أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - الدولة القمعية ، القهرية ، الجبرية ، والمفترسة















المزيد.....



الدولة القمعية ، القهرية ، الجبرية ، والمفترسة


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 6923 - 2021 / 6 / 9 - 20:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لقد تعرضت هذه الدراسة التي كتبناها كحلقات ، في وقت سابق للتدمير من طرف المدير العام للبوليس السياسي La police politique ( DGST ) ، حيث ان لا علاقة للعناوين بالموضوعات . العنوان شكل ، والدراسة شكل آخر .. لان حسابي ، وبريدي الالكتروني ، وهاتفي مخترق من قبل البوليس السياسي .. خاصة وفي مرات كثيرة ، عندما أكون بصدد كتابة وتحرير مدونة ، او رأي ... اتعرض للتخريب Le sabotage للحيلولة دون نشر التدوينة ، او الرأي ... لأنني ومنذ منتصف التسعينات اتعرض لحضر من الكتابة والنشر داخل المغرب .. وقرار اسكات صوتي ، هو قرار لوزارة الداخلية .. وقد زاد قرار الحضر بشكل لا يطاق في عهد محمد السادس ...
لذا قررت ان اجمع كل دراسات هذه الحلقات ، بعد مجهود في استرجاعها ، ونشرها كمادة عبارة عن كتاب بالموقع العربي التقدمي " الحوار المتمدن " ، رئتنا الوحيدة التي نتنفس منها ... وشكرا لهم مسبقا .. وحتى يمكن لطلاب العلوم السياسية ، وعلم السياسة ، وعلم الاجتماع السياسي ، والقانون الدستوري والأنظمة السياسية ، والقانون العام ، والمهتمين و المشتغلين بالشأن العام ، من استغلالها بما يفيدهم في ابحاثهم التي لها علاقة بالموضوع :
" الدولة الأمنية القهرية الجبرية القامعة "
1 ) الدولة الامنية -- على هامش رسالة مستشار الملك السيد عباس الجراري : مؤخرا نشرت العديد من المواقع الالكترونية خبرا مفاده ، ان مستشار الملك السيد عباس الجراري ، حذّر من الحراك الشعبي الذي يعُمّ كل المغرب ، متوجسا من مخاطر تهدد النظام العام والاستقرار ، وموجها الانتقادات ، ومحملا المسؤولية الى (الأحزاب السياسية) ، والى (الحكومة) ، والى (المثقفين) ، و متناسيا ، او جاهلا ، او متجاهلا العنوان الحقيقي الذي كان عليه ان يوجه اليه خطابه ، وتحديد المسؤول الأول والأخير عن كل المشاكل التي يعرفها المغرب في كل الميادين ، من اجتماعية اكثر من متدهورة ،الى اقتصادية اكثر من مفلسة ، الى ديمقراطية صورية .
فكيف للسيد المستشار ان يترك الذئب ويتحامل على الحمَلِ ، وكيف له ان يطلب من فاقد الشيء ان يعطيه . فهل السيد المستشار على دراية بطبيعة الوضع الداخلي ، وبالوضع الذي بلغته قضية الصحراء في المحافل الدولية . فإذا كان يعلم فتلك مصيبة ، وان كان يجهل فهي مصيبتان ، لكن لي اليقين ان السيد المستشار ، على دراية كاملة بالحقيقية ، لكن للأسف يراوغ لإبعاد المسؤولية عن السبب والمتسبب فيه ، وللتعويم والتضبيب ، يلجأ الى الحائط القصير الذي لا حول ولا قوة له .
ولي ان أتساءل : من يحكم في المغرب ؟ من يسيطر على كل السلطات ، من تنفيذية ، وتشريعية ، وقضائية ، وباعتراف عبدالاله بنكيران لمّا كان وزيرا اولاً ؟ وبما ان السيد المستشار حمَّل الحمَل المسؤولية فالسؤال : هل هناك أحزاب بالمفهوم المتعارف عليه كونيا ، وهل هناك حكومة تشبه نظيراتها في الدول الاوربية ، وهل هناك مثقفون مرتبطون بالهمِّ القضية التي هي الوطن .
1 ) وبالرجوع الى الأحزاب والدور الدستوري الذي يجب ان تقوم به ، فانه تم افراغها من وظيفتها السياسية والأيديولوجية ، ولتتحول الى دكاكين تتسابق على ريع البرلمان والمقاعد الحكومية .
حقيقة ان المخطط لتفريغ الأحزاب قد بدأ مع المؤتمر الاستثنائي في يناير 1975 ، بتوجيه من الحسن الثاني . نعم ، ذاك المؤتمر كان بهدف القطع مع ماضي الاتحاد الراديكالي ، بتحويل الحزب الى حزب ملكي يدور في فلك النظام لا خارجه ، وكان بهدف استعمال الحزب كحزب ( اشتراكي ) في مشروع إعادة الصحراء ، خاصة وان الحزب كانت له علاقات مع الأحزاب الاشتراكية الاوربية ، ولم تعد الآن ، كما كان الهدف وهو على الأمد الطويل ، تفتيت الحزب الى جماعات متناثرة هنا وهناك ، الى ان انتهى به الامر اليوم كعلامة تجارية في ملك ادريس لشكر الذي اصبح رافدا من روافد النظام ، لكنه رافد جاف لا مياه تجري فيه .
كذلك الكل يتذكر حزب التحرر / التقدم والاشتراكية حتى وفاة علي يعته ، ويتذكر منظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي تم بيعها بدون مزاد علني......لخ . فالسؤال : لماذا أصبحت الأحزاب فارغة وتحولت الى صدفيات وقشريات فارغة ؟ . من قتل الأحزاب وحوّلها الى اطلال يتباكى بعض النوستالجيون على ماضيها ؟ اعتقد ان الجواب واضح ، والسيد المستشار لا ولن يملك الجرأة على الإجابة . ونحن نقول ان المسؤول هو النظام ، نظام الشخص ، والزمرة الكمشة البوليسية الملتحفة به ، والتي زيّنت له كل شيء حين صورت له الواقع على غير حقيقته ، حتى يثبتوا ويغرسوا في نفسه فوبيا الشعب ليزداد ارتباطا بهم ، ممكنا إيّاهم من رقاب المغاربة ومصير المغرب ، الذي اصبح يعيش الازمة الكبرى ، وباعتراف رأس النظام الذي اعترف بفشل نموذجه التنموي ، وبما ان كل تنمية هي سياسة ، يكون رأس النظام قد اعترف بفشل نموذجه السياسي ، لكن للأسف لم يطرح أي بديل عن هذا الفشل ، اللهم ارسال احرار وشرفاء الشعب الى السجون بمحاضر بوليسية مزورة ، كما كنت ضحيتها انا كذلك فيما سبق .
ان من مهزلة الأحزاب القشريات التي تلهت وراء الريع ، وبعد ان فقدت كل مكونات وأسباب وجودها ، هو حين رفضوا بالبرلمان التصويت على قانون التصريح بالممتلكات ، وصوتوا على تقاعدهم المريح ، في الوقت الذي دمروا تقاعد الموظفين المدنيين ، رغم ان الجهة التي ابتلعت التقاعد المدني معروفة ، لكن لا احد يملك الجرأة والشجاعة على ذكرها بالاسم .
2 ) اما عن تحميل الحكومة المسؤولية ، وهي حكومة الأحزاب التي شاركت في الانتخابات ، فالسؤال منذ متى كانت هذه تقرر في السياسة العامة للدولة ؟ فحتى الحكومة التي ترأسها الأستاذ عبدالله إبراهيم ، تم الانقلاب عليها حتى لا تلعب دورا رئيسيا في عملية استعادة الصحراء التي وافقت عليها اسبانيا ، وحتى لا تحسب عليها وتعتبر احدى اهم إنجازاتها التاريخية .
فقبل اجراء الانتخابات ، تُنظم حملة انتخابية تشارك فيها الأحزاب ، وكل حزب يعِد منتخبيه ببرنامجه الحزبي الذي سيتولى تطبيقه ، فهو وعْد للناخبين . لكن بمجرد انتهاء العملية الانتخابية ، وعند تشكيل الحكومة بالطرق المعروفة ، حتى تغيب مباشرة برامج الأحزاب الانتخابية التي قد تعتبر نوعا من التعاقد مع المصوتين لصالحها ، وليحل محلها مباشرة برنامج الملك الذي تتنافس جميع الأحزاب في السبق ، ليحصل لها شرف تطبيقه .
فإذا كانت هذه هي الحقيقة ، فالسؤال إذن . لماذا الأحزاب أصلا ، ولماذا الانتخابات ، ولماذا البرلمان ؟ فكان على رئيس الدولة ان يختصر كل هذه التكاليف ، والجهود ، والزمن في تشكيل حكومة هي حكومته ، التي يكون عدد الوزراء المنتمين اليها ، لا ينتمون الى الأحزاب التي شاركت في المسرحية كما هو الحال اليوم.
فعندما تكون الحكومة تنفد برنامج الملك ، فلماذا يحملها مستشار الملك المسؤولية عن كارثة الاقتصاد ، وعطب الوضع الاجتماعي ، وغياب الديمقراطية ؟ فكان على السيد عباس الجراري ، ان يوجه خطابه الى العنوان الحقيقي الذي يتحكم صاحبه ، ومن خلال زمرته كمشته البوليسية في كل مفاصل الدولة والشأن العام ، وخاصة وانه اعترف بفشل نموذجه التنموي والسياسي وامام الملء .
ان المسؤول الأول والأخير هو نظام الشخص ، والزمرة البوليسية المتنفذة ، وليس الحكومة الفاقدة للصلاحيات ، والتي لا تملك الاّ تطبيق برنامج القصر ، لا برنامجها الغير موجود أصلا .
3 ) وبالنسبة لتحميل ( المثقفين ) المسؤولية عن قتامة الوضع ، فالسؤال كذلك . من قتل المثقفين وحولهم الى وديعين ليّنين تعيش على ما تتفضل عليهم به الدولة من فتاة ؟ الثقافة والمثقف قضية ، وحين تغيب القضية يغيب المثقف ، ويتحول الى مجرد صُدفة فارغة تزمر للسلطة وللدولة ، بعد ان يكون قد قطع حبل السرة مع الشعب ومع البلد . فاين نحن من مثقفي الستينات والسبعينات وحتى النصف الأول من الثمانينات ؟ فمن قتل القضية ، ومنها قتل المثقف ؟
وباختصار من المسؤول عن قتل الأحزاب وقتل الحكومة وقتل المثقف ، قبل تحميلهم فشل مشروعات لا ناقة ولا جمل لهم بها ؟ لماذا يطلب مستشار الملك من فاقد الشيء ان يعطيه ؟
ان مستار الملك حين تساءل وهو يوجه خطابه الى غير عنوانه الحقيقي ، لم يسأل نفسه عن سبب خروج الشعب الى الشارع ، ولم يكلف نفسه عناء البحث عن المتسبب في التدهور العام للأوضاع ، كما لم يكلف نفسه عناء طرح السؤال عن الفشل في ملف الصحراء .
ونحن نقول له . ان السبب هو الفساد المستشري على نطاق واسع في جميع المجالات ، انه الظلم والاعتداء على الناس بمحاضر بوليسية مزورة ، وادخالهم الى السجن ظلما . وهنا من يقف وراء الاعتداءات على الناس ، وانا كنت احد ضحاياها ، حين ادخلني كل من مستشار الملك فؤاد الهمة ، والوزير المنتدب في الداخلية السابق الشرقي ضريس ، والمدير العام للأمن عبداللطيف الحموشي ، ووزير الداخلية عبدالواحد لفتيت الى السجن بمحضر بوليسي مزور عشت كل اطواره من بدايتها الى نهايتها . وماذا عندما لم يكفيهم سلب حريتي وانتقلوا الى تحريض المجرمين للاعتداء عليّ في السجن ، وهذه جناية مكتملة الأركان ، بل وحسب ما صرح لي به الأستاذ المحامي طارق السباعي ، فقد ضغطوا على المحامين كي لا يترافعوا لصالحي في المرحلتين الابتدائية والاستئنافية . بل ان المحامي حسين غرتي صرح لي قائلا : { ان نائب وكيل الملك الذي رافع ضدي في المرحلة الابتدائية اعترف له قائلا " الغالبْ الله هادْ الشيّ راهْ جايْ من الفوقْ " وأضاف ان وزارة الداخلية ووزارة العدل ينسقان تدبير الملف بما يرمي بي في السجن ، والغريب انهم في كل اطوار المحاكمة ، المسرحية ، كانوا يضعون امام ايدي القاضي دراسات سياسية نشرتها بانتظام في الموقع الالكتروني – الحوار المتمدن ، وبحائطي الفيسبوكي . } . فهل ما تعرضت له من اعتداء وهي جناية لن اسكت عنه ، كان بأمر الملك صديق فؤاد الهمة ، ام حصل بمباركته ؟ .
في نظام الشخص يغيب القانون بالمرة ، ويعوض تسيير الدولة فقط بقانون المَزاج ، وقانون ولوْ طارتْ معْزة ، وقانون عفا الله عمّا سلف . لكن في الدولة الديمقراطية ، دولة المؤسسات ، تكون السيادة فقط للقانون ، وللمساواة في تطبيق القانون ، ولعدم الإفلات من العقاب ، وممارسة المسؤولية بالمحاسبة .
ان نظام الشخص والزمرة الكمشة الملتفة حوله ، هم السبب فيما يجري اليوم بالمغرب ، وهم من قتل الأحزاب ، وقتل الحكومة ، وقتل وشوّه المثقفين . وحتى نكون اكثر إلماما بنظام الشخص والزمرة ، وحتى نوضح ما يجب توضيحه للسيد المستشار الذي يجب عليه ، ومن المفروض فيه ، ان يقصد بخطابه العنوان الحقيقي ، وإنْ ملك الجرأة ، لأنها مهمة المستشار ، ان يخبر رأس النظام بما يجري ويدور ، لتحميله المسؤولية المباشرة التي يفرضها عليه وضعه القانوني ، سنحاول تحليل بنية النظام ومنه بنية الدولة ، على ضوء اعتراف رأس النظام بفشل نموذجه السياسي التنموي ، دون طرح البديل لهذا الفشل الذي هو سبب المسيرات الشعبية بكل ربوع المغرب ، والانتفاضات التي تحصل هنا وهناك .
منذ استقلال " إيكس ليبان " ، وكل المهتمين بالشأن العام يطرحون الأسئلة المتوارثة حتى اليوم ، عن شكل الدولة الممسكة بيد واحدة لكل السلطات من تنفيذية ، وقضائية ، وتشريعية .
لكن ورغم كثرة الأسئلة ، فان الأجوبة غالبا ما كانت مبهمة في أحيان ، و ضبابية في أخرى . فجميع المتدخلين يجمعون على ان بالمغرب دولتين ، دولة عميقة صاحبة السيادة والسلطان ، ودولة هجينة تمارس تنفيذ أوامر الدولة العميقة . لكن ما قيمة هذا الإخراج الخارج عن النص ، والمتعارض مع ما ينطق به الواقع الذي لا يرتفع .
فمن خلال تحليل كل التطورات التي مر منها المغرب منذ سنة 1956 ، فإننا لا نجد شيئا يسمى بدولة عميقة ودولة غير عميقة ، بل ان ما نجده ، هو وجود نظام يسمونه مرة بالدولة العميقة ، ومرة بالمخزن . اما الحكومة فهي تلك التي تباشر تصريف الاعمال طبقا للخطط الاستراتيجية للنظام . فالحكومة هي حكومته التي يعينها بالطرق المعروفة ، وليس هي دولة ثانية الى جانب ما يطلقون عليه بالدولة العميقة .
إذن هناك نظام يسيطر على الدولة ، وله حكومته التي يعينها بعد انتخابات ، لتزيين الواجهة امام الغرب العارف بحقيقية ديمقراطية النظام ، وحتى يستمر في ضمان عطاءات الدول المانحة ، و حتى يزين الواجهة ( الديمقراطية ) اللاّديمقراطية المفضوحة منذ زمان ، وحتى يتفادى الضغوط حول حقوق الانسان المهضومة ، ونزاع الصحراء الذي لا يزال مهددا للنظام بمخارج قد تكون قاضية .... ، وليس هناك ما يفيد بوجود دولتين ، إحداهما عميقة والأخرى غير عميقة .
فمن يؤدي القسم عند تعيين أي حكومة ، هم وزراء الأحزاب الذين عينهم الملك ، وليس وزراء دولة أخرى توجد الى جانب الدولة العميقة . بل الملفت للنظر ، انه لم يسبق ان سمعنا قيام دولة الظل او حكومة الظل بأداء القسم ، ولم يسبق ان سمعنا بتعيين وزراء ، لا ينتسبون الى النظام الذين سيصبحون وزراء له ، اكثر منهم وزراء لأحزابهم التي تؤثث المشهد السياسي كما يرغب النظام في ذلك ، بل ابعد من ذلك ، فرغم ان الحكومات تتكون من وزراء ينتمون الى الأحزاب الملكية التي شاركت في الانتخابات ، الاّ ان أكثرية الوزراء هم غير منتممين للأحزاب ، وهم ما يطلق عليهم بوزراء ( السيادة ) ، ولنا ان نتساءل من جدوى تنظيم الانتخابات ، إذا كان عبدالاله بنكيران قد صرح بان فؤاد الهمة لعب دورا رئيسيا في تأثيث الحكومة ، وصرح علانية ان الذي يحكم ليس هو بنكيران ، بل الملك الذي يعاونه بنكيران ، ولا يشاركه الحكم .
لكن التساؤل : من اين يملك الحاكم سلطة القهر ،والضبط ، والسيطرة على المجتمع ، أي منْ ماذا يستمد قوته الضاربة في قلب الدولة والمجتمع ؟
بالرجوع الى تتبع اصل المشروعية التي يحكم منها وبها النظام ، فإننا سنصطدم بحقيقية لا يجهلها الاّ من يفتقد حس التمييز والتدقيق المميز للدولة المغربية .
ان هذه الحقيقية هي ثيوقراطية واوثوقراطية النظام ، الذي يرجع كل شيء الى السلطة البتريركية التي يبحث عنها الناس في مملكة الخوف والرعب . فبفضل الأبوية المفروضة على المجتمع المتخلف ، وبسبب خيانة ( النخبة ) التي تم رميها خارج اصوار توارگة ، وهي أبوية مسنودة بالتقاليد المرعية ، وبالتراث والعرف ، فان النظام يتصرف بالمزاج الذي يركز كل شيء على التقليد والمحافظة ، أي الطاعة " وأطيعوا أولي الامر منكم " . ومن ثم سنجد حتى ما يسمى بالدستور العصري ، وهو ممنوح ، يحيل الى الدين في ضبط المجتمع ، ومن ثم سيصبح الدستور هذا ، امتدادا لدستور عرفي يحكم به الحاكم بأمر الله ، الذي هو عقد البيعة الأبلغ والاقوى من الدستور الممنوح . ففي حالة التعارض بين الدستور الممنوح وبين عقد البيعة ، فحق الترجيح ، والاولوية ، والاسبقية يعطى لعقد البيعة ، لا للدستور الممنوح .
إذن الحاكم يستعمل الإيحاء الديني في الدستور الممنوح ، ويستند على الدستور الديني غير المكتوب الذي هو عقد البيعة في السيطرة على الدولة ، وعلى المجتمع .
وبالرجوع الى الدستور المستفتي عليه ، سنجد انه لا يكتفي فقط بتركيز كل السلطات بيد الحاكم ، بل يذهب الى ابعد من ذلك ، حين يعتبره الممثل الاسمى للامة ، وليس للشعب . واذا كان المبتغى من لفظ الامة الإحالة الى الدين ، فان اعتبار الحاكم في عقد البيعة اميرا ، وإماما ، وراعيا ، إضافة الى كيفية المراسيم المذلة في عيد العرش ، والخطاب الذي يوجهه الحاكم كأمير ، وإمام ، وراعي كبير الى ( ممثلي ) الامة في ثاني جمعة من كل شهر أكتوبر، ونوع اللباس المخزني الذي يرتديه ممثلو ( الامة ) ، يجعل من النظام السياسي المغربي نظاما فريدا لوحده في العالم ، أي نظاما مغلقا غير مفهوم وغير واضح المعالم .
فالجمع بين الدستور الممنوح ذي الإيحاءات على الدين ، وكامتداد لعقد البيعة غير المكتوب ، هو ما خلق عند السياسيين والباحثين تضاربا في الخلط بين الدولة العميقة ( وهذه غير موجودة ) ، وبين الدولة غير العميقة ( وهذه كذلك غير موجودة ) ، لان ما هو موجود في الحالة الأولى هو النظام ، وما يوجد في الحالة الثانية هي حكومة نظام . فالحكومة هي حكومة الملك ، والمعارضة هي معارضته كذلك .
إذن النظام وبخلاف ما يشاع ، هو من يقرر في السياسات ويرسمها ، وهو الذي يتحكم في بالعملية الاجتماعية ويسخرها لمصلحته ، وهو الذي يشرف بواسطة اجهزته البوليسية المختلفة ، على سير تطبيق السياسات تحت اشراف الحكومة التي بها وزراء يتبعون مباشرة القصر، و لا علاقة لهم بالأحزاب التي خاضت الانتخابات ، والتي هي كذلك احزاب ملكية .
في مثل هذه الأنظمة الفريدة من نوعها في العالم ، والمثيرة للأسئلة المتعددة والمحرجة ، يصبح الحاكم ( الثيوقراطي ) ( الاثوقراطي ) حاكما بأمر الله ، لا بأمر الشعب الغير الموجود ، لان الموجود هم رعايا في ملك الراعي الكبير ، كما ان الحاكم وحده يصبح الممثل الاسمى للامة ، وليس للشعب .
هنا يتحول الحاكم الأمير ، الامام ، والراعي الكبير ، الى فرد او شخص فوق الجميع ، ومهاب من الجميع ، واي معارضة له ، هي معارضة للدين ولله ، تسقط أصحابها في اتهامات الشرك ، والخروج عن طاعة ولي الامر ، حتى ولو كان طاغية ومستبد ، لان الله هو الذي أراده وفرضه على العالمين .
في مثل هذه الأنظمة المكبلة بالتقاليد المرعية ، وبالطقوس التي تحيل على العصور الحجرية ، والفارضة للطاعة القسرية ، رغم ان الحاكم بأمر الله يبدو انه المستأثر الأول بمقاليد الحكم ، الاّ انه لا يستطيع ذلك ، الاّ إذا كان مسنودا بجماعة تأخذ شكل عصابة ، تتحكم في كل كبيرة وصغيرة بالإمارة ، او الدولة .
ان هذه الكمشة من الافراد المحسوبة على رؤوس الأصابع ، هم المشرفون المباشرون على كل أجهزة الدولة البوليسية العلنية والسرية ، وهم لهم ارتباط وولاء مصطنع ليس للدولة ، بل لشخص الأمير ، الراعي ، والامام ، ولا علاقة لهم بالشعب ، الاّ بزرع فوبيا الشعب في نفس الأمير المضطرب ، قصد تخويفه ليزيد ارتباطا بهم ، ويستمر في تمكينهم من التحكم ، والاستفراد برقاب الشعب ، حتى يستمروا في نهبهم وتكديسهم للثروات بطرق غاية في الخسة والحقارة .
ان مثل هذا الحاكم بأمر الله لا باسم الشعب ، والممثل للأمة لا للشعب ، والكمشة المنافقة الكاذبة المحيط به ، التي تزين له كل شيء على المقاس ، يصبح دورهم الحقيقي ، لا يختلف عن صفة رؤساء أجهزة بوليسية ، اكبر من صفتهم كرؤساء دولة او نظام . ، ولهذا تجدهم دائما يقلصون بنية الدولة وعملها ، ويختزلونها على مستوى بينة الأجهزة العسكرية ، والجدرمية ، والبوليسية المختلفة ، وعملها الضبطي القسري للمجتمع .
وإذا كانت علاقاتهم بالمجتمع قائمة على صعيد ما ، فإنما هو صعيد القمع المكثف والمتواصل للمجتمع من جهة ، وصعيد نهبه وسرقته بطرق مختلفة كخدام الدولة ، وهو النهب الذي ينفخ جيوبهم من جهة ، ومن جهة يؤمن حسن سير آلة الأجهزة البوليسية المختلفة من جهة أخرى .
في دولة ( ثيوقراطية ) و( اثوقراطية ) ، وبتريريكة ، وباتريمونيالية ، واوليغارشية ، وكمبرادورية كهذه ، يتحول الحكم من تعبير وطني حيال الخارج ، الى تعبير خارجي حيال الوطن ، وترتبط مصالح الزمرة الحاكمة ارتباطا إيجابيا بالخارج الامبريالي ، في حين تقطع الروابط الاجتماعية الإيجابية مع الداخل الوطني ، لتحل محلها روابط سلبية ذات طابع عدائي ، يتزايد يوما عن آخر ، ويقوم على اعتبار اية احتجاج يصدر عن الشعب ، او يصدر عن احد قطاعاته ، او شرائحه ، او فئاته ، او حتى من مجموعة افراد منه ، عملا معاديا ، ويكيفونه انه ضد الامام ، الراعي ، والأمير ، وعملا عدائيا ضد الله ، وضد الدين ، ومؤامرة لا بد من قمعها ، وان اقتضى الحال اغراقها في بحر من الدم . لان الارتباط والتشبث النفاقي بالأمير ، وبنظامه ، يجعل منهم وحوشا سادية ، مُكشرة عن عداوتها في كل وقت وحين .
ان من مزايا هذه العدوانية المكشرة عن انيابها الصدأة ، لها إيجابية لا تشعر بها او لا تستشعرها ، وهي انها تلعب دورا إيجابيا لذا نفسية الشعب ، في خلق وعي ثوري يجعل أي تماس او احتكاك مع الدولة ولو كان بسيطا ، هو معركة حقيقية وصراع طبقي ، لان هذه الدولة القائمة على الغاء السياسة وعالمها الاجتماعي ، والمتحفزة لقمع أي تحرك مهما كان بسيطا ، هو معركة حقيقية يجب خوضها بكل الاشكال ، بحيث لا يمكن التعامل معها الا بأحد الشكلين : الخضوع او التمرد . وما دام الخضوع هو عدم القيام بأية نشاطات سياسية ، او اجتماعية ، او اقتصادية ...لخ ، خارج نشاط الدولة ، فان التمرد يبدأ باي شكل من اشكال هذه النشاطات .
في مثل هذه الأنظمة الفريدة في العالم ، باسم خصوصية مفترى عليها ، وحيث الغياب الكلي للديمقراطية التي تبني كل شيء على الشفافية والمحاسبة ، يتم كل شيء بنقضيه ، حتى لا يفرض وجهه المتناقض مع طبيعة الدولة الغارقة في الاستبداد الشرقي . هكذا يتم تمييع مفهوم الشعب ، ومفهوم الديمقراطية بربطها بالأشخاص لا بالمؤسسات ، والقوانين الكونية ، وبالمقابل يزداد قمع وبطش آلة البوليس الجهنمية ، بأكذوبة ( بدعوى ) الدفاع عن الأمير الراعي ، والامام الذي هو فوق كل اعتبار .
اما بالنسبة لتمييع مفهوم الشعب مع مفهوم الدولة المستبدة ووظيفتها ، فالشعب لم يعد تلك الكتل الجماهيرية العريضة الموزعة الى طبقات ، عاملة ، او فقيرة ، او حتى متوسطة ، بل صار تلك القاعدة الاجتماعية الضيقة ، المكونة من الرعايا التي تساند الدولة ( الاثوقراطية ) بحكم مصالحها الضيقة ، مضافا اليها الجهاز البوليسي بكل تفرعاته واشكاله ، الغارقة في الأساليب الفاشية المختلفة .
وهنا ، فما دامت الدول المستبدة قد انقطعت عن ان تكون تعبيرا عن المجتمع ، فان المجتمع بدوره بأحراره ، وشرفائه ، يقلع عن ان يعتبر الدولة تعبيرا عنه . هكذا يحل " شعب الدولة " محل " شعب المجتمع " . وشعب الدولة هو تلك الشرائح التي تستطيع الدولة جرها الى صفها ، عن طريق إعادة توزيع الدخل الوطني ، او تلك التي تكلف بتنفيذ او تقرير سياسة الدولة الداخلية والخارجية .
في رأس هذه الشرائح ، تأتي الكتل الكبيرة المجندة في الأجهزة البوليسية المقيتة ، او زمر من العاملين في الحياة الاقتصادية والإدارية . كما لا ننسى دور الحثالات ، والشمكرة المجندين وراء الأجهزة البوليسية ، من عيّاشة تأخذ أسماء مختلفة ، مثل إسم الراعي ، الامام والأمير ، وهي القاب تسيء اليه ،اكثر مما تنفعه في شيء ، كما ان الطبيعة التكوينية الجرمية لهؤلاء ، قد تكون غدا ، اهم خطر يهدد ويتهدد دولة الأمير ، الراعي ، والامام .
فبهذه الصورة إذن تصبح الدولة البوليسية وليس المجتمع ، مركزا لفرز الشعب ( الأقلية )عن اعداءه (الأكثرية )، وتتحول القاعدة الجماهيرية العريضة التي هي الأغلبية الساحقة ، الى عدو للشعب ( الأقلية )، بينما تصير القلة القليلة المساندة للدول البوليسية هي الشعب ، الذي تتخذ القرارات والمراسيم ، وترسم السياسات لصالحه ، والذي تنظمه الدولة البوليسية ، وتعبئه من حولها ، وتتيح له ( حرية الحركة الاجتماعية (. .
إن هذه الأنظمة المنغلقة التي تنعدم فيها الديمقراطية ، لا يكفيها تمييع مفهوم الشعب فقط ، بل من خلال هذا التمييع ، يتم تمييع مفهوم الديمقراطية ، لتصبح ديمقراطية اشخاص تسمى باسمهم ( الديمقراطية الحسنية ، الديمقراطية المحمدية ) ، وليس الديمقراطية بمفهومها الكوني المتعارف عليه عالميا وامميا .
لقد غدت الديمقراطية في هكذا أنظمة ، عبارة عن اجراء تقوم به الدولة بخبرائها البوليسيين ، لتعزيز طابعها ( الشعبي ) ، أي الأقلية ، وكل عمل تقوم به لإحكام قبضتها على الشعب ( الأغلبية ) ، يمر عبر قنوات شكلية للتمثيل كما هو ملاحظ اليوم .
إذا كان في الديمقراطية الحقيقية التمثيلية ، ان الشعب يختار ممثليه الى مختلف الهيئات ، لينوبوا عنه في مراقبة عمل الدولة ، او الاشتراك في رسم هذه او تلك من سياساتها ، فانه في ديمقراطية الأشخاص ، فان الدولة هي من تسمي ممثلين عن الشعب الذي ترغمه أجهزتها البوليسية على اختيارهم ، كي يحرم من إمكانية مراقبة عملها ، او الاشتراك في رسم هذه او تلك من سياساتها . ويكون هؤلاء الممثلون في الغالب من أوساط شعب الدولة ( الأقلية ) . فإذا حدث وكانت هناك قوى سياسية معارضة ، فان مهمة الديمقراطية تصبح تزوير إرادة الشعب ، كي ينجح ( ممثلو شعب الدولة ) بدلا عن ممثليه الحقيقيين .
ان هذه الديمقراطية ، ديمقراطية الأشخاص ، تقنع بدورها كجهاز مهمته هي تنفيذ سياسة الدولة ، لإرضاء الحاكم بأمر الله ، لا بإمر الشعب ، وارضاء الكمشة البوليسية الضيقة المحيط به ، والتي توجهه بما يضمن مصالحها الشخصية والذاتية المتناقضة مع مصالح الشعب الأغلبية . وهو ما يجعل البلد معرضا لكل القلاقل ، والتهديدات ، والاضطرابات ،والهزات التي لا ولن تتوقف ، طالما ان الوضع على ما هو عليه .
ان عمل المؤسسات التمثيلية في ديمقراطية الأشخاص المسماة باسمهم ، هي الموافقة على خطط الحاكم بأمر الله ، والزمرة الكمشة المحيط به ، التي تنافقه وتزين له واقع ينطق بخلاف ما يصور له من مشاهد اجتماعية مزرية ناطقة بما فيها .
من هنا يتحول هذا ( النشاط الديمقراطي ) الى قيد على الشعب ، الأغلبية المطلقة ، فيغلق امامه إمكانات التحرك السياسي والاجتماعي الحقيقي ، ويزور ارادته ، لان اجهزته ليست سوى ملحقات بأجهزة الدولة البوليسية ، وليست ناجمة عن اختيار حر طوعي تقوم به الإرادة الشعبية الحقيقية .
فإذا ما اخذنا بعين الاعتبار الصلاحيات والسلطات المطلقة لأجهزة الدولة البوليسية المختلفة ، والصلاحيات الضيقة لهذه المؤسسات التمثيلية( البرلمان ) ، ادركنا ان الهامش الشكلي المتاح لها ، لا قيمة له في الواقع ، لان وظيفتها هي إقرار ما هو مقرر سلفا ، ولا سلطة لها حتى على تنفيذ ما تقرره . انها بهذا المعنى ، ليست سوى محطة من محطات عمل أجهزة الدولة الاستخباراتية ، الهدف منها تسهيل سير عملها ، وليس مراقبتها او كبح جماحها .
ان الدولة البوليسية ، دولة الشخص ، الذي مكّن ، وقدم الدولة والشعب على طبق من ذهب ، للشلة الزمرة ، والكمشة المتسلطة بمباركة الحاكم بأمر الله ، معتقدا ومتوهما انها تحميه ، وتحمي مصالحه الاقتصادية ، وفي ظروف غياب ، او قمع الجمهور الشعبي الحقيقي المنظم ، وإحكام الرقابة التامة ، رقابة الكمشة الزمرة على المجتمع ، تتحول هذه الدولة البوليسية من آلة تسيير المصالح العامة ، الى تحالف قطاع الطرق تجمعهم مصالحهم الخاصة ، وتبرز بداخلها مراكز للقوى ، تضع نفسها فوق القانون ، والنظام ، والمصلحة العامة ، وتطور آليات عمل جديدة ، وفق الهدف الذي تسعى اليه ، وهو ربط استمرارها من عدمه برضا الحاكم بأمر الله عليها ، وربطه بمواصفات النشاط الذي تقوم به ،ه ، والقطاع الاجتماعي او السياسي الذي تنشط بداخله .
هكذا يصبح في الدولة البوليسية ، التي تتكون من عدة أجهزة بوليسية بسبب الفوبيا ، والاضطراب النفسي الذي يحيل الى أزمات أسر عاقبها التاريخ وعاقبتها الشعوب ، ان يصبح لكل جهاز قمعي فاشي رئيس فوق القانون يشبه سلوكه ، وأسلوب تفكيره ، وبشكل اصطناعي ، سلوك وتفكير زعيم البلاد ، فتكون صلاحياته مطلقة ، لا تخضع لأي رقابة من تحت ، فيتحول جهازه او مؤسسته ،الى اقطاع شخصي له ، يفعل به ما شاء ، إذا كان ذلك لا يتعارض تعارضا جذريا ، مع مصالح زعماء الزمر والشلة الأقوى في القطاعات والمؤسسات الأخرى . فيسقط مفهوم الدولة ودورها ، وينهار النظام العام ، وتصبح الجماهير والشعب فريسة لكل أنواع النهب والامتهان ، وتتعرض لسائر ضروب الذل والقمع والافقار .
ففي وضع كهذا تنهار قيم العمل والإنتاج ، ويتدهور الاقتصاد الوطني ، ويسد افق المستقبل في وجه الأجيال الصاعدة ، وتشرع المشاكل الاجتماعية في كسب طابع جديد يمزق وحدة المجتمع ، بدل ان يطورها ، ويرسخ وجود الدولة بدل ان يهدده ، وترتد الجماهير والشعب عن الهموم السياسية العامة ، الى هموم ذات طابع يومي عارض ، او ذات طابع اقتصادي عفوي ، فتضيع اللحمة بين الطبقات والفئات المحرومة ، في حين يرتع حزب الدولة ( الأجهزة البوليسية الفاشية ، الشرطة ، الدرك ، الجيش ، السلطة .....لخ ) في بحر من البحبوحة و ( الديمقراطية ) ، تاركا للشعب العادي ، الأكثرية الحقيقية ، الخوف على لقمة الخبز ، وعلى المصير الشخصي غير المضمون ، وعلى المستقبل اللاّمستقبل .
إذن السؤال الذي نطرح على مستشار الملك السيد عباس الجراري الآن . هل عرفت العنوان الحقيقي الذي كان عليك ان توجه له التأنيب والمسؤولية عمّا يجري اليوم بالمغرب ؟ ومن المسؤول عن قتل الأحزاب ، والنقابات ، والجمعيات الجادة ؟ ومن المسؤول عن قتل المثقفين الذي حوّلهم الى لاهتين وراء فتاة مائدة إفطار السلطة ؟ ومن قتل الديمقراطية – الحكومة – الانتخابات ؟ ومن المسؤول عن ادخال الناس بمحاضر بوليسية مزورة الى السجن ؟
فهل عرفت الآن العنوان ؟

2 ) الدولة البوليسية دولة تخريب : كيف تتحول دولة الشخص الواحد ، عندما يهبها على طبق من ذهب الى الزّمرة ، الكمشة البوليسية ، التي تتحكم بالقمع والقهر في رقاب الشعب ، وفي الاستحواذ الغير المشروع على الثروة والامتيازات بحجة ( خدام الدولة ) المفروشة ، وكيف تتمدد وسط الدولة بالسيطرة على المجتمع ، من خلال تثبيت فوبيا الشعب في ذهن الأمير الامام المرتبك والمضطرب ، حتى يستمر في تمكينها من المغرب والمغاربة ، اعتقادا منه انها تحميه ، في حين انها تأكل الثوم من فمه .
الدولة البوليسية التي لا علاقة لها بالتنمية ، ولا بالمشروعات العامة ، فبعد ان تُحوّل الدولة والمجتمع الى التخابر ، والقمع ، والترهيب ، فإنها تصبح دولة تخريب لا دولة تنمية ، ومن ثم فهي تشبه مضخة تسقط ما ينتجه الشعب في الداخل ، وقمعا يسكب في جوفها ما تتسوّله في الخارج ، فهي بذلك حالة نوعية خاصة في وضعنا المغربي بشكل خاص والعربي بشكل عام . فهي على سبيل المثال ، تتحدث كل الوقت عن التنمية ، ومصادرها ، وتراكم رؤوس الأموال ، وخططها ....لخ ، لكنها في الحقيقة لم تحدث أي تبدل في بنية علاقاتها مع السوق الدولية كعلاقات تبعية . بل بالعكس ، لقد وطدتها الى اضعاف ما كانت عليه قبل خمسين سنة خلت ، ومع ذلك لا تنقطع عن الكلام عن التنمية الغير الموجودة أصلا .
اما كيف تحدث التنمية فعلا ، فذلك امر يدل عليه العجز التجاري المُزمن ، ومديونية الدولة الداخلية والخارجية ، والتضخم النقدي الزاحف ، وتدهور ، إن لم نقل انهيار الزراعية عند الشعب ، وتعاظم طابع الاقتصاد كاقتصاد أحادي المنتوج ، وتزايد الهجرة من القرية الى المدينة ، والفقر الذي يسحق الشعب ، وبلغ درجة فظيعة في كل قطاع ، ووصل حتى الى صفوف الطبقة الوسطى ، والشرائح المرتفعة منها .
ومع ذلك فإن هذه البنية الجلية للمجتمع ، التي أساسها احتلال السلطة السياسية بمختلف الأجهزة البوليسية الفاشية ، وليس العمل والإنتاج ، لم تنجم عن برامج تنموية قامت على قلب هياكل العلاقات الاجتماعية والطبقية لصالح مجتمع جديد ، هو المجتمع الصناعي البرجوازي ، بل نجمت ببساطة شديدة عن دخول علاقات رأسمالية ملجومة ومشوهة ، الى كل مكان من المجتمع ، فجاءت معها بالفعل التدميري والتخريبي للرأسمالية ، وتركت الجوانب الثورية والتقدمية منها .
ومن هيمنة هذا النمط من الدولة البوليسية التي تعتبر دول نهب في الداخل ، وتسول في الخارج ، فهي لا تصلح الى إقامة أي مشروع تنموي كبير ، والى حدوث تبدل في العلاقات الاجتماعية القديمة هنا او هناك ، لتتحرر على اثره الجماهير من سلطة العمل الزراعي في البادية ، و التي يقدف بها هذا الوضع الى المدن حيث لا تجد امامها ، وفي انتظارها سوى أجهزة الدولة البوليسية المختلفة ، والجدرمة ، والإدارة البيروقراطية ، نظرا لعدم وجود تنمية صناعية تستطيع استيعابها ، وامتصاص طاقاتها .
إن هذا النمط المهزوز من التنمية ، هو اكبر دليل على ان المجتمع يضعف بقدر ما تتقوى الدولة البوليسية ، وعلى ان جميع الاقنية الاجتماعية صارت مرتبة ، بحيث تصب في النهاية في مصالح الزمرة ، الكمشة البوليسية الفاشية .
ان المفاجئة التي تجهلها العصابة البوليسية المسيطرة ، والمتحكمة في رقاب الشعب والدولة ، هو ان هذا الانصباب الكلي في مستنقع الدولة البوليسية ، حتما سيفجرها من الداخل ، لأنه يجر اليها التناقضات الاجتماعية والسياسية ، مع الكتل الاجتماعية المختلفة التي تدخل صفوفها ، وهذا يعزز بدوره تدهورها ، وانهيار عملها ، وتعاظم حق المجتمع عليها ، كما هو ملاحظ اليوم في مسيرات الشعب المختلفة ، وفي الاحتجاجات التي تعم كل المغرب ، بقراه ، ومداشره ، ومدنه كبيرها وصغيرها .
في نمط ( تنمية ) اللاّتنمية كهذا ، يرتفع الى اعلى ، عشرات الذئاب باسم ( خدام الدولة ) ( وزير الداخلية عبدالوافي لفتيت الذي استولى على ارض بمنطقة من اغلى المناطق بالرباط ، مساحتها حوالي 3900 متر مربع ، بثمن 350 درهما للمتر المربع ، في حين ان ثمنها الحقيقي هو 6000 درهما للمتر . فكم مليار جنى بطرق غير مشروعية ؟ ) ، وينزل الى اسفل ملايين المغاربة كغنم . على ان ارتباط الذئاب بالسوق الرأسمالية الملجومة يبقى كبيرا ، الى درجة ان نمط استهلاكهم ، يعوضها عن خساراتها للمجتمع الذي تحتقره وتذله ، والذي تنخفض قدرته الشرائية بشكل يهدد بالطوفان .
على ان الدول البوليسية كهذه ، تتصف بأمر هام ، فهي دولة لا ديمقراطية ، قمعية ، ناهبة ، توتاليتارية ، حيث لا تبقى فقط في العاصمة والمدن الكبرى ، بل تمد جهازها البوليسي الى كل مكان من البلاد وذلك :
1 ) حتى تنهب وتفترس المجتمع نهبا وافتراسا شاملين ، فهي يجب ان تكون موجودة في كل توصيفاته .
2 ) ولكي تقمع الشعب قمعا شاملا ، يجب ان تكون حاضرة في كل زواياه .
إذا كان النهب والقمع يوحد غالبية الشعب ضدها ، فإنها يجب ان تضطهد هذه الغالبية ، وإذا كان القمع والنهب يستنفر المجتمع ، فيجب ان تَكْبته ، حيثُ هو قائم فعلاً ، أي من قاعدته العريضة ، صعودا الى صفوف الشرائح العليا .
ففي الحالتين يجب ان تكون سياستها شاملة ، وان يكون وجودها شاملا . فممارسة السياسة الشاملة ، تعني ان وجود الدولة البوليسية هو وجود " اجتماعي " ، يمتد الى سائر نقاط الرقعة الاجتماعية ، ولكن ليس بوصفها رقعة للمجتمع ، بل بوصفها رقعة للدولة فقط .
ان هذه السياسة الشاملة تلحق الأذى بكل من يقيم تماسا معها من الطبقات ، والفئات ، والشرائح الاجتماعية ، ولأنها دولة توتاليتارية ، شاملة وشمولية ، فإنها تطرح القضايا المعلقة بما يوطد تفوقها على المجتمع الذي ليس هو مجتمعها ، فتصير مسألة في أهمية المسألة الزراعية مثلا ، عنصرا من عناصر نهب الزراعة ، وليست أداة حل مشاكل الفلاحين والشعب ، ونفس الشيء نلاحظه في التجارة ، والاقتصاد .. لخ ، وبذلك تتحول القضايا الوطنية المؤجلة الى قيد على الوطن ، بدل ان تكون أداة من أدوات تحرره .
فكيف توظف الدول البوليسية القضايا الوطنية ضد مصالح الشعب ؟
3 ) حين توظف الدولة القامعة القضايا الوطنية ضد مصالح الشعب -- الصحراء المغربية -- : رأينا في الجزأين أعلاه . كيف تتناقض الدول القامعة ، مع الدولة الديمقراطية ، وكيف وهي الخاوية الوفاض ، لا تتعامل الاّ بالقمع ، للجْم أصوات الاحرار والشرفاء فاضحي الفساد ، وليِّ وتجفيف أقلام المثقفين المُعرّين والفاضحين لفسادها، وكيف بعقليتها الانتهازية والوصولية ، وتكوينها النفسي المريض ، تصبح عالة على البلد ، حيث تتحول الى دولة هدم وتخريب ، لا الى دولة بناء وتشييد .
في الجزء الثالث هذا ، سنحلل ونعالج دور الدولة القامعة الوحيد ، في الحفاظ على ذاتها المفروضة بقوة القهر ، والبطش ، والاذلال ، حتى تستمر في استبدادها وطغيانها ، وتستمر في نهبها للمال العام بطرق غاية في الخسة والنذالة .
ان أي تفسير تعتمده الدولة القامعة للتناقضات الأساسية التي تنخر المجتمع ، لا يعدو الاّ ان يكون تفسيرا بوليسيا ، مبنيّ على الاخبار الكاذبة التي تعطي للواقع وصفا ، ليس هو الوصف الحقيقي الذي يجسده في الواقع . بل حتى التاريخ تفسره الدولة القامعة تفسيرا بوليسيا ، لإضفاء هالة ومشروعية ، على طقوس غريبة عن منطق الدولة الحديثة . فما دام ان رأس النظام ، اعتقادا منه انها تحميه ، وتضمن مصالحه الاقتصادية المتنوعة والمختلفة ، قد مكنها من الدولة ، والمجتمع ، والشعب .. فشراسة وعدوانية الدولة القامعة في تزايد ، لدرجة انها تحوّل النظام كنظام ، الى مملكة يطغى عليها الرعب والخوف .
ان القاعدة الوحيدة التي تتأسس عليها ، هي قاعدة بوْلسة المجتمع والدولة ، بخلق فوبيا الشعب في نفسية الحاكم ، وهي قاعدة مقيتة وضعيفة الحجة ، لأنها تحمل في طياتها أسباب هلاكها . وبالرجوع الى التاريخ ، فالمصير الحتمي لأية دولة بوليسية هو السقوط .
وبالرجوع الى الماضي القريب ، سنجد ان النظام لا يترك اية فرصة انتعاش ، الاّ واستعملها لتمديد بقاءه . فالكل يعرف الوضع الخطير الذي كان يتهدد اصل النظام طيلة الستينات والسبعينات ، وبداية الثمانينات . والكل يتذكر اصل الصراع الاجتماعي / الطبقي الذي عرفه المغرب ، حيث كانت كل الحركات الجذرية ، تستهدف رأس النظام لا جوانبه . كما ان الكل يتذكر محاولات الجيش للإطاحة بالنظام في محاولتين انقلابيتين ( 1971 و 1972 ) ، كما يتذكر المحاولة الفاشلة للجنرال احمد الدليمي بتنسيق مع عسكر الجزائر .
وحتى يخرج النظام من دائرة الخطر التي كانت تلف عنقه ، وجد ضالته في قضية الصحراء ، لقلب المعادلة الطاغية التي كانت تضبط العمل السياسي ، وهي استعمال الصحراء في استدراج المعارضة الجذرية الى صفه ، وفي اشغال الجيش بما يبعد عنه خطر أي انقلاب .
ان احسن مثال ساطع على الطريقة التي توظفها الدولة البوليسية ، لتأبيد ديمومتها واستمرارها ، رغم تناقضها الصارخ مع المجتمع المسيطرة عليه بآلة البوليس القمعية ، تبقى القضايا الوطنية التي تثير إحساسا مفرطا لدى الشعب المغربي ، خاصة في وسط فقراءه ، وفي وسط برجوازيته الصغيرة ، وما فوق الصغيرة .
فحين تنجح الدولة القامعة ولو مؤقتا ، في توظيف القضايا الوطنية ، ضد مصالح الشعب ، والجماهير التي تطالب بالديمقراطية ، والعدل والمساواة ، وعدم الإفلات من العقاب ، وربط المسؤولية بالمحاسبة ، واستعمال مثل هذه القضايا لاستمرار الدولة اللاّديمقراطية في مواصلة استبدادها وطغيانها ، فان التوظيف الحقيقي لمثل هذه القضايا ، تعالجه الدولة القامعة ديماغوجيا ، كمشكلة حكم ونظام ، وليس كمشكلة وطنية تثويرية تهم الوطن والتاريخ ، و كامتداد متواصل لمختلف نضالات الشعب المغربي ، في الدفاع عن وحدته الترابية والجماهيرية .
بادئ ذي بدء ، عندما كان هناك نهوض شعبي وثوري يعم كل المغرب ، من شماله الى جنوبه ، وكان وضع النظام الملكي على شفا حفرة ، ويطل على الهاوية ، لم يتردد الحسن الثاني في ان يطلب من الاستعمار الاسباني عدم الانسحاب من الصحراء ، ورجاهم للبقاء فيها ، حتى لا تحسب عملية استرجاع الصحراء ، على الحكومة التي ترأسها الأستاذ عبدالله إبراهيم ، ومنه على حزب " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية " . لكن الإطاحة والانقلاب على حكومة عبدالله إبراهيم ، وبعد ظهور الفوسفاط ، وطفح منسوب الثروة السمكية بالصحراء ، حتى تراجعت اسبانيا الاستعمارية عن قرارها بالانسحاب من الصحراء ، وأصبحت الصحراء بكل تناقضاتها ، تفعل فعلتها في بنية النظام السياسي المغربي ، وفي ترتيب وتحديد نوع العلاقات السياسية بين دول الجوار . هكذا سنجد ان الصحراء ، ظلت واستمرت تلوح بنفس الخطر على اصل النظام ، مهددة إياه بالسقوط في كل فترة وحين ، وخاصة وان جميع السلالات التي حكمت المغرب قد جاءت من الصحراء ، وسقطت كذلك من الصحراء ، والحسن الثاني حين طرح قضية الصحراء بارتباطها بالحكم ، وليس كقضية تحرير وطني ، يكون بذلك قد زاد في نسبة الخطر الذي تمثله الصحراء على النظام ، ويكون بذلك قد فشل في اغلاق باب الصحراء الذي يتحكم لوحده في بقاء السلاللة في الحكم ، او في سقوطها وتعويضها بسلالة أخرى ، لكن هذه المرة ان حصل السقوط ، فلن يعوض بسلالة جديدة ، بل سيعوض بما تقرره واشنطن ، لندن ، مدريد ، باريس وتل ابيب . فلو نجد انقلاب الجنرال احمد الدليمي ، او نجح انقلاب 1971 وانقلاب 1972 ، فهل كان سيأتي بسلالة غير السلالة التي سقطت الى الحكم ؟ .
هكذا سنجد ان الحسن الثاني عندما طرح في أوساط السبعينات الموضوع مجدداً ، فهو طرحه من منظور توطيد الحكم بعد سلسلة الانقلابات العسكرية ، والانتفاضات الجماهيرية والشعبية ، وليس من منظار حل مشكلة وطنية ، أي انها اعتبرت أداة لتقوية مواقع الملكية والاقطاع المرتبط بها ، وباباً تتسلل منه موازين القوى الغربية الجديدة ، بدل ان تطرح في اطار استراتيجية تحررية ، جوهرها معاداة التبعية الى الخارج ، وبالتالي الاستناد الى برنامج تطويري في الداخل ، يعتمد على أوسع قاعدة شعبية تحررية عريضة .
والحقيقة ان هذأ الطرح ، أفقد القضية وجهها الوطني الأصيل ، الذي كان لها في فترة النهوض الشعبي التحرري ، فحولها بطريقة رديئة ، الى قناة صرف للتناقض الداخلي ، بين الشعب وبين النظام المستند الى الاقطاع .
وبديهي ان التكتيك الذي رُسم لمعركة كهذه ، العدو الأساسي فيها هو الشعب ، وليس الاستعمار ، ولا الامبريالية ، كان يعمل على تطويلها بدل حلها ، وعلى تشعيبها بدل حصرها وحسمها . كما كان ولا يزال يقوم على دمجها في اطار السياسة الامبريالية ( مجلس الامن ) ، بدل انتزاعها وانتشالها من هذا الاطار ، ولهذا بالذات بدأت المشكلة دولية ، ولا تزال كذلك الى اليوم ، دون ان تأخذ حتى الآن طابعها الوطني الغالب .
هكذا ، وان تعمقنا كمثقفين في التحليل وفي علمية المعالجة ، ورجعنا الى التاريخ الكاشف والفاضح لكل الأدوار الخائنة واللاّوطنية ، كالاعتراف بالجمهورية الصحراوية ، لوجدنا ان خطط القوى الخارجية كانت منذ هزيمة قرطاجة على روما ، تقوم على أسس قلما تغيرت ، وإن كان قد أصابها بعض التطوير ، منها :
1 ) الاستيلاء على رؤوس الجسور على الشاطئ ، وتحويلها الى مراكز تحشد لتكون قادرة على قمع الداخل ، ولتستمر كمراكز للنهب لداخل كذلك .
2 ) ادخال وتوطيد سلطة الاقطاع في كل بلاد المغرب .
3 ) افتعال الاقتتال والتناقض بين مكونات الشعب في الداخل ، وبين مكونات دول الشمال الافريقي .
4 ) ربط شرائح اجتماعية من المغرب بالمصالح الخارجية ، إما عن طريق المركز الاجتماعي ، او عن طريق لغة القوة الخارجية ، او عن طريق اعتناق دياناتها ، وهذان يتيحان الدخول في جهاز ادارتها ، والتمتع بقسم من الامتيازات المتاحة لها .
باختصار ، فإن هذه الشروط والاسس المعتمدة على التجزئة السياسية ، والنظام الاقطاعي ، والارتباط بالخارج الذي يصاحبه اكبر قدر من التناقض بين الوحدات السياسية في الداخل ، لا يزال الاستعمار والامبريالية يعتمدها ، مع بعض التطوير الذي أصاب الدولة بشكل خاص .
في شروط كهذه ، تتحول اية مشكلة الى مادة متفجرة بين الكيانات السياسية ، خاصة حين تحل في اطار اللعب الخارجي ، وتُفصل عن مقوماتها الذاتية التي تجعلها عنصرا من عناصر تقوية الداخلي ضد الخارجي .
في هذا الاطار ، عملت الرجعية المغربية ، ولا تزال تعمل ، لحل مشكلة الصحراء التي تلقي بظلال و بسحب قوية ، قد تتحول الى طوفان مهددة لأصل الحكم ( الجمهورية ) ، لا الى ضفافه ( الملكية البرلمانية ) ، أي لتعقيد الوضع ليس فقط بالصحراء ، بل بكل منطقة شمال افريقيا ، و يزيد الامر سوءاً انّ هذه السياسة الرجعية ، فرضت نفسها حتى الآن على كل الأحزاب السياسية ، التي كانت تحمل تصورا مغايرا لها ، وتناضل وفق برنامج يختلف عنها .
وإذا كانت تلك الأحزاب ، منها من انقرض ، ومنها من تحول الى صدفة فارغة ، ومنها ورغم ضعفه البيّن والواضح ، قد اصبح يردد أسطوانة النظام من قضية الصحراء ، ويبصم بالأصبع العشرة على كل خطوات النظام ، وقراراته وانْ كانت متناقضة عن بعضها ( مرة المغرب في صحراءه والصحراء في مغربها ) ، ومرة ( الدعوة الى الاستفتاء وتقرير المصير ) ، ومرة ( قبول اتفاق الاطار رغم خطورته ، ثم رفضه ) ، ومرة ( الاستفتاء التأكيدي غير الموجود في القانون الدولي ) ، ومرة ( الحكم الذاتي ) ، ومرة ( الجهوية الموسعة الاختصاصات بعد فشل حل الحكم الذاتي ) ، ومرة ( الاعتراف بالجمهورية الصحراوية ) ، فان ما يؤسف له ، ان قضية الصحراء المغربية قد اختصرت ومُسخت الى مستوى فظيع ، انصب بأسره على المسألة التالية : الصحراء مغربية ، ويجب ان ندعم جهود الحكم للحفاظ عليها ( الحزب الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ) ، بينما المسألة هي في الحقيقة التالية : الصحراء مغربية ، وعربية ، و امازيغية ، فيجب ان تتحول المعركة من اجل استردادها ، الى معركة لإضعاف الاقطاع ، وسلطته ، واستبداده ، وطغيانه ، واسقاطه ، مع اسقاط كل مشاكل المنطقة المرتبطة بنزاع الصحراء .
إن أحداً لا يشك بان الصحراء هي جزء من المغرب ، وانها مغربية عبر كل التاريخ والعصور ، لكن الشكوك تدور حول تحول هذه القضية الوطنية الهامة ، من رافعة بأيدي قوى التغيير والديمقراطية الحقيقية ، الى أداة بيد النظام والاقطاع والقوى الامبريالية المساندة لهما في ذبح والتنكيل بالشعب ، وبقواه من الحركة الوطنية والتقدمية والثورية .
فكيف انعكس صراع ونزاع الصحراء على شعوب ودول المنطقة ؟ موضوع الحلقة المقبلة .

4 ) انعكاسات قضية الصحراء على دول الشمال الافريقي : بالرجوع الى مخلفات قضية الصحراء ، على منطقة شمال افريقيا ، وبالضبط منذ سنة 1975 ، سنجد ان السياسية التي مارسها النظام المغربي في الصحراء مرت بثلاث مراحل متواصلة :
--- مرحلة أولى دولية ، وضعت فيها أسس المشكلة بالاتفاق بين النظام وبين القوى الخارجية ، خاصة الاسبانية والفرنسية .
--- مرحلة ثانية داخلية ، فرضت فيها الاستراتيجية الخارجية – الداخلية ، أي النظام على القوى السياسية الداخلية ، واستخدمت لترتيب أوضاع الحكم الذي كان مهددا بالسقوط .
--- مرحلة ثالثة لا نزال فيها ، تعود المشكلة من جديد لتبرز في اطار الصراع الدولي ، والاستراتيجيات الخارجية ، ولكن على أرضية داخلية المبادرة فيها بيد النظام .
في المرحلة الثانية ، كان النظام يتحدث طوال الوقت ، عن مشكلة وطنية لا يمكن ان يقبل حلا لها الاّ في اطار الاندماج الوطني المغربي .
والآن وفي المرحلة الجديدة ، تطرح القضية مجددا كقضية لا بد ان تتضمن تسويات و حلولا وسطى ، بحجة المتغيرات الدولية ، وموازين القوى الجديدة ، وبرغم ان الدول الكبرى دخلت الى ساحة الصراع من باب الصحراء الذي يرى النظام الآن ، انه باب لا ولن يغلق الاّ بموافقة الخارج ، أي ان الجانب الوطني من المشكلة صار محلاً للعب السياسي ، وللأخذ والعطاء ( الاعتراف بالجمهورية الصحراوية من خلال الاعتراف بالقانون الأساسي للاتحاد الافريقي ) ، والجلوس الى جانب الجمهورية في لقاء الاتحادين الأوربي – الافريقي ، والجلوس معها جوارا بالاتحاد الافريقي .
يقتضي الانصاف والإخلاص للحقيقة ان نقول هنا ، ان هذه السياسة ، ما كانت قابلة للتنفيذ بالطريقة التي نفذت بها ، لولا الدور السلبي الذي لعبه الطرح الانفصالي بمختلف مكوناته ، الذي شكل خدمة كبيرة لمصالح النظام والاقطاع .
لقد كان على ما يسمى بجبهة البوليساريو ، ان تعتبر نفسها جزءا من حركة الشعب المغربي المعارضة ، وان تطالب بالتالي بمغرب ديمقراطي ، بدل ان تتلاعب بأخطار دولة كاركوزية " اشتراكية – ديمقراطية " ، تفتقر لسائر المقومات التي تجعل من كيان سياسي كيانا سياسيا بالأصل .
ان الجزائر دفعت ثمنا كبيرا لسياستها المغلوطة ، وستدفع ثمنا اكثر ان هي واصلتها ، لان التهديد بالتقسيم ، يهددها كذلك اكثر من تقسيم المغرب الذي يتهدده التقسيم . واعتقد ان الفرصة لا تزال متاحة لصالح مغرب الشعوب ، لا لصالح مغرب الأنظمة . وان كانت تتناقص بمرور كل يوم ، ليقلب المشكلة الى مشكلة نضالية مغربية عامة ، ذات بعد عربي امازيغي واضح ، لا تربح منه الامبريالية الدولية او الاقطاعية المغربية ، بل تعيد طرح الأوراق من جديد ، لتصبح أساسا لفرز داخلي على نطاق كل شمال افريقيا ، ولاسترداد نقل الاستراتيجية الثورية التي وضع المقاومون الثوريون اللبنات الأولى لحرية الشعوب وطرد المستعمر ، والتي ستمكننا من طرد بقاياه والقوى التي حلت محله . ، وعلى راسها البرجوازية الكمبرادورية والاقطاع ، وتوحيد شعوبنا على أسس تحررية وتقدمية ، تشكل مركزا من مرتكزات نهضة شعوبنا العربية الامازيغية .، وردا على الانهيار الحاصل في مختلف الأقطار .
لقد آن لنا ان ندرك ان خطط الامبريالية متشعبة ومتعددة ، وان تمزيق الوطن العربي وبعده تمزيق شمال افريقيا ، واثارة النعرات والتناقضات المحلية والوطنية ، وتدبير الحروب بين اقطاره ، هو الهدف الثابت للقوى الامبريالية وصنائعها ، وان الرد لا يكون بالانجرار الى هذه الحروب والتمزقات من موقف إقليمي " تقدمي " ، بل هو في وضع استراتيجية مضادة شاملة ، تحشد من حولها الطاقات الشعبية في كل الأقطار ، وتخوض معركتها موحدة على صعيد المغرب كله ، كما تعرف متى تخوض هذه المعركة ومتى تتفاداها ، متى تتقدم ومتى تتراجع ، متى تقبل التحدي ومتى تتحاشاه .
وغني عن القول ، ان موقفا كهذا ، يتجاوز الانحياز لهذه القوة او تلك ، لأنه قائم على الانحياز للشعب الواحد في الأقطار المختلفة ، ويهرب من المكاسب الإقليمية الصغيرة والتافهة ، لأنه ينتظر في النهاية الحصاد الوافر الكبير ، ولأنه مؤسس على نموذج للعلاقة مع الشعب ، ويختلف جذريا عن النموذج السائد في البلدان الرجعية . نموذج يستطيع في نفس الوقت اقناع الجماهير والشعب ، بتفوقه وتقدمه ، ولا يعمل بنفس آليات الأنظمة الرجعية ، لكنه يتستر بحملة من الشعارات " التقدمية " التي لا يرى احد أي انعكاس لها في الواقع الحي واليومي .
اننا نلح على ضرورة بداية كهذه ، لان الاحداث تفتح عيوننا على اتساع دائرة التردي ، وعلى تفجير الامبريالية بما تبقّى من علاقات بين بلدان المنطقة ، وليس على عصر الصراعات وتحجيمها . وإذا كان هناك من يظن انه يستطيع بمجرد مرور الوقت التخلص من مشكلة كان موقفه فيها مؤسسا على الغلط ، فانه سيجابه بعد حين مشكلة أخرى موقفه فيها مؤسس على غلط مماثل ، وهكذا دواليك حتى نصل الى وضع لا يعرف حقيقته الاّ الله .
ان ما حدث لمشكل الصحراء ، يعطي صورة جد واضحة عن مستوى القوى التي انخرطت فيها : الامبريالية ، والرجعية ، والحركات الوطنية ، مع العلم اننا لا نريد ان نضيع الوقت طويلا في الحديث عن مستوى الحركات الوطنية ( الاتحاد الوطني للقوات الشعبية )( الاختيار الثوري ) ، وطريقتها في إدارة هذه المسألة ، لان ذلك واضح للعيان ولكل عين بصير .
وعلى كل حال ، فان ما يهمنا من هذا التحليل ، هو دراسة الجوانب الخفية التي طرحت فيها قضية الصحراء المغربية ، والاطار العام الذي وضعت فيه ، وعن نمط الدولة بخصوصياته المتباينة من بلد الى آخر . وإذا كانت الدولة المغربية ، قد اضفت على نفسها طابعا ( قوميا ) من خلال حرب أكتوبر في سنة 1973 ، فإنها حاولت ان تضفي على نفسها طابعا ( وطنيا ) من خلال مشكلة الصحراء ، ومع ان الاحداث اثبتت ان عينها لم تكن على وحدة الوطن ( سبتة ومليلية والجزر الجعفرية ) ، بل على ترسيخ وضعها الداخلي بإثارة قضية كانت تجمدها عن قصد ، لان الأخطاء الخطيرة التي ارتكبتها أحزاب الحركة الوطنيية قد ساعدتها على تحقيق هدفها الأساسي هذا .
ومهما يكن من امر ، فان المخرج من الازمة الراهنة مرتبط بوعي الحركة التقدمية الوطنية لسياستها المغلوطة ، وبإيجاد بدائل لها ، لان النظام لا يعقل ان يبدل سياسة استفاد منها .
5 ) ما العمل في وضع مزري كالذي نحن فيه عربيا ومحليا ودوليا : بادئ ذي بدأ ، لا بد من الإقرار بان الوضع الخاص بنا ، ما كان ليصل الى حيث هو ، لو ان القوى التقدمية ، والديمقراطية ، والوطنية الحقيقية ، عرفت كيف تربط سياساتها ، وتنظيماتها ، ووضعها الداخلي العام في صلاته مع الأوضاع العربية والدولية .
ان التطور الذي شهده العالم العربي ومنطقة شمال افريقيا ، مثل الارتداد المحلي لكل نظام ، كان سيفعل فعله فينا ، ولكن ليس محتما ان يكون هذا الفعل بالاتجاه الذي حدث ، وبالشدة التي حصلت . ان أساس العيب كامن في القوى الديمقراطية ، والتقدمية ، والوطنية الحقيقية ، وفي وضعها الذاتي ، وتفاعله مع محيطه الموضوعي ، المحلي والعربي ، ومن ثم الدولي .
وإذا كانت المراجعة مطلوبة الآن ، فإنما هي مطلوبة في اتجاهين :
1 ) وعي النواقص الذاتية أولا ، والاستعداد لإجراء مراجعة شاملة وموضوعية ، يتجرد فيها الجميع من الحساسيات والقضايا الصغيرة ، مقابل ابداء اكبر قدر ممكن من الاستعداد لنقد كل التجارب السابقة ، وما تم إنجازه في اطار التراكم النضالي الذي عرفته الساحة منذ خمسين سنة والى اليوم ، وإلاّ سيتحول الجميع الى بطّائيين يؤمنون بجبرية لا ترد ب " الموضوعي " متناسين انهم جزءا منه .
2 ) وعي التجربة الموضوعية التي عاشها الجميع ، وكانت المبادرة فيها خارج ايدي الجميع ، والاستعداد الحقيقي بأن تعاد التجربة ، ولكن ليس على طريق التكرار ، بل على طريقة إعادة التأسيس ، مع الاخذ بعين الاعتبار بالقوى السياسية الجديدة العقائدية التي أصبحت تتصدر الساحة ، فالإقصاء كممارسة ، وخدمة للاستراتيجية ، هو مرفوض .
ان التاريخ ليس سوى عمليات إعادة تأسيس متصلة ، بحيث يُؤخذ من الماضي احسن ما فيه ، ليتم إرساء حاضرا قادرا على الامتداد نحو المستقبل ، دون ان يقف عند حدود نقل التجربة ، وانما يتجاوزها ، الى دمج التجربة المنقودة ( النقد ) ، في سياق نظري وعملي ، يستطيع الإمساك مجددا بالمبادرة ، وتطويرها على كل الأصعدة ، نحو اجراء التغيير المنشود ، في الذات ، وفي الظروف الموضوعية ذاتها .
في الظرف المشخص الذي نعيش فيه ، نرى ان يتبلور هذا النشاط حول القضايا التالية :
1 ) الاتجاه الحاسم والجذري نحو الشعب ، بقصد إعادة احياء المجتمع ، كمجتمع سياسيا ، وبلورة سياسة خاصة به مستقلة عن الاقطاع ومناقضة له ، حيث يجب ان تكون كذلك .
ان الصورة التي عرضنا في الحلقات السابقة ، لآليات عمل الدولة البوليسية ، لا تترك مجالا للشك ، في ان هذه قد تحولت اكثر فاكثر الى مركز أساسي للحياة السياسية بوجه عام ، لأنها هي المتصرفة بالثروات ، والمالكة لقسم أساسي من وسائل الإنتاج ، وهي المشرفة على التراكم ، وعلى توزيع الدخل الوطني بما يتحكم في اللوبيات ، وخلق ( النخب ) التي لا تملك غير التصفيق لإنجازات الدولة البوليسية هذه .
ان هذا الوضع الغير مقبول بتاتا ، كان سيكون مقبولا فقط في حالتين :
ا – لو كانت الدولة البوليسية ممثلة لمصالح الشعب والمجتمع .
ب -- لو كانت تمة حركة سياسية اجتماعية ناشطة ، قادرة على موازنة دور الدولة الطاغي اقتصاديا وطبقيا ( الكمبرادور ) .
ان السياسة التي تقوم على الاستيلاء على الدولة عن طريق الرضوخ لسياساتها ، والدخول في لعبة مصالحها ، والتي تحني رأسها اكثر فاكثر امام العواصف التي تهب من فوق ، فهي قمينة بتحويل الأحزاب ( السياسية ) الى تجمعات مصالح ، لا شأن لها في حياة الشعب ، وبتدمير الدور الشعبي المنشود ، الذي تسعى الدولة البوليسية بالأساس الى تدميره . وصورة اليوم التي تعيشها بلادنا ، ناطقة بما فيها .
تترتب على سياسة كهذه وضعية لا تنقد ما يمكن انتقاده ، ريثما تمر الظروف الصعبة والعصيبة ، بل انها سياسة تُضيّع ما يجب الحفاظ عليه وتطويره . فإلى ذلك ، فإن سياسة كهذه تعزز دور الدولة البوليسية المحولة الى مركز للحياة السياسية ، بدل ان تضعفه ، فتسد افق الاحتمالات امام الشعب ، وتضعه في مركز حرج ، جوهره التسابق نحو التزلف ، والتودد ، وخطب ود ورضى الدولة البوليسية وزبانيتها ، او التخلي تماما عن أي نشاط سياسي او نشاط عام .
ان تأسيس الحركة السياسية الشعبية ضرورة لا بد منها ، لان وجود ، مجرد وجود ، القوى السياسية بالمعنى الحقيقي للكلمة ، صار مربوطا به . وحتى لا نتيه في الاطناب ، فان أي حزب يفتقر الى قاعدة شعبية حقيقية ، واعية ، ومقاتلة ، لن يستطيع الوقوف بوجه الدولة البوليسية التي تمارس الحداثة المعطوبة ، لمسخ وتمييع الشعب والمجتمع ، فكيف سيستطيع بالأحرى قيادة المجتمع والانتقال الى الهجوم المضاد ؟
ان هذه المسألة ، مسألة مجابهة الدولة البوليسية ، والطبقات الاقطاعية المساندة لها ، بأوسع الجماهير الشعبية ، لا يجوز ان تفلت من الوعي لحظة واحدة ، إذا كان المناضلون التقدميون والديمقراطيون يريدون ممارسة السياسة الثورية بمعناها الحقيقي ، أي بوصفها تعبيرا عن مصالح مجتمع معين ، وجماهيره المنتجة والمضطهدة ، حيال اية قوة تحول دون وصوله الى مصالحه .
والحقيقة الجلية للعيان ، أن ما حل بالأحزاب الوطنية خصوصا ، والأحزاب العربية عموما ، لم يكن سببه تناقص حجمها او تزايده ، ولا علاقتها بالدولة البوليسية أساسا ، بل كمُنَ سببه دوما في علاقاتها مع الجماهير الشعبية التي أدى انقطاعها عنها ، الى تقليصها حينا ، والى وقوعها في اغراء وكمائن مسايرة سياسة الدولة البوليسية في اغلب الأحيان ( الصحراء ) . وهذا ما ابعدها عن الشعب ، ودفعها بالتالي الى حلقة مفرغة دفعتها الى الدوران اكثر فاكثر في فلك القوى السائدة ، الا وهي الدولة البوليسية السائدة التي وصفنا ملامحها في دراساتنا السابقة في الحلقات الأربع الفائتة .
6 ) بعد الخطاب الملكي الذي حرره عملاء الدولة البوليسية ، تبقى طريق واحدة للمعالجة : الخطاب الذي القاه الملك محمد السادس مؤخرا ، وهو خطاب امني بامتياز ، ومن تحرير عملاء الدولة البوليسية الذين يجهدون في الاستمرار في بسط أيديهم ، وجبروتهم ، واستبدادهم ، وطغيانهم على المغرب وعلى الشعب ، هو خطاب خطير . ولنا ان نتساءل ، كيف للملك ان ينعت المعارضة بالأوصاف السلبية ، من عدمية وسلبية ..لخ ، وهو الذي حاول جاهدا وغير موفق ان يتظاهر بملك ( الفقراء ) وبالملك ( الحداثي ) ، و( الديمقراطي ) ، في حين ان خطابه الذي حرره عملاء الدولة البوليسية ، وهو خطاب صادم ، ستكون له تبعات سياسية قد تكون لها انعكاسات سلبية على النسيج الاجتماعي الوطني ، تعيد بنا الى سنوات الستينات ، والسبعينات ، والثمانينات ، وحتى التسعينات من القرن الماضي .
والسؤال الذي اود طرحه : هل الملك الذي كان يقرأ الخطاب ، كان واعيا ومدركا بمضمون الخطاب ، ام انه كان يقرأ دون ادراك خطورة ما كان يقرأ ، وهنا فانه سيكون قد سقط في فخ من يزينون له القبح ، ويوصفون له الواقع عكس منطوقه و حقيقته ، ومن ثم يكونون قد نجحوا في خلق هوّة بينه وبين الشعب ، وهي هوّة موجودة منذ ستة عشر سنة ، انما اليوم أعلنت صراحة عن وجهها الذي كان خفيا ، وبينه وبين المعارضة التي تزين وجه النظام اللاديمقراطية امام الدول المانحة ، وامام منظمات حقوق الانسان الأممية المختلفة .
نحن كنا نساير ونتابع كل ما يجري ببلدنا في مجال الشأن العام ، وكنا قد ادركنا منذ بداية ما يسمى ب( العهد الجديد ) ، انه ليس هناك ( عهد جديد ) ، بل هناك استمرار ومواصلة لنفس النظام ، انما بميكانيزمات جديدة ، ووجوه جديدة ، لان النظام السياسي في المغرب يتطور ولا يتغير . وللتدليل على صحة تحليلنا ، يكفي الرجوع الى الدستور الممنوح الذي يركز كل السلط بيد الملك ، ويعتبره الممثل الاسمى للامة ، وليس للشعب . فهل نسمي نظاما ما بالنظام الديمقراطي ، إذا كان يختزل الدولة في شخص الحاكم ، ويختزل شخص الحاكم في الدولة " انا الدولة ، الدولة انا " ؟ . بل اخطر من ذلك ، ان السلطات الواسعة للملك ، ليست هي التي ينص عليها الدستور الممنوح ، بل هي تلك السلطات الاستثنائية التي يمنحها عقد البيعة غير المكتوب ، لرئيس الدولة ليس كملك ، بل كإمام ، وراعي كبير و أمير ، وهو ما يجعل العمل السياسي ، وممارسة الشأن ببلادنا توصم بالعقم ، وباسكيزوفريينيا " ( اصالة ) ليست بأصالة و ( حداثة ) ليست بحداثة " .
وإذا كان من ميزات الأنظمة الديمقراطية الحقيقية ، خلو وفراغ سجونها من كافة المعتقلين السياسيين ، ومعتقلي الرأي ، والمعتقلين النقابيين ، ومعتقلي فاضحي الفساد بملفات بوليسية مطبوخة على المقاص ، ومعتقلي الحركة الطلابية .....لخ ، فانه بإجراء مقارنة بسيطة بين ( عهدين ) عهد الحسن الثاني ، و(عهد ) محمد السادس ، سنجد ان نسبة المعتقلين في عهد الأخير ، اكثر بكثير من تلك التي عرفها ( عهد ) الحسن الثاني . فكم بلغ عدد المسجونين بين ( عهدين ) ، ( العهد ) الأول استغرق ثمانية وثلاثين سنة ، وكانت هناك احداث سياسة ضخمة ، و ( العهد ) الثاني استغرق تسعة عشر سنة ، رغم ان الوضع السياسي كان يختلف بين ( العهدين ) .
عندما جاء محمد السادس ، تظاهر بانه ملك لل ( فقراء ) ، و رسخ ما سمي إذاك ب ( المفهوم الجديد للسلطة ) ، وبدأ يرسل إشارات إيجابية نحو بناء الدولة الديمقراطية ، والمساواة ، وحقوق الانسان ...لخ. . ان هذا التحول اللاّتحول ، كان يخفي توجس وخيبة الجماعة التي أصبحت مصالحها مهددة ، هذا إذا افترضنا جدلا ، ان تلك الإشارات وبداية التحولات كانت حقيقية ، ولم تكن مجرد خدعة حتى يتمكن النظام من الوقوف على رجليه ، ويتجاوز الاخطار التي كان تحدق به ، وينجح في اقناع الشعب بان الملك ملك الشعب ، وليس ملك اصدقاءه ، وملك المحيطين به من الجماعات الاقطاعية ، والبرجوازية الكمبرادورية . لكن اين نحن من كل تلك المظاهر الخادعة والخدّاعة ؟ .
لقد انقلب كل شيء رأسا على عقب منذ النصف الأول من 2003 ، فتراجعت شعارات ( العهد الجديد ) ، والمفهوم ( الجديد للسلطة ) و ( ملك الفقراء ) ، واصبح تجبر وتغول الدولة البوليسية ظاهرا ومتجليا بشكل ناطق بما فيه ، وعوض الديمقراطية ساد الاستبداد والطغيان ، وعوض الحرية تم ملئ السجون بخيرة أبناء الشعب المغربي ، وعوض التركيز على كفاءة أبناء الشعب في تدبير الشأن العام ، تم تسليم البلاد الى أصدقاء الملك ورفاقه ، والى المقربين منه ، وعلى رأسهم فؤاد الهمة ، ومن كان يحيط به من أمثال مستشاره السابق الوزير المنتدب في الداخلية المدعو الشرقي ضريس ، المدير العام للبوليس المدعو عبداللطيف الحموشي ، والى وزير الداخلية الفاسد المدعو عبدالوافي لفتيت الذي لا يزال يمارس اعتداءه الاجرامي عليّ ....لخ . هكذا تبخر كل شيء في رمشة عين ، وليس بين عشية وضحاها ، واصبح البوليس يسيطر على كل شيء ، فتغول بسبب صديق الملك حتى على الجيش ، والدرك ، والقوات المساعدة ، بعد ابعاد العديد من الضباط الذين كانوا لا يعيرونه ادنى اهتمام ، ويكفي الرجوع الى مراسيم تقديم فؤاد الهمة شخصيا مستشاره المدعو الشرقي ضريس الى الملك عند تعيينه على رأس المديرية العامة للأمن الوطني ، ليتضح المقلب المفضوح في السيطرة على الأجهزة الأمنية ، وكيف تم تعيين المدعو عبداللطيف الحموشي على رأس المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني بعد ابعاد عميل الجنرال حميدو لعنيگري احمد حراري ، وكيف تم تعيينه مديرا عاما للمديرية العامة للأمن الوطني بعد ابعاد بوشعيب الرميل لأسباب معروفة ، وكيف تم ابعاد الجنرال لعنگري عن المفتشية العامة للقوات المساعدة ...لخ ، الى ان انتهى كل شيء في الدولة بيد فؤاد الهمة .
ان خطاب الملك الاخير بوصفه أكثرية الشعب باوصاف قدحية ، وهو الذي يكان يجب ان يكون محايدا ، وان يكون بحق ملك الجميع ، لا ملك فئة دون اخرى ، قد عرى عن الحقيقة التي كانت جلية منذ توليه الحكم ، ويكون بهذا الخطاب قد دفن تحت التراب ، جميع الشعارات التي تغنى بها رموز الدولة البوليسية ، وهي شعارات كانت براقة خادعة ، نجحت في تدويخ حتى اصحاب الملكية البرلمانية على الطريقة المغربية ( الاشتراكي الموحد والطليعة ).
لقد دفن الملك شعار ( الديمقراطية المحمدية ) باصداره اوصافا قدحية في حق المعارضة ، وفي حق جزء كبير من الشعب ، ودفن شعار ( ملك الفقراء ) بتضخم ثورته منذ تسعة عشر سنة ، ودفن ( المفهوم الجديد للسلطة ) حين تغولت وتجبرت الدولة البوليسية التي احكمت قبضتها على الدولة وعلى الشعب ، ودفن ( الحرية ) بتكديسه السجون بالمعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي ، ومعتقلي فاضحي الفساد .
امام هذا الوضع الجديد / القديم ، لنا ان نتساءل عن الاجراءات الضبطية القادمة التي تحضر لها الدولة البوليسية ، التي وجدت الطريق بخطاب الملك ، مسوغا ومشرعا لاتخاذ تدابير جزرية ستمس في الجوهر الحقوق والحريات ، وستحول المغرب الى مملكة خوف ورعب ، داخلها مفقود ، وخارجها مولود .
لا يمكن التفاؤل بالآتي الذي لن يكون غير مزيدا من الجبر ، والضغط والقمع ، وتوغلا في الاستبداد والطغيان ، كآخر سلاح ومخرج تجربه الدولة البوليسية في مواجهة وعي الشعب المغربي المتقدم ، وفرملة الاحتجاجات الشعبية التي تنبع هنا وهناك على طول ارجاء الوطن .
فهل سيحقق القمع ما خفقت في تحقيقه الدولة البوليسية ، في مجال ضبط المجتمع ، والتحكم في كل مفاصيله ، وصولا الى تركيعه بالكامل ؟
بداية ما كان للدولة ان تتحرك بهذا الشكل العدواني ، لو لم تفرغ كل الكائنات الزئبقية من مضامينها التي تلاشت منذ سنة 1999 ، تاريخ تولي محمد السادس الملك . فالبرجوع الى التاريخ القريب ، سنجد ان جميع الهبّات والانتفاضات التي قام بها الشعب المغربي ، في سنة 1965 و 1981 و 1984 و 1990 و 20 فبراير ..لخ ، كانت وراءها احزاب رغم انها اصلاحية وليس ثورية ، فقد ضَمِنتْ ومكنّت من التفاعل مع نبض الشارع الذي يغلي كطنجرة فوق النار . لذا ما ان ترفع دعوى الاضراب عام ، او لاحتجاج ، او لمسيرة ، حتى يلبي الشعب المغربي طلب الدعوة لتصحيح الوضع المختل او للاحتجاج ، رغم ان تلك الدعوات في اصلها لم تكن ثورية ، بل كانت كمتنفس لاعادة رسم الخريطة ، وبناء شكل ثاني من العلاقات بين النظام وبين الاحزاب التي تقف وراء دعوات الاحتجاجات ( الانتخابات وعدد المقاعد ).
الآن وبعد افراغ كل الاحزاب حتى من نفحتها الاصلاحية ، وتحولها الى روافد لدا النظام ، وهي روافد جافة لا ماء يسري فيها ، وبعد ان اصبحت الساحة فارغة من المعارضة القوية ، حتى وجد النظام الذي قتل الاحزاب ، الفرصة سانحة لاعادة ضبط الوضع ، والتحكم في كل المفاصل ، بما يذيب اية معارضة جادة ، وبما يجعل البوليس يتحكمون في الدولة ، ومنها في الشعب .
ان هذا التحول الخطير الذي يؤشر للاستبداد والطغيان ، وسيادة الرأي الواحد الاوحد ، رأي الدولة البوليسية ، لا يعني ان هذه الدولة قوية ، بل هو تعبير صادق وحقيقي ، عن موت الاحزاب ، ومنها موت السياسة ، وانتعاش العياشة ، والخرافة ، واساطير الاولين ، والتقاليد المرعية .
ان الشيء الناطق بما فيه ، وهو شيء ملموس ومشاهد ، ان اعتماد الدولة البوليسة على القمع والزجر ، وطبخ المحاضر البوليسية المزورة لرمي احرار وشرفاء الشعب في السجون ، هو دليل واعتراف صارخ بضعف الدولة البوليسية التي استفاذت من فراغ الساحة ، وخيانة النخبة التي اشترتها ، وبعد ان قضت منها وثرها ، رمتها خارج اصوار " تْوارْگة " ، تجر الخيبة والانكسار ، والتهميش والإهمال ، بعد شعورها بالمقلب الذي سقطت فيها عن طيب خاطرها .
وإذا كانت الدولة البوليسية تبرع في القمع والبطش ، وهي إجراءات فاشلة ، خاصة في الظرف الذي نعيش فيه اليوم ، حيث اصبح التأثير الدولي في القضايا الوطنية يعتمد على مجالات حقوق الانسان ، وهناك مثال الضغوط الخارجية في ملف الصحراء ، فان إجراءات الدولة البوليسية ، أضحت تقزّز الرأي العام الحقوقي الدولي ، اكثر مما تقزّز المشتغلين بمادة " حقوق الانسان " بالمغرب . ولا غرابة حين تكون الاحتجاجات الشعبية ، باسم الدفاع عن الحريات ، والمساواة ، والمطالبة بدولة الحق والقانون ، وبالدولة الديمقراطية التي تربط المسؤولية بالمحاسبة ، وتحارب كل اشكال ومظاهر الفساد ا، لتي أثرت على الوضع الاقتصادي ، والاجتماعي للشعب المغربي ، وبالحق في لقمة العيش ، والسكن ، والتعليم ، والصحة ...لخ .
وهنا ، لنسائل عملاء الدولة البوليسية الذين حرروا الخطاب ، الذي قرأه الملك دون انتباهه الى خطورة مضامينه . كيف تُحرروا خطابا كله اوصافا قدحية في حق الشعب المغربي ، والملك اعترف في خطاب سابق ، وعبر أمواج الاثير ، بفشل نموذجه التنموي والسياسي ، ما دامت التنمية سياسة أصلا ؟
فلو كان الملك قد حلل خطاب الزمرة التي كتبته قبل قراءته وفهم مضامينه ، هل كان له ان يقبل القاءه امام الشعب ، والعالم ، وعبر الاثير ، خاصة وانه يناقض خطابه الذي اعترف فيه بفشل نموذجه السياسي والتنموي ، ومنه اعترافه بفشل الدولة البوليسية التي تدمر وتخرب ، ولا تبني وتعمر ؟
فكيف للملك ان يقرأ خطابا يقرع فيه من سبقه في الإعلان عن فشل سياسته التي هي سياسة فؤاد الهمة الذي يدفع به الى المشنقة ، ويدفع بالمغرب الى الانفجار ، ويدفع بالصحراء الى الانفصال ؟
فهل أصبحت الدولة البوليسية ، دولة فؤاد الهمة ؟
امام هذا الوضع الخطير الذي عرّى عن نفسه بنفسه ، يصبح السؤال هو : ما العمل ؟

7 ) سجل أنا عدمي : للمرة الثانية يوظف عملاء الدولة البوليسية ، كلمة العدمية في حق الأكثرية الساحقة من الشعب المغربي التي ترفض الإذلال ، وتتشبث بالمواطنة ، وبكل الحقوق المنصوص عليها في الدستور الممنوح ، وفي القوانين الكونية .
إن اول مرة استعمل فيها الملك كلمة العدمية ، كانت بمناسبة القاءه خطابه عند افتتاحه الدورة التشريعية بمجلس النواب في 10 أكتوبر 2014 ، حين وصف كل من لا يقف الى جانب النظام بالعدمي ، ومرددا إمّا معي او ضدي في قضية الصحراء .
وللإشارة فإن المقصود بالنعت القدحي هذا ، التنظيمات والأحزاب التي تردد حل الاستفتاء وتقرير المصير في نزاع الصحراء . لكن الغريب في الامر ، ان النظام نفسه ، ومن اعلى منبر بالأمم المتحدة ، الجمعية العامة ، طالب بالاستفتاء وتقرير المصير في 1960 ، و في 1966 ، و في 1967 ، وفي 1968 ، و 1969 ، بل انه وصف الصحراء بالإسبانية ، وليس بالمغربية ، كما انه نفسه ، طالب بالاستفتاء في مؤتمر منظمة الوحدة الافريقية بنيروبي في سنة 1981 / 1982 ، كما قبل بالاستفتاء في اتفاق الاطار الذي اعده الممثل الشخصي للأمم المتحدة في نزاع الصحراء السيد جميس بيكير ، ثم طرحه مقترح الحكم الذاتي في سنة 2007 ، دون استشارة الشعب المغربي، وأخيرا الاعتراف بالجمهورية الصحراوية في سنة 2016 ، عندما اعترف بالقانون الأساسي للاتحاد الافريقي ، الذي يجبر ويفرض على اية دولة جديدة تريد الانضمام الى الاتحاد ، الاعتراف بجميع الدول التي تكونه ، والاعتراف الصريح بالحدود الموروثة عن الاستعمار . فكيف يجيز النظام لنفسه ، ما يمنعه عن غيره من المواطنين الذين وان اخطأوا في القرار المتخذ ، فان موقفهم تفرضه القناعات الأيديولوجية التي يعتنقون ويحملون .
المرة الثانية التي استعمل فيها الملك في خطابه كلمة العدمية ، كانت في خطاب العرش الأخير في 29 يونيو 2018 ، حين وصف المعارضة ، وجزء كبير من الشعب المغربي بالعدمية وببائعي الأوهام ...لخ .
فإذا كان ممكنا تفهم استعمال كلمة العدمية الوطنية في الخطاب الأول ، عند افتتاحه البرلمان في 10 أكتوبر 2014 ، --- رغم ان النظام بدوره اعترف بالاستفتاء في مناسبات عديدة --- ، بسبب الموضوع الحساس للصحراء ، فان استعمال نفس الكلمة في الخطاب الأخير في حق المعارضة ، وفي حق الجزء الكبير من الشعب المغربي ، جعل الملك يصبح طرفا رئيسيا في صراع ، يدور بين نظامه الذي اعترف صراحة بفشل نموذجه السياسي التنموي ، وبفشل الدولة البوليسية التي ركزت على القمع والاستبداد والطغيان ، وبفشل اصدقاءه الذين بوأهم الدولة ليغتنوا على حسابها بطرق غير مشروعة ، -- واننا لا نزال نحتفظ بكل ما جرى بعمالة إقليم الخميسات ، عندما كان على رأسها العامل قريب ، وكان بجماعة سيدي علال البحراوي القايد حميد طيور ، حيث ثم بيع أراضي الجماعة ، ووزعت الأموال في ( ألسّمسونيطاتْ ) على العديد من الأصدقاء ، وكيف منحهم ادريس البصري ، وبالمجان قطع أرضية بالسويسي فقط لينال رضاهم --- ، وعوض ان يترفع الملك عن الثانوي والصُّغيّر ، ويفرض نفسه كملك للجميع ، انحاز الى صف صديقه فؤاد الهمة ، والى اتباعه من المدعو عبد اللطيف الحموشي المدير العام للبوليس ، ووزير الداخلية المدعو عبدالوافي لفتيت ...لخ .
هكذا يكون الملك قد تخندق الى جانب الحفنة الصغيرة ، ضد الشعب ، وضد المعارضة التي تمثل الأكثرية . وهنا فان التلويح بالركوع ، وقبول الاذلال ، وتقبل الفقر ، والجهل المفروض من قبل اقلية الدولة البوليسية ، ليس له من معنى ، غير ربط أي تحول مستقبلي بسلطات القمع ، والضبط ، والزجر للحد من الاحتجاجات ضد الظلم والفساد ، وضد هضم الحقوق ، والاعتداء على الناس والحريات ، بتهمة العدمية ، والسلبية ، وببيع الأوهام .
ان المقصود بالعدمية وبالعدمي في تفسير، وفهم الدولة البوليسية التي تفسر كل شيء ، وبما فيه حتى التاريخ بوليسيا ، هو كل من يرفض الدكتاتورية ، الاستبداد ، الطغيان ، والفساد ، الظلم ، ويطالب بالدولة الديمقراطية المدنية ، وبفصل السلط ، وربط المسؤولية بالمحاسبة .
ان العدمي في نظر الدولة البوليسية هو الشعب ، هي الجماهير الشعبية ، هي الأكثرية من المواطنين التي تطلب بالحرية والمواطنة ، وترفض ان تكون مجرد رعية .
اما المغربي الحر في نظر الزمرة ،والكمشة البوليسية المستبدة السارقة للدولة ، فهو كل من يقبل الانبطاح ، والركوع ، والانحناء ، ويرفض نفاقا المواطنة ، ويتمسك بدلها بوضع الرعية . أي العبد العيّاش .
ومن خلال الرجوع الى نص الخطابين ، خطاب 10 أكتوبر 2014 بالبرلمان ، وخطاب 29 يوليوز 2018 بمناسبة عيد عرشه ، سنجد ان الخطابين معا يحملان نبرة بوليسية ، تدور حول التهديد ، وتكشر عن انيابها لتخويف الشعب ، محاولين تركيعه ، واجباره على الخضوع وقبول الفساد بوجه العام ، دون أي حق في الاحتجاج او التظاهر ولو كان سلميا ، لان التهمة الجاهزة اليوم ، مثل تهمة البوليس المعروفة ( إهانة الضابطة القضائية ، إهانة موظف ) هي تهمة العدمية ، وهي تعني التخوين والتكفير ، والخروج عن ( الشعب ) الأقلية القليلة ، باسم ( الامة ) المغيبة .
ففي خطاب 10 أكتوبر 2014 المعروف ب " اللهم كثر حسادنا " ، لان كثرة الحساد تعني الخيرات الوفيرة ، و نحن لا نعرف الجهة التي كانت تتوجه لها اعين الحساد . هل كانت تتجه الى خيرات الملك الذي يملك ثروة ضخمة ؟ . ام انها كانت تتجه الى الشعب المغربي الفقير المقهور ، سنجد الملك يقول : " ... ان من واجبات المواطنة ، الالتزام باحترام مؤسسات الدولة ، التي ترجع حمايتها الى السلطات الحكومية ( البوليس والسلطة ) والقضائية المختصة ... " وزاد قائلا " ... لسنا ضد حرية التعبير والنقد البناء ، وانما ضد العدمية ، والتنكر للوطن .... " .
اما في خطابه الأخير في 19 يوليوز 2018 ، فقد وصف المعارضة ، والجزء الكبير من الشعب الذي يعارض سلميا ، ويستنكر الفساد المستشري بشكل فضيع ، ويطالب بالدولة الديمقراطية المدنية التي تربط المسؤولية بالمحاسبة ......لخ ، بالعدميين ، وهو وصف يحيلنا الى التخوين والتكفير ، كما انه اعتراف وامام المليء ، بفراغ يد الدولة البوليسية ، وعجزها في التنبؤ بالقادم من الاحداث ، خاصة في قضية نزاع الصحراء ، وفي الوضع الاجتماعي والاقتصادي الأكثر من متدهور .
فكان على الملك ، قبل قراءته خطاب عملاء الدولة البوليسية برئاسة صديقه الهمة، ان يتساءل ويسأل نفسه :
هل هناك مقعد للدراسة لجميع المغاربة ، في المدن ، القرى ، الجبال ؟
هل بإمكان كل مغربي مريض وعليل ولوج ( المستشفيات ) الاطلال في المدن الكبرى ، وما يسمى بالمستشفيات غير الموجودة بالمدن الصغرى وبالقرى ، والمداشر ، واعالي الجبال ؟
وهل يجهل الملك ، ان العديد من المرضى المصابين بأمراض خطيرة ، يفترشون التراب في الازقة ، ومنهم من يخرج الدود من جسده ؟
وهل يجهل الملك ان العديد من النساء يلدن امام أبواب المستشفيات وفي الازقة ، وان العديد من المرضى ترمي بهم إدارة المستشفيات خارجها بسبب العوز وقلة الشيء ؟
هل يجهل الملك ان الشباب المغربي من حملة الشواهد الجامعية العليا ، وحتى المهندسين والدكاترة ، معطلون لا يجدون شغلا كما ما ينص على ذلك دستوره الممنوح ؟
هل يجهل الملك ان المغاربة لا يتمتعون بنفس الحقوق وبنفس الواجبات ، وان هناك فئة من الدرجة أولى ، وفئة من درجة ثانية ، و فئة من ثالثة ؟
هل يجهل الملك ان المغاربة في العشرية الثانية من الالفية الثالثة ، يسكنون المغامرات والاقبية ( صفرو ) ، ويسكنون مساكن القصدير بالبوادي ، والمداشر والقرى ، وان العديد منهم ، لا مأوى لهم ولا سكن او مسكن ، ينامون في الشوارع والازقة ، ويقتاتون الاكل من حاويات الازبال ؟
هل يجهل الملك ان وزير الداخلية ، عبدالواحد لفتيت ، استغل نعت ( خدام الدولة ) ليستولي على قطعة أرضية بأغلى حي بالرباط ( السويسي ) مساحتها حوالي 3900 متر مربع بثمن 350 درهما للمتر المربع ، في حين ان ثمنها الحقيقي حوالي 6000 درهما للمتر المربع . فكم مليار جنى باسم ( خدام الدولة ) ؟
هل يجهل الملك المحاضر البوليسية المزورة التي تعدها زمرة المدعو عبداللطيف الحموشي ، والمدعو عبدالوافي لفتيت ، ، وقبلهم المدعو الشرقي ضريس وتحت اشراف صديق الملك ومستشاره المدعو فؤاد الهمة ،لإدخال الناس ظلما الى السجون ، وكنت ضحية احداها . ؟
هل يجهل الملك وضع المعتقلين السياسيين ، ومعتقلي الرأي ، ومعتقلي الحركة الطلابية ، ومعتقلي لقمة الخبز بمختلف السجون ، خاصة في فصل الصيف الحار ؟
وهل يجهل الملك الفظاعات ، والاعتداءات التي تتم في السجون على المعتقلين ، من قبل من مكّنهم من البوليس من مصير المغرب والمغاربة ، وكنت ضحية احدها ، وهذه جناية مكتملة الأركان ، وللأسف في مملكة جلالة الملك لا بحث ولا تحقيق ؟
وهل يجهل الملك ، وهل يجهل الملك ، وهل لا يزال يجهل .....لخ
فإذا كانت الجماعة البوليسية التي سرقت الدولة ، تعتبر كل من اشهر وندد بالفساد المستشري ، وبالظلم السائد ، وطالب بالمساواة والعدل ، وبالديمقراطية ، وعدم الإفلات من العقاب ، وربط المسؤولية بالمحاسبة ، عدميا . فأنا لا املك إلاّ ان أقول : سجل انا حين يسرق البوليس الدولة ويحوّلها الى دولة بوليسية . يبقى هناك طريق واحد للمعاجلة (
8 ) حين يسرق البوليس الدولة ويحوّلها الى دولة بوليسية . يبقى هناك طريق واحد للمعاجلة : رأينا في الحلقات السابقة ، كيف سرق البوليس الدولة ، وحولوها الى دولة بوليسية تخرب وتدمر ، ولا تبني وتعمر ، وكيف بدأ عملاء الدولة البوليسية يتغوّلون ضد الشعب المغربي ، باسم حماية السلطان الذي سلمهم مصير المغرب والمغاربة ، واستغلوا الضعف ، للقيام بممارسات مشينة ، أهمها اكل الثوم من فم السلطان ، لرمي احرار وشرفاء الشعب المغربي ، وأبناء المقاومة وجيش التحرير في غياهب السجون ، و حتى يستريحوا من فضح ملفاتهم التي ازكمت رائحتها الانوف .
كما رأينا الدور السلبي للدولة البوليسية في معاجلة نزاع الصحراء المهددة بالانفصال . ولنا ان نتساءل : كيف كان الصحراويون في مظاهرات العيون التي كان يقف وراءها فؤاد الهمة لضرب الوزير المقبور ادريس البصري عام 1999 يرددون الصحراء مغربية ، وكيف انقلبوا بعد فضح المؤامرة التي وظفوا لها قضية الصحراء ، واصبحوا يرددون شعارات الانفصال ، حيث توسعت القاعدة العريضة للمطالبين بالاستفتاء وتقرير المصير، على حساب الوحدويين الذي تقلص عددهم الى حجم صغير ، كما رأينا كيف انقلب السحر على الساحر في واقعة إگديم إزيگ ألتي كان وراءها طاقم الدولة البوليسية ، عندما فشل في فضّ التخييم ، بعد ان كانت الخيام تنصب امام رعايته طيلة شهر تقريبا .
امام توغل وتغول الدولة البوليسية ، واعتداءاتها على احرار وشرفاء الشعب ، وتفقيرها للجماهير ، وتدميرها للمغرب من خلال تشجيع إشاعة الفساد بمختلف الاشكال ، يصبح سؤال المرحلة الذي سبق للينين ان طرحه ، هو ما العمل ؟
اعتقد ان الظرفية الخطيرة التي يوجد فيها وعليها المغرب ، والمتسبب فيها النظام البوليسي الفاشي الذي يطبخ المحاضر البوليسية المزورة في حق الاحرار والشرفاء ، من فاضحي الفساد ، الى المطالبين بالدولة الديمقراطية التي تربط المسؤولية بالمحاسبة ، لا ولن يكون غير طريق واحد للمعالجة ، لا طريقان او ثلاثة طرق .
ومن خلال استحضار كل طرق واشكال النضال ، التي خمرها الشعب المغربي منذ 1956 والى اليوم ، وهي اشكال كانت مختلفة ، بسبب خضوعها للتطورات التي كانت تفرض نفسها في الساحة ، وعلى الفاعلين السياسيين بمختلف مشاربهم السياسية والأيديولوجية ، ومن خلال تِعْداد عدد الانتكاسات الشعبية التي حصلت في تاريخ النضال الجماهيري للشعب المغربي ، فان الظرفية الحالية التي تزاوجت مع ثورة المعلومات من انترنيت ، و فيسبوك ، وتويتر ....لخ ، وبسبب سيادة نظام عالمي واحد اقتصاديا وسياسيا ، والتركيز العالمي على حقوق الانسان والديمقراطية ، وتدخل الهيئات الدولية ، والمحاكم الدولية المختلفة ، خاصة التركيز على القانون الإنساني العالمي لحقوق الانسان ، وعدم الإفلات من العقاب ...لخ ، اصبح النضال اليومي للشعب المغربي اكثر تقدما وجذريا ، عمّا ساد الستينات ، والسبعينات ، والثمانينات ، وحتى النصف الأول من التسعينات ، بحيث اصبح العالم يراقب ممارسات حقوق الانسان ، خاصة في الأنظمة الدكتاتورية ، والاستبدادية ، والطاغية ، وأصبحت أبواب المحكمة الجنائية الدولية ، وابواب المحاكم الأوربية ، وبالولايات المتحدة الامريكية ، مشرعة لتلقي شكايات الشعوب المضطهدة والمعذبة ، ومشرعة للنظر في عمليات تهريب الثروة الى سويسرا ، واللوكسنبورگ ، وبناما ...لخ ، وهو ما يجعل الأنظمة القمعية تأخذ في حساباتها ملا حقتها من قبل القضاء الدولي .
ان الوضع الذي يوجد فيه وعليه العالم اليوم ، يجعل من المستحيل تكرار مجازر احدث 23 مارس 1965 ، ومجازر 9 يونيو 1981 ، ويناير 1984 ، ومجازر 1990 ...لخ . لذا فان إمكانيات الشعب للتحرك من اجل الدولة الديمقراطية الحقيقية ، ستجد لها آذانا صاغية من قبل العالم ، من مؤسسات سياسية ، وقضائية ، وتشريعية ، وهو ما يسهل كل إمكانية في الوصول الى بناء ديمقراطية تنبع من الشعب ، وتصب في مصلحة الشعب .
ان تمركز الحياة الاقتصادية اليوم في يد البوليس الذين سرقوا الدولة وحولوها الى دولة بوليسية مقيتة وكريهة ، وفي يد الفئات / ( الطبقات ) المساندة لها ، والتي تصفق لها ، وامساكها بالمبادرة السياسية في شقها البوليسي الكريه ، يضعنا امام حالة جديدة ، يجب ان نقر بخصاصها النوعية ، وان نعالجها ونحللها كحالة نوعية . وفي تقديرنا المتواضع ، انه لا بد من رد الاعتبار للشعب البسيط ، الذي اثبت طوال تاريخنا المعاصر ، انه رغم خيانة الأحزاب ، و ( النخبة ) ، والنقابات ، فهو يملك إحساسا سياسيا ، رفيعا ، صحيحا ، وسليما ، وانه يعرف تماما كيف يميز بين القمح والزْوَانْ . فما ينقصه للوصول الى الهدف المنشود ، هو القيادة الوطنية الديمقراطية ، التقدمية الحقيقية ، التي ستنبع منه ، من خلال المعارك المسطرة للوصول الى الدولة الديمقراطية .
لكن رد الاعتبار هذا ، لا ولن يتم ، الاّ عبر طريق واحدة ، هي العمل الدؤوب على استرجاع الشعب الى مكانه الطبيعي ، أي ربطه بالقوى السياسية الفاعلة والقادرة ، سواء تلك المناضلة في الساحة ، او القوى الديمقراطية والتقدمية التي ستفرزها الصراعات الشعبية ، أي القوى الذاتية رافدة مشعل التغيير في كل مدينة ، ومدشر ، وقرية ، وجهة ، واقليم .
فبالنسبة للقوى الحية في الساحة ، عليها ان تقلع عن ان تكون مجرد تكوينات سياسية ، تعتبر نفسها ارقى من الشعب ، وادنى من الدولة البوليسية ( الاشتراكي الموحد ) ، فتنظر بازدراء الى تحت ، وبخشوع واحترام الى فوق . ان الطريق للوصول الى الفوق يجب ان يمر من تحت ، وكل طريق لا تمر من تحت ، من عند الشعب ، هي طريق الى الدرك الأسفل ، أي يجب نبذ البلانكية ، وانصاف الحلول ، ودعاة المنهجية اللاّديمقراطية ( الديمقراطية ) ، الذين يتنافسون ليحظوا بشرف تطبيق برنامج الملك . فالنضال يجب ان يكون من وسط الشعب ، ومع الشعب ، وان ينطلق من تحت الى فوق . فالنضال يجب ان يبلغ الهرمية ( الاهرام ) ، قاعدة عريضة من الشعب ، يوجهها قادة من هند وفولاذ .
كما يجب التوجه الحاسم والجذري ، نحو القضايا المرتبطة ببنية المجتمع من جهة ، وبطابع وعمل الدولة البوليسية من جهة أخرى .
ان النوع الأول من القضايا ، يجب ان يركز على التعاطي مع المجتمع ، بوصفه كيان موحد المصالح ، في مواجهة الدولة البوليسية الفاشية ، والتحديات التي تجابهه ، وبوصفه من ثم ، مصالح فئوية .
ان هذا لا يعني بالطبع تجاهل المصالح الطبقية الخاصة بكل طبقة ، لكن المصيبة ستكون تامة ، إذا ما توقفنا عند الحدود التي تفصل مصالح الطبقات عن بعضها ، ولم نعرف كيف نبرز ما هو مشترك بينها . وعلى كل حال ، إذا كانت المرحلة الماضية قد شهدت سياسات تقوم على مجابهة المصلحة الشعبية ، بمصالح طبقات وفئات وشرائح " حاكمة " ، فان هذا المرحلة يجب ان تبرز التعارض بين مصلحة غالبية المجتمع ، ومصالح الدولة البوليسية ، والفئات المساندة لها ، والداعية لسياساتها .
ان هذا التطور ، يحتمه الدور الجديد الذي اخذت تحتله الدولة البوليسية منذ سنة 1999 ، والذي أعطاها استقلالا ذاتيا نسبيا ، عن مصالح الطبقات المساندة لها ، ووضعها بالتالي على رأس القوى التي تخوض الصراع ضد القوى الشعبية . مع التأكيد على هذه النقطة النابعة من الوضع الحالي ومستجداته .
ان نقطة الضعف الأساسية التي تواجهها الدولة البوليسية ، هي علاقاتها المتأزمة مع الشعب ، وتعارض مصالحها بالأساس مع مصالح الجماهير . ان هذا الجانب الأساسي الذي يجعل الدولة البوليسية ضعيفة البنية سياسيا ، ويحولها لتغطية ضعفها البين الواضح ، الى دولة قمع وطغيان ، وصل الى حد طبخ المحاضر البوليسية المزورة في حق احرار وشرفاء الشعب المغربي ، ويسحب من ايديها كل الأوراق السياسية القادرة على اقناع الشعب ، بالركوع ، والخضوع ، وتحميله على قبول الإهانة ، والاذلال الممارس يوميا بشكل فاشي ، يجب ان يكون محل اهتمام خاص ، من قبل قوى التغيير الديمقراطي ، التقدمي ، والوطني ، بمختلف مشاربها الأيديولوجية والعقائدية ، وهنا تحضرنا الجبهة او الكتلة .
والحقيقة التي لا بد من إيجاد معالجة جدية لها ، هي ان المجتمع الذي ينغل ويطبخ بدون تأطير من احد ، لن يجد طريقه مرة أخرى الى عالم السياسة ، إذا لم تقدم له هذه القوى ، صعيدا من الوعي والممارسة السياسية ، لإقناعه مرة أخرى بقدرته اللاّمتناهية ، على مجابهة الدولة البوليسية ، وعملاء البوليس الذين سرقوا الدولة ، وسلّطوها لقمع الشعب من جهة ، وللاغتناء الغير المشروع من جهة أخرى . ان أي تحليل لطبيعة القوى السائدة في الساحة ، ولمعالجة التطورات المستحدثة منذ 1999 ، لا بد من ان يقتضي طريق واحد لا طريقان للرد ..
9 ) طريق واحد لا طريقان للرد على تغوّل الدولة القمعية : بعد ثبوت سرقة البوليس للدولة وبوْلستها بطرق غاية في الفاشية ، حيث يوظفونها في الاعتداء على المناضلين بطبخ الملفات البوليسية لرمي الاحرار والشرفاء في غياهب السجون ، حتى يتخلصوا من انتقاداتهم اللاّذعة ، و يستريحوا من فضحهم لملفاتهم النتنة ، وبعد ان تمكنت هذه الدولة من افراغ الأحزاب والنقابات ، وتحويلها الى مجرد صدف فارغة لا تهشُّ ولا تنشُّ ، ولا يزيغ دورها عن الالتفاف على المجتمع ، لقطع الطريق عن اية محاولة جادة ، لطرح السؤال الرئيسي عن الدولة الديمقراطية الحقيقية التي تعتمد القواعد الديمقراطية الكونية في تسييرها للشأن العام ، وبعد ان نجحت هذه الدولة في تمييع دور ( النخبة ) الخائنة التي بعد ان استشعرت بالمقلب الذي نُصب لها ، وبعد ان أصبحت خارج أوراق اللعبة ، لان دورها استنفذ حين وقعت على بياض على ما سمي ب (المشروع الحداثي ) الذي لا علاقة له بالحداثة ولا بالأصالة ، وبدأت تطرق أبواب اسيادها علهم يلتفتوا اليها ، متسائلين " ماذا انْ تكون مغربيا " ومذكراً ب ( ماماه ، وباباه ، وداداه ... ) لإثارة الشفقة ، وبعد تأكيد فشل دولة القمع البوليسية ، عندما اعترف الملك بفشل نموذجه التنموي السياسي ، لان كل تنمية سياسة ، وفي غياب طرح البديل للخروج من النفق بعد الاعتراف بالفشل العام للدولة من قبل رأس النظام ، حيث لا تزال نفس الرداءة ، ونفس الكذب يستحوذ على كيفية تحرير خطب الملك ، حين دعا مؤخرا الى اخراج قانون " اللاّتركيز " او " عدم التركيز " الى الوجود ، في حين ان هذه القوانين خرجت الى الوجود خلال الستينات ، وتجاوزها المغرب بنظام " اللامركزية " خلال النصف الأول من السبعينات .....لخ ، اصبح لزاما على كل تقدمي ، ديمقراطي ، ووطني حقيقي ، ومثقف ملتزم ، ان يطرح سؤال المرحلة الذي هو : ما العمل ؟ .
ان طرح السؤال في حذ ذاته ، هو طرح للبديل الديمقراطي الحقيقي الذي لا تزال بلادنا تتعثر في الوصول اليه ، بل لا تزال بعيدة عنه بسنة ضوئية حتى لا نقول انها اقتربت منه . ان نفس المسرحية لا تزال تتردد منذ بداية الستينات والى الآن ، وللأسف فحتى القوى التي رفضت الميوعة ، ورفضت التخندق وراء المسرحيات ، استسلمت للأمر الواقع ، وبدأت جزءا من المسرحية التي تحاك اطوارها لتزيين الواجهة ، لضمان استمرار الحصول على هِبات ومساعدات الدول المانحة ، ولإدامة سياسة الجمود ، والاستبداد ، والطغيان . فما معنى ان تقاطع الانتخابات بدعوى انها تجري ضمن دستور دكتاتوري ممنوح يركز كل السلط بيد شخص ، ويلغي دور البرلمان التمثيلي حين ينص ان الملك هو الممثل الاسمى " للامة " ( الشعب ) وليس البرلمان ، ثم تأتي وتشارك في نفس الاستحقاقات التي تجري ضمن نفس الدستور ، وضمن نفس القيم البالية المحاطة بالتقاليد المرعية ، وليس بالثقافة الديمقراطية ؟.
ان الخطورة ، ان هذه الأحزاب لم يكفيها تزكية الوضع عند مشاركتها في الانتخابات لتتبوأ مقاعد برلمانية ، بل انها تتنافس ليكون لها شرف السبق لتطبيق برنامج القصر ، لا برنامجها الذي يختفي بمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات . ان المشاركة في الاستحقاقات ليس لها من معنى ، غير الرغبة في المشاركة في الحكومة التي هي حكومة جلالة الملك لا حكومة الشعب ، وممارسة معارضة حكومة جلالة الملك ، أي ممارسة المعارضة البرلمانية ، لا معارضة النظام الذي يملك البرلمان .
ان تزيين اللعبة الديمقراطية ببعض رموز الخيانة والتآمر على نضال الشعب والجماهير الشعبية ، رغم تسترهم وراء قناع ( الاشتراكية ) ، لا ولن يكون من شأنه ان ينجح في اسكات وتهدئة غضب الشعب الكادح ، ولا إطفاء الانتفاضات التي تهب هناك وهناك في طول ارجاء الوطن ، كما لا ولن تنجح في تقديم وصفات وحلول سحرية ، لمشاكل مزمنة لا مخرج منها الاّ بالمراجعة الجذرية الشاملة . والسؤال : الا يعد اعتراف الملك بفشل نموذجه السياسي والتنموي ، إدانة صريحة للدولة البوليسية المدمرة والمخربة ؟ .
نعم ، ورغم القمع والبطش الذي تمارسه الدولة البوليسية ، فقد اثبتت الجماهير الشعبية من جديد ، استعدادها للتضحية والعطاء من اجل الحرية والكرامة ، واكيد ستواصل مسيرتها مهما بلغت قوة البطش والإرهاب ، ومهما اخترع النظام البوليسي وحاضنته فرنسا من حلول ظرفية ، فقد بدأت الجماهير الشعبية تمسك الأمور بيدها لتسقط عنها وصايات المندسين في صفوفها ، كخطوة نحو امتلاك المستقبل الذي لن يكون الاّ لها لا لغيرها .
وكمثقفين ملتزمين بالشأن العام لبلادنا ، وحيث ان دور المثقف هو الارتباط بالقضية التي تؤرق بال كل مثقف ملتزم ، وتستلهم بال النيّرين المستلهمين بمستقبل المغرب الذي اصبح غارقا في الديون ، ومصابا بالفساد العام الذي افشل الدولة البوليسية ، فإننا سنطرح خارطة طريق تنير السبيل ، وتضيئ المسار ، وترشد الاتجاه الصحيح لبلوغ الدولة الديمقراطية كبديل عن الدولة البوليسية .
ان خريطة الطريق هذه ، اعتبرها جوابا شافيا على السؤال الاستراتيجي الملحاح : ما العمل ؟ . فمنذ 1961 ونحن ننتخب ، ومنذ 1961 كم دستور تم منحه للشعب ، وكم برلمان تم تشكيله ، وكم تجربة جماعية عرفها المغرب ؟ والحصيلة اننا لا نزال في سنة 1961 ، رغم مرور سبعة وخمسين سنة عن اول انتخابات واول دستور عرفه المغرب . والى الآن الأوضاع ليست من سيئ الى أسوأ ، بل نكاد نجزم ان نقول بان عقرب الساعة قد توقف عن الدوران ، وهوما يجعل البلاد ، وبسبب قضية الصحراء ، مفتوحة على جميع الأصعدة ، ابرزها الدخول الى المجهول او الطوفان .
في خريطة الطريق هذه سنتناول محورين أساسيين : محور المعارضة العاملة خارج المغرب ، ومحور المعارضة العاملة داخل المغرب . ومع العلم انه رغم اختلاف ظروف العمل بين المعارضتين ، فالواجب الوطني يفترض ان تكون كل معارضة مكملة للاخرى ، لا ان تشكل قطيعة ضدها ، ما دام ان الهدف الاستراتيجي الأساسي يبقى هو كيف بناء الدولة الديمقراطية ، دولة الحق والقانون ، على حساب الدولة البوليسية التي تخرب وتدمر ، ولا تبني وتعمر ، ورئيس الدولة بنفسه اعترف بفشلها عندما اعترف بفشل نموذجه السياسي والتنموي .
1 ) المعارضة خارج المغرب : ان المقصود بالمعارضة العاملة خارج المغرب ، هي تلك التي تكونها اليوم الأطر الشابة الحاملة للشهادات العليا ، من تقدميين ، وديمقراطيين ، ووطنيين ، وتطرح على رأس جدول اعمالها بناء دولة الحق والقانون لا دولة الفوضى والغاب ، دولة المؤسسات لا دولة الاسر والعائلات ، دولة ربط المسؤولية بالمحاسبة لا دولة عفا الله عما سلف .
ان اكبر واعظم خدمة ستقدمها هذه المعارضة للشعب المغربي ، هو ان تتجنب السب ، والشتم ، والقدف فيما بينها ، لان هذا الأسلوب الدنيء اللاّاخلاقي ، يشكك فيها كل مهتم بخطاباتها ، وبمشروعها العام ، كما انه يعتبر انتصار لوكلاء الدولة البوليسية ، الذين سيتماهون في طاووسيتهم بسبب اعتقادهم بالانتصار عليها .
ان الطعن في المناضلين ، والضرب من تحت الحزام ، وتشويه السمعة ، والتشفي ، وممارسة نميمة المقاهي ، لأعمالٌ ، هي مضرة بمستقبل الحركة التقدمية المغربية ، لذا يجب تشجيع اللقاءات الإيجابية ، ويجب الانْصِباب على الاعمال المثمرة ، والمشتركة التي تخدم الديمقراطية ، وتجنُب كل الاعمال المضرة بالعمل الوطني الجاد .
في هذا الاطار وبسبب الظروف السائدة في المهجر ، كالحق في المعارضة والتعبير الديمقراطي ، والممارسة السياسية الجادة ، وإشاعة الحريات ، فان اول عمل تقدمي سيكون نبيلاً انْ حصل ، هو الإسراع بخلق جبهة تقدمية ديمقراطية ، او كتلة تاريخية جماهيرية ، من أولوياتها ، من جهة تقوية العمل السياسي الوطني ، ومن جهة التعريف لدى المنظمات الديمقراطية والجماهيرية ، ولدا منظمات حقوق الانسان المختلفة ، ولدا البرلمانات والحكومات الاوربية ، والأمريكية ، بحقيقة الديمقراطية المغربية ، وبأوضاع حقوق الانسان العامة ، وتعرية الوضع الاجتماعي المُزري المفتعل الذي يعيشه الشعب المغربي . كما يجب استغلال الوجود بالمهجر ، للتعريف بالمختطفين ، وبالمعتقلين السياسيين ، ومعتقلي الحركة الطلابية ، ومعتقلي لقمة العيش ، ومعتقلي المطالبة بالكرامة ، والإنسانية ، والعدل ، والمساوات بين المواطنين ، ومعتقلي المطالبة بالدولة الديمقراطية .
لكن سيكون اهم انجاز سيبقى موصوما على جبين الحركة التقدمية ، والديمقراطية ، والوطنية ، هو ان تنجح في خلق فضائية معارضة ديمقراطية ، تجعل من أولوياتها الأساسية ، بلورت الوعي السياسي لذا المواطن المغربي العادي ، كما تبين للشعب المغربي حقوقه السياسية ، والاجتماعية ، وترسم دوره في مواجهة مخططات التخريب والتقسيم التي تنتظر وحدة المغرب ارضا وشعبا . ان اقوى سلاح سيمكن المواطن المغربي العادي ، من بلورة حسه السياسي الثوري الديمقراطي ، يبقى الاعلام الذي سيدخل كل بيوت المغاربة ، وسيبقى وحده السلاح الوحيد الأوحد لتسهيل القطع مع الاقطاع ، والاستبداد ، والدكتاتورية ، وتعبيد وتيسير طريق الوصول الى الدولة الديمقراطية .
ان على معارضة الخارج الاّ تعتبر نفسها مُسْتعلية وفوق الشعب ، او انها تمارس الوصاية عليه ، كما عليها الاّ تفرض أساليب نضالاتها على المعارضة التقدمية ، والديمقراطية الوطنية العاملة داخل المغرب ، لان ظروف وشروط العمل تختلف . بل عليها ان تكون امتدادا طبيعيا لها ، ومكملة لنواقص الداخل ، على ان تلعب المعارضة الوطنية في الداخل كذلك، تكملة سياسية ، وحقوقية ، واجتماعية لمعارضة الخارج .
هكذا سيكون اهم عمل تقوم به معارضة الخارج ، الى جانب معارضة الداخل ، ومع زيادة انتشار الوعي السياسي والحقوقي بين الشعب المغربي ، اعتماد السلمية ، وتجنب العنف الاّ عندما يكون قابلة للتاريخ . ان تمسك المعارضة ، الديمقراطية ، التقدمية ، والوطنية بالنضال الديمقراطي الصحيح ، سيجلب لها تعاطف العالم الحر الديمقراطي معها ، كما سيكون سندا ودرعا لها ، إن تجرأ رموز الدولة البوليسية في ممارسة البطش ، والقمع عليها .
ان الوعي ، والنمو الديمقراطي الذي وصله العالم اليوم ، وانتشار استعمال الفضاء الأزرق ، من انترنيت ، و تويتر ، وفيسبوك ....لخ جعل العالم مكشوفا وعاريا ، فتحول الى قرية اكثر من صغيرة ، تجعل من المستحيل تكرار مجازر 23 مارس 1965 ، ومجازر يونيو 1981 ، ومجازر يناير 1984 .....لخ .
ان جميع الدول الديمقراطية في العالم اليوم أصبحت تتمسك بالقانون الدولي ، وبالمحاكم الدولية ، للنظر في كل جرائم الأنظمة الاستبدادية ، والقمعية ، والطاغية ضد شعوبها .
وهذه ، تبقى المهمة الرئيسية للحركة التقدمية ،والديمقراطية العاملة خارج الوطن ، وبالتنسيق مع الحركة الديمقراطية والتقدمية العاملة داخل الوطن .
على انّ أي انتصار لا يمكن تصوره ، ولا يمكن انتظاره ، الاّ إذا كان الصراع يجري ضمن وحدة المغرب ارضا وشعبا . ان تدعيم وحدة التراب الوطني هو المدخل الأساسي للوصول الى الدولة الديمقراطية . وبدون هذه الوحدة ، سنكون بمن يخدم المخططات الامبريالية المدعمة للإقطاع وللدكتاتورية ببلادنا .
10 ) خريطة الطريق لمواجهة تغوُّل ، وبطش ، وقمع الدولة القمعية : في الجزء أعلاه ، حاولنا رسم خريطة طريق للمعارضة الديمقراطية ، التقدمية ، والوطنية العاملة خارج ارض الوطن، لمواجهة ظلم ، وتغوّل ، واعتداءات الدولة البوليسية المتكررة ، والمسترسلة بدون انقطاع ، وقد خلصنا الى ان اهم واعظم خدمة ستسديها معارضة الخارج التي تتحرك ضمن ظروف ومناخات ديمقراطية هي ، من جهة تجنب لغة السب ، والشتم ، والتشنيع ، والضرب من تحت الحزام ، مع غرس الخناجر في ظهر المناضلين ، لأن هكذا عمل وتصرفات ، من شأنها ان تسيء الى أي عمل جماهيري ، والى أي نضال تقدمي ، من خلال تشكيك المهتمين ببرامج ومستقبل هذه المعارضة ، الامر الذي سينمي ظاهرة العزوف السياسي ، الذي سيؤثر على الوضع التنظيمي للمعارضة الوطنية الجادة ، ومن جهة الشروع في بناء جبهة تقدمية ديمقراطية ، او كتلة تاريخية جماهيرية ، تُوحّد العمل الوطني ، وتسقله بلون النضال الديمقراطي ، المعبر عن آمال وتطلعات الشعب المغربي الفقير والمفقر ، ومن جهة اتخاذ الخطوات اللاّزمة لإنشاء قناة فضائية ، وطنية ، ديمقراطية ترشد المغاربة ، وتلهمهم بحقوقهم السياسية والاجتماعية . ان انشاء فضائية ، ديمقراطية ، جماهيرية تتلكم بلسان الشعب ، يبقى عملا يٌسرّع اكثر في بناء دولة الحق والقانون ، ودولة ربط المسؤولية بالمحاسبة ، ويمكن من خلق معادلة الشعب الواعي ، لمواجهة الاستبداد ، وظلم ، واعتداءات الدولة البوليسية . ان اخطر واقوى سلاح كان ولا يزال هو القلم ، والكلمة الحرة ، والإعلام . فغرس ثقافة رفض الخنوع ، والخضوع ، والاستسلام ، من شأنه تعريض قاعدة التقدميين والديمقراطيين ، ومن شأنه تسهيل احتضانهم من قبل الشعب ، كما يبقى وحده الاجراء الوحيد الذي يسهل تقريب بناء الدولة الديمقراطية الحقيقية ، هذا دون ان ننسى التعريف بالمهجر ، بالمظالم المسلطة على المعتقلين السياسيين ، ومعتقلي لقمة العيش ، ومعتقلي الحركة الطلابية بمختلف المواقع الجامعية ، ومعتقلي حركة 20 فبراير ....لخ .
2 ) إذن ماذا عن معارضة الداخل ؟ :
المقصود بمعارضة الداخل ، تلك التي لم تتلوث بمسالك الارتزاق المخزني الإنتخباوي ، ولم تشارك ، ولم تساهم في المسخ ( الديمقراطي ) الذي استنفد كل مقومات وجوده ، بعد ان اعترف رأس النظام بفشل نموذجه التنموي – السياسي ، وبعد ان دخلت البلاد النفق المسدود ، المهدد امّا بالطوفان ، وامّا بالدخول الى المجهول الذي سيكون مدعما من قبل العواصم الاوربية الكبرى ، أي إعطاء الضوء الأخضر ، والاشارة الى تغيير النظام بنظام ، داخل استمرارية الدولة ، أي تجنب سقوط الدولة ، دولة العائلة العلوية ، لصالح دولة الشعب الجمهورية ، وكل هاذين السيناريوهين ، يبقيان جادّين في ما لوْ ضيّع النظام الصحراء ، وفشل في الحفاظ عليها .
إضافة الى هذا المعارضة النظيفة التي لم تتلوث بمسالك الارتزاق الإنتخابوي ، ولم تحصد الاسفار برفضها المشاركة في لعبة المسخ الديمقراطي ، وعن قناعة واقتناع ، وهي تتوزع بين معارضة إيديولوجية ومعارضة عقائدية ، هناك معارضة احتياطية جاهزة بكل قرية ، ومدشر ، ومدينة ، وبكل إقليم وجهة ، وهي تتكون من الشباب الحاصل على الشواهد الجامعية ، والتي تفعل فيه البطالة فعلتها اللعينة ، بفعل فشل النموذج السياسي – التنموي ، وبفعل تفشي الفساد بكل تجلياته ، ومظاهره المختلفة ، وبفعل تسليم الدولة ، ومصير المغرب والمغاربة ، الى حفنة من الفاسدين ، تتقن أسلوب الاعتداء وظلم الناس ، وتساهم وبادراك ، في جريمة تدمير وتخريب المغرب ، والدفع به الى المجهول ، او الى الطوفان .
انه وامام تململ الاحتجاجات المختلفة ، وامام التطورات التي تفرض نفسها على الصراع ، فان بوادر تشكيل هذه المعارضة المستقبلية ، التي تُكوّن اليوم دراع الدفاع الذاتي داخل مناطق تواجدها ، ستلعب دورا أساسيا في الضغط لبناء الدولة الديمقراطية ، دولة المؤسسات والقانون ، وربط المسؤولية بالمحاسبة .
ان كل التطورات الحالية واللاّحقة تؤكد بالملموس ، قوة الشعب والجماهير ، وتثبت قدراتها اللاّمتناهية في التحصين ، وفي الدفاع عن حقوقها المشروعة ، المعترف بها كونيا من قبل الأمم المتحدة ، والقوانين الدولية .
ان العالم اليوم ، وبفضل قنوات التواصل الاجتماعي ( انترنيت ، تويتر ، فيسبوك .....لخ ) ، اضحى مراقبا من قبل الأمم المتحدة ومجلس الامن ، ومن قبل المحكمة الجنائية الدولية ، ومحكمة العدل الدولية ، ومحكمة العدل الاوربية ، ومن قبل المؤسسات القضائية الاوربية ، والحكومات والبرلمانات ، التي أضحت تركز اليوم على القانون الدولي الإنساني ، الذي يعطي للمحاكم الاوربية المعنية ، البث في كل الجرائم المرتبكة ضد الشعوب ، من قبل الأنظمة الدكتاتورية ، والاستبدادية ، والطاغية . فالملاحقة القضائية الدولية للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية ، وجرائم تهريب الأموال الى الخارج ، تجعل الأنظمة تعيش دائما في دوامة الخوف ، خاصة وان هناك امثلة كثيرة للقضاء الإنساني الكوني ، بتجريد ناهبي ومهربي أموال الشعب ، وارجاعها الى اوطانها .
ان نقطة الضعف الأساسية التي تواجهها الدولة البوليسية التي تخرب وتدمر ، ولا تبني وتعمر ، هي علاقتها مع الشعب الذي تذله وتحتقره ، بترويضه على الخنوع ، والخضوع ، والتسول ، كما ان ضعفها يتجلى في تعارض مصالحها الضيقة السادية ، مع مصالح الجماهير ، والاغلبية الساحقة من الشعب .
ان هذا الجانب الأساسي الذي يجعل الدولة البوليسية المعتدية والفاشلة ، ضعيفة البنية سياسيا ، ويحولها الى ممارسة القمع ، والبطش بالناس ، والاعتداء عليهم لإسكاتهم وتركعهم ، سيسحب مستقبلا من ايديها الأوراق السياسية القادرة على اقناع الشعب بالخضوع والاستسلام . فكلما اشتد الخناق سيحصل التراكم ، وستزداد دائرة المقاومة ورفض الانبطاح .
كما ان ما يزكي هذا التحليل ، ان النظام الذي تحول الى دولة بوليسية منذ سنة 2003 ، وانقلب على كل الشعارات التي تم التسويق لها منذ 1999 ، قد انكشفت حقيقته امام الاوربيين والامريكان ، وحتى الأنظمة العربية التي كان يتاجر بصداقتها ، لتقوية وجوده الداخلي ، بدعوى التضامن ( العربي ) ، وبدعوى الدفاع عن ( القدس ) .
ان مكانة النظام قد تراجعت كثيرا ، خاصة بعد افول المعسكر الاشتراكي ، وسيادة سياسة القطب الوحيد في العلاقات الدولية . ان الموقف الأوربي ، والافريقي ، والامريكي ، والروسي ، والكوري الجنوبي ، وكندا ، وأستراليا ، واليابان ، وحتى الموقف العربي من نزاع الصحراء ، واضح للعيان ، بل حتى قطر التي راهن عليها النظام " كُلّنا تميم .. " حين تسوق لخريطة المغرب ، فهي أضحت تعرض خريطته ، مقسومة بخط يفصل بينه وبين الصحراء ( قناة الجزيرة ) .
فما معنى حين يرفض مرات عديدة الرئيس الأمريكي استقبالك ، وماذا حين لا يعترف لك الاوربيون بمغربية الصحراء ، وهم يدركون ان ضياع الصحراء هي نهاية النظام ، إن لم يكن نهاية الدولة ، ومع ذلك يتشبثون بالاستفتاء وتقرير المصير . وماذا حين تتخلى عنك السعودية ، والامارات ، والكويت ، ولبنان ، ومصر ، والأردن ، والعراق.....لخ . فهل هناك من عزلة دولية للدولة البوليسية ،اكثر من هذه العزلة الفاقعة للاعين ؟
ان خريطة الطريق التي عالجنا للمعارضة العاملة خارج المغرب ، ليست هي نفسها للمعارضة العاملة داخل المغرب ، فلكل معارضة خصوصياتها المرتبطة بظروفها . لكن لا يجب ان تٌحجب عنّا تلك الخصوصية ، ان تكون كل معارضة مكملة للأخرى ، ما دام ان الجميع ينشد بناء الدولة الديمقراطية ، بدل الدولة البوليسية التي سرقت الدولة وبوْلستها على طريقتها ، وأصبحت توظفها في الاعتداء على الناس ، بتزوير المحاضر البوليسية لإرسالهم الى السجن ظلما ، وقد كنت احد ضحايا إحدى المحاضر المزورة التي وقف وراءها كل من :
-- مستشار الملك وصديقه المسؤول عن البوليس وعن وزارة الداخلية ، فؤاد الهمة .
-- الوزير المنتدب في وزارة الداخلية السابق ، وكان بمثابة مستشار صديق الملك ، الشرقي ضريس .
-- المدير العام للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني ، والمديرية العامة للأمن الوطني ، عبداللطيف الحموشي .
-- وزير الداخلية الذي لا يزال مع عبداللطيف الحموشي ، وبتعليمات مستشار وصديق الملك فؤاد الهمة ، يعتدون عليّ الى الآن ، بل انهم تسببوا لي في امراض مزمنة خرجت بها من السجن .
وبالرجوع الى خريطة الطريق المتعلقة بالمعارضة الداخلية ، فانه لا بد لها ، إن هي ارادت النجاح فيما فشل فيه من سبقها ، ان نقوم بما يلي :
1 ) لا بد من دراسة التجارب السياسية والاجتماعية العالمية الشبيهة لتجربتنا ، وبصورة خاصة ، تجربة فريدة وهامة ، هي التجربة الإيرانية . أي الابتعاد عن الاقصاء ، والتحضير لنظام الجبهة التقدمية الديمقراطية الوطنية ، او لنظام الكتلة الجماهيرية التاريخية .
2 ) مواكبة ومتابعة كل النضالات اليومية ، التي تقوم بها الجماهير الشعبية في كل مدينة ، قرية ، مدشر ، عمالة ، إقليم ، وجهة ، وتحويلها الى نضال عام موحد ، له بعد اجتماعي كامل ، ذو طابع سياسي واعٍ ومنظم .
3 ) الارتقاء بالأحزاب التي لم تتلوث بمسالك الارتزاق المخزني الانتخابوي ، ولم تساهم في مسرحية المسخ الديمقراطي ، الى وضع آخر يجعلها أداة رئيسية ، واطارا نضاليا سليما .
4 ) تقديم برنامج عمل ، جوهره وقف التردي الذي دفعت الدولة البوليسية الشعب والوطن اليه دفعا ، والانطلاق في وحدة أولى من نضالات صغيرة ومتفرقة ، يجب معرفة كيف يتم صبُّها ونصبها فيما بعد ، في تيار نضالي عريض وجارف .
ان هذا البرنامج يجب ان يشخص الوضع القائم تشخيصا صحيحا وصريحا ، وان يتصور احتمالات التطور الممكن ، وان يحسب لكل منها حسابه العلمي المُقْنع . كما يجب ان يقدم عالما سياسيا متعارضا مع العالم الذي تقدمه الدولة البوليسية السادية ، وان يكون مثَله عالما شاملا ومنظما ، فنقلع بذلك عن سياسة ردود الأفعال ، او سياسة الإحاطة الجزئية بهذه القضايا الجزئية او تلك ، وننتقل الى وضع تصورنا الشامل امام الشعب ، في مواجهة تصور الدولة البوليسية لسائر القضايا ، بدءا من القضايا الاجتماعية ، والسياسية ، والمطلبية الصغيرة ، وحتى مسألة النظام البديل ، والاطوار الانتقالية التي يحتمل ان يمر بها وطننا الغالي في الحالة الراهنة ، الى الوضع البديل ، على ان يتم تحديد طابع ودور كل قوة اجتماعية ، في سيرورة نضالية كهذه ، ولكي تعرف مصالحها بكل دقة متناهية وبكل وضوح ، كما يجب ان تقال للشعب الحقيقة حول ما قد يجابه النضال الوحدوي ، ولو في شكله الأدنى من صعوبات ومتاعب ، لان الطريق لا ولن يكون مفروشا بالورود ، بل سيكون محفوفا بالمخاطر والتضحيات .
5 ) التركيز فيما يخص المجتمع ، على قضاياه الأساسية ، والتركيز فيما يخص الدولة ، على مسألة الديمقراطية ، على ان نفهمها كشيء يتجاوز التمثيل ، والانتخابات ، واللعب ، والتزوير الذي تمارسه الدولة البوليسية .
ان قضايا المجتمع بالدرجة الأولى ، قضايا افقار الجماهير العريضة ، ونهمها ، ونهبها المنظم ، وتشتيتها وتضييعها ، والتخريب ، وضرب الاشكال النضالية التي تتيح للعمال حرية نسبية من الحركة ، وحتى المطلبية ، وقضايا التبعية المتعاظمة الى الخارج ، وارتهان ثروات الوطن لدا الشركات والقوى الخارجية التي تنهب مستقبل بلادنا ، وقضايا التعليم ، والصحة ، والسكن ، والشغل ، والطعام ، وارتفاع الأسعار المقصود ، وقضايا الحرية الشخصية والجماعية ، والمساواة امام القانون ...لخ هي قضايا أساسية ملحة من شأنها ان توحد نضالات القوى الداخلية في اطار الجبهة او الكتلة . فبدون القوة ، ستبقى التنظيمات ( كُلْها يلْغي بلْغاهْ ) ، وعوض خدمة الشعب والجماهير ، سيتم خدمة الدولة البوليسية التي تخرب وتدمر ، أي زيادة تخريب في تخريب ، وتدمير في تدمير .
ان استرداد الشعب لذاته سياسا ليست مسألة إرادة ، وانما هي سيرورة موضوعية أيضا ، يجب ان نعرف مفاتيحها ، وأقنيتها ( قنوات ) ،
او شعاراتها .
ان هذا الضعف البنيوي للدولة البوليسية ، الذي يتجلى في خروج الشعب عن عالمها السياسوي ، والانتخابوي ، ورفض البرلمانية ، للن يكون قاتلا لها ، إذا لم يسترجع الشعب ثقته بالسياسة ، وإذا لم يحصل نجاح ادخال الشعب في عالمنا السياسي .
ان هذا الدخول مشروط بجملة اعتبارات ، في مقدمتها تقديم برنامج شامل ، ومقنع ، يتأقلم على حالة العداء الشعبي للدولة البوليسية ، وللفئات المستفيدة منها ، والمُطبّلة لها ، ولو نفاقا . ويأخذ بالاعتبار الوضع الجديد ، خاصة بعد هبّة حركة 20 فبراير ، الذي تجابه به الأغلبية الشعبية المضطهدة ، الدولة البوليسية كممثلة لمصالح اقلية منظمة ، في حين لا تزال الأغلبية مشتتة وعفوية ، كما ظهر في العديد من خرجاتها .
ان خطورة هذا الوضع ( التشتيت والعفوية ) ، والاستمرار في خروج ، بل غياب الشعب عن السياسة ، انه يهدد بتحوله ، أي الشعب الى العوبة في يد قوى مغامرة من كل الأصناف والاتجاهات ، كما قد يدفع به الى نشاطات ربما الحقت الضرر بروحه الكفاحية النضالية المتجددة

11 ) تتمة الحلقة العاشرة حول رفض الشعب لتغوّل واستبداد الدولة القمعية : رأينا في الجزء العاشر ، كيف سرق البوليس الدولة ابتداء من منتصف 2003 ، وكيف بوْلسوها ، لتنقلب على كل الشعارات التي تم الترويج لها منذ 1999 ، ك ( المفهوم الجديد للسلطة ) ، و( ملك الفقراء ) ، و كيف وصل الامر ان يتساءل الملك عن مكان اختفاء الثروة ، ويعترف بفشل نموذجه السياسي – التنموي ، دون ان يطرح البديل لانقاد ما يمكن إنقاذه ، هذا إذا افترضنا جدلا ان النية كانت صالحة للإصلاح وللتقويم ، وللمصالحة الحقيقية بسبب تجبر العهد السابق .
الآن نستطيع الجزم ، ان كانت الإرادة صادقة عند مروجي كذبة " العهد الجديد " ، انْ نقول ، ان ما حصل منذ 2003 ، كان انقلابا بكل المقاييس ، نحو ترسيخ قبضة الدولة البوليسية ، التي جعلت من الشعب عند الملك ، بمثابة فوبيا لا يؤتمن جانبها ، وان من يحمي النظام وليس الدولة البوليسية ، هم الإنقلابيون الذين حسموا الصراع بما مكّنهم من الاستئثار بالدولة ، وليس فقط الاستئثار بالنظام . وقد تجلى هذا الوضع الجديد / القديم ، عندما بدأ منظرو البوليس يشرفون على تحرير الخطابات الملكية ، التي كلها تهديد وتقريع ، في حق المخالفين العدميين ، والسلبيين ، وبائعي الأوهام الرافضين لاستبدادهم ، ومختلف اشكال قمعهم . والخطورة ان هذه المكائد التي أضحت مفضوحة ، لم يسلم منها اشخاص مقربين من الملك ، كرشدي الشرايبي مدير الديوان الملكي السابق ، وحسن أوريد الناطق الرسمي باسم القصر سابقا ، وواليا على ولاية مكناس يخضع للوزير المنتدب في الداخلية آنذاك فؤاد الهمة كرئيسه ، بدل خضوعه للملك صديق دراسته . وهنا لا ننسى كيف تم ابعاد الجنرال حميدو لعنيگري ، وابعاد احمد حراري كمدير عام للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني ، وكيف تم تجميد الوالي السابق بمديرية مراقبة التراب الوطني نور الدين بن إبراهيم ، عندما تم تعيينه عاملا مديرا لمديرية الشؤون الداخلية بوزارة الداخلية ، قبل ان يعيده الشرقي ضريس كمستشاره في الاعمال القدرة والخسيسة التي تتم من تحت الطاولة ، وكيف تم ابعاد الوالي محيي الدين امزازي ، وابعاد الجنرال الحرشي عن الإدارة العامة للدراسات والمستندات ، وكيف تم تطويع الطريق لفؤاد الهمة في قطاع الدرك بعد ابعاد ، او إحالة الجنرال حسني بنسليمان على التقاعد ، ولماذا تم ابعاد المدير العام للأمن الوطني السابق بوشعيب ارميل ، وابعاد جعادي كمدير لمديرية الامن الملكي ، وكيف تم تعيين عبداللطيف الحموشي على رأسيهما .
إذن نحن امام دولة بوليسية بامتياز ، والسؤال الذي ينبغي لكل ديمقراطي تقدمي طرحه لمواجهة القمع ، والتغول ، والتسلط ، والاستبداد ، هو في ابتكار اشكال نضالية ، من جهة لمواجهة التغول والتسلط والاعتداء ، ومن جهة التفكير في طرق تجاوز الدولة البوليسية لصالح دولة ديمقراطية تربط المسؤولية بالمحاسبة ، وتجعل الشعب هو المصدر الأساسي للسلطة ، من خلال الاستفتاءات ، والانتخابات ، وكل اشكال الاقتراع ، بعد التأسيس للدستور الديمقراطي عوض الدستور الممنوح .
أخذا بعين الاعتبار التمييع الذي سُلط على الوضع السياسي لبلادنا ، حيث أضحت الساحة فارغة من القوى السياسية ، التي تؤثر وتَكُونُ قادرة على تحريك المجتمع ، فان الانهيار السياسي الذي نسميه بموت السياسة ، يطرح على الديمقراطيين لطرح البديل ، جملة من التحديات الأساسية منها :
1 ) استمرار مهمة التحرير على الصعيدين القومي والوطني . أي ربط النضالات ، بنضالات شعوب المنطقة : لكن في الظروف الجديدة الصعبة التي وحدت قوى الردة والرجعية قوميا ووطنيا ، فان الاستمرار يعني اول ما يعنيه ، ضرورة التمسك بالأهداف العامة ، وترجمتها في الخط السياسي المنظم ، ترجمة جديدة ، فيها حد اعلى من الثبات المبدئي ، وحد اعلى من الاستقرار التاكتيكي المرتبط بالمرونة ، ولكن الأرضية العامة لهذا التاكتيك ، كان يجب ان تتغير بهدف الحفاظ على المواقع الذاتية من جهة ، وامتصاص التراجع العام على الصعيد الشعبي من جهة أخرى ، بحيث يستقطب الوضع الذاتي ، التراجع الموضوعي ، ويقدم له آفاقاً وإمكانات نضالية جديدة ، ومتقدمة اكثر .
2 ) التأقلم مع حالة التراجع . وهذا التأقلم قد يأخذ تبنٍّ للخط المطروح ( خط الدولة أساسا ) ومعارضة من داخله ، حتى يأخذ شكل الانهيار والتقهقر امامه . وقد اخذ التأقلم في هذه الابعاد الثلاثة ، واحدث وضعا مأساويا في الحركة الوطنية والقومية . فلا بد من القول ان المهمة الأساسية ، مهمة تجاوز التدهور عن يساره ، وبواسطة تجديد الصلات مع الشعب لم تنجز . فالذي أُنجز ، كان الابتعاد عن هذا الخط ، وبالتالي التأقلم مع نزوع يميني ورجعي متصاعد ، والتراجع عن مواقع يسارية وتقدمية سابقة ، فتقطعت الصلات التي كانت مع الشعب ، وتم احلال صلات خفية ، او علنية مع الدولة البوليسية ، وسياستها محلها . ان حصاد سياسة كهذه ، كان الصورة التي رسمناها ، سواء للدولة ، ام للقوى السياسية . وسيستمر هذا الحصاد المسموم ما لم نفتح اعيننا على التجارب السابقة ، الوطنية المحلية ، والمحيطية .
والحقيقة ان الوقت قد حان ، مع علامات تفسخ الدولة البادية للعيان وفي كل مكان ، ومع التحديات التي تجابه كل وعي وطني ، وقومي للعودة عن السياسة الراهنة ، ولوضع سياسة أخرى بديلة لها . لكن ذلك يقتضي تجديد ذاتنا ودورنا ، والنظر في قضية نراها شديدة الأهمية ، الا وهي قضية النمط التنظيمي الذي يجب ان تتخذه الأحزاب التقدمية ، الديمقراطية ، الجماهيرية ، والثورية في المرحلة اللاحقة ، بعد ان اثبت النمط السابق عجزه ، في طور النهوض عن احداث التغيير ، وعجزه في طور التدهور عن إيقافه .
يجب ان نسأل انفسنا : هل الاحزاب الذي اقمناه هي بشكلها التاريخي المعروف ، أداة فعالة لقيادة النهوض بعد وضع مستلزماته ، ام ان العيوب اللصيقة بنمط هذا الاحزاب ، ستكون في المرحلة المقبلة عقبة بدورها امام الأحزاب ، والشعب في آن واحد ؟ . وهنا فاني أوجه الخطاب للأحزاب التي استأثرت بالمجال السياسي الوطني ، طيلة الستينات ، والسبعينات من القرن الماضي .
كما يجب ان نطرح على انفسنا السؤال التالي : هل تكفي النماذج النظرية المنقولة عن مجتمعات أخرى ،هذا البديل المطلوب ، بعد ان عجزت في الطور السابق والحالي عن منع التدهور الحاصل ؟ .
ان عملنا يجب ان يكون شاملا في هاتين النقطتين ، وان ينطلق من نقد ذاتنا قبل كل شيء ، لأن الأداة النضالية ، هي عنصر من عناصر النجاح ، او عامل من عوامل الفشل . فلا يمكن تحقيق نضال ناجح بأداة فاشلة ، كما يصعب للأداة المناسبة ، ان تكون بحد ذاتها سببا في الفشل . والمراجعة للظرف الموضوعي ، لا يجوز ان نتوقف امام الشرط الذاتي ، بل يجب ان نبدأ به ، سيما وان الحركة الشعبية اخذت تتجاوز القوى القائمة ، او تحدث خارجها . وإذا كان للمراجعة من هدف ، فإنما هو التالي :
-- نقد تجربة الماضي .
-- نقد سياسة التأقلم .
-- وضع خطة سياسية شاملة ، تبدأ بالتجارب المنقودة ( نقد ) ، ولا تنتهي عند حد رسم خارطة للاحتمالات ، وإمكانات العمل في شروط لا نسيطر نحن اواحدنا عليها . الجبهة او الكتلة .
-- ) احتلال رؤوس جسور شعبية ، نحولها الى ميدان معركة لاحقا ، ولكن ضمن خطة سياسية شاملة بالأساس ، تنمو تكتيكاتها وشعاراتها ، مع توسع رؤوس الجسور ، وتحولها الى ارض معركة .
ونحن نعي تمام الوعي بان عملا بهذا الشمول لا يمكن ان يكون من صنع فرد او حزب لوحده ، بل هو من صنع كل القوى الراغبة فيه ، والمدركة لضرورته ، ومن صنع النضالات الشعبية ، ولهذا فانه عمل يتسم بأكبر قدر ممكن من الثورية ، والروح الديمقراطية ، والانفتاح على الآخرين وعلى الجماهير . ان العمل العصبوي قد ينقد حزبا ، لكن ما ينقد الوطن ، هو العمل الشعبي الذي تقوم به الجماهير ، بقيادة قواها الطليعية المنظمة في اطار جبهة او كتلة .
كما يجب ان لا نكون دوغماتكيين طوباويين ، ولا ان نكون طاووسيين ، بل يجب ان نقر بوجود تفاوت في علاقات القطاعات الشعبية المختلفة ، بالسياسة الراهنة ووضعها . ونرى ان اكثر القطاعات تذمرا من الحالة السائدة ، هي قطاعات الطلاب ، والمحامين ، والمعلمين ، والأساتذة ، وأساتذة الجامعات والمدراس العليا ، والمهندسين والأطباء ، واساسا العمال ، والموظفين الصغار والمتوسطين ، والمستخدمين ، ثم قطاعات من الشرائح العليا المتضررة بالانفتاح على الخارج ، وبالنهب غير المحدود في الدخل .اما الفلاحون ، فان وضعهم يتطور بسرعة ، لكنهم ليسوا قطاعا اجتماعيا متحركا بعد .
ان هذا الواقع يجب ان يؤخذ بعين الاعتبار، في رسم خطط السياسة العملية التي تساعدنا على الخروج في مرحلة أولى من وضع الاختناق السياسي الحالي ، أي ان باب النشاطات الديمقراطية والمطلبية ، يجب ان يفتح على مصراعيه ، سيما وان قواه على قدر لا بأس به من الجاهزية السياسية ، والنضالية ، والتنظيمية . واجمالا ، نريد ان نلفت النظر من هذا التحليل ، الى ضرورة وضع خطة نضالية متدرجة ، تأخذ الحالة القائمة بعين الاعتبار .
كذلك على قوى التغيير المناضلة ،ان تدرك ، ان الامبريالية ككل ، تدعم التطورات التي حصلت على صعيد الدولة منذ بداية التسعينات بالاخص ، وان تناقضاتها محكومة باستمرار هذا النوع من الدولة . فان فكرت بتغييره ، فإنما تفعل ذلك لأجل نمط آخر، يخلو من ثغراته وعيوبه ونقاط ضعفه .ان اللعب بتناقضات الامبريالية لا يجوز لهذا السبب ان يكون بالنسبة لنا ، بابا لتضييع الهدف ، وتمييع حدود الصراع .
ان الامبريالية ، باتجاهاتها ومصالحها المتضاربة ، لن تقف مع نضال شعبي ضد نظام دولة كهذا . والوهم الذي قد يراودنا حول صراعات الامبريالية قد يكون قاتلا ، إذا لم نربطه بنهوض الحركة الشعبية . فهذا النهوض وحده كفيل بتحويل هذه التناقضات الى عنصر من عناصر التغيير .
اما في الوضع الحالي ، فان الامبريالية واجنحتها قد تتصارع ، ولكن ضمن اطار مضبوط ومقنن ، هدفه خنق الحركة الشعبية، وليس فتح الباب لنموها .
ان وطننا ومغربنا يغلي ، وفي يدنا ان نقصر آلام الشعب او تطول .
12 ) خطر الدولة البوليسية اخطر من خطر الدولة الدكتاتورية : إذا كانت الدولة الدكتاتورية تتسم بسيطرة الجيش عليها ، فان الدولة البوليسية تتسم بسيطرة البوليس عليها كذلك . لكن الفرق ان الدولة الدكتاتورية غير مضمونة الاستمرارية ، لأنها دائما تكون مهددة بالانقلابات العسكرية ، او بالثورات الشعبية ، وهذا ما حصل في أمريكا اللاتينية ، وبالعالم العربي كالسودان التي تعرض لعدة انقلابات .
اما الدولة البوليسية المخفية ، فهي عادة ما توجه السير العادي للدولة البوليسية ، باستعمال الأدوات ( الديمقراطية ) ، كالبرلمان ، والجماعات المحلية ، وجمعيات المجتمع المدني ، كما تتحكم في الأحزاب والنقابات ، بما يُثمّن ويرسخ المناهج البوليسية ، المسيطرة ، والمتحكمة في المجتمع والدولة ، التي تكون قد سرقتها وبوْلستها ، بما يجعل المجتمع في خدمة البوليس ، وليس البوليس في خدمة المجتمع .
وكما ان الدول الدكتاتورية تسقط بالانقلابات العسكرية ، فان الدولة البوليسية تبقى عصية عن السقوط كدولة ، بالانتفاضات الشعبية ، كما حصل في مصر وتونس إبّان ( الربيع العربي ) . إن الذي ( سقط ) هو رئيس الدولة ، وبعض معاونيه ، وليس النظام الذي انتج الرئيس ، والبارع في إيجاد رئيس جديد يجسد استمرارية الرئيس المعزول .
وهنا يسألنا سر بقاء الدولة البوليسية المتحكمة في الوضع السياسي باوربة ، وعدم تعرضها للضغوطات الشعبية التي أطاحت في البلاد العربية ، برأس النظام ، دون النظام الذي انتج الرئيس .
ان سر استمرار الدولة البوليسية الاوربية ، انها تخضع للطبقة البرجوازية الفارضة لدكتاتوريتها ، مع الحرص على استعمالها لشعارات البرجوازية المتوسطة ، وما فوق المتوسطة ، إضافة الى ترويجها حتى لشعارات العمال والفلاحين ، وهي الشعارات التي تختفي ، بمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات ، حيث يصبح اول ضحية لممارسات دكتاتورية البرجوازية الاوربية ، هي الطبقات التي شاركت في العمليات الانتخابية ، الهادفة للحفاظ على بقاء واستمرار الوضع البوليسي للدولة البوليسية الاوربية . وهذا هو سر الاختلاف ، بين الدولة البوليسية الاوربية التي تعتمد الآليات الديمقراطية باسم الديمقراطية التي هي ديمقراطية الطبقة البرجوازية ، والدولة البوليسية العربية الخاضعة لدكتاتورية الحزب الوحيد حيث تطغى شخصية الرئيس كفرد ، على حساب باقي الطبقات التي تندمج في نظام بوليسي قهرا .
من خلال هذه المقدمة ، فان ما يوجد بالمغرب اليوم ، هو الدولة البوليسية ، بعدما كان الجيش والدرك ، هما من يتحكم في تحديد طبيعة ووظيفة الدولة ، أيام الجنرال محمد افقير ، الجنرال المدبوح ، الجنرال احمد الدليمي ...لخ
إذن السؤال الذي سنطرح لتوضيح نوع النظام السياسي السائد اليوم بالمغرب ، هو ، ما هو التكتيك السياسي الذي مارسه النظام تحت تغطية ما يسمى ب ( مسلسل التحرير والديمقراطية ) ، و ( العهد الجديد ) و ( المفهوم الجديد للسلطة ) ، ليصل الى بسط اليد على كل الدولة ، وليس فقط على النظام ؟
للإجابة عن هذا السؤال التساؤل ، يستلزم منا بالضرورة ، استحضار الاستراتيجية الدائمة ، المطابقة لطبيعة النظام كنظام مطلق عصي عن الإصلاح ، بل هو ضده ، ويجسد استمرار النظام كنظام بتريمونيالي ، اوليغارشي ، وكمبرادوري ، وبتريركي ، ساد في المغرب طوال قرون عدة ، ويمثل مصالح الطبقة الاقطاعية – الرأسمالية ، التي نمت وترعرعت في ظل التبعية والعمالة للإمبريالية .
فمنذ ان تمكنت هذه الطبقة من التحكم المطلق في مقاليد الحكم ، في السنوات الأولى من استقلال ( ايكس ليبان ) ، وضعت لنفسها استراتيجية دائمة ، يشكل عمودها الفقري : الاستغلال الفاحش للجماهير الشعبية ، مقابل اغتناءها ، هي ، المتزايد من خلال خدمة المصالح الأجنبية . ولقد ارتكزت هذه الاستراتيجية على محاور مستمدة من الأيديولوجية الاقطاعية ، والتي يمكن تلخيصها كالتالي :
1 ) الاستيلاء الكامل على السلط المكونة للحكم ، من تشريعية ، وتنفيذية ، وقضائية من طرف الملكية ، المعبر السياسي عن مصالح الطبقة السائدة ، وعدم السماح باي تنازل في هذا المجال .
2 ) اعتبار الملك الممثل الاسمى ( للامة ) ورمزها ، عوض الشعب ، لأن الهدف من الإيحاء باستعمال مصطلح ( الامة ) ، هو الانتماء الديني الذي يعكسه الدستور غير المكتوب ، بتمكين رئيس الدولة ليس كملك ، بل كأمير ، وإمام ، بسلطات استثنائية ، تطفو على السلطات والاختصاصات المنصوص عليها في الدستور الممنوح .
3 ) وكتحصيل حاصل للفقرتين الاولى والثانية أعلاه ، تسود النظرة التحقيرية ، والاحتقارية للشعب ، واعتبار جماهيره مجرد رعايا ، لا رأي لهم ، ولا دور في تسيير امورهم ، بل هم مجرد مادة للاستغلال ، وجب تنويمها ، وتخديرها ، وقمعها بشكل عنيف ، كلما عبرت عن سخطها ، او حاولت المعارضة الحقيقية ، الوقوف امام الطغيان والاستبداد .
4 ) عدم الاعتراف بالتنظيمات ، والأحزاب السياسية والاجتماعية ، كمؤسسات ذات تمثيلية ، بل واعتبار العلاقة مباشرة مع الشعب على حد تعبير النظام . أي دون المرور عن طريق الأحزاب .
5 ) ان هذه الاختيارات على الصعيد الداخلي ، تندرج في اطار الخدمة اللاّمشروطة لمصالح الامبريالية ، الحليف المصيري ، الذي دأب النظام على تنفيد كل رغباته ، سواء بالنسبة لاستنزاف خيرات البلاد وطاقاتها الاقتصادية والبشرية ، او على مستوى استعمال الموقع الاستراتيجي الهام ، الذي يتمتع به المغرب ، لتنفيذ المخططات السياسية والعسكرية للإمبريالية في المنطقتين العربية والافريقية ( الزايير ، اليمن ) .
وفي سياق توضيح معالم هذه الاستراتيجية العامة ، وجب التأكيد هنا على الطبيعة اللاّوطنية الدائمة للنظام ، فهو ، باعتباره ممثلا للطبقة الاقطاعية التي سادت خلال قرون عديدة ، ثم الطبقة الاقطاعية الرأسمالية في ( العهد الجديد ) ، فانه لم يستطيع حكم المغرب ، وبخاصة في مراحل ضعفه واندحاره ، في عهد الدولة العلوية على وجه التحديد ، لم يستطيع ذلك الاّ بالتحالفات مع الأجنبي ( فرنسا بالتحديد ) والخضوع له ، كما شهدنا من خلال التدخل الأجنبي في ظواهره التجارية والاقتصادية أولا ، ثم في شكله الاستعماري من خلال معاهدة الخيانة ( الحماية ) التي وقعت الملكية على عقدها ، لمواجهة ثورات القبائل البربرية بالأطلس المتوسط ، وبالريف ، وبجبالة في المناطق الثورية التي سموها بمناطق ( السّيبة ) ، أي المناطق الخارجة عن حكم النظام .
ومن اجل خدمة استراتيجيته العامة ، فليس للنظام من وسيلة ، والحالة هذه ، سوى العنف ، والقمع الهمجي الذي رفعه الى مستوى فلسفة في الحكم ، كما هو مشاهد اليوم ، حيث تأن السجون بزفرات الشباب القابع في زنازين النظام .
وإذا ما راجعنا سجل النظام منذ مجيء محمد السادس ، وليس فقط في عهد الحسن الثاني ، سنجده مليئا بأبشع صور القمع والإرهاب ، بدءاً بالمحاكمات الصورية ، بالملفات المطبوخة التي كنت انا ضحيتها ، وكان ضحيتها المناضلون التقدميون ، والديمقراطيون ، وطلاب المنظمة الطلابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ، إضافة الى مناضلي لقمة العيش والعيش الكريم . ففي حكم الحسن الثاني ، رغم ان القمع كان عاما ، الاّ انه لم يشهد سحل الناس ، ولا جلوسهم على القنينات والقارورات ، ولا سجن الاحداث بدعوى التظاهر ، وصولا الى أساليب الاختطاف ، والتصفية الجسدية ( مول الكرسي ... شهداء الحسيمة الذين تم احراقهم بوكالة بنكية ... الشارف ... هشام المنظري ... مول الصباط .... لخ ) مرورا بأساليب التعذيب والاكراه ، التي يمكن للنظام البوليسي ان يتباهى بها ، بانه ضمن الأنظمة الأكثر حذاقة في هذا الميدان .
وان نحن اردنا القيام بمقارنة بسيطة بين عهدين : عهد محمد السادس ، وعهد الحسن الثاني في مجال حقوق الانسان ، فإن عدد المسجونين في عهد محمد السادس ، اكثر بكثير عن عدد المعتقلين في عهد الحسن الثاني ، نظرا لاختلاف المدة الزمنية لحكم كل واحد منهما . لقد حكم الحسن الثاني سبعة وثلاثين سنة ، في حين لم يتعدى حكم محمد السادس العشرين سنة .
ومن البديهي ان يكون نظام له هذه الصفات ، وتلك الطبيعة ، محكوم عليه بالعزلة الدولية ، كما هي مشاهدة اليوم ، خاصة في ملف الصحراء ، وحراك الريف ( هولندة ) ، والتناقض التناحري مع الشعب .
ووعيا من النظام بهذه العزلة المترتبة عن طبيعته واستراتيجيته ( اوربة باستثناء فرنسا ، واشنطن ، روسيا ، السعودية ....لخ ) ، وبأن القمع والعنف ، وإن كانا يسمحان له بالبقاء ، فإنهما ينميّان أيضا تلك العزلة ، الداخلية والخارجية ، ويدفعان بها نحو الاستفحال والتعمق ، فأنه ينهج باستمرار ، ومنذ استقلال ( ايكس ليبان ) ، تكتيكا سياسيا متكررا ، واصبح مفضوحا ، سماه ويسميه ب ( الانفتاح ) ، يلجأ اليه ظرفيا كلما خنقته العزلة في الداخل ، او هددته في الخارج .
بهذا التكتيك المفضوح والكاذب ، يستهدف النظام من جهة ، طمأنة الدوائر الأجنبية التي تخشى على مصالحها ( فرنسا ) ، في ظل عدم استقرار الأوضاع ، وتنامي المد الشعبي بالشكل الذي يهدد تواجدها ، ويستجيب من جهة ثانية ، للتطورات الحاصلة في قاعدة النظام الاجتماعية ، والتي تطرح معادلة بين الأصول الاقطاعية العتيقة ، والتطلع للعصرنة والليبرالية ، ومن خلال ذلك ، اخضاع البرجوازية الوطنية وتحييدها من الصراع ، وكذلك سجن البرجوازية الصغيرة ، او على الأقل الفئة العليا منها ، في دور لا يمس بجوهر الهياكل الاقطاعية القائمة ، بل يسعى فقط الى ترميمها ، واصلاحها ، ومعارضتها معارضة بنّاءة ( الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة ) .
هذا هو التكتيك الذي مارسه النظام ، وكرره من خلال الانتخابات التي جرت منذ 1999 ، وبمناسبة هبّة حركة 20 فبراير التي افرغوها من المضمون ، وهي نفس اللعبة سادت بعد انقلاب القصر في سنة 2003 ، واستفراده اليوم بكل الحكم .
فكلما خنقته الازمة الموضوعية ، لجأ النظام الى محاولة التنفيس عن الوضع السياسي المتأزم ، من خلال اجراء انتخابات صورية ، او محاورة الأحزاب الملكية ، بحثا عن تسكين الصراع الاجتماعي / الطبقي ، الذي ينخر المجتمع من قدميه الى رأسه ، وضمان السلم الاجتماعي على حد تعبيره . وغالبا ما يكون انفتاحه هذا ، موازيا ، ومتزامنا مع قمع همجي ، يسلطه على الفئات والمناضلين الأكثر تجدرا وصلابة .
كما انه ، أي ما يسمى ب ( الانفتاح ) ، يتسم بالظرفية وقصر النفس ، إذ يعود النظام ، بعد فترة وجيزة يكون قد رتب فيها أوضاعه ، وربح شيئا من الوقت ، الى طبيعته الحقيقية العدوانية ، البسيكوباطية ، والسوسيو – باتيكية ، ليضرب كل توجه ديمقراطي ، من شأنه ان يمس بحكمه المطلق ، او يحقق مكتسبات إيجابية لصالح الجماهير .
هكذا وفي غياب الدستور الديمقراطي النابع من الشعب ، فان النظام لا يتردد في تنظيم انتخابات صورية ، لتشكيل برلمان هو برلمانه ، وحكومة هي حكومته ، وهذا ليس له من تفسير ، غير ان النظام لا يرغب ، ولا يرى مصلحة في الديمقراطية الحقيقية ، بل اكثر من ذلك ، إنه عاجز بنيويا ، وبحكم طبيعته ، على تحقيق الديمقراطية والليبرالية المزعومة .
وإذا كان هناك من يراهن على ان النظام البتريركي ، البتريمونيالي ، الكمبرادوري ، والالوليغارشي ، سيتطور من ذات نفسه ، نحو أوضاع تشابه الملكيات الاوربية ، فان ذلك يبقى من باب الوهم الصرف ، ذلك ان الديمقراطية البرجوازية لم تتحقق تاريخيا ، الاّ بعد تنازل الملكية عن الجزء الأساسي من سلطتها ، لصالح المؤسسات البرجوازية ، واقتصارها على دور رمزي في النظام . بل ان هذا التنازل نفسه ، لم يتم طواعية ، بل جاء نتيجة نضالات بطولية ضاربة ، وتضحيات جسام ، قدمتها الجماهير الشعبية ، من اجل هزم الاقطاع والاستبداد .
فإذا كان النظام ، لا يقبل بالملكية البرلمانية على الطريقة المغربية ، التي يدعو اليها كل من الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة ، فكيف سيقبل بالملكية البرلمانية على الطريقة الاوربية ؟ شيء لا يصدق ، ولا يتصوره الاّ مغفل ، او فاقد للتمييز .
ان النظام السياسي الحاكم اليوم في المغرب ، لا ، ولن يقبل اي تنازل عن ادنى جزء من السلطة الفعلية . فنظرته للمؤسسات المنتخبة ، وفية كل الوفاء لأيديولوجيته الاقطاعية . ان النواب بالنسبة اليه ، مجرد خدام ، والمؤسسات لا يجب ان يتعدى دورها تطبيق سياسته ، والاجتهاد في تحسينها وخدمتها ، وهي في نفس الوقت ، أجهزة لدعم مشروعيته وتكريس ( البيعة ) له بالمفهوم العتيق للكلمة .
هنا يكمن التفسير الحقيقي للحلقة المفرغة ، من جميع التجارب الانتخابية الصورية ، التي لا يحق بنا ان نتناولها من زاوية التجارب الديمقراطية ، بما تحمله هذه الكلمة من دلالة ، بل من زاوية التكتيك السياسي ، المسمى ب ( الانفتاح ) ، والذي تفرضه على النظام ، نتائج سياسته اللاّشعبية من جهة ، وكفاحات الجماهير الشعبية من جهة ثانية

13 ) رغم تدمير الدولة القمعية لكل القيم ، ومع ذلك تستمر في الهروب الى الامام : في الجزء اعلاه ، ومن خلال المقارنة بين الدولة القمعية في المغرب ، حتى لا نقول المغربية ، وبين الدولة البوليسية في اوربة ، رأينا كيف ان الدولة القمعية في المغرب تخرب وتدمر ، ولا تبني وتعمر ، ورأينا مناهجها واصولها في الاستئثار بالدولة ، ومنها الاستئثار بالثروة ، مع الاجتهاد في ابتكار آليات وميكانيزمات ، لخنق احرار وشرفاء الشعب ، الفاضحين والمقاومين لأصولها البدعية ( بدع ) ، وممارساتها الفاشية المقيتة .
وفي المقابل ، رأينا كيف تختلف عنها الدولة البوليسية الاوربية ، التي تبني وتعمر ، ولا تخرب وتدمر ، كما رأينا كيف ان الدولة البوليسية في المغرب ، تركز على مصالحها من خلال مصالح الشخص ، وليس النظام ، وبخلافها ، كيف تركز الدولة البوليسية الاوربية على الطبقة ، ومن خلال العلاقة بين مختلف الطبقات التي تُكوّن المجتمع ، تكون الدولة البوليسية الاوربية دولة الشعب ، وليس فقط دولة طبقة ، حيث ومن خلال اللعبة التي تتحكم فيها الدولة البولسية ، يمكن للأغلبية ان تحكم ، ويمكن للأقلية ان تعارض ، ويمكن للأكثرية ان تصبح اقلية ، والأقلية تصبح أكثرية ، وهكذا يستمر المسلسل في ضبط التوازن الطبقي ، بما يحول دون تغول طبقة على أخرى .
اما الدولة القمعية في المغرب ، ومن خلال قهرها للشعب ، ومن خلال تظاهرها بخدمة الشخص اكثر من خدمة النظام ، وهي في الحقيقة تخدم مصالحها ، تصبح الدولة البوليسية والشخص في واد ، ويصبح الشعب في آخر . وعندما يتعمق الظلم ، وتتوسع دائرة الاعتداءات المتواصلة والمختلفة ، وفي ظل الخنق والضغط ، يصبح للشعب حل واحد لا اثنان ، هو مغادرة البلد بمختلف الطرق المشروعة وغير المشروعة . فالهجرة المكثفة والكثيفة ، هي هروب من القمع ، ومن الاستبداد ، والطغيان ، وهروب من الفقر المسلط على الشعب ، أي هروبا من الدولة البوليسية .
وعندما يختزل الشعب المواجهة في الهجرة كحل ، يكون الشعب بمن يدين الدولة البوليسية التي تخرب وتدمر ، ولا تبني وتعمر . ودرجة الخطورة ، وفي غياب البديل للتنفيس عن السخط ، بسبب عقم وشح الدولة البوليسية ، هل يمكن تصور دولة بدون شعب يتطلع للهجرة ؟
وإذا كانت الدولة البوليسية الاوربية ، تعوض عن فشلها باللجوء الى القواعد الديمقراطية ، التي تتحكم في توجيهها الدولة البوليسية نفسها ، بحيث يمكن استعمال الانتخابات لتنزيل العقاب على جماعة ، وتمكين جماعة أخرى من تجريب حظها ، بحيث يشعر الانسان الأوربي بنوع من التغيير الذي يشفي غليله ، ويُلطّف هدوءه ، لتجنب أي سخط شعبي قد يتحول الى ثورة ، فان ما يعرف عن الدولة البوليسية في المغرب التي تتحكم في الانتخابات ، وتصنع البرلمانات ، وتشكل الحكومات ، وتنشئ الأحزاب والنقابات، لتجسيد استمرارية الاستبداد ، المجسد في تركيز الدولة في شخص الشخص ، اكثر من تجسيدها في نظامه ، بحيث يعتبر الحاكم نفسه هو الدولة ، والدولة هو ، انها بتصرفها الأرعن والغير المحسوب النتائج ، لأن عقلها متحجر ، وثقافتها ، فقط القمع والاذلال ، هو انّها تصنع من حيث لا تدري ، معارضتها الشعبية ، فتكون بمن يجعل صورة الحاكم الذي يستبد بجميع السلط ، كريهة في نظر الشعب ، فتصبح البلاد مقبلة على جميع الاحتمالات ، كالطوفان ، او الدخول الى المجهول . وما موجة الفرار ولا أقول هجرة او تهجير الى اوربة ، ورفع شعارات التخلي عن الجنسية ، واحراق الراية ......لخ ، الاّ دلالة بسيطة عن موجة التسونامي التي تختمر ، وتتحضر في قلب المجتمع المغربي .
ومع ذلك وبدون خجل ، وامام فشل الدولة البوليسية في المغرب ، فلكي تتهرب من المسؤولية ونتائجها ، بما فيها الجنائية ، فهي تلجأ الى حل تتقنه بامتياز ، لأنها جبانة ، ولا تقدر على المواجهة ، هو حل الهروب الى الامام ، لخلط الأوراق ، قصد ضمان بعض الوقت لاستمرارها في النهب ، وفي افساد المجتمع ، والدفاع عن الاستبداد ، لأنه رحيقها ، وروحها الذي لن تستطيع العيش بدونه .
14 ) وتستمر الدولة القمعية الفاشلة في سياسة الهروب الى الامام : الدولة القمعية في المغرب ليست هي الدولة البوليسية في أوربة . الدولة القمعية في المغرب تقتات فقط من القمع الذي هو رحيق حياتها ، في حين نجد الدولة البوليسية في اوربة ، رغم انها تسيطر على المجتمع بكل تفاصيله ، وتجاذباته ، وتتحكم في توجيه اللعبة الديمقراطية بما يكفل لجميع الطبقات المشاركة في التسيير ، فإنها بذلك تعتبر دولة الشعب ، لان الشعب هومن يشارك في رسم وتأثيث الديمقراطية الغربية ولا ادل على ذلك ، فان كل شيء مُختلف حوله ، يتم احالته الى الاستفتاء الشعبي ، وهذا يجسد المقولة الشهيرة التي يتغنى بها الدستور الممنوح في المغرب ، وهي غير موجودة أصلا ، بان الشعب هو مصدر السلطات ، أي مصدر الحكم يباشره من خلال ممثليه بالمؤسسات التمثيلية ، ومن خلال الصحافة ، والرأي العام الذي له وزنه المُعتبر . في حين تبقى الدولة البوليسية في المغرب ، بسبب ممارساتها القمعية التي تجيدها بإتقان ، في واد والشعب في آخر .
فعندما يرفع المواطنون شعارات من قبيل " الشعب يريد اسقاط الجنسية " ، " الشعب يريد الهجرة " ، " حرق علم الدولة " ، " رفع علم دولة اجنبية " .... لخ ، فهذا دليل على ان الدولة القمعية ، لا علاقة لها بالشعب ، الذي تستضعفه ، وتهينه ، وتقمعه ، وهو ما يستنتج منه ، ان البلاد معرضة لجميع التحولات ، بما فيها الطوفان ، او الدخول الى المجهول . وتبقى هذه الحالي قائمة ، طالما ان ميكانيزمات الدولة البوليسية في القمع لم تتغير ، كما يبقى مستوى ودرجة كره المجتمع للدولة البوليسية في تصاعد إيجابي .
لذا رغم فشل الدولة القمعية في بناء التنمية ، لأنها ليست مؤهلة لذلك ، بسبب افتقارها لروحها ، فهي تواصل الالتفاف على الوضع ، معتمدة في ذلك على عامل الوقت الذي قد يأتي بمفاجئات لم تكن منتظرة ، كما تراهن على العياء ، والملل ، والإحباط ، لتواصل سياستها القمعية ، ولتستمر في السيطرة على المجتمع ، ومنه على الدولة بقرتُها الحلوب .
ان مثل هذا التكتيك الظرفي ، لأنه ليس بأزلي ولا بأبدي ، لان الصراع تموجات ، وكر وفر ، بتأثيرات داخلية وخارجية ، استعملته الدولة البوليسية ، مع حركة 20 فبراير ، مع المطالب بالإصلاح الدستوري ، كما استعملته في حرب الصحراء منذ التوقيع على وقف اطلاق النار في سنة 1991 ، وتستعمله في الاقتطاع من أجور الموظفين بدعوى اصلاح أنظمة التقاعد ، وفي الحوار مع ( النقابات ) بخصوص الملف الاجتماعي ، وهي ( النقابات ) التي تواطأت مع الدولة البوليسية في الاجهاز على صناديق التقاعد ، والمقاصة ، وتدعيم الدولة البوليسية باسم الحفاظ على السلم الاجتماعي ، الذي يحفظ مزايا ومصالح الدولة البوليسية ، ويجهز على القوت اليومي للعمال ، والاجراء ، والموظفين ، والمستخدمين ، والشعب ...لخ .
وبالرجوع الى التاريخ القريب ، للاستشهاد وتأكيد تعويض الدولة البوليسية فشلها بسياسة الهروب الى الامام ، انّ حركة 20 فبراير التي بزغت بشكل غير منظم ولا مؤطر ، ورغم رفعها لشعارات فضفاضة ، فرغم خسارتها ، وطابعها الظرفي العفوي ، فهي كانت تدشينا لتطور جديد لنضال الجماهير الشعبية ، وقواها الديمقراطية ، والجماهيرية ، لأنها عرّت في آن واحد ، هشاشة شعار ( العهد الجديد ) ، و ( المفهوم الجديد للسلطة ) ، أي هشاشة ما اعتبر انفتاحا وطابعه النخبوي من جهة ، وإدانة الجماهير لهذه الشعارات التي كانت تنطق بمعكوس ما تم الترويج له كذبا وبهتانا ، أي ادانة جماهيرية لهذا الانفتاح الذي لم يكن انفتاحا أصلا ، ولكنه كان لعبا على الوقت ريثما يتمكن النظام ، فترجع حليمة الى عادتها القديمة .
هكذا سنجد ان حركة 20 فبراير ، رغم طابعها الإصلاحي ، وشعاراتها الفضفاضة ، فقد فجرت ما تم الترويج له منذ سنة 1999 ، بالإجماع المزيف المفروض من فوق ، كما عرت حقيقة الديمقراطية المحمدية ، التي لم تكن في الأصل الاّ استمرارا ، وامتدادا للديمقراطية الحسنية من جهة ثانية . و انه رغم الطابع العفوي للحركة ، وغياب الشعارات الثورية ، واستمرار الهيمنة الإصلاحية التحريفية على موقع التقرير والتعبير ، لم يكونا ليسمحا بتطويرها ، وتصعيدها ، وتجذير نفسها النضالي ، لكنها مع ذلك فقد وضعت النظام مجددا امام ازمته الدائمة .
ولمحاولة اخراج نفسه من هذه الورطة الحقيقية ، لم يكن للدولة البوليسية من سبيل آخر ، غير نهج سياسة الهروب الى الامام ، مجسدة في المحاور التالية :
1 ) انتزاع المبادرة السياسية من جديد ، وفي غياب صوت الجماهير ، لمسألة السيادة الوطنية ، وتوظيفها داخليا على غرار ما عمل في منتصف سنة 2003 ، سواء لتبرير القمع الداخلي ، بالانقلاب على الشعب ، او لطمأنة الجيش الذي صدر قانون يحميه من اية متابعة قانونية ، او جنائية اثناء تنفيذ الأوامر ، والتعليمات الفوقية ضد الشعب . ومن ناحية ثانية ، محاولة النظام الفاشلة لفك عزلته الافريقية ، عندما صداق البرلمان ، واثناء غياب الحكومة ، على القانون الأساسي للاتحاد الافريقي ، الذي يلزم اية دولة تريد الانضمام الى الاتحاد ، ان تعترف بجميع الدول التي تكونه ، وتعترف بالحدود الموروثة عن الاستعمار . هكذا وباعتراف النظام بالقانون الأساسي للاتحاد الافريقي ، يكون قد اعترف بالجمهورية الصحراوية ، وفي غياب الشعب الذي لم يستشار في هذا الاعتراف المتعارض مع قسم المسيرة ، ومع أرواح الجيش الذي سقط في الصحراء .
2 ) بعد شعور النظام ، بسبب اخطاءه المتراكمة في قضية الصحراء ، وبسبب ملف الديمقراطية وحقوق الانسان ، بالعزلة الشعبية الداخلية ، وبالعزلة الدولية ، خاصة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب الامريكية ، وموقف الدول الكبرى المتشبث بحل الاستفتاء وتقرير المصير ، عمق روابطه مع الامبريالية الفرنسية ، التي رغم انها تسير على نفس منوال الدول الكبرى في قضية الصحراء ، فإنها تغمض العين عن انعدام الديمقراطية ، خروقات حقوق الانسان المختلفة ، ومن خلال الظهور بمظهر المساند لسياسة النظام القمعية والتجويعية ، مقابل مصالح اقتصادية مختلفة ، تتمتع بها فرنسا من معيش الشعب المغربي الفقير والمفقر .
3 ) تقليص رقعة النشاط السياسي ، والنقابي ، والجمعوي الجاد. وهنا ، فبعد تحويله الأحزاب والنقابات الى مجرد صدف فارغة ، تقتات من فتاة مائدة النظام ، نجحت الدولة البوليسية في تجميد الساحة الداخلية عبر تصعيد القمع ، والاختطافات ، والمحاكمات ، مقابل الحفاظ على واجهة نشاط سياسي فولكلوري مفضوح ، يحفظ ماء وجه الديمقراطية المحمدية ، الأكثر تحريفا من الديمقراطية الحسنية . لقد بلغ السيل الزبى واكثر ، حين بدأت الدولة البوليسية تطلق النار على المواطنين وتقتلهم ، وحين شرعت في هدم المساكن فوق رؤوس ساكنيها ، دون ان يعوزها ضمير ، او أريحية إنسانية .
هكذا رغم نجاح الدولة البوليسية في قمع المجتمع ، فهي نجحت من حيث لا تدري ، وهي مشكورة على ذلك ، في خلق معارضة شعبية لها ، بحيث الشعب في واد ، والدولة البوليسية في آخر ، وهو ما يسهل اندلاع أي احتجاج شعبي ، قد يتحول الى طوفان يقضي على الأخضر واليابس .
4 ) تحول الدولة القمعية الى دولة متسولة ، حيث ان التوظيف الفاشل لكل هذه الخدمات ، وبما فيها ملف الهجرة ، جعل منها تتسول المساعدات ، والهبات المالية ، والقروض ، للتنفيس عن ازمتها العامة خاصة الاقتصادية ، ولخلق نواع من الرواج المالي لدر الرماد في الاعين ، بان هناك اقتصاد يفعل ، ودولة تعمل . ان ابتزاز الدولة البوليسية للمجتمع الأوربي ، في ملف الهجرة ، مقابل الحصول على الدولار ، غني عن أي تعريف .
ومن خلال التحليل العميق والدقيق ، فإننا نستخلص ان كل هذه المحاور المتداخلة والمترابطة ، كما هو واضح ، عاجزة عن حل مشاكل النظام ، المستعصية عن الحل بشكل حاسم ونهائي . لكنها تسمح له بربح بعض الوقت لإعادة ترتيب أوضاعه المستفحلة ، لمحاولة استرجاع المبادرة والتحكم فيها ، باستعمال آليات القمع البوليسي المختلفة .
ان هذه التوجهات تجسد كما برز منذ منتصف 2003 ، حقيقة أساسية ، وهي ان النظام – فضلا عن استراتيجيته العامة الواضحة -- ، يعيش على الحلول الظرفية القائمة على ربح الوقت ، واجترار الوضع . فهو واع تمام الوعي لقصر نفس تلك الحلول ، خاصة عندما تتعلق بالوضع الاقتصادي / الاجتماعي الأكثر من متأزم . فما يهم الدولة البوليسية ، هو كبت النقمة الشعبية المتصاعدة عبر ارجاء كل الوطن ، وتعطيل وإبعاد أسباب الانقلاب العسكري ، عند وصول الاحتقان السياسي درجات اكثر من متقدمة ، بحيث تصبح مصالح فرنسا اكثر من مهددة .
أي ان انقاد النظام كنظام هلامي ، وضمان استمراره بالقمع المسلط ، هما الهاجس اليومي للدولة البوليسية ، ولا يهم بعد ذلك ان يتحول المغرب الى محمية فرنسية جديدة ، او بقي خرابا وأنقاضا .
لكن رغم كل الاعيب الدولة البوليسية ، ومكرها المجسد في سياسية الهروب الى الامام ، فهي إن تركت للنظام عنصر المفاجأة ، والمبادرة ، وتسمح له بتغيير مواقفه بالسرعة والدقة المطلوبتين ، فإنها مع ذلك لا تخلو من المغامرة والمخاطرة .
فسياسة من هذا القبيل تستلزم بالضرورة حصر دائرة القرار، وتضييقها ، وتشخيص القرار نفسه ، وبالتالي ، هذا يحرم النظام نفسه من دعم فعال واع ومستمر ، من جانب نخبته السياسية التي تجد نفسها في ظل غياب الرؤية حتى على المدى الطويل ، في حالة تردد وقلق دائمين . وهذا ما يجعل خطة النظام ، بسبب خطط الدولة البوليسية المقيتة ، مهيأة لان تنقلب عليه في أي وقت وحين ، خاصة وانه موضع تساؤل لدا القوى الامبريالية نفسها ، الغير مُستعدة للتخلي عن المغرب البلد ، لا النظام الذي اضحى معزولا دوليا .
ان خطورة مأزق النظام ، خاصة في الملف الاجتماعي / الاقتصادي ، وملف حقوق الانسان ، وملف الديمقراطية ، ثم ملف الصحراء ، لم تترك امامه خيارا آخر ، غير البحث ومن جديد ، عن اكتساب الوقت الذي اصبح همه الدائم ، وهاجسه اليومي .
في هذا الاتجاه ، تم تطبيق تعليمات البنك الدولي بالحرف ، كشرط للحصول على الديون والتسهيلات الجديدة ، مستعملا حزب العدالة والتنمية ، ككمبراس في عملية تفقير الشعب ، والاجهاز على قوته اليومي . لكن امام التصاعد النضالي الجماهيري المختلف ، فإن هذه السياسة ، ستسبب في هزات اجتماعية عنيفة ، ومحكوم عليها بالفشل .
فهل ستنجح سياسة الدولة البوليسية في الهروب الى الأمام ، من تجنيب المغرب ، هزات اجتماعية عنيفة على الأبواب ؟


15 ) المغرب الى اين : بعد كل ما اضحى عليه الوضع اليوم ، من تأزم شمل كل القطاعات والمرافق ، ويهدد بالسكتة الدماغية الأكثر من السكتة القلبية ، حيث بكثرة الظلم المستشري ، بدأ المواطنون يطالبون بإسقاط الجنسية ، وهي دعوة للتحلل من اية علاقة بالدولة القمعية ، وبرفع علم دولة اجنبية ، وبالزطمة بالأرجل على راية الدولة ، ويحرقون جوازات السفر ، ويتوجهون زرافات وقطعانا للانتحار في البحر، هربا من بلدهم الذي ينعم بخيرات وفيرة لا يستفيدون منها ، و تستفيد منها اقلية وتُحرم منها الأكثرية . هذا ناهيك عن اشعال الناس النار في أجسادهم، وهدم مساكنهم فوق رؤوسهم وتركهم عرضة للمبيت في الخلاء .
امّا عن الوضع الخطير الذي توجد فيه الصحراء ، فهو ينذر بعواقب ستكون لها نتائج كارثية ، ستأتي على الأخضر واليابس . فضياع صراع منذ سنة 1975 ، سيسائل المسؤولين عن هذه الضياع الذي يعود الى الارتجال وفقدان البوصلة ، والتيه في رمال الصحراء بدون بوصلة .
لقد مرت موجه حركة 20 فبراير ، ورغم انها لم تحدث تغييرا في المؤسسات السياسية ، ولم تنجح في دمقراطية النظام بما يربط المسؤولية بالمحاسبة ، فإرهاصاتها لا تزال تتفاعل في الساحة ، كما ان احياءها وبأشكال مختلفة ، تبقى مطروحة في الحسابات السياسية لكل الفاعلين الديمقراطيين ، وهو ما يعني ، ان أسباب بزوغ حركة جديدة قد تتقمص عناوين جديدة ، هي متوافرة بالشكل الأكثر من المطلوب .
ولنا السؤال : كيف سيكون الوضع إذا استمر الازمة في التفاقم ، وهي ستستمر كذلك ، بسبب سياسات النظام التي تنفخ فيها ؟
كذلك كيف سيكون الوضع ، وامام استفحاله وتأزمه اكثر ، عند ذهاب الصحراء ، وانفصالها عن المغرب ؟
كيف ستكون نفسية المغاربة الذين ضحوا بأموالهم ، وارواحهم ، وعلى حساب تربية ابناءهم ، عندما يشاهدون القرارات الأممية تشرعن انفصال الصحراء ؟
كما كيف سيكون وضع الجيش النفسي ، وهو الذي دافع ورابط في الصحراء منذ سنة 1975 ؟
ان المحددات التي تناولنا وتعرضنا لها في أربعة عشر دراسة سابقة عن تغول وانقلاب البوليس على الدولة ، وسرقتها في نهار قهّار، وليس في ليل بهيمي ، والتي أصبحت تتحكم في سياسة النظام وتكتيكاته من جهة ، وتعمق وتناقضه مع الجماهير الشعبية ، حيث هو في واد ، وهي في آخر من جهة ثانية ، هي التي تطرح علينا وامامنا ، معالم تطور الأوضاع المستقبلية ، وتسمح لنا ليس بالتنبؤ او التخمين ، لكن بالتأكيد على الحقائق والاحتمالات الواقعية الآتية :
--- أولا . ان الأسباب الهيكلية ، والدوافع الموضوعية الاقتصادية / الاجتماعية منها والسياسية ، التي أدت الى تفجير سخط الجماهير في كل ربوع المغرب ، وتذمرها ، واقبالها على الانتفاضة والاحتجاج ، والدفاع عن لقمة العيش والكرامة ، لا تزال قائمة وحاضرة ، بل أضحت بشكل اكبر واجدر ، بسبب السخط الجماهيري الوليد عن الارتفاع المهول للأسعار ، الذي ضرب بشكل مباشر القوت اليومي للشعب ، وبسبب غياب المرافق الاجتماعية ، من مدرسة ، ومستشفى ، ودور حضانة ، ورعاية اجتماعية ، مما حذا بالمواطنين الى قصد سبل الهجرة الغير الشرعية ، هروبا من جحيم الازمة المقصودة من النظام .
وبما ان النظام ، بسبب الدولة البوليسية التي سرقته وكبّلته ، حيث تأكل الثوم من فمه ، اضحى عاجزا عن إيجاد حلولا جذرية لمثل هذه المعضلات المفتعلة ، لا آنيا ولا في المنظور المتوسط ،،، فإن دوافع السخط الجماهيري ، تظل قائمة بامتياز ، وبالتالي تبقى شروط الانتفاضة الشعبية ، فارضة نفسها في سيرورة الصراع الدائر بين الدولة البوليسية سارقة النظام ، وبين الشعب .
ان الخطورة الفارضة لنفسها في هزة شعبية عنيفة مفاجئة، وبخلاف الهزات السابقة التي عرفها المغرب طيلة تاريخ الهزات الجماهيرية ، انها سوف لن تكون مُؤطرة كما حصل في الماضي ، بل ستأتي عفوية من صنع الجماهير ، لا من توجيه الأحزاب التي تحكمت في انتفاضات 1965 ، و 1981 ، و 1984 ، و 1990 ، وافشلت مشروع حركة 20 فبراير رغم اصلاحيته التي لم تكن تتجاوز مطالب برجوازية ، واضحت اليوم عبارة عن صدف فارغة .
لكن هذا لا يعني ان اية انتفاضة من دون تأطير وتحكم حزبي ، ستخرج عن ضفافها المرسومة ، بل ان القيادات الجماهيرية التي ستخلف الأحزاب الصّدفيات ، ستنبع من قلب الجماهير . ان شباب المغرب اليوم ، بالبوادي ، والمداشر ، والقرى ، وبمختلف المدن ، يحمل شواهد الجامعات ، ويمتلك وعيا متقدما يجعل من قبيل المستحيلات ، غبنه او تعويمه كما كان يحصل في السابق . ولنا ان نطرح السؤال : كيف يمكن تصور الوضع ، إذا تكررت انتفاضة الدارالبيضاء في يونيو 1981 ، او احداث الشمال في يناير 1984 ، او انتفاضة مارس 1965 ، بنفس الحدة ، وبنفس الحجم والقوة والتنظيم ، في كل المغرب ؟
ان حصل مثل هذا التوقع وشروطه متوفرة ، فهذا يعني للدولة ( ألْكاوْ ) . فمن جهة لا يمكن لها ان تواجه شعبا اعزل يطالب بالحقوق والمساواة وبالعدل ، ومن جهة لا يمكن للدولة البوليسية ان تكرر المجازر السابقة ، بإطلاق النار على الشعب ، لأنها ستكون بمن ينتحر عن طيب خاطر ، ومن جهة ، العالم اليوم ، وبفضل فضاءات التواصل الاجتماعي أ اضحى اقل من قرية صغيرة ، ومن جهة لا يمكن للأمم المتحدة ، ولا لمجلس الامن ، كما لا يمكن لواشنطن ولدول الاتحاد الأوربي ، وللمحكمة الجنائية الدولية ، التزام الصمت إزاء إبادة جماعية للشعب من قبل الدولة البوليسية ، ومن جهة ، سيعجل أي تحول تتسبب فيه انتفاضة شعبية عارمة في كل المغرب، بتسهيل ذهاب الصحراء الغربية .
ان مشكلة المغرب اليوم ، وفي ظل الغياب المستمر للملك ، ان مسألة من يتولى الحكم ، اضحى عاجزا عن الاستمرار في لعب نفس المسرحية المفضوحة ، التي عنوانها الاستئثار بالحكم ، وبالجاه ، والنفوذ ، والاثراء بدون سبب . لقد أوصل هؤلاء النظام الى الباب المسدود ، بحيث لم يبق امامه غير التفنن في ابتكار اشكال جديدة في القمع ، لا تثير حفيظة الدول الديمقراطية ، والمحكمة الجنائية الدولية ، كما حصل في حراك الريف وحراك جرادة ، وفي استيعاب وامتصاص ، مطالب حركة 20 فبراير ، والالتفاف عليها .
--- ثانيا . امام وضع كهذا ، حيث الأفق مغلق والمستقبل منعدم ، ليس للدولة البوليسية التي سرقة النظام ، ومنه سرقت الدولة و وحولتها الى بقرتها الحلوب ، سوى الاستمرار في ممارسة القمع و الإرهاب ، والتنكيل بالمعارضين الديمقراطيين والتقدميين ، وفاضحي فسادها الذي أزكم الانوف ، بل ممارسة القتل والتشريد في حق شرفاء واحرار الشعب المغربي ، كسياسة ومنهج في الحكم البوليسي .
ومع افتضاح شعارات أكاذيب " العهد الجديد " ، " المفهوم الجديد للسلطة " ، " ملك الفقراء " ، ومع افتضاح خواء الديمقراطية المحمدية ، وحكم الشعب عليها بالافلاس ، وتعريتها بشكل نهائي امام الرأي العام الداخلي والخارجي ، والاستمرار في تأبيد اشكال العبودية عند افتتاح البرلمان في الجمعة الثانية من شهر أكتوبر من كل عام ، وعند أداء فرائض وطقوس البيعة عند جلوس الملك على كرسي الحكم .... ، فان الدولة البوليسية ستزيد من تشددها ، رغم انها تنتحر في قمع الحريات الديمقراطية ، وتضييقها الخناق على المنظمات الجماهيرية ذات المصداقية الحقيقية وسط الجماهير ، وتسليط عصا القمع الغليظة على المناضلين التقدميين والديمقراطيين المخلصين . هذا مع العلم ان مأزق الصحراء ، ودخولها النفق المسدود المهدد بالانفصال ، سيزيد تعمقا وستزيد معه استنزاف الحرب القادمة ومستلزماتها .
وإذا كان القمع المنهجي ، سيسمح للدولة البوليسية بالاستمرارية والتحكم المؤقت في الأوضاع المضطربة ، حيث المغرب يغلي كطنجرة قد تنفجر في كل وقت وحين ، فان سلاح القمع والارهاب يكون في حد ذاته ذو حدين لا محالة ، لأنه يبرز طبيعة النظام والحكم المطلق الموغل في الطغيان والاستبداد ، ويعمق من جهة إيجابية ، من عزلته الشعبية ، وكرهه المقيت من قبل الشعب ، كما يقلص من شعاراته الجوفاء الكاذبة ، ويفرغها من أي مضمون ، إنْ كان لها ذلك لدى القوى الامبريالية ، خاصة الاوربية ( هولندة ، الدول الاسكندنافية ، بريطانيا العظمى ، المانيا ، اسبانيا والولايات المتحدة الامريكية ) ، وبالتالي فانه لا يعمل سوى على رفع التناقض الأساسي الى مستويات اعلى مع الشعب من جهة ، ومع الدول الديمقراطية من جهة أخرى ، فيزيد كل ذلك من ضعف الدولة البوليسية ، ومنها ضعف النظام رغم مظاهر ( القوة ) التي يحاول الظهور بها ، فالنظام ليس قويا اليوم ، بل قوته يستمدها من فراغ الساحة كليا ، من المعارضة الجذرية والراديكالية ، ومن الحركة النقابية الجادة والملتزمة .
فمن خلال تحليل وضع النظام بالمقارنة الى ما كان عليه وضعه في الستينات والسبعينات والثمانينات ، فهو يعيش عزلة دولية ، لان الدول الديمقراطية لم تعد تعره ، ولا تعر رأسه اية أهمية ، وعزلة داخلية ، بسبب سيادة الطغيان والاستبداد بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الاستبداد المغربي قبل الاستبداد الشرقي . وهذا يفسر ان كل شروط التغيير الجذري اليوم متوفرة وبكميات أوفر . النظام لا ولن يستطيع اطلاق رصاصة واحدة ، ضد الشعب عند نزوله الى الشارع للدفاع عن كرامته شرفه ، تاريخه ، اصوله ، حقوقه ولقمة عيشه .
--- ثالثا . ان هذا الوضع الخطير الذي يوجد فيه وعليه المغرب اليوم ، بفعل دكتاتورية الدولة البوليسية الفاشية ، يفتح امامنا توقع إمكانية التدخل الامبريالي في الصراع الداخلي ، وان غياب الملك المستمر ، وتعدد مصادر ( القرار ) اللاّقرار في الدولة ، قد يطرح احتمالاً خطيراً ، اصبح يلوح في الأفق اكثر من أي وقت مضى . ذلك ان واشنطن ، وباريس ، وتل ابيب ، ولندن ، ومدريد عواصم مهتمة بالوضع الاستراتيجي للمغرب البلد ،وليس للمغرب النظام ، تعي خطورة الوضع القائم ، وتنظر بعين الحرص والانتباه ، الى مصالحها الضخمة بالمغرب ، استراتيجيا ، واقتصاديا ، وسياسيا . ومن هنا ، فإنها لن تتردد في استعمال سلاح الانقلاب العسكري ، في حالة قيام انتفاضة شعبية عارمة ، تعم كل المغرب ، وتسهم في حالة انفلات امني ، من يد عملاءها المحليين الحاليين ، وتململ ميزان القوى ، لصالح الجماهير الشعبية ، وقواها الثورية التي ستنبثق من قلب التسونامي الشعبي الجماهيري المغربي ، وذلك لاستدراك الوضع ، ومحاولة اجهاض الثورة الوطنية والديمقراطية المحتومة ، وقطع الطريق ، على أي تطور جذري يفلت زمام المبادرة من بين ايديها ، ويمس بمصالحها الأساسية في المغرب البلد ، وليس المغرب النظام . وهنا لا بد من التذكير بما سبق ونشرته اكبر صحيفة إسرائيلية جيروزاليم بوست ، عندما وصفت الملك ب " الشخص الافتراضي " ، وعندما رفض الرئيس الأمريكي لقاء الملك ، وما ردده سفير فرنسا عن المغرب بالأمم المتحدة ....لخ .
والجذير بالذكر هنا ، ان البرجوازية الكمبرادورية اللصيقة بالنظام الذي يدافع ويضمن مصالحها المضطربة ، خوفا على حاضرها ومستقبلها ، وفي غياب مخارج سياسية بديلة ، فهي أكيد ستنقلب على النظام ، لتشكل القاعدة الاجتماعية لأي مشروع امبريالي / انقلابي ، وخاصة وانها مهيأة اكثر من غيرها ، لضمان مصالح الامبريالية وصيانتها ، بحكم ارتباطها المصيري والعضوي بهذه المصالح الحيوية .
فان تدخلت القوى الامبريالية الخارجية بحكم ارتباطها بالصراع ، فالسؤال الذي يبقى عالقا : هل التغيير سيكون لفائدة الملكية البرلمانية ، ام سيكون لفائدة الجمهورية البرلمانية ؟ ان لكلا النظامين اتباع ، ومريدين ، ومناصرين ، وممثلين محليين .
--- رابعا . ومع وضعية غليان شعبي كهذه ، وتعمق السخط والتذمر الشعبي بفعل طغيان وتجبر الدولة البوليسية الفاشية ، وغلبة اليأس والانهزامية لدى العديد من الأوساط ، قد تبدو التربة خصبة وسانحة للمغامرة المسلحة ، بدعوى المقاومة في المرحلة النهائية من الانتفاضة الشعبية . وربما وفي سباق محموم بين هؤلاء وبين عملاء الامبريالية الجدد ، لمن سيحسم مسألة السيطرة على الحكم ، قد يتسبب هؤلاء الانهزاميون والطامعون ، في ارباك التغيير لمصلحة الشعب ، وهوما قد يتسبب في ثورة مضادة تذكرنا بما جرى لمصدق عندما ثار الشعب الإيراني على الشاه .
انه رغم ضعف هذا الاحتمال ، لأنه انقلابي انتحاري ، فلا يجب استبعاده تماما ، بحكم توافر عناصر لا تعيش الاّ في الماء العكر ، وتشكل المغامرة بديلها ، وبرنامجها الواحد الأوحد ، للمساومة بها طمعا في الحصول على مكانة ما ، ضمن مشروع التغيير الفوقي للحكم ، وللنظام المسخر من طرف الامبريالية .
--- خامسا . ان اثارة هذه العوامل والاحتمالات الناجمة عنها ، تأخذ في الظرف الراهن أهمية قصوى . فكما هو واضح ، اصبح العنصر الخارجي متجسدا اليوم في واشنطن – إدارة الرئيس دونالد ترامب – ، وفي الدول الغربية متجسدة في تواجدها السياسي والاقتصادي ، ، عنصرا مؤثرا في الصراع ، وقد يكون حاسما في المعركة القادمة .
ان المنعطف التاريخي الذي سجلته كل الانتفاضات الشعبية البطولية عبر تاريخ الانتفاضات الشعبية والجماهيرية المغربية ، و آخرها حركة 20 فبراير الإصلاحية من جهة ، ومن جهة ثانية تعاظم حظوظ الاحتمال الثالث ( الانقلاب الامبريالي ) .. يطرحان على الشعب المغربي ، تعقيدات كبيرة ، ومسؤوليات جديدة وملحة ، إذ في كلا الحالتين – الانقلاب الامبريالي او الانتفاضة الشعبية -- ، لن يتردد سماسرة واعداء الشعب ، من حتالات ، وشمكارة ، وبلطجية ، ومجرمين ، من تسليط الارهاب عليها ، والتصفيات كمقدمة لإجهاضها ، كما يلاحظ اليوم من تسليط المجرمين ، والحثالات ، والعياشة ، ضد المسيرات والاحتجاجات المختلفة التي تجري بكل ربوع المغرب .
وهنا لن يكون من باب المغالاة التأكيد ، على ان الحركة الثورية المغربية اليوم ، موضوعة امام خيار واحد لا اثنان : إما ان تتمكن من تطوير اوضاعها الذاتية وتصليبها ، بترسيخ مكتسباتها وتقويتها ، حتى تكون في مستوى التجاوب مع الوضع بكل احتمالاته ومتطلباته ، وإما ان تتعرض للإجهاض والتصفية .. وهذا ما نلاحظه اليوم عندما يسيطر اسلوب الاقصاء الساحة السياسية الوطنية .
وإذا كنا قد ركزنا خلال هذا الاستعراض السريع للأوضاع السياسية، واحتمالاتها على استراتيجية الدولة البوليسية ، وخططها وتكتيكاتها ، فليس معنى ذلك إهمال الوضع الجماهيري ، والمكتسبات التي حققتها الحركة التقدمية والثورية المغربية الحقيقية ، او ان الدولة البوليسية وحلفاءها يتمتعون بموقع قوة بشكل مطلق ، ينفذون من خلاله كل مخططاتهم بشكل آلي، او بضربات سحرية .. بل على العكس من ذلك ، فان التحولات التي عرفها المجتمع المغربي منذ حركة 20 فبراير الذي كسرت جدار الخوف من النظام الاستبدادي ، جعلت من الشعب ، والجماهير ، وقواه الحية الديمقراطية الحقيقية ، يبقى هو صاحب الكلمة الأخيرة ، وأن أي تحليل يتغاضى عن ذلك ، او يسقط من حسابه قدرة الجماهير الشعبية على الرد والمواجهة ، إنما هو تحليل مبتور ، يتغاضى عن نصف المعادلة السياسية القائمة .
ومن جهتنا كمحللين موضوعيين مرتبطين بالشأن العام المغربي ، وبكل ما يضير شعبنا ، وجماهيرنا ، وبلدنا من الدولة البوليسية الفاشية التي سرقت الدولة والمغرب ، وحولتهم الى سجن كبير ، فقد أكدنا في دراسات سياسية سابقة ، ولا نزال نؤكد على ضوء الاحداث والوقائع المستجدة ، أنّ الشروط الموضوعية للتغيير الثوري ، لصالح الشعب والجماهير في المغرب ، لا تزال قائمة وبشكل اكثر قوة ، ومتعمقة منذ زمن غير قصير ، وان الجماهير الشعبية عبّرت بالملموس عن طموحها في التغيير الجذري ، واستعدادها للتضحية والاستشهاد في سبيله . ويبقى الخلل في الشروط الذاتية ، أي في دور الطليعة الثورية – بما لهذا المصطلح من ابعاد أيديولوجية ، وسياسية ، وجماهيرية – القادرة على تأطير نضال الجماهير ، والتجاوب معه ، والالتحام به ، وقيادته نحو اهدفه الإيجابية النبيلة المنشودة .
فهل ستتمكن الطليعة الثورية المغربية الحقيقية ، من رص صفوفها ، وبلورة تنظيمها ، وحشد كل الطاقات الوطنية ، والتقدمية ، والديمقراطية الصادقة ، في معركة التغيير الجذري الوطني ، الديمقراطي الحقيقي ، والالتحام بالجماهير الشعبية في نضالاتها اليومية العريضة ، والمتعددة الجبهات والاشكال ، كما في وقت الانتفاضة والمجابهة ؟
ان التحليل العلمي العميق ، وحتمية التاريخ ، والتفاؤل الثوري ، يدفعنا للقول ، بان هذا هو الاحتمال الأقوى بالنسبة لكل الاحتمالات السابقة الذكر ، وهو الأعند والاصلب من كل الحسابات الامبريالية والرجعية .
وبما ان اي تحول جذري لابد له من سبب لاشعاله ، فالسبب الرئيسي الذي سيشعل الانتفاضة الكبرى القادمة ، إضافة الى الفساد ، والاستبداد ، والطغيان ، وبوْلسة الدولة بعد سرقتها ، وتحويل المغرب الى سجن كبير ، يبقى ملف الصحراء الغربية بما يحمله من حمولات و جروح عاني ولا زال يعاني منها الشعب المغربي المقهور .
لقد دخل ملف نزاع الصحراء الغربية المرحلة الأخيرة من عده العكسي ، وجميع المعطيات وتحليلها تجزم بانفصال الصحراء بدعم اممي في غضون السنتين القادمتين ، سواء باعتماد الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ، او من خلال إحالة الملف على انظار الجمعية العامة للأمم المتحدة للفصل فيه ، او من خلال الرجوع الى الحرب ، وتدخل الأمم المتحدة لايقافها ، واللجوء الى القانون الدولي ، والى قرارات مجلس الامن ، والجمعية العامة ، والاتحاد الأوربي والافريقي .
إن ذهاب الصحراء سيكون المنعطف الخطير الذي سيدفع الشعب الى النزول الى الشارع ، احتجاجا على ضياع خمسة وأربعين سنة بمعاناتها ومآسيها ، واحتجاجا على أرواح الجيش الذي سقط في الصحراء ويعدون بالآلاف ، وسيكون دعوة لتقديم الحساب ومحاسبة الفاشلين المتسببين في انفصال الصحراء .
ان شروط التغيير تلقي بظلالها بشكل قوي واكثر من أي وقت مضى ، لأن الجديد اليوم متابعة الدول الكبرى ، والأمم المتحدة ، ومجلس الامن ، والعالم لكل ما سيجري عند نزول الشعب الى الشارع .
النظام لا ولن يستطيع اطلاق رصاصة واحدة ضد الشعب لان المحكمة الجنائية الدولية في الانتظار
16 ) موت الاحزاب . الدولة القمعية تفرغ الاحزاب من مضمونها :
المغرب في اول دستور، اقر نظام تعدد الأحزاب ، ورفض نظام الحزب الوحيد ، كما رفض الأحزاب الدينية ، والأحزاب الإثنية ، والشوفينية .
ان رفض النظام لنظام الحزب الوحيد ، واخذه بنظام التعدد ، لم يكن الهدف منه دواعي الديمقراطية ، وتعدد الآراء ، بل انّ الهدف ، كان هو تشتيت نظام الطبقات التي تعبر عنه الأحزاب ، وكان إيجاد وسيلة لتفريق الرأي العام ، ومن ثم اللعب على الاختلافات بعد تزكيتها ، والدفع بها الى حد الانفجار .
اما رفض النظام للأحزاب الدينية ، فكان خوفا من مشاركته تمثيل المسلمين ، واحتكار الدين من قبل الأحزاب ، حتى لا يسقط في الازمة التي عصفت بشاه ايران . لذا سنجد ان الصراع على اشده ، بين النظام الذي يأخذ ( بأمارة امير المؤمنين ) ، ويعتبر ان ما يجمعه مع الامة وليس الشعب ، هو عقد البيعة الذي يعطيه سلطات استثنائية خارقة ، وتعجيزية ، وغير مرئية ، لأنها مستمدة من القرآن ، ومن الإسلام ، فتجعل أي مشكك في هذه التمثيلية ، مارقا، وخارجا عن الاجماع ، وقد يصل الامر الى احد التكفير ، مع ما يستتبع ذلك من نتائج قد ترقى الى جرائم كما حصل مع عمر بنجلون ...... وبين الأحزاب الدينية التي تنافس النظام التمثيلية الدينية ، ولا تعترف له بالتمثيل الديني ، ولا بعقد البيعة التي تصرح بعض الحركات ، ان تكون العلاقة عبارة عن مبايعة تتحدد مقتضاها سلطات الأمير ، او الوالي ، او الملك ، او السلطان ، وانْ تكون مُوثقة بعقد مع ممثلي الامة ( العلماء ، الائمة ، اهل الحق والعقد ، الفقيه ، المرشد .. ) ، وحتى إذا زاغ ولي الامر في سلوكه ، وخرج عن نص العقد، جاز للوصيّين على الدين ازالته وتنحيته .
اما رفض النظام للأحزاب الاثنية والشوفينية ، فمرده تجنب اية محاولة لتقسيم الأرض ، وتقسيم الخيرات ، والثروة ، وتقسيم الرعايا الذين هم دائما في خدمة الأمير . فالنظام يريد وحدة الأرض ، حتى يستمر في الاستغلال للخيرات وللثروات ، وحتى يبقى جاهه عظيما وقويا . وهنا نفهم المواجهة الصارمة مع ما حصل بالريف ، كما نفهم تصلب موقفه من نزاع الصحراء الغربية حيث الفوسفاط ، والمعادن ، والسمك .
ان تاريخ الأحزاب في المغرب لا يعود الى الخمسينات ، بل يعود الى بداية الثلاثينات من القرن الماضي . وهنا فإننا سوف لا نتناول هذه الحقبة ، لأننا عالجناها في رسالتنا المقدمة في سنة 1987 تحت عنوان " الحركة الماركسية اللينينية المغربية 1965 – 1983 " ، وهي تتكون من 450 صفحة من الحجم الكبير. لان خلال هذه الفترة من التاريخ ، لم تكن الأحزاب تطرح في جدول اعمالها ، مطلب الحكم .
لكن بعد الخمسينات وبالضبط بعد الانشقاق الذي عرفه حزب الاستقلال في سنة 1959 ، وتأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من قبل البرجوازية الصغيرة ، تغيرت المطالب السياسية جذريا ، فأضحى الحزب الجديد يركز على مطلب الحكم لا على مطلب الحكومة . فالنموذج الذي كان الحزب يفكر في بناءه ، هو جمهورية برلمانية ليس على الطريقة الاوربية ، بل جمهورية عربية . وهنا سنجد التأثير المباشر لحركة القوميين العرب ، وللحزب الاشتراكي الناصري ، وحزب البعث العربي ، خاصة في شقه السوري ، كما كان هناك تأثير قوي لنموذج الدولة الجزائرية التي كانت تقودها جبهة التحرير الوطني .
سيبدأ الصراع السياسي للحزب مع النظام عند طرح المسألة الديمقراطية ، وعند طرح الدساتير على التصويت . فالحزب كان يقاطع كل الاستحقاقات بسبب انها تتم ضمن دستور ممنوح ، وليس دستور الشعب الذي تقره الجمعية التأسيسية .
سيصل التصادم اوجهه القصوى بأحداث 3 يوليوز 1963 ، وبالأحداث الذي نظَرت فيها محاكمة مراكش في سنة 1970 ، كما سيصل باندلاع احداث 23 مارس 1965 ، وباختطاف وقتل المهدي بن بركة في 29 أكتوبر 1965 . هذا دون ان ننسى مشاركة الحزب الجنرال محمد افقير ، انقلاب الطائرة في غشت 1972 . فالفقيه محمد البصري قبل الانقلاب ، زار اكثر من مرة الكلونيل أمقران الذي كان يعالج بباريس من ورم سرطاني بالرئة .
أدى فشل الانقلاب العسكري ، واختطاف الجنود ، والضباط ، وضباط الصف الذين شاركوا في انقلاب مدينة صخيرات في سنة 1971 ، وانقلاب الطائرة في سنة 1972 من السجن المركزي بالقنيطرة ، وترحيلهم في سنة 1973 صوب سجن تزمامارت الرهيب ، الى اندلاع انتفاضة مسلحة كان يقودها الفقيه محمد البصري رغم انه تنكّر لها وتنكّر لضحاياها ، وهي الاحداث المعروفة ب " احداث خنيفرة مولاي بوعزة .. گلميمة " .
الصراع حول وعن الحكم ، لم يقتصر فقط بين النظام وبين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، لكن ستخرج الى الوجود حركات سياسية قوية ، ركزت كل أنشطتها على الحكم ، وليس على الحكومة . فكما ان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كان يطمح لبناء جمهورية عربية برلمانية ، فان منظمات الحركة الماركسية اللينينية المغربية " منظمة الى الامام " ، " منظمة 23 مارس " ، " حركة لنخدم الشعب " ، ناضلت من اجل بناء جمهورية ديمقراطية شعبية ، رغم الاختلاف بين هذه المنظمات من حيث الارتباط بنظرية ، كالماوية ، او الستالينية .
إذن النظام الذي استشعر بالخطر يحدق به من كل جانب ، وشارك فيه حتى الجيش وبالتنسيق مع الاتحاد الوطني ، بدأ يفكر في كيفية تطويع الأحزاب والمنظمات المعارضة ، وبدأ يعمل في اتجاه افراغها من محتواها الثوري ، ومن تحويلها من أحزاب تعارض الحكم ، الى أحزاب تطالب فقط باقتسامه ( الملكية البرلمانية ) على الطريقة المغربية ، الى أحزاب تطالب فقط بالمشاركة في الحكومة ، ليحصل لها شرف تنفيذ وتطبيق برنامج القصر ، وهو ما اضحى واضحا منذ المؤتمر الاستثنائي للاتحاد في يناير 1975 .
وللشروع في إنجاح المخطط ، كان لزاما على النظام ان يبحث ، عن قضية او موضوع ، يعطيه بعدا استراتيجيا ، يجعل كل الأحزاب ترتبط به ، وتدور في كنفه . فكان ما ابتكره من عامل لتغيير خريطة القوة ، واستحقاقات المطالب ، هو طرح قضية الصحراء في سنة 1974 /1975 .
هكذا نجح النظام في تغيير مطالب الأحزاب ، ونجح في جعلها جزء منه لا ضده ، فاصبح النظام عند الجمهوريين البرلمانيين بمثابة عدو ثانوي ، ولم يعد عدوا أساسيا ، وفي مرحلة قصيرة من الصراع ، سيتحول النظام الى نظام وطني ، ومحرر للأقاليم التي كانت تحت الإدارة الاسبانية .
سينجح النظام كذلك بسبب قضية الصحراء ، في بث التفرقة والانشقاق في وسط منظمة 23 مارس ، بحيث أضحت الأغلبية التي كانت تصدر جريدة ب " 23 مارس " في باريس ، جزءا من مواقف النظام إزاء الصحراء ، وبعدما ابتعدت عن منظمة الى الامام التي اطلقت على مناضليها اسم العدمية ، ستنحاز بدون شروط ، للتحالف مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، وحزب التقدم والاشتراكية . اما المعارضة التي ظلت متمسكة بموقفها ، فهناك المعتقلون السياسيون بسجون النظام ، وهناك " رابطة العمل الثوري ّ التي ستحل نفسها في وقت سابق ، ولتنظم كأفراد ، وليس كتنظيم الى حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي .
لقد نجح النظام كذلك ، وبسبب المواقف المختلفة من الصحراء بين جماعة عبدالرحيم بوعبيد الذي كان يراهن على اصلاح النظام من الداخل ، وجماعة الاختيار الثوري برئاسة الفقيه محمد البصري ، وبعد البيان العام الصادر عن المؤتمر الاستثنائي في يناير 1975 ، الى خروج جماعة الفقيه واعلانها الانفصال عن الحزب ، وتأسيس حركة الاختيار الثوري التي راهنت على نزاع الصحراء لقلب نظام الحكم في المغرب . وهنا فالتنسيق كان على اشده مع القيادة في قصر المرادية الجزائرية .
ان طرح النظام لقضية الصحراء ، سيعجل ببث الاختلافات الجذرية بين رفاق الامس " القاعديون " و " رفاق الشهداء – رفاق المهدي وعمر " ، كما سيتسبب في عرقلة اشغال المؤتمر الوطني السادس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب ، وسيتسبب في افشال المؤتمر الوطني السابع عشر في سنة 1982 . وهو نفس الفشل سيكون مصير اللقاء التنسيقي بين منظمة الى الامام ، وحركة الاختيار الثوري بجامعة نونتير في باريس في سنة 1978 .
إذن كيف استطاعت الدولة البوليسية ان تفرغ الأحزاب من مضامينها ليس الثورية ، بل حتى الإصلاحية ، وتحولها الى كائنات صدفية فارغة أصبحت ملتصقة بالدولة ، وليس هذه من يلتصق بها ، كما كان الحال في الستينات وسبعينات القرن الماضي ؟
الدولة البوليسية البارعة في المقالب المختلفة ، وحبك المؤامرات المتعددة ، كانت تضع في أولوياتها في المعالجة ، الاهتمام ، والانكباب على الأحزاب الكبرى التي كان لها صيت داخلي ، ولها صيت خارجي من خلال الشعارات المرفوعة ، والأيدولوجيات المُعتنقة . لذلك فهي لم تكن تهتم بالأحزاب الصغيرة الاّ نادرا ، حين تبدأ بالظهور داخلها ، تيارات قد تخلق بعض الازعاج المُركّب ، لعمل الدولة في التصدي للأحزاب الكبرى ، او تيارات قد تعطل هدف الدولة البوليسية الرئيسي الأول ، وتضعف من مستوى معالجته للظاهرة قيد الاهتمام .
وفي سبيل الوصول الى تهجين الأحزاب المعارضة ، والانتهاء بتركيعها ، بعد ان دفعت بها للقطع جذريا مع ماضيها الذي يميزها ، فهي عملت على تلغيمها ، واختراقها ، بدسّ الموالين على مستوى القيادة والاطر المتقدمة ، والدفع بهم لاحتلال مراكز مهمة في المكاتب السياسية ، والكتابات الوطنية ، واللجان الإدارية ، كما كانت تشرف على اعداد موالين بالقطاع الطلابي ( الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ) ، والدفع بهم الى الالتحاق بتلك الأحزاب ، اثناء العمل الطلابي ، وعند التخرج من الكلية ، فهم كانوا عيون البوليس في الجامعة حيث تتواجد فصائل طلابية متعددة ، وعيون البوليس في الحزب ، ومن خلالهم عيون في الأحزاب الأخرى ، بحكم التنسيق ، والعمل المشترك بين الأحزاب ، بغية استعمالهم في التحكم في مفاصل الأحزاب ، والتحكم في حركتها ، بخلق لوبيات من الوشاة العملاء ( تيارات ) ، الذين تكون مهمتهم بالطبع ، وبعد التوجيهات هي العرقلة ، وعند الاقتضاء الشروع في الانشقاق لإضعاف الأحزاب .
كان الاهتمام الأول للدولة البوليسية منصبا على حزب الاتحاد الوطني / الاشتراكي للقوات الشعبية . فبعد الانتفاضة المسلحة في 3 يوليوز 1963 ، والاحداث التي تسببت في محاكمة مراكش في سنة 1970 / 1971 ، والمشاركة في انقلاب الطائرة في سنة 1972 ، مرورا بأحداث 3 مارس 1973 المسلحة . وقبلها المواقف السياسية الجذرية التي اتخذها الحزب منذ طرح اول دستور ممنوح ، ومن البرلمان ، أضحت الحاجة ماسة لضبط التوازنات ، والتحكم في السلوكات ، وتوجيه العمل الحزبي بما يصب في مشاريع النظام ، ويصب في مخططاته .
هكذا وبعد دفع الموالين العملاء داخل الحزب للتحرك ، ستأتي قرارات 30 يوليوز 1972 ، لتؤسس لنمط حزبي جديد عمّا ساد قبل هذا التاريخ ، وساد منذ الانفصال عن حزب الاستقلال في سنة 1959 ، وتأسيس الحزب الجديد " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية " . فقرارات 30 يوليوز ستقسم الحزب الى جناحين لا تنظيمين : جناح الرباط الذي سيصبح طيّعاً لتنفيذ قرارات الملك ، وهو ما اطلقوا عليه بالجناح السياسي التقدمي ، وجناح الدارالبيضاء الذي ارتبط بنقابة الاتحاد المغربي للشغل .
بعد الانتفاضة المسلحة في 3 مارس 1973 ، وبعد فشل انقلاب الطائرة ، سيتدخل الحسن الثاني شخصيا ليفرض على عبد الرحيم بوعبيد اسم " الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية " ، بدل " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية " ، وذلك للقطع مع تاريخ هذا الحزب في مواجهة النظام ، ومحو فكرة مطلب الجمهورية من اجندات الحزب ، وحتى يصبح الحزب الجديد " الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية " جزءا من النظام لا خارجه ، مدافعا عن النظام لا ضده ، وحتى يوظفه احسن توظيف ، في التخندق الى جانب أطروحة القصر من نزاع الصحراء الغربية .
في هذا الباب وحتى يتم القطع النهائي مع ماضي الاتحاد الراديكالي الثوري ، سيدفع الحسن الثاني بقيادة الاتحاد الموالية برئاسة عبدالرحيم بوعبيد الى عقد المؤتمر الوطني الاستثنائي في يناير 1975 ، الذي حول الحزب من حزب ثوري هدفه الجمهورية ، الى حزب إصلاحي برلماني ، اضحى متشبثا ب ( المنهجية الديمقراطية ) التي تراوحت من الملكية البرلمانية على الطريقة المغربية ، أي تنازل الملك عن البعض من سلطاته ، لفائدة نظام نيو- ملكية تنفيذية ، بمسحة نيو- ديمقراطية مغربية . لكن الأساس كان هو الالتفاف عن المطالب الديمقراطية الحقيقية ، التي ستصل مع التقدم في معركة الصحراء ، الى مجرد المطالبة بالمشاركة في الحكومة وليس في الحكم ، تحت قيادة ملكية بررت اطلاقيتها ( مطلقة ) ، باسم الظروف الاستثنائية التي يمر منه المغرب بسبب حرب الصحراء .
هكذا ستنجح الدولة القمعية في افراغ الحزب من كل مضامينه بما فيها الإصلاحية ، وتحولت المنهجية الديمقراطية من نيو – ملكية تنفيذية باسم نيو - ديمقراطية مغربية ، وستنجح في تغيير المعنى الحقيقي من المنهجية الديمقراطية ، ليصبح مختزلا في المشاركة في انتخابات صاحب الجلالة ، والمشاركة في حكومة الملك ، للحصول على شرف تطبيق برنامج الملك ، الذي يعطيه الدستور كل السلط ومفاصلها ، ويجعل منه وحده الممثل الاسمى للامة ، وليس برنامج الحزب الذي يختفي لصالح برنامج القصر، بمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات .
وإذا تمعنّا في الصورة المأساوية للحزب الذي تحول الى اسم لشگر ، وفقد تاريخه الذي اصبح مختزلا فقط في العنوان كعلامة تجارية للاسترزاق ( البرلمان والحكومة ) ، لجزمنا من ان الدولة البوليسية نجحت في اخضاع وتركيع الجميع ، ولجزمنا ان ما يسمى بالأحزاب الصدفيات الفارغة تعيش على حساب النظام لا العكس .
لقد عيّن الحسن الثاني في المؤتمر الخامس للحزب ،عملاءه وعيونه فيه ، عبدالواحد الراضي ، وفتح الله ولعلو ، وفرضهم على عبدالرحيم بوعبيد الذي ادخلهم الى المكتب السياسي ، في حين عيّن ادريس البصري العديد من الكتاب العامين للكتابات الوطنية بالمدن الكبرى ، فاصبح بالحزب عيون تعمل مباشرة مع الملك ، وعيون أخرى تعمل مع وزارة الداخلية .
وما حصل للاتحاد الاشتراكي ، نفسه حصل لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي ، ولحزب التقدم والاشتراكية ، ولحزب الطليعة ، و الاشتراكي الموحد ، وحصل للكنفدرالية الديمقراطية للشغل – حزب المؤتمر . الجميع اصبح أحزابا ملكية بامتياز .
إنّ ما كان يجهله الفاعلون السياسيون ، والفاعلون المشتغلون بالسياسة ، انه كان هناك صراع خفي بين أحزاب القصر ، وبين أحزاب وزارة الداخلية ، وهو صراع كان يُدار بشكل سرّي ، وسلس ، وبدون ادراك القصر لحقيقة الصراع ، بسبب التعتيم الذي كانت تمارسه الوزارة على القصر .
فعندما كان يتضح لديوان الوزير ان حزبا ما ، بدأ يحاول الابتعاد ، او يحاول ان يتخلص من سلطة الداخلية بالهروب الى الاحتماء بسلطة القصر ، كانت الآلة البوليسية تحرك بسرعة البرق، لتحدث انشقاقاً في الحزب الذي يحاول التخلص من سلطة الداخلية ، فكانت تدفع بجواسيسها الى الانتفاضة التي تنتهي بأسيس حزب جديد ، يكون في يدها للتحكم في الساحة ، وفي مصدر المعلومة .
هنا نذكر بخروج الحزب الوطني الديمقراطي عن حزب التجمع الوطني للأحرار الذي زعيمه هو صهر الملك ، وخروج جبهة القوى الديمقراطية عن حزب التقدم والاشتراكية ، وخروج الحزب الاشتراكي عن منظمة العمل الديمقراطي الشعبي ، وخروج مجموعة الثمانية برئاسة العنصر عن الحركة الشعبية .....لخ .
لقد نجحت الدولة البوليسية في تركيع الأحزاب ، ونجحت في تحويلها الى مجرد صدفيات تتحرك بالعنوان ، وليس بالمضمون ، كما جعلتها تعيش على حساب القصر الذي أصبحت تتسابق لخدمته ، حتى يحصل لها شرف تنفيذ برنامجه . لكن الذي لم تنتبه له الدولة البوليسية ، انها تسببت في قتل الأحزاب التي كانت تلعب دور المتنفس الوحيد للازمات ، وبعد ان جعلت الساحة فارغة وعاقرة ، تكون قد تسببت للنظام الذي مكنّها من المغرب ومن المغاربة ، في اكبر خطر يواجهه ، الذي هو الفراغ .
وحيث ان الطبيعة لا تقبل الفراغ ، فإن هذا ، ومع خصوبة الساحة ، والوضع الاجتماعي المتفاقم ، والآخذ نحو الأكثر من التدهور ، واستفحال الازمة الاقتصادية ، وثقل حرب الصحراء المهددة بالانفصال ، والارتفاع المهول للأسعار ..... قد يسبب في الطوفان القادم ، وقد يسبب في الدخول الى المجهول .
ان اعظم خدمة سددتها الدولة البوليسية للشعب ، هي انها عزلت نفسها ، وعزلت معها النظام ، شعبيا وامميا ، ووسعت من القاعدة العريضة للمعارضة الشعبية ، التي لا تقودها الأحزاب الملكية ، بل تقودها الجماهير الشعبية عبر طول ربوع المغرب .
ان ما حصل بجرادة ، والريف ، وصفرو ، وزاگورة ...... وان انتفاضة 20 فبراير ، لم تكن من صنع الأحزاب التي تتآمر وتآمرت عليها ، بل كان من صنع الجماهير والشباب الواعي الرزين المعطل، رغم توافره على شواهد جامعية .
فالمعارضة اليوم لم تبق نخبوية كما كان الحال سابقا ، بل أصبحت معارضة جماهيرية وشعبية ، يقودها شباب نبعوا من قلب الشعب ، وليس من قلب الحكم .
هكذا تكون الدولة البوليسية ، ببطشها ، واستبدادها ، وقمعها ، وارهابها ، وبسبب امّيتها ، قد ساهمت من حيث لا تدري ، في استحضار أسباب الطوفان او المجهول ، وتكون قد ساهمت من حيث لا تدري ، في توسيع قاعدة المعارضة للاختيارات اللاّشعبية واللاّوطنية .
فشكرا للدولة البوليسية البليدة .



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخيانة الكبرى . خيانة الوطن
- الدولة القهرية ، الجبرية ، الاستبدادية والطاغية
- تجسيد الدولة النيوبتريمونيالية ، والنيوبتريركية ، والنيورعوي ...
- اللقاء الصحافي للرئيس الجزائري مع الملجة الفرنسية ( لوبْوانْ ...
- هل من قاسم مشترك بين اقليم كتالونية ، وبين الصحراء الغربية
- معركة قضائية بين النظام المغربي ، وبين جبهة البوليساريو بمحك ...
- أحسن عنوان لما سمّوه ب ( النموذج التنموي الجديد ) هو - هل فه ...
- النظام السياسي .. تحليل وتفكيك بنية الدولة المخزنية
- سفيرة فرنسا في الرباط
- إسبانية تزيد في اهانتها وتحديها للنظام المغربي
- أين المعارضة ؟
- الدولة الديمقراطية
- الوضع القانوني للگويرة .
- الجواز الجزائري لا يعني الجنسية الجزائرية / قضية ابراهيم غال ...
- رسالة الى الامين العام للامم المتحدة 19 ابريل 2021 / - حركة ...
- المراهنة على الوهم وبيعه الى المغاربة
- تطور قضية ابراهيم غالي زعيم البوليساريو / اسبانيا والصحراء
- العقلية الامريكية المكيافيلية في التعامل مع اطراف نزاع الصحر ...
- ألاسباب الحقيقية وراء فرض حالة الطوارئ في المغرب .
- المحكمة العليا الاسبانية وقضية زعيم البوليساريو ابرااهيم غال ...


المزيد.....




- رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس ...
- مسيّرة للأمن الإيراني تقتل إرهابيين في ضواحي زاهدان
- الجيش الأمريكي يبدأ بناء رصيف بحري قبالة غزة لتوفير المساعدا ...
- إصابة شائعة.. كل ما تحتاج معرفته عن تمزق الرباط الصليبي
- إنفوغراف.. خارطة الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين
- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - الدولة القمعية ، القهرية ، الجبرية ، والمفترسة