أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - ابني حبيبي، سنلتقي يوماً!















المزيد.....

ابني حبيبي، سنلتقي يوماً!


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 6864 - 2021 / 4 / 9 - 14:40
المحور: الادب والفن
    


وأخيراً حملت سمر بجنينٍ. فقد بشّرها الطبيب الفاحص بذلك بعد تأخر دورتها الشهرية المنتظمة عدة أيام وإجراء الاختبار الخاص بالحمل. وأمطرها بالإرشادات وهو يكتب «الرويشتّة». وأوصاها بضرورة تناول مجموعة من الفيتامينات والأدوية للمحافظة على الجنين. لم تسمع جُملة واحدة من توصياته، فقد كانت مغمضة العينين تتراقص أهدابها ابتساماً، وتسيل الغبطة من ملامح وجهها حبوراً. يتردّد في داخلها فقط صدى تلك العبارة الساحرة التي قالها الطبيب: «مبروك مدام. وأخيراً أنت حامل».
وضعت «الرويشتّة» في جزدانها على عجل وخرجت من العيادة وقد تلألأتْ عيناها بالبريق. وضحكت كثيراً وهي تذرف دموع البهجة في الطريق. تمنّت لو تلتقي بجميع من يعرفها من أقارب وأصدقاء دفعةً واحدة لتسرَّ لهم النبأ العظيم. فهي لن تكون فريسة الإحسان من الآن فصاعداً عندما تصفعها صويحباتها لدى زيارتهنّ لها بعبارات مثل: «الله يبعتلك ضنا يستر آخرتك – انشالله منفرح بخبر حبلك – الله يتحنّن عليك ويرزقك اللي ببالك..» وغيرها من الجُمَل التي كانت تسبّب لها الغمّ والحسرة.
عند وصولها إلي البيت، حرصت أن تستلقي على السرير بهدوء. وطَفِقت تتلمّس بطنها وتُناجيه: «متى ستتكوّر منتفخاً بفلذة كبدي؟ متى سيتحرّك جنيني الحبيب رافساً جدران الرحم كبقية الأجنّة؟ هل سيتحقق حلمي وأسمع من يناديني ماما؟ متى ستمضي الأشهر الثلاثة الأولى لأعرف من خلال تصوير "الإيكو" جنس الجنين؟ ليس ذلك مهمّاً على الإطلاق؛ المهم أن يبقى سليماً. ولو أنني أتمنى أن يكون صبياً نزولاً عند رغبة أبيه».
ولمّا كانت قد زارت الطبيب دون إعلام زوجها، فقد فضّلت عدم إخباره النتيجة عبر الهاتف. لأنها سئمت من التخيلات. تريد أن تقرأ ردود أفعاله مباشرةً وجهاً لوجه؛ كيف ستتسع عيناه دهشةً ويرفع يديه نحو الأعلى صارخاً كمشجّعي كرة القدم ويرقص طرباً. كيف سيعانقها باكياً من فتنة الصدمة.. فهو لا يقلُّ عنها لهفةً وتشوّقاً لكي يصبح أباً. لا سيّما وأنه أمضى سنوات طويلة في أحد المعتقلات بتهمة معارضة نظام الحكم. وراهن الكثير من معارفه من أنه لن ينجبَ أبداً بسبب التعذيب الرهيب الذي تعرّض له.
عشرة أعوامٍ من زواجهما وهما يعيشان على الأمل. لم يتركوا طبيباً مشهوراً بالمحافظة وحتى في العاصمة إلّا وطرقوا بابه. لم يوفّروا أيّاً من التحاليل والتصاوير، وحتى الطب البديل من وصفات تعتمد على الأعشاب.. إلّا ولجؤوا إليها. والغريب في الأمر أن جميع الأطباء كان لهم رأياً واحداً: «لا يوجد مانع جدّي من الحمل. عليكما بالصبر والاستمرار في المحاولة».
عند عودة زوجها من العمل، صافح أذنيه أحلى خبر طال انتظاره. كاد أن يطير من الفرح. وأجهش بالبكاء من فرط السعادة. وأسرع لشراء الحلويات وزيارة والدته وحماته ليزفَّ لهما البُشرى. وفي اليوم التالي، كلّ زملائه في العمل قدّموا له التهاني والتمنيات بالسلامة لدى سماعهم الخبر.
وتمرُّ الأشهر بطيئةً ثقيلة. ويعرف الزوجان جنس الجنين؛ فهو صبي كما تمنّيا. ثلاثة فساتين خاصّة بالحمل اشترى لها زوجها. الحليب والبيض والفواكه واللحوم حاضرة دوماً في المطبخ. فأوضاعهما المالية ميسورة إلى حدٍّ ما. فإلى جانب زوجها الذي يعمل محاسباً في أحد البنوك الخاصة، فإن سمر معلمة في مدرسة ابتدائية. كما أنها تملك أرضاً زراعية فيها أكثر من ثلاثين شجرة زيتون كبيرة ورثتها من أبيها.
ما إن تخطّت الشهر السادس من الحمل، حتى قصدت السوق لشراء ما تيسّر من «ديارة البيبي». وتعمّدت أن تكون أغلب الألبسة من اللون الأزرق الفاتح. فهو اللون المناسب للصبيان حديثي الولادة. بينما اللون الزهري فهو من اختصاص البنات حسب معتقداتها.
في بداية الشهر الثامن من حملها استيقظت ذات صباح على آلامٍ مبرّحة في بطنها. حاولت إخمادها بشراب الزهورات دونما جدوى. شعرت بالقلق والفزع، فهرعت برفقة زوجها إلى الطبيب المعتمد. الذي سرعان ما انكبَّ على فحصها باهتمام، وهو متجهّم الوجه كمن يتنبّأ بسوء الطالع؛ تارةً عبر الإيكو، وتارة يقيس ضغطها ونبضات قلبها. وتارةً يجسُّ مواقع شتى من بطنها والعرق يتصبّب من جبينه. والزوج يراقب صامتاً مشتّت الذهن وقد اجتاحه شحوبٌ مفاجئ وجفَّ ريقه تماماً. والزوجة بين لحظةٍ وأخرى تسأل الطبيب بعينين مدهوشتين متضرّعتين يقتتل فيهما الخوف والأمل: «أرجوك دكتور طمّنّي!».
وأخيراً نطق الطبيب بما كان يتوقّعه الزوج: «أنا في غاية الأسف، المهم سلامتك يا سيدتي!». حملقت به وقد فرَّ اللون من وجهها، وسألته مستغيثةً بلهجةً شكّاكة: «شو يعني؟!» أجابها الطبيب وقد لاحت على وجهه خيبة أمل مريرة: «أكرّر اعتذاري وأسفي، الجنين العوض بسلامتك».
أطنان من الخذلان انهمرت على رأسها وهي ترجوه باهتياج أن يعيد الفحص مجدداً. فقد تكون قراءته لشاشة الجهاز خاطئة! وهي تؤكّد له بأن الجنين كان يتحرّك بنشاط في بطنها عند الفجر. ومن المستبعد تماماً أن يكون قد... لم تستطع إكمال جملتها. فقد غصّت بالبكاء.
وضع الطبيب يده بحنوّ على كتف الزوج وانتحى به جانباً. وأخبره بأن الفحص السريري يشير إلى وفاة الجنين. وأن عليه اصطحابها فوراً إلى أقرب مشفى، لئلّا يتفاقم الوضع ويشكّل خطراً على حياتها. وينبغي أن يتحلّى بالشجاعة والتعامل مع الحدث كما يقتضيه العقل والمنطق.
غادرا العيادة وهو يمسك بيدها محاولاً إيجاد أفضل العبارات لمواساتها، ولكن دونما جدوى. فقد انعقد لسانه والتزم الصمت. لدى بلوغهما الشارع، أوقف سيارة تكسي لتقلّهما إلى المشفى. لكن سمر أبت معلنةً رفضها الذهاب إلى المشفى قبل أن تُحضِرَ ديارة البيبي من البيت. فقلبها يقول لها بأن الجنين سليم معافى وأنها ستلده بشكلٍ طبيعي. وافقها الزوج متردّداً، وحدْسٌ غامضٌ ينذره بأن الأسوأ في انتظاره. طلب من السائق تغيير خط سيره والتوجّه إلى عنوان بيته. لدى وصولهم إلى البيت، بقيت سمر في السيارة وهرْولَ الزوج لإحضار الديارة الموضوعة بترتيبٍ وعناية في حقيبة خاصة اشتراها خصّيصاً لهذه المناسبة. لحظات ويعود وبيده الحقيبة وينطلقان بسرعة إلى المشفى.
خلال الطريق كانت تُقسِرُ نفسها على التبسّم بعينين مذعورتين تختزنان كل حزن العالم وهي ترمق زوجها بين الحين والآخر. مكرّرةً ذات الكلمات، من أنها واثقة من أن وضعها جيد، وأنها ستلد صبياً جميلاً. والزوج يوافقها مجاملاً على غير اقتناع ، ليشدَّ من عزيمتها وهو يرسم ابتسامة مبالغاً فيها، باذلاً أقصى ما لديه من جهد لكي يلجم دموعه.
إن نسيَ شيئاً في هذه الحياة، فلن ينسى لحظة دخول زوجته غرفة العمليات وهي تحتضن حقيبة الديارة. مرسلةً له ابتسامتها الجريحة وهي تودّعه قبل أن يُغلقَ البابُ خلفها.
سبعة سجائر دخّنها وهو يتلظّى بألم التوقّعات في البهو قرب غرفة العمليات، مترقّباً بتوسّلٍ ورجاء كمن ينتظر حدوث معجزة. إلى أن خرجت الممرّضة وعلى يديها الوليد ملفوف بقماشةٍ بيضاء وقد ظهرت الساق منها. قدّمت الممرّضة الوليد لأبيه بوجهٍ مخطوفٍ مستعطفٍ. وبنظرةٍ تتّشح اضطراباً وحيرةً وحزناً وهي تجمجم بعبارات الأسى. احتضن الأب جثمان ابنه بذراعين يأكلهما الارتعاش، وأدرك أن أمله قد انطفأت شعلته. ضمّه إلى صدره وكشف عن وجهه ليجده أبيض اللون وقد ازرقَّت بعض قسماته. تطلّع إلى السقف طالباً العون من كل آلهة الخليقة. وخاطب طفله والدموع تملأ عينيه، وبصوتٍ مهموسٍ مزّقته الفجيعة تمتم:
«ابني حبيبي، لم يحالفنا القدر أن نحتفل بقدومك إلى هذه الدنيا، أرجوك عِدْني أن نلتقي مجدداً بعد عامٍ من الآن. أرجوك يا ابني لا تخذلني في المرة القادمة، أرجوك!».



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فقرةٌ من حوارٍ يوميّ
- جعلوها مُومِساً
- مُتْ قاعداً!
- بانتظار الفجر
- الغلاسنوست والبيروسترويكا
- إنّا نُحِبُّ الوردَ، لكنّا..
- شهامة طفل
- كراج مستعمل، ممنوع الوقوف!
- هل الشيوعيّون قِلّة في مجتمعاتهم؟
- أين أختبئ يا ناس؟!
- ما أمرّ قهوة الجنرال!
- حاضر معالي الوزير!
- طائر البلشون
- كاسة قهوة ومحرمة وطابور..
- هل يكمن الحلّ بقتْلِ كِبار الفاسدين؟
- أرجوك لا تقاطعني!
- «ماذا وراء هذه الجدران؟»
- جدل بيزنطي
- دلال
- ما مصلحة الغرب في فرض العقوبات على سورية؟


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - ابني حبيبي، سنلتقي يوماً!