: الإضافة اللازمة المنقوصة
- الدولة الذمية والدولة المدنية
- سيدة الكرم ... والضمير الذى تَعَرَّى!!
- القيم الإنسانية والقيم الدينية
- رئيس المؤسسة الدينية في الدولة المدنية
- تحدى المناخ والطاقة العالمية - المقال بعد التنقيح
- تحدى المناخ والطاقة العالمية
- ماذا يحدث فى الحوار المتمدن؟
- كورونا.. والأفخارستيا - المقال بعد التنقيح
- الحريق الأمريكى: الرسالة السافرة فى الأحداث الغادرة
- الهيكل والمرأة..
- نازفة الدم: المرأة المسيحية بين الطهر والنجاسة
- كورونا.. والطاقة العالمية
- .. فأمطر نعمتك لا تبطئ رُوُحُنَا ظمأى إليك
- كورونا.. والأفخارستيا


المزيد.....




- قائد الثورة الإسلامية يدلى بصوته في الجولة الثانية للانتخابا ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تقصف 6 أهداف حيوية إسرائيلية بص ...
- -أهداف حيوية وموقع عسكري-..-المقاومة الإسلامية بالعراق- تنفذ ...
- “بابا تليفون.. قوله ما هو هون” مع قناة طيور الجنة الجديد 202 ...
- المقاومة الإسلامية بالعراق تستهدف قاعدة -عوبدا- الجوية الاسر ...
- “وفري الفرحة والتسلية لأطفالك مع طيور الجنة” تردد قناة طيور ...
- “أهلا أهلا بالعيد” كم يوم باقي على عيد الاضحى 2024 .. أهم ال ...
- المفكر الفرنسي أوليفييه روا: علمانية فرنسا سيئة وأوروبا لم ت ...
- المقاومة الإسلامية بالعراق تستهدف ميناء عسقلان المحتل
- المقاومة الإسلامية بالعراق تقصف قاعدة -نيفاتيم- الصهيونية+في ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ماهر عزيز بدروس - مستقبل الرهبنة القبطية: إلى أين؟