أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - دلشاد خدر - صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991 - 1-9 النص الكامل















المزيد.....



صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991 - 1-9 النص الكامل


دلشاد خدر

الحوار المتمدن-العدد: 6871 - 2021 / 4 / 17 - 19:59
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    




الجزء الأول

بالرغم من أنه في كل سنة وتحديداً في ذكرى انتفاضة 6 آذار يدور الحديث عنها في وقتها بمناسبة أحياء ذكراها نقوم نحن شيوعيو كوردستان بنشاطات تاريخية، ولكن بقدر علمي للآن لم تعطى هذه الانتفاضة حقها وهذه لأهميتها وحجمها ولتعريفها للأجيال الجديدة متناسين تسليط الضوء على أهمية هذا الحدث التاريخي من مسيرة نضال شعبنا. ومن هنا وبهدف استيعاب حقيقة ما جرى قبل وبعد حصولها لأسباب أجبرت لأدلو بدلوي لأقول ما عليّ الضمير وهذا فقط لفهم حقيقة ولتصحيح المسار وإنصاف الحق.
الكل حسب علمي يشهدون على هذه الحقيقة بأن انتفاضة 6 آذار تعتبر انعطافه مضيئة في مسيرة نضال شعبنا والتي ترجع الى شجاعة الشيوعيين عامة والشيوعيين في مدينة أربيل بالخصوص. أنا وفي كثير من المرات قد قلتها علانيةً وجهاراً بأن ما قام به الشيوعيين من نشاطات في وقتها لو قام بها أطراف أخرى غيرهم لكانوا اليوم يقيمون القيامة ولا يقعدوها واعتبروها من الأيام المشرقة في تاريخ نضالهم الشخصي وجعلوا من الانتفاضة ملكاً لهم..
وهناك من فعلها بالفعل دون أن يعلنوا أو ينصفوا دور الحزب الشيوعي والشعب عامةً، لكن للأسف أن حزبنا قد نسي وأغفل كغيره تلك النشاطات ومر عليها مرور الكرام.. ولم يعطي الانتفاضة حقها وأهميتها التاريخية منذ ذلك اليوم ولم يستطع أن يستثمرها بذكاء وموضوعية.. او على الأقل وضعها في سياق مسارها التاريخي. الحزب فقط أشار اليها بخجل وفي كل سنة في ذكرى الانتفاضة يستطرق اليها بشكل عابر ومقتضب ومن جانب أخر نرى بأن عدد من الرفاق في الجهاز الإعلامي يشيرون بكلمتين خجولة وباقتضاب للحدث ويختصرون عظمة هذه الانتفاضة ويتكلمون عن أحداثها كأنهم كانوا من مخططيها ومن أوائل من قاموا بهندسة محتوى الخطط وإذا بنا نكتشف بأنهم يتكلمون عن ظاهر تلك الأحداث والنشاطات دون أن يشيروا الى مشعلي شرارتها الاولى من الرفاق والجماهير المشاركة.. هؤلاء الدخلاء الآن قد جعلوا من أنفسهم عارفين بتفاصيلها والتخطيط لها وأبطالا في ميدانهاً.
وهذا هو السبب الرئيسي ضياع الحقائق وتغيبها وتشويهها، لأن الأغلبية من هؤلاء الدخلاء منذ مدة وتحديداً من قياديي الحزب ومن جهازها الإعلامي من الذين لم يكونوا على بينة ولم يكونوا حتى على علم بفحوى تلك النشاطات.. والبعض منهم قد سمع من الأخرين بشأنها.. ولهذا نرى بأن البعض منهم وبدون حق أقحموا أنفسهم في ميادينها.. وبدأوا يتكلمون بمغالطات عنها وتغافلوا عن جوهر نشاطاتها.
في السنوات الأخيرة قرأت مقالة في جريدة (ڕێگای کوردستان) عن الانتفاضة وظهر لي بأن كاتبها كان غائباً تماماً عن تلك الأحداث وعلى حد علمي وهو حتى لم يكن على علم بأصغر نشاطات الانتفاضة لا من قريب ولا من بعيد..
وفي مقاله تحدث عن إصابة الرفيق (فاروق عينكاوة) بجروح وأرجع يوم إصابته لذلك اليوم أي يوم انتفاضة 6 آذار.. دون أن يعلم بأن الرفيق فاروق قد أصيب بعد أيام من هذه النشاطات.. أي في الأيام الأولى من الانتفاضة الكبرى ..!
ولهذا أجد من الضروري وهذا باعتقادي ذو أهمية للجميع ممن شاركوا في الانتفاضة الأولى بأن يبدأوا بالكتابة بشأنها لكي يوثقوا للمستقبل حقيقة ما جرى ويضعوا الأدلة والحقائق أمام القارئ.
أهمية هذه النشاطات التي قمنا بها هي في تنفيذها في تلك الفترة العصيبة والحساسة. في مدينة منسية قد مضى قرابة أكثر من سبع سنوات دون أن يجرؤ أحد ما في العلن وفي شوارعها بالمطالبة بإسقاط النظام.. ولم يحصل بأن أجتمع معارضي النظام فيها ليعلنوا عن استيائهم من النظام.. وخصوصاً بعد أن أنتصر النظام على قوى (الپێشمه رگه) في عمليات الأنفال المأساوية.. لدرجة تشعر بأن الناس قد كسرت شوكتهم. ا
الخوف والرعب كان متربصاً بالجميع وأنعدم الأمان وحالات الثقة بالآخر. ومن جانب أخر حول النظام المدينة الى ثكنة عسكرية ـ أمنية رهيبة من خلال عشرات أجهزة القمع البعثية ومئات المفارز الخاصة مع وجود تشكيل عسكري بقوام فيلق هو الفيلق خامس فيها.
نقطة أخرى بشأن بدايات التخطيط للانتفاضة حين أتخذ القرار للمضي بتنفيذها.. لم تكن تجد في بقعة أو زاوية من زوايا كوردستان معارضة فعلية علنية ضد النظام البعثي. باستثناء الخلايا والحلقات التنظيمية السرية المدنية..
في الصباح الباكر من 6 آذار عندما تجمع الرفاق وأصدقاء الحزب في شوارع مدينة أربيل حينها.. لم تكن تجد أحداً بعد قد سمع لا بانتفاضة رانية.. وحتى لم يسمعوا ولو أشار لها من أجهزة إعلام القوات الكوردية المعارضة للنظام.
في هذه السنة وجدت من الضروري في الذكرى الـ 30 لاندلاع الانتفاضة المجيدة وحسب رؤيتي ومشاهداتي ومعيشتي للحدث.. أود أن أتحفكم بهذه الاسطر عن تلك الأيام العظيمة والخالدة. ومسبقاً أحب أن أقول شيئاً بأنني في كتابتي هذه أستند على تفاصيل ما شاهدت من تلك الأحداث.. الأحداث التي أنا على علم بها.. أو أطلعت عليها في خضم ذلك المخاض.. من يوم حدوثها.. بمعنى إن هذا هو جزء من أوجه تلك الأحداث.. وربما يكون لها مجموعة أوجه.. لهذا باستطاعتي أن اتحدث بفيض وعمق عن الحدث وتبيان وتغطية جميع جوانب وجهات النظر المختلفة ووضعها أمام القارئ العزيز..
وجميعنا نعرف جيداً حقيقة أن الأحداث التأريخية تروى بأوجه مختلفة لأنها متنوعة، ودون النظر وتغطية جميع جوانب الأحداث سوف تبقى الأحدث مبتورة وناقصة. وهذه تتطلب من الأغلبية الساحقة ممن شاركوا في نشاطاتها المشاركة في الكتابة والتوثيق وليتحدثوا عن الجزء الذي كان لهم دور فيه لكي تصل للقارئ الحقائق بكافة أوجهها ونحن لا نبتغي من هذا التوثيق الا الصدق.
سبب أخر دفعني لهذه الكتابة يرجع الى ما يقوله البعض ممن شاركوا فيها.. حين يتكلمون عن هذه البطولات العظيمة ويغضون الطرف عن هذه الحقيقة بأن هذه الانتفاضة هي ثمرة مخاض طويل وهي من نتاج نضال تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي تحديداً في تلك الفترة العصيبة من تاريخ مدينة أربيل.
صحيح بأننا كنا مجموعة من الرفاق وفي اجتماع 2 آذار 1991 قد أتخذنا هذا القرار الخطير بدون وجود ومشاركة بقية تنظيمات الحزب الفاعلة في تلك الفترة العصيبة في أربيل.. ولم نكن نستطيع أن نقوم أو ننفذ هذا العمل الجبار لولا ثقتنا بأنفسنا وثقتنا بأن الجماهير ستدعمنا.
ولهذا يجب علينا جميعا أن نقر بهذه الحقيقة.. وأن الانتفاضة هذه كانت ثمرة نضال ونتاج تنظيمات الحزب الشيوعي في تلك الفترة.
رغم أننا سمعنا قبل يومين من 6 آذار قد حصل في (مجمع خبات) بعض الاشتباكات وتشنجات بين رجال النظام ومجموعة من الناس.. في المحصلة أدت الى وجود شهداء ومصابين.. لكنّ هذه التظاهرات والاحتجاجات لم تكن منظمة بقدر كاف بل إنها كانت رد فعل عفوي نتيجة احتجاز وحبس مجموعة من الأشخاص من قبل النظام.

صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991

الجزء الثاني
قبل الأنفال كانت هناك مجاميع من تنظيمات الحزب في أربيل يشرف عليها كوادر كانوا على اتصال بمفارز (الپێشمه رگه) لكن بعد غياب وجود (الپێشمه رگه) في المنطقة أجبر الحزب أن يغير من أسلوبه في التنظيم وأرسل عدد من أعضائه القياديين وكوادره الى المدن، الغالبية منهم كانوا متخفين.
هذه الخطوة التي اتخذها الحزب قد أعطت لتنظيماتها زخماً وحماساً منقطع النضير الى حد وسعت من قاعدة التنظيمات بالرغم من أنه بعد الأنفال مباشرة قد أنخفض الحماس لدى الغالبية العظمى من الشعب العراقي المنكسر وخصوصاً شعبنا الكوردي.
القلة القليلة من الناس كانوا على استعداد لدعم قوى المعارضة. أنا شخصياً قد أبلغت من قبل أشخاص قد عَرفوا أنفسهم على أنهم من مناصري وداعمي الثورة ولكن بعد الانكسار والانتكاسة أبلغوني مباشرة بأنهم لا يرضون بأن أفاتحهم بأي شأن من شؤون الانتفاضة أو حتى القيام بزيارتهم في بيوتهم.
ولكن مع هذا كنا نجد بأن تنظيمات الحزب في أربيل والمدن الأخرى كانت في طور النمو والتيقظ والترقب استعداداً لهذا الحدث المتوقع. في هذه الفترة كنت جندياً ووحدتي العسكرية في بغداد ومنسباً لمركز الطبابة العسكرية.
وهناك التقيت بمجموعة من رفاقي من سكنة بغداد.. من هؤلاء قد المنقطعين عن الحزب وبعد عدة لقاءات معهم استطعت أن أعيد علاقتي الحزبية معهم، كثيرون من هؤلاء الرفاق كانوا يعملون في مجال الطبابة. فيما بعد.. وفي أحد الأيام رجعنا أنا والرفيق سرود الى بغداد.. ومع الوقت استطعنا تنظيم الكثيرين منهم.. سلمناهم لاحقاً الى رفاقنا في تنظيمات بغداد.
في تلك الفترة الصعبة والمعقدة وبالرغم من أن عناصر أجهزة الأمن كانوا يتواجدون في كل مكان.. لكن بالمقابل نحن أيضاً كنا واعيين وحذرين تماماً، كنا نقوم بنشاطاتنا بهدوء.. وإذا لم نكن متأكدين من نقاء معدن أحد ما لم نكن نطلب منهم الدخول في تنظيماتنا..
وكان بينهم مجموعة من رفاقنا الذين اضطروا أن يسلموا أنفسهم في مرحلة الانفال يطالبوننا باستمرار بأن نؤمن لهم صلة بالحزب.. إلا أننا كنا نتحفظ وننسحب بحذر.. على سبيل المثال الأخ فؤاد صديق (كاك فؤاد كان في السابق معنا و كان شاباً ذكياً و واعياً و نشطاً، و فيما بعد أصبح في صفوف (الپێشمه رگه) ، وعمل في الإعلام الحزبي ولكن بعد حملة الأنفال المشؤومة سلم نفسه الى الحكومة وبعد التسليم وفي كثير من الأوقات كان يلتقي بنا وينتظر أن نطلب منه العودة الى الحزب، في إحدى الأمسيات أنا وكاكه هاشم ( هاشم كان شخصاً واعياً ومتابعاً جيداً ومحل ثقة الجميع وصديقاً مخلصاَ للحزب، وبدوري كنت أزوده بأدبيات حزبنا) كنا نجلس مع السيد فؤاد في نادي الإعلاميين وكان فؤاد في حديثه يشكو من الرفاق بأنهم من دفعوه وقالوا له بأن يسلم نفسه وفيما بعد ونحن في المدينة سوف نتصل بك، كان يوجه كلامه لي شخصياً، لأنه قبل انخراطه في صفوف (الپێشمه رگه) كان على علم بنشاطاتنا الحزبية ، و ما أن انتهى فؤاد من كلامه و إذا بهاشم مباشرة يدير رأسه لي، كان هاشم ثملاَ بعض الشيء ويقول لم لا تتصلون به! وأنا لم يكن لي شيئاً أقوله غير أنني قلت بأنني أنا أيضاً بعد الأنفال لم يبقى لي اتصال بالحزب! وإذا بهاشم يلح مراراً ويقول لم لا تتصلون به؟!
أنا من طرفي لم أكن أمانع برجوعه الى صفوفنا.. إلا أنه في تلك الفترة كانت هذه من القرارات الصارمة في العمل التنظيمي وتوجيهات الحزب تؤكد: أنه لا يجوز الاتصال بهؤلاء ممن سلموا أنفسهم وباعتقادي القرار كان صائباً وهذه للحفاظ على تنظيمات الحزب في تلك الفترة. المرحلة العصيبة والخطرة..
لكن حالة بقائه معلقاً لم تطول ومع احتلال الكويت من قبل الجيش العراقي أصبحت الساحة سالكة وتغير الوضع بشكل ملحوظ وكانت أعمالنا تأخذ طابع المكاشفة نوعاً ما وفيما بعد حقق فؤاد رغبته بعد أن اتصلت به شخصياً وللأمانة في هذه الفترة بالذات كان فؤاد نشطاً جداً وفي نفس تلك الفترة أصبح سهلاً أن نعيد الاتصال الحزبي بالعديد من المنقطعين عن العمل الحزبي..

صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991

الجزء الثالث

هنا بودي أن أتحدث عن حقيقة ما، وأنا في المدينة كان لي باع ودور نشط في الإدارة والتنظيم الى حد كنت على دراية بكل ما يدور حولي من التحركات داخل المدينة وكنت أعرف عن كثب تحركات الأشخاص من أطراف أخرى. وبعد الأنفال والى يوم الانتفاضة أحسست وتيقنت بأنه عدا تنظيمات حزبنا وتنظيمات ره وتى كومونيست (التيار الشيوعي) لم يكن هناك تنظيمات فاعلة أخرى في المدينة وهذا لا يعني بأن الأطراف الأخرى لم يكن لديهم مناصرين واتباع.. او حتى داعمين ومؤيدين لهم في المدينة.. لكنني لم نتحسس وجود أي عمل منظم عدانا نحن والتيار الشيوعي (ره وتي كومونيست).
في وقت احتلال الكويت من قبل العراق.. كنت جندياً في مستشفى الطبابة العسكرية في أربيل وكان لدي وقت كافي للتفرغ للأعمال الحزبية. أغلب الأيام منذ الصباح ولغاية الساعة الثانية بعد الظهر كنت منشغلاً في الدوام الرسمي.. وفيما بعد والى وقت متأخر من الليل كنت أتجول وأتفرغ للعمل والنشاطات الحزبية.
الشيء الذي ساعدني بأن أتجول دون خوف.. هي تلك الملابس العسكرية التي كنت ألبسها في تجوالي وتحركي هنا وهناك داخل الدمينة.. وأيضاً هوية الطبابة العسكرية التي كانت بحوزتي وأنا أتجول واتنقل بين أحياء أربيل.
في تلك الفترة كانوا يسمون خروجنا من المعسكر (بالنزول). الشيء الملفت والغريب في قسم الطبابة العسكرية الذي كنت أعمل فيها كان هناك شعبة المراقبة المكثفة، عدد منتسبي هذا القسم كان محدوداً يتكون من خمسة جنود ونائبين للضباط.. من مناطق جنوب العراق.
لكن من مجموع خمسة من هؤلاء الجنود الأكراد.. ثلاثة منهم شيوعين (أنا والرفيق هه ينى هريرى ـ الرفيق هه ينى كان من خريجي الكلية التمريض وكان على اتصال برفاقنا في حرير التي فيها تنظيمات شيوعية نشطة من العهد الملكي، وأيضاً كان الرفيق فرهاد وه ستا حسن وهو منحدر من عائلة شيوعية وهو أخ لشهيد الحزب الرفيق هيوا.
لم يكن لأحدنا علم بعلاقة الأخر الحزبية. أمّا الرابع جبار من منطقة (گه رمیان) كان قريباً الينا والخامس كاكة محسين من مناصري الپارتی.
المسؤول عنا جميعاَ كان شاباً عربياً بقي معنا في فترة الانتفاضة الى النهاية. وفي تلك الأيام الصعبة ونحن في المستشفى العسكري كنا نتواصل في خوض المناقشات السياسية بلا خوف. وفي أحد الأيام ونحن نجلس مجتمعين بحضور مجموعة من الجنود ونواب الضباط معاً.. تحدثنا عن الأوضاع القائمة الكل من جانبه أدلى بدلوه كما يقول المثل..
ومع مرور الوقت جاء دوري وبدأت بالتحدث وأنهيت الجلسة قائلاً:
ـ أن كل ما حصل ووقع من المآسي والويلات على العراق سببها وجود حزب البعث وهم وحدهم يتحملون مسؤولية الأحداث ونتائجها المحتملة، ومستقبلاً سوف يحملون المسؤولية كاملة والشعب العراقي سوف لن يجني خيراً منهم طالما بقوا في السلطة!
مع انتهاء حديثي هذا لم يبقى في المكان أحد ما، تبخر الجميع، جاءني لاحقاً الأخ هه ينى وقال لي: أذهب وأنفذ بجلدك، أنقذ نفسك سوف يعتقلونك الآن!
لكنني لم أهتم.. كنت مدركاً تماماً ما سيؤول اليه الحال.. وأين وصلت بوصلة الخطر.. كنت أعرف وأدرك أن أحداً لا يريد او يرغب في ربط مصيره بمصيرهم وان الاستعداد لتقبل الموقف الجريء والمشاركة في التغيير وصنع البديل قد نما في النفوس الحائرة المنتظرة التغيير بلهفة..
لكن لاحقاً ظهر لي بأن الذين سمعوا أقوالي استغربوا وكانوا ينظرون الي بذهول ومباشرة بعد الهجوم الأمريكي على العراق أنتقل مستشفى الطبابة العسكرية الى موقع مستشفى السل القديمة في أربيل في محلة شورٍش.. مباشرة على شارع المؤدي الى شقلاوة لكيلا تكون هدفاً لقنابل الطائرات الأمريكية.
الانتقال كان مفيداً لي.. لأنني في الصباح أذهب الى العمل.. وبعد ساعة أخذ إذناً من أصدقائي للخروج عبر السياج واغادر المستشفى وأذهب الى المدينة للقيام بنشاطاتي الحزبية.
مع استمرار الهجوم الأمريكي وغارات الطائرات تضاءل خوف الناس من النظام.. ولاحظنا الكثير من الجنود أخذوا يغادرون الثكنات العسكرية ويفرون من وحداتهم ليرجعوا الى منازلهم وعوائلهم خائرين، وفي حينها الأغلبية العظمى من الناس كانوا ينتقدون النظام علانيةً. بالضبط وتحديداً في تلك الفترة أتصل بنا أحد رفاقنا من البصرة وأسمه بهجت (الرفيق بهجت كان من الأنصار (پێشمەرگە) لكنه كان مقطوعاً عن الرفاق بعد حينما أرسل الى الداخل بتوجيه من الحزب.. إلا أنه أنقطع لأسباب قاهرة عن صلته الحزبية وعن طريق أحد أقارب الرفيق شوان وهژار عاود الاتصال بنا من جديد (الرفيق شوان كان عضواً في الحزب وهو من عائلة معروفة وكان بيتهم يقع في محلة 92.. أمّا الرفيق هژار فمن أقاربه وهو أيضاً من عائلة شيوعية) وكان جندياً في البصرة أستطاع أن يصل الى أربيل وتمكن من أن يعاود نشاطه السياسي..
التقيت مساء احد الأيام في محلة 92 ببهجت وتحدثنا كثيراً وفيما بعد استلمت منه رسالة التي أعدها للحزب وأنا أعطيته مجموعة من أوراق عدم التعرض العسكرية) ووعد بأن يرجع بعد أسبوع لكن للأسف حصل بأن انقطعت جميع الطرق ولم يستطع المجيء إلا بعد الانتفاضة وبدوري أخذته الى شقلاوة و سلمته الى رفاقنا في قيادة الحزب الشيوعي العراقي.





صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991

الجزء الرابع
في لجنتنا كنا نجتمع بشكل دوري باستمرار وفي تلك الفترة تحديداً كنا نلتقي ببعضنا بشكل دائم وكان لدينا اتصالات منضبطة مع الخطوط الحزبية الأدنى. أخر اجتماعاتنا قبل انتفاضة آذار كان يوم السبت بتاريخ 2 آذار.
عقدناه في بيت الرفيق صلاح مه زن. كان منزلهم يقع في محلة سيداوة وكان قريباً من هاوية الخندق خلف منزلهم. البيت كان بمثابة مأوى أمن للكثيرين منا. المشاركين في الاجتماع كنا (أنا والرفيق صلاح والرفيق سرود والرفيق بكر حاجي ـ الرفيق بكر حاجي كان وجوده معنا في الاجتماع لأول مرة ـ وحسب علمي أتصل مجدداً بتنظيمات حزبنا في أربيل وقبلاها كان في الموصل ـ الرفيق سرود كان بدوره يشرف على لجنتنا وكان هو من كادراً جريئاً من المختفين في المدينة، في ذلك اليوم وأنا في ساعات الدوام الرسمي ذهبت مباشرة الى بيت صلاح مه زن الذي أعتبره بمثابة منزلي، والأم خه جێ أم صلاح كانت تعاملنا كأبنائها، كانت تتصرف معنا بمحبة..
حين دخلت البيت وجدت الأخ بكر حاجي جالساً هناك وفي حينها عرفنا صلاح لبعضنا وإذا بالأخ بكر يواجهني بسؤال مفاجئ قائلاً:
ـ إن كنت أنا شقيق ماموستا رزگار؟ قلت له أي رزگار تقصد؟
ـ قال رزگار من بتاليون 31 قلت له لا نحن لسنا بإخوة هو سرياني من عينكاوة وأنا كردي مسلم.
واصل بكر:
ـ أنتم تتشابهون أنت تشبهه تماماً وبعد فترة وجيزة وصل الرفيق سرود وبدأنا بالاجتماع.
الاجتماع بدأ بعد الساعة الثالثة من الظهر كنا جالسين في غرفة الضيوف والأم (خه جێ) جالسة مقابل الباب وهي بين فينة وأخرى تمعن النظر للباب وأحياناً تلتفت الينا بقلق وهي تعرف بأن ما نقوم به من نشاطات خطرة علينا وعلى من حولنا.. لهذا هي فضلت البقاء معنا، كانت تعاود المراقبة وأحياناً تتفقد الباب الخارجي بحذر وقلق ثم تعاود الرجوع الى مكانها.
الاجتماع خصص لمهام المرحلة ووضع برنامج للتحرك مع تحديد خطواتنا الأولى للعمل الآني الملح في هذا الظرف الاستثنائي وكيفية تثويره، بعد مناقشات مطولة أتخذنا قرارات تتحتم علينا المبادرة للبدء بنشاط جماهيري ثوري بأسرع ما يمكن، وفي نفس الاجتماع أكدنا وقررنا التخطيط لتظاهرة مرتقبة وممكنة، تناقشنا بشأنها كثيراً وأخذنا جميع الاحتمالات بنظر العيان..
كان رأي صلاح يتمحور في التأجيل يقول بأنه من المبكر لنخطو هذه الخطوة.. ولنؤجلها عدة أيام.. لكننا كنا مع الرأي القائل بأن نستعجل اعلان شرارتها.. لهذا أخترنا يوم 6 آذار للتظاهرة بفارق أربعة أيام بين لحظات الاجتماع ويوم المباشرة بالتنفيذ. نوينا أنلا نؤجل ما وصلنا اليه لكي يكون باستطاعتنا أن نستثمر تلك الاحتجاجات الحاصلة في جنوب العراق لنجعل منها شرارة احتجاج في عموم أرجاء العراق وأيضاً لكي نقلل من ضغوطات النظام على أهلنا في الجنوب. في نفس الاجتماع وزعنا الأدوار والأعمال وأخرنا المكان وحددنا التوقيت لنشاطاتنا اللاحقة المرتقبة.
المكان كان أمام گازینو العمال والوقت الساعة العاشرة والنصف قبل الظهر. اختيار المكان يرجع الى الوقت الذي يشهد ازدحاماً من مناطق أخرى في المدينة..
وفي نفس الاجتماع أخترنا الشعارات والتي كانت تتمحور عن (الحرية الديموقراطية.. صدام يجب أن يزاح عن السلطة.. ولتحيا قوى(الپێشمەرگە).. نهاية نظام صدام قريبة من الموت.. كنا نريد من الشعارات أن يكون لها طابع عام وشمولي لكيلا تتلون بلون حزب معين.. ولكي تجذب وتسهل أمر مشاركة وانخراط جميع الشرائح فيها ولتكون للجميع، تلك أهم القرارات التي اتخذناها في ذلك الاجتماع وأيضاً اخذنا بنظر الاعتبار حالة الجور واحتمال هطول المطر.. وقلنا إذا حصل وأن نزل المطر في ذلك اليوم سوف نؤجل نشاطنا.
وبالفعل في صباح اليوم نفسه لاحظنا بوجود بعض رذاذ مطر ولهذا وجدنا بأن بعض من الذين كان من المفروض أن يشاركوا لم يأتوا. وهنا يجب أن يعرف الجميع هذه الحقيقة بأن القرارات التي اتخذت بشأن هذه التظاهرة قد تم اقرارها في نفس الاجتماع.. وبعده مباشرة ذهبت بنفسي لزيارة الرفيق لاوه في محلة شورش..
الرفيق لاوه كان أحد مقاتلي پێشمەرگە الحزب، وبعد إصابته بجروح سلم نفسه وفيما بعد عن طريقي أتصل بالحزب مرة أخرى وبقي في حي شورش وكان نشطاً وأستطاع في فترة وجيزة أن ينظم خلية من شبيبة محلته.
وبدوري أوصلت له والوصايا والقرارات التي اتخذت وقلت له: عدا عن الرفاق الذين معك يجب عليك أن تجمع أكبر عدد ممكن من الذين هم محل ثقتك وتأتمنهم، أعلمهم، وفيما بعد وبنفس الطريقة أبلغت كل من الرفاق شوان والرفيق فؤاد ورفاق أخرين وفيما بعد حاولت أن أخبر الأخرين الذين هم بقربي ومحل ثقتي، وفي تلك الليلة قمت بزيارة الأخ رمضان سليم أبلغته بالقرار وهو بالرغم من أنه لم يكن عضواً في الحزب إلا أنه كان من أصدقائه المقربين ويتميز بالنشاط والهمة العالية.. كان يوزع المنشورات بلا خوف، و للأمانة أنه حتى في مشاركته في 6 آذار أظهر شجاعة وجلب معه مجموعة من أصدقائه، أما في مستشفى الطبابة العسكرية وتحديداً شعبة المراقبة المكثفة أبلغت فقط هؤلاء الذين كانوا معنا منهم الأخ جبار وهو أيضاً وعدني بأنه سوف يأتي و يشاركنا.




صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991

الجزء الخامس

في إحدى الأمسيات التقيت في السوق بالأخ (اسماعيل سه ر سپی) وكان يرافقه الأخ شيروان. أنا عن نفسي كنت على علم بأنهم كانوا يعملون مع تنظيمات (ره وتى کۆمۆنیست) التيار الشيوعي وفي الحقيقة كان هذا التنظيم نشطاً جداً وله حضور في المدينة ومن ناحية العدد فهم كانوا كثرة، في البداية تكلمت معهم عن برنامجنا وفيما بعد طلبت منهم باسم الحزب المشاركة معنا وباسم (ره وتی کۆمۆنیست) أجابني شيروان متشنجاً..
ـ أولاً أنت عليك أن تتخلص من بدلتك العسكرية هذه، ثم عليك أن تتحدث عن الانتفاضة..
وفهمت منه ليس في نيتهم مشاركتنا. لكنني تحدثت مع الغالبية ممن اعرفهم من الناشطين في التيار الشيوعي ووعدونا بالمشاركة الفاعلة.
باختصار شديد خلال تلك الأيام الأربعة عدا الخطوط الحزبية الأخرى، وكنت أشرف على البقية منهم. الأكثرية ممن كانوا موضع ثقتنا أخبرتهم مساء اليوم الخامس من آذار.. أي قبل يوم من الانتفاضة رجعت الى البيت مبكراً بعض الشيء.. تخلصت من جميع الأشياء الممنوعة والمحضورة وبالتفصيل الممل تكلمت مع والدتي وقلت لها غداً من الأفضل أنْ لا يتواجد أحد في البيت.
من الممكن أن تأتي الأجهزة الأمنية للبيت ويعتقلوكم. أمي كانت على دراية ببعض من توجهاتنا وكانت تعرف ما في حوزتنا. في البداية هي أظهرت عدم رضاها.. وبيأس سألت:
ـ هل أنتم تنون أن ترموا بأنفسكم بصدور مفتوحة أمام أيادي المرتزقة من الجحوش القتلة! لا أحب أن أقول لك لا تذهب، لأنني أعرفك تماماً وأعرف بأنك سوف تفعلها وتذهب فليحصل ما يحصل. لكنني لا أريد أن يمسك بك، ثم تقع في أيديهم ليعذبوك في دائرة الأمن..
جاوبتها بهدوء وقلت لها:
أمي الغالية غداً صباحاً سوف تكون المدينة حرة تماماً.. والبعث لن يبقى فيها سيهرب المرتزقة معهم..
لكنها قالت بقناعة:
ـ لا يا ولدي.. هناك سوف تجد أربعة من المرتزقة والقتلة ممن يفضلون العيش على الفتات.. باقون ليرشقوكم بالرصاص.. لأنهم لا يشبعون من الدماء..
في ذلك المساء زرت الأخ أدهم في منزله خلف بيتنا، كان يعمل مساعد طبيب في مستشفى الطبابة العسكرية في شعبة القلم. بعد السلام كيفك وحالك مباشرة ً قلت له أنا سوف لا أتي الى دوام المستشفى غداً لقد أتخذنا القرار بأن نقوم بالتظاهر ضد النظام. إذا أمكن لا تسجلني غائباً.. وإذا لا تستطيع فهذه ليست مشكلة فقط خبرني بما يحصل.. لأنني قررت مع نفسي إذا سجل غيابي سوف لا أرجع الى الدوام والعسكرية بتاتاً.
قال:
ـ سوف أحاول بكل جهدي أنْ لا أسجلك غائباً. شكرته ورجعت أدراجي الى منزلنا. في تلك الليلة أخذت أفكر بما قد يحصل في الصباح.. ماذا سوف يحصل؟ والحدث الى أين سوف يأخذ بنا!
لا أعرف كيف ومتى نمت.. لكنني كنت أعرف أن الوقت كان متأخراً.
في الصباح الباكر استيقظت من النوم.. وجدت أمي كعادتها قد نهضت قبلي وأحضرت كل شيء، معاً تناولنا فطورنا.. في ذلك اليوم لم تتكلم معي كعادتها لكنها كانت تنظر نحوي وترمقني بنظراتها بشيء من الخوف والقلق.
بعد الأكل غيرت ملابسي ارتديت الملابس العسكرية ثم جلست، كنت بانتظار (فؤاد صديق) الذي كان مقرراً أن يأتي في الوقت المحدد الى بيتنا لنذهب معاً الى المكان المقرر للتظاهر.
في الصباح جاء فؤاد مبكراً.. طرق الباب.. توجهت فوراً لأفتح الباب. وتحركنا معاً مغادرين البيت وحين ابتعادي ووصولي الى زاوية ومنعطف من محلتنا أدرت بوجهي للخلف.. وإذا بي أجد أمي واقفة أمام الباب وهي تواصل النظر الينا بحزن شديد، كانت تنظر الينا كأنها المرة الأخيرة التي سترانا فيها.. وتمسح من خلال نظراتها اجسادنا بحنان امومي يصعب وصفه.. ومن المؤكد انها ذهبت بخيالها الى أقصى مدى في تلك اللحظات الحرجة.!
أخذنا نقطع الطريق على أقدامنا مروراً بأزقة محلة سيداوة متوجهين نحو السوق، في البداية تفقدنا (كازينو مجكو) ونحن أما مدخلها ألتقينا بالأخ گوشاد. بدا لنا كأنه هو أيضاً قد جاء الى السوق لنفس الغرض، فيما بعد بقينا نتجول ونراوح في المكان لنعرف ما يدور هناك، لم نلحظ شيئاً غريباً، وجدنا بأن الرفاق يظهرون ويتوافدون، وأن العدد في ازدياد.. وبدى لنا أنهم مثلنا يحومون حول المكان المخصص للتظاهرة الموعودة بثقة وقلق الشجعان والثوار..







صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991

الجزء السادس

هناك حقيقة يجب أن أذكرها، صحيح بأننا في لجنتنا كنا لوحدنا واتخذنا قراراً جدياً للقيام بالتظاهرة لكن الأغلبية العظمى في الخطوط الحزبية الأخرى قد تم ابلاغها مسبقاً من قبل الحزب للمشاركة في هذا اليوم.. عدا الخطوط الحزبية في مدينة أربيل التي بقيت متحفظة ولم يكن حضورها واضحاً، حتى الرفاق في عينكاوة وشقلاوة تم إخبارهم وهم أيضاً كانوا على استعداد للمشاركة الفاعلة، الوقت كان يمشي ببطء شديد ونحن بدورنا نواصل مراقبة المكان عن كثب.
قبل بلوغ العاشرة صباحاً لاحظنا وجود عدد من مسلحي المفرزة الخاصة لـ (عمر صوفي) واقفين أمام مقهى العمال وفيما بعد مضوا وتركوا المكان، مع مرور الوقت كان ظهور الرفاق أكثر وضوحاً صلاح يومها كان بنظارة بنية، وبكر بنظارة سوداء، ومعهم ظهر الرفيق سرود وأيضاً الرفاق ماموستا هوگر وشهيد سعدون حيث كانوا واقفين في الجهة الأخرى من الشارع.. كانوا يعطون توجيهاتهم وتعليماتهم ويوجهون الرفاق.
في البداية جاءني الرفيق سرود وسألني:
ـ إن كنت قد أخبرت المجموعة وهل جاءوا وحضروا؟
قلت:
ـ نعم عدد كبير منهم موجودون هنا.. وهم على أهبة الاستعداد.. هيا لنبدأ لنريهم سواعدنا. في تلك اللحظة جاء الرفيق صلاح ووقف بجانبي.. أدرت نفسي اليه.. وقلت له إذا وصلت المعلومات الى الأجهزة الأمنية، اليوم سوف يتمكنون من قتل أغلبية الشيوعيين في المدينة.
أجابني بثقة أنه لا يعتقد أن المعلومات قد وصلتهم.. لأنهم غير موجودين وليس لهم أثر ولا نراهم حولنا، ما قاله صلاح كان دقيقاً وسليماً.. المعلومات بشأن هذه التظاهرة لم تصلهم بعد، في الحقيقة هذه كانت دلالة واضحة على نقاء تنظيمات حزبنا وأيضاً نقاء هؤلاء الذين سبق وأن أحيطوا علماً بتفاصيلها ممن أخبرناهم مسبقاً، لأن مدينة أربيل حينها كانت محشوة بالأجهزة الأمنية.. ومرة أخرى ومع وجود كل هذه الأجهزة القمعية.. لم يستطيعوا أن يصلوا الى أية معلومة عن التظاهرة.. التي قررنا أن نحققها وبالأخص في ذلك اليوم.. حيث لم يكن وجود لأي عنصر من عناصر تلك الأجهزة القمعية على اختلاف انواعها في المكان المحدد لإعلان التظاهرة..
الساعة تجاوزت العاشرة والنصف ما زلنا نتهيأ لإطلاق الشرارة المرتقبة، الأغلبية من الرفاق يسيرون ويتحركون ببطء كأنهم يراوحون في المكان.. منهم من يسأل:
متى سوف تعلن؟.
ومن سيبدأ ؟
وماذا ننتظر؟
بعد التأكد من العدد المناسب للمشاركين.. قررنا لحظتها بالإجماع أن تبدأ المظاهرة.
بداية توجهنا الى جهة بائعي التبغ المحاذية لحائط (باغى شار).. موقع باغى شار يقع جزء منه مقابل مخفر شرطة خانقا.. والجهة الأخرى منه تقع مقابل مقهى العمال. العديد من بائعي التبغ ممن ليس لديهم محلات ودكاكين كانوا يجلسون بحوار حائط الحديقة ويبيعون ما في حوزتهم مباشرة للزبائن..
في نهاية الحائط لوحظ وقوف عربة بيك اب بجوار الرفيقة (أوميد ملا حسن) بنت المناضل العروف ملا حسن كانت عضوة نشطة داخل تنظيمات الحزبية.. كانت برفقة ديدار شقلاوة.. صعدا معاً لحوض البيك آب..
وبدأوا بترديد الهتافات، مع سماعنا للهتاف.. تحركنا وأخذ من كانوا على علم مسبق بالتظاهرة للتجمع والتكاتف.. اما من لم يكن على علم وبالصدفة وجد نفسه في المكان الخطأ فقد تركوا المكان في الحال. المشهد كان غريباً بعض الشيء.. مجموعة من الشباب تكورنا واقتربنا من بعضنا البعض.. متكاتفين وملتحمين.. أما الناس الأخرين أمامنا وخلفنا فكانوا يركضون عكس اتجاه سيرنا.
وكلما زدنا من ترديد هتافانا كان الناس يتجنبوننا ويركضون عكس اتجاهنا، مع استمرار ترديد وسماع الهتافات أخذهم الحماس يشتد لدى البعض من رفاقنا المسلحين وبدأوا بإطلاق عيارات مسدساتهم الى السماء.. وبسماع دوي هذه الإطلاقات خاف البعض ممن تواجدوا في الشارع من الجمهور المراقب للحدث.. كثيراً وأعتقد البعض منهم أنها موجهة نحونا.
بعد برهة قصيرة توجه جموع التظاهرة نحو مخفر شرطة خانقا.. وأخذ المشاركون فيها يسرعون ويهرولون كأنهم يركضون.. مع علمنا ان الخطة المقررة كانت مبرمجة لتسير التظاهرة نحو مقهى مجكو ثم يكون توجهنا نحو بناية محافظة أربيل..
لكن عفوية البعض من رفاقنا غيرت من مجرى السير نحو (مخفر خانقا) بدلاً من بناية المحافظة، لوحظ في تلك اللحظة وجود بعض من الجنود مع سياراتهم العسكرية واقفين أمام المخفر. كان مجيئهم الى هناك لغرض شراء بعض حاجياتهم..
لكن مع ما شاهدوه من حشدنا فاجأهم فأدركوا الأمر فأسرعوا في ترك المكان.
الرفيق أبو كاظم (أبو كاظم ـ حمودي عبد محسن.. كان من كوادر الحزب المعروفين في النجف وكردستان.. ومن المختفين في مركز مدينة أربيل) كان يلف وجهه بشماغ أحمر، ويحاول أن يقنع الجنود وتحدث معهم بالعربية لإقناعهم بالانضمام والدخول لصفوف المتظاهرين.. إلا أن محاولته باءت بالفشل..
ومن بعدها تقرر وبسرعة خاطفة.. كما كان مخططا له.. ترك المكان.. أخذت مجموعة من المتظاهرين طريقها الى شارع شيخ الله.. وبدأ أصحاب المحلات بإقفال محلاتهم ثم أخذوا بالمغادرة، لكن البعض من الرفاق أخذهم الحماس الشديد واستمروا بترديد الهتافات ضد سلطة ونظام البعث والطاغية صدام..

صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991

الجزء السابع

مازال المشهد أمام عيني، الرفيق برواى شقلاوة (برواى مام قادرى) كان يحمل رمانة يدوية ويمشي أمام المتظاهرين متقدماً الرفاق بخطوات أحياناً كان يستدير ويلتفت يمنة ويسرى وينظر الى الرفاق ويستمر بالسير ومن ثم ينظر الى المتظاهرين وظهره للخلف.
الرفيق أبو كاظم كان في الجانب الأيمن من التظاهرة يشد من عزيمة المتظاهرين ويهرول وبالعربية كان يطلب من الناس الانخراط بالتظاهرة.. ويسألهم لماذا لا يكونون مع المتظاهرين وكان يصرخ بأعلى صوته بأنه عربي وأنا ضد صدام لم لا تكونون معنا.!
والراحل سعدون كان في الجهة اليسرى من المتظاهرين. وبالرغم من أنني كنت جندياً وارتدي بدلتي العسكرية.. وكان الرفيق فاروق عينكاوة أيضاً مرتدياً بدلة ضابط عسكري.. لكي نظهر للناس أن العسكريين شاركوا معنا في التظاهر..
الشيء الذي كان يقلقنا هو عدم قبول الناس بالانخراط في صفوفنا وظهر بأن من بقي في الساحة هم نفس الرفاق الذين كانوا منذ البداية مع التظاهرة. في الحقيقة كان الناس يخافون منا ويتجنبوننا. بالرغم من إن عددنا لم يكن قليلاً وكان تقريباً في حدود 200 الى 250 مشارك..
لم أكن أعرف الجميع ممن شاركوا في التظاهرة.. لكن عدد كبير منهم كنت أعرفهم جيداً وأولئك الذين تعرفت عليهم عدا رفاقنا وأصدقائنا.. ومن ضمن هؤلاء الأخ صلاح خوشناو وأحمد حيران كانوا من ضمن المتظاهرين، الأثنان كانوا من مؤيدي البارتي وأصدقاء لفؤاد صديق وهو من دعاهم للمشاركة في التظاهرة، ونحن في شارع شيخ الله قبل أن نصل إليهم كانوا يركضون. أكثرية المحلات قد أغلقت أبوابها، المشي على الأقدام أخذ من وقتنا الكثير وإذا بنا نصل الى شارع 30 متراً بين جسر سيداوه ومخفر شرطة سيداوة.
فتوجهنا بسرعة نحو مخفر سيداوة ويبدو أن شرطة المخفر أدركوا خطورة المسألة، أغلقوا باب المخفر الرئيسي على أنفسهم.. وشاهدناهم حاولون الهروب من فوق أسطح البناية محاولين الهروب من الجهة الخلفية للمخفر خوفاً من المتظاهرين.
لحظتها قذف ماموستا هوگر رمانة يدوية داخل المخفر ومع دوي الانفجار وأخذت مجموعة كبيرة من المتظاهرين بدفع بالباب بأياديهم وبضربات قوية من أقدامهم. وواصلنا نحن سيرنا وعبرنا الطريق الى أن وصلنا الى طريق كوي القديم.. المواجه للشارع الستيني. الذي فيه عدد من المحلات والدكاكين الصغيرة، أكثرية الأبنية هي بيوت متراصة ملاصقة لبعضها. والعديد من سكان هذه المحلات فوق أسطح منازلهم يصفقون ويهلهلون فرحين بقدومنا.. كانوا يعبرون عن مساندتهم وتضامنهم معنا، نحن المتظاهرون..
ودون أي موانع او مواجهات وصلنا الى الشارع الستيني.. أمام جامع حاجي مراد.. ومن هناك فوق شارع الستيني الى يمين الشارع.. وجدنا أمامنا مجموعة من مسلحي الخائن (مامند قشقة) وحينها كان أمر مفرزة خاصة.. ويعتبر شخصية لها تاريخ من الذنوب ومعروف على نطاق اربيل التي أقترف بحق شبابها ومناضلين من ابنائها جرائم عديدة. منذ نهاية السبعينات حينما عمل مع جهاز الأمن البعثي..
والآن له منصب رفيع كمسؤول في البارتي وساهم بدور قذر في الحروب الداخلية لتأجيج الوضع بين المتقاتلين من الحزبين.
كنا لا نزال في الشارع الستيني حينما بدأ مسلحيه برمينا برشقات طلقاتهم.. إلا أنهم كانوا يخافون منا ولم يتجرأ احداً منهم التقرب الينا.. لأنهم كانوا يعرفون أننا مسلحين.. لكن من بعيد كانوا يطلقون نيرانهم بأسلحة بيكيسي وكلاشينوكوف،
هناك أنهينا التظاهرة وانتهى بنا المطاف بأن نتوزع ونتفرق، الرفاق بدأوا بالفعل بالتفرق.. وبعد قليل من التفكير عبرت الشارع الستيني مروراً داخل منازل محلة گلکند ثم من هناك عبرت الى الجهة الأخرى الى أن وصلت الى منحدر هاوية والتي تقع بين محلة گلکند وبيوت الأمناء العاميين وبعد عبور المنحدر وصلت الى منازل المدراء العاميين.
بين منازل المدراء العاميين وهاوية المنحدر كان هناك طريق مؤدي الى الأزقة في الأعلى شاهدت العديد من الناس يسرعون من جهة السوق مروراً بالطريق المؤدي الى داخل الأزقة في الأعلى، سألت بعض من الذين التقيت بهم:
ـ ماذا حصل؟
اثنان منهم كانوا يديرون رؤوسهم وبقلق وخوف قالوا:
ـ حصلت تظاهرة إحتجاج في السوق.. والآن الحكومة على وشك أن ترش المدينة بالكيماوي.. و في تلك اللحظة وجدت فعلاً طائرات تجوب سماء أربيل.
بهدوء حذر كنت أمشي بين منازل الأمناء العاميين شاهدت مسلحي ماموستا نائف (ماموستا نائف كان هو أيضاً أمر مفرزة خاصة) مع رجال البعث وبعد الانتفاضة المجيدة هرب من أربيل متوجهاً الى الموصل بقي هناك وعمل مع الأجهزة الأمنية للبعث.. بعد سقوط صدام رجع مرة أخرى الى أربيل ويعمل الآن مع البارتي وأستلم وظيفته كمسؤول..
فيما بعد أوصلت نفسي الى محلة بلاشاوة ومن هناك توجهت الى بيت أختي.. في نهاية محلة الإسكان، قضيت الظهر هناك وفيما بعد رجعت أدراجي الى بيتنا..


صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991

الجزء الثامن
حين وصلت الى زاوية مدخل محلتنا، وجدت أمي جالسة تطل بنظراتها على شرفة باب منزلنا. بهدوء دخلت المنزل لكنني لم أبقى فيه طويلاً هناك غيرت من ملابسي وخرجت في الحال لأتفقد رفاقي ولأتأكد إن كانوا بخير وسلامة.
ذهبت مشياً على الأقدام الى ساحة باصات الريم وأنا في طريقي الى هناك التقيت بالرفيق لاوه سمعت منه بأن الجميع بخير وفيما بعد ركبت الباص ثم رجعت الى ساحة الريم ثم أخذت ريم وتوجهت الى حي 92 لبيت الرفيق شوان. هو أيضاً أكد لي بأن الجميع سالمون ولم يعتقل أحد منهم. ومن حي 92 ومشياً على الأقدام أخذت طريقي الى محلة باداوه، زرت السيد فؤاد صديق ووجدته أيضاً سالماً، قبل رجوعي للبيت عرجت في طريقي الى منزل رمضان، جيراننا هو أيضاً مثل بقية الرفاق كان بخير.
قبل أن أخلد للنوم ذهبت الى منزل الأخ أدهم في الطبابة العسكرية لأتأكد منه إن كان قد سجلني اليوم غائباً أم لا. بعد السلام قال لي بأنه تمكن أنْ لا يسجلني في سجل الغياب، بهذا الخبر أسعد قلبي لحدما وهدأ من روعي أحسست بالانتصار وبقيمة واهمية عملنا! وللعلم نحن الذين سخرنا كل حياتنا للحزب وحتى كنا نصرف من جيوبنا على نشاطاتنا وعدا هذا كنا شهرياً ندفع أيضاً اشتراك عضويتنا الحزب.
للأسف لاحظنا أن عددا من الرفاق المشاركين في الانتفاضة بعد الانتهاء من التظاهر اختفوا تماماً من أمام الأنظار.. والسبب لأنهم لم يكونوا لهم التزام و اكثرهم كانت مختفين.
في الصباح الباكر ذهبت الى الدوام في مستشفى الطبابة العسكرية وكنت على بينة بأنه إذا حصل واعتقلوني من المؤكد سيكون عقوبتي الإعدام. لأنني كنت جندياً ويعمل في حزب معارض هدفه إسقاط النظام.
حين وصولي الى المستشفى العسكري مباشرة.. كل من كان يعرف بقصتي جاءوا لاستقبالي، سألوني عن التظاهرة وقالوا بأن الأخبار كانت تصلهم بسرعة إليهم هنا في الموقع العسكري، الحزبيين من البعثيين كانوا يرتعبون من الخوف.
بالنسبة لي كان ذلك اليوم صعباً للغاية الى حين انتهاء الدوام لكن بشكل عام قد مر المر بهدوء وسلام، أحسست بأن الجميع أكثر من ذي قبل قد ازدادت ثقتهم بي وبما أقول.. كانوا ينظرون الي بشيء من الاعتزاز والغرابة إن صح التعبير.
في تلك الفترة بالذات وفي كثير من المرات.. كنا نسمع هنا وهناك خبر القيام بتظاهرة لكن لم يكن يتحقق منها في الواقع شيء.. والسبب لم يكن بإمكان المعدين لتلك التظاهرة جمع العدد الكافي من الناس لها. لكن تظاهرة 6 آذار صعدت من مكانة الحزب وعززت من موقعه في الوسط الجماهيري.. أوصلته الى مستويات أعلى ذات أمكانية لا يستهان بها في التحكم في الأوضاع الثورية.. و بعد 6 آذار العديد من الناس المتذمرين والمعارضين بدأوا بالاتصال بنا وكانوا يقولون ويؤكدون علينا إنه إذا حصل مرة أخرى و أنتم بصدد القيام بعمل كهذا أو يكون لكم خطة للقيام بمثيلها عليكم إخبارنا كي نشارككم في المرة القادمة..
مساء 7 آذار عندما رجعت للبيت وجدت الرفيق رزگار ئاكريي (الآن هو من يشرف على صفحة وموقع الحوار المتمدن) الرفيق رزگار قبلها حين كان طالباً في جامعة الموصل.. ومعنا في تنظيمات حزبنا، لكن فيما بعد تحول ليعمل في صفوف تنظيمات (رەوتی کۆمونیست) أي التيار الشيوعي وفي بداية سنة 1990 أقام في أربيل وعمل عاملاً فيها لبعض الوقت، يومها حين زارني كان يجلس في الصالة مع أمي ينتظرون مجيئي. بعد السلام كيفك وكيفي باركني على التظاهرة التي قمنا بها وقال لي: أن رفاقه في (ره وتي كومونيست) أرسلوه وإذا كان لديكم نية وبرنامج في قادم الأيام نرغب أن نشارككم وأنا بدوري شكرتهم ووعدتهم بأن نخبرهم للمشاركة في النشاطات القادمة.
وبنفس الأسلوب تعاملنا مع الرفاق من (زەحمەت کیشان) حينما أرسلوا الأخ كاكه هڤاڵ لنفس الغرض أيضاً وعدته بأعلامهم عن برنامجنا القادم.
الشيء الذي رفع من عزيمة ومعنويات الناس.. كان سماع خبر تحرير مدينة رانيه.. مما زاد من قناعة الأغلبية الساحقة من الناس.. بحقيقة والإمكانية طرد النظام من المدن بسهولة. وبعد تحرير مدينة السليمانية أصبح عملنا شبه علني.. وشيئاً فشيئاً ازدادت أعدادنا وتجمع الناس حولنا، وبدأنا نستعد ونتهيأ لتحرير مدينة أربيل.












صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991

الجزء التاسع والأخير

في تلك الأيام العصيبة التي مررنا بها استطعنا أن نشكل مجاميع مسلحة في المدينة. الأغلبية منهم كانوا من أنصار الحزب (الپێشمەرگه) من الذين بعد عمليات الأنفال المشؤومة كانوا قد سلموا أنفسهم الى النظام لكنهم لم ينقطعوا عن الحزب. بعض من هؤلاء كانوا أصلاً من مسلحي النظام وهم أصدقاء لحزبنا.
وبالرغم من أن النظام قد أعلن منع التجوال يوم 10 آذار في مدينة أربيل إلا أن الناس في المدينة وخصوصاً في الأحياء والأزقة الشعبية بشكل عام كانوا غير مكترثين لهذا القرار.. وخرجوا للشوارع دون أن يعيروا أهمية ما لوجود النظام بالمرة..
كانوا يستمعون الى إذاعة الثورة بالعلن التي كانت تذيع الأخبار لحظة بلحظة.. مثل أخبار عن هجوم الجماهير على معاقل وأجهزة النظام داخل المدن. في ذلك اليوم ونحن في المستشفى العسكري توجهنا أنا وكاك فرهاد حسن الى منزلهم ونحن جالسون هناك سمعنا من إذاعة الثورة خبر تحرير مدينة شقلاوة.

بعد الظهر وفي مدينة أربيل.. كسر الغالبية العظمى من الناس.. حاجز الخوف وكسروا أيضاً قرار منع التجول.. بدأوا يخرجون من بيوتهم أفواجاً. في ذلك المساء وأنا مع الرفيق سرود قمنا بزيارة الرفاق في منطقة شورش.. أخبرناهم بأنه غداً سوف يكون يوم تحرير مدينة أربيل.
هناك الكثيرون منهم سبق وأن أبلغوا بنفس الخبر. الأغلبية من الرفاق كانوا على علم بهذا الأمر بأننا من بعد تحرير مدينة أربيل سوف نجعل من بناية نقابة العمال مقراً رئيسياً لنا. وإذا لم يستطع الشعب تحرير المدينة، بسبب الخوف والرهبة التي عششت في عقول الناس من جراء الإرهاب والقمع.. سنواصل العمل لإرسال رسالة للاستعداد للخلاص في الأيام القادمة..
وهذا ما حدث.. تمكنا من أن كسر حاجز الخوف والتردد في نفوس الناس.. وفي نفس الوقت أوصلنا رسالة واضحة إليهم.. مفادها أن في المدينة قوى مسلحة وحيّة فاعلة موجودة تابعة للتنظيمات السياسية المناهضة للنظام داخل المدينة.. ومؤكد عند الحاجة سوف يكونون مستعدين لقيادتهم والدفاع عنهم عند الضرورة وفقاً لمتطلبات الموقف والمتغيرات في موازين القوى.
وفي نفس الوقت كانت هذه رسالة واضحة وعلنية للسلطة ورموزها وأزلامها ومرتزقتها.. بأنهم في هذه المدينة دون شك سيواجهون قوة منظمة مسلحة مستعدة عند الحاجة لحسم الموقف ومواجهتهم ومطاردتهم، وهدم قواعدهم ومقراتهم على رؤوسهم.
إن فاعلية هذه المواقف الجريئة شكلت انعطافه مهمة رفعت من معنويات الجماهير المنتفضة ومدتهم بالعزيمة والاندفاع.. وهذا كان العامل الجوهري للإصرار والتحدي بالرغم من الوجود الكثيف للقوات الأمنية وقوات الفيلق الخامس والمنظومة الشمالية ومجموعة من الأجهزة الأمنية ومئات من المفارز الخاصة.. إلا أن كل هذه لم تستطع أن تصمد أمام غضب الجماهير المنتفضة.. وفي خلال ساعات معدودة استطاعت الجماهير الغاضبة أن تحسم المر وتحرر المدينة بالكامل. من أي مشهد من مشاهد حضور السلطة والنظام القمعي الذي انهارت مؤسساته وانسحبت من المدينة في لمح البصر..

انتفاضة 6 آذار1991.. هي محطة بارزة في نضال الشيوعين في مدينة أربيل.. وبفضلها استعادت الجماهير ثقتها بنفسها.. وبقدرتها على مواجهة النظام البعثي.. والجزء الأكبر منها يرجع الى شجاعة الشيوعين وتأثيرهم على محيطهم قبل وقوع الانتفاضة العظيمة بأيام.
الآن يجب على الحزب الشيوعي أن يسأل نفسه!
ـ أين هو الآن؟
ـ وأين أصبح دوره؟
ـ وأين يقف الشيوعيون.. في خضم هذه التوازنات والأحداث المتسارعة التي يمر بها إقليم كوردستان ومدينة أربيل بشكل خاص باعتبارها عاصمة للإقليم..
منذ مدة نسمع هنا وهناك بأن أشخاص وعناصر من داخل الحزب.. ولأجل الحفاظ على مصالحهم الخاصة ولحصولهم المبطن على الامتيازات الشخصية.. أوصلوا الحزب الى قاب قوسين.. والى حالة من الشرذمة والتشتت والتراجع عن اداه دوره في الدفاع عن مصالح الكادحين ومواجهة الفساد في كردستان..
لحد أصبح أعضاء الحزب يعانون من اوضاع نفسية ويشعرون بالخجل واللا انتماء.. واستهداف المناضلين الحقيقيين وابعادهم.. بهدف عزل المخلصين منهم.. لكيلا يتمكنوا من إبراز امكانياتهم الفكرية والنضالية..
وتقليص قاعدتهم الجماهيرية وتقليل فاعليتهم بين الجماهير.. وهذا بحد ذاته شكل اخفاق وانكسار وانحصار للقيم الثورية والانسانية التي غرسها الحزب في نفوس أعضائه ومؤازريه طيلة أعوام نضاله جيلا بعد جيل..
والآن أوصلته هذه القيادة المهيمنة عليه منذ سنوات الى مستويات أدنى من العزلة الجماهيرية والانزواء خلف المكاتب البيروقراطية العاجزة عن استيعاب متطلبات المرحلة وإعادة بناء الحزب لينهض بدوره الفاعل في التغيير وشلت قدراته ولم تقدم أي انجاز حقيقي كما لم تطرح اية برامج او خطط عملية لمعالجة أوضاعه وانتشاله من المأزق الذي قادته اليه وربطت مصيره بمصير الفئات الانتهازية في سلطة وحكومة الإقليم الفاسدة لليوم.
هذا الحزب.. حزبنا الشيوعي.. الذي كان يحكى عنه بأنه خالق الملاحم الثورية والأساطير التي سطعها الالاف من مناضلين فيه وكوكبة من شهداءه الابرار على مر الأجيال.. وحين يسمع الجيل الجديد عن تلك الملاحم يصاب بالاندهاش وتصعقه الصدمة.. ويكاد لا يصدق شيئاً مما قيل ويقال عن نضاله ومآثره الخالدة..
ذلك الحزب الذي كان له تأثير كبير وعميق ودور فاعل في تغيير الأحداث!
الآن وبأسف نفتقد لهذا الدور.
الآن نجد العديد من أعضاء الحزب والقدماء منهم خاصة يشيرون لتلك الأحداث ويتحدثون عنها بخجل واضح كأنها ليست من ماضي نضالهم المشرف الذي يرفع الرؤوس.
سلاماً لأولئك الشجعان أولئك الذين واجهوا جبروت نظام صدام بصدور عارية مفتوحة.. كما واجهوا نيران مرتزقة النظام الفاشي دون خوف.. وكانوا دوماً في الخطوط الأمامية عند المحن.. حين كان شعبهم بحاجة إليهم..
كانوا هناك في تلك الساحات والشوارع والأزقة المنتفضة من أجل الحرية والكرامة الإنسانية..

وشكراً لجميع الأخوة والأخوات الذين ساهموا عن طريق تعليقاتهم القيمة وإضافاتهم من إثراء محتوى كتابتي المتواضعة هذه.
أتمنى أن تكون هذه الكتابة البسيطة دافعاً وعاملاً محفزاً للأخرين من رفاقنا.. لكي يتمكنوا كل من جانبهم أن يضيفوا ولو بشيء بسيط مما رأيته وعايشه في أيام الانتفاضة.. انتفاضة 6 آذارفي أربيل..
وهذه الاسطر ما هي الا فقط لإبراز الحقائق وتوصيلها بصدق للأجيال القادمة.. لكي لايرى الناس الحزب الشيوعي بأعين الحاضر.. ويطلعوا على ماض ليس بعيد وتاريخ مشرق كما كان.
أنا من طرفي وبعد أن شجعت وحفزت من قبل مجموعة من الرفاق.. بدأت بكتابة هذه الذكريات.. وفي هذه السطور القليلة المتواضعة.. حاولت أن أشير الى مشاهداتي ودور كل مناضل في تلك المرحلة، وما عشناه في الواقع على الأرض..
وما مر من تجارب في خضم تلك الأحداث بسرعة البرق.. التي تكاد ان تكون الآن في طي النسيان. لهذا أتمنى أنْ لا أكون سبباً لأوجاع قلوب رفاقي وأحبتي وسبباً لخدش مشاعر أحد منهم.. كما لا أكون سبباً لإهمال أو نسيان أحد منهم لأني اكتب معتمدا على الذاكرة.. وأعتذر من النقصان والزيادة غير المبررة فيما سجلته من تجربة عن تلك الأيام الخالدة.
الآن وبعد قراءتي الجادة لجميع التعليقات التي جاءتني من رفاقنا وأصدقائنا أصبحت على يقين وأقول بالمطلق بأن جميع التحضيرات والاستعدادات والاجتماعات التي تمت في 2 آذار في منزل الرفيق صلاح مه زن استثمرت بشكل جيد وأثمرت وأنتجت انتفاضة 6 آذار التي بسببها استعادت الجماهير فيها ثقتها بنفسها وبقدرتها على المواجهة وتمكنت من تغيير موازين القوى لصالح الشعب.. ثم فسح المجال وتعبيد الطريق للانتفاضة المجيدة الشاملة.. في 10 آذار حاملة معها بشائر لبزوغ فجر الحرية والتحرر والإستقلال الموعود..

يا لها من حرية واستقلال ...!!
إن هذه المذكراتْ قَد تَم نَشرها لأول مَرة في صَفحات شَبكة التواصل الإجتماعي لكاتبها ( هاورێ دلشاد) باللغة الكوردية.. وتسعة أجزاء تحكي قصة المناضلين الشيوعيين وأصدقاء الحزب الشيوعي والأشخاص الذين ساهموا وعبدوا الطريق وقاموا بالتحضير والتهيئة لإشعال الشرارة الأولى للانتفاضة الاولى المجيدة في 6 آذار 1991.. لجص نبض قدرات السلطة البعثية وأجهزتها القمعية وكانت اختباراً ساهم بشكل مباشر في تغيير النتيجة وقلب من الموازين لصالح الشعب في الانتفاضة الكبرى يوم 11 آذار 1991.
هذه اليوميات سجلت من قبل احد قادة الانتفاضة ـ دلشاد خضر
تُرجِمَت الى العَربية من قبل ـ شيروان عبد الله شمديني ـ




#دلشاد_خدر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخاتمة - صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991
- تفاعل ودعم القوى اليسارية - صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في ...
- خلال التظاهرة - صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991
- المظاهرة الجريئة - صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 19 ...
- التواصل مع القوى والشخصيات - صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في ...
- التخطيط - صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991
- التحضير - صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991
- البدايات- صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991
- المقدمة - صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991
- الحزب الشيوعي الکوردستاني لم يعد رقما في المعادلات السياسية


المزيد.....




- زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية
- دعوات لمسيرة في باريس للإفراج عن مغني راب إيراني يواجه حكما ...
- الصين تستضيف محادثات مصالحة بين حماس وفتح
- شهيدان برصاص الاحتلال في جنين واستمرار الاقتحامات بالضفة
- اليمين الألماني وخطة تهجير ملايين المجنّسين.. التحضيرات بلسا ...
- بعد الجامعات الأميركية.. كيف اتسعت احتجاجات أوروبا ضد حرب إس ...
- إدارة بايدن تتخلى عن خطة حظر سجائر المنثول
- دعوة لمسيرة في باريس تطالب بإلإفراج مغني راب إيراني محكوم با ...
- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - دلشاد خدر - صفحات مضيئة من انتفاضة أربيل في 6 آذار 1991 - 1-9 النص الكامل