أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - جعلوها مُومِساً















المزيد.....

جعلوها مُومِساً


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 6850 - 2021 / 3 / 26 - 21:39
المحور: الادب والفن
    


كثيرةٌ هي المرّات التي أذهب فيها إلى السوق وأعود سيراً على الأقدام، بسبب الزحمة الشديدة في وسائط النقل نتيجة أزمة الوقود. وفي ظهيرة أحد الأيام، وبعد شرائي لمادة التبغ من باعة الأرصفة الذين يتمركزون بالقرب من مبنى مديرية الزراعة باللاذقية، عدتُ أدراجي باتجاه البيت الذي يبعد عنه حوالي ثلاثة كيلومترات. وفي طريق العودة شعرتُ بإعياءٍ مفاجئ، أحسستُ خلاله بأنني قد أسقط على الأرض. تلفّتُّ مُجيلاً ببصري فيما حولي بنظرةٍ عجلى، لمحتُ الحديقة العامة المجاورة لمبنى مديرية السياحة. اتجهتُ صوبها علّني أجد مقعداً شاغراً لأرتاح فيه. لدى بلوغي مقصدي تهالكتُ على أوّل مقعدٍ صادفته. وطَفِقتُ أمسح وجهي وصلعتي من قطرات العرق التي غزت كافة أنحاء جسدي.
فجأةً، وإذ بسيّدة تجلس إلى جانبي. التفتُّ إليها مستطلعاً، فابتسمتْ وقالت:
- مرحبا، هل أُزعِجكَ بالجلوس إلى جانبك؟
مضغتُ ريقي وأنا في غاية الإجهاد وأجبتُ:
- لا إطلاقاً. أهلاً وسهلاً.
حطَّت جزدانها إلى جانبها على المقعد، ووضعت ساقاً على أخرى، وبدأت تهزُّ قدمها اليمنى إلى الأعلى والأسفل بحركة متواترة وهي ترمقني بين الفينة والأخرى. لحظات من الصمت يبدو أنها استشعرت حالة الوهن التي أعاني منها فانبرت قائلةً متظاهرةً بالقلق:
- يبدو عليك التعب، إن لم أكن مخطئة؟
- بالفعل يا أختي، لقد شعرتُ بدوار مفاجئ، فارتأيت الاستراحة في هذا المكان. وأشكرك على ملاحظتك وعلى تعاطفك النبيل. سأكون بخير بعد قليل.
أثناء حديثي معها، لاحظت أنها متوسطة الجمال. في العقد الرابع من عمرها. ترتدي ثياباً متواضعة هرب الكثير من ألوانها. يخلو وجهها الأسمر من المكياج. وقد ربطت شعرها إلى الخلف. وبانت جذوره الفضّية على أطراف جبينها وصدغيها. ما يدلّ على أنها أقلعت عن صبغه منذ فترة طويلة.
فتحتْ جزدانها وأخرجتْ علبة دخان أجنبي من أرخص الأنواع وعرضت عليّ سيجارة. شكرتها متذرّعاً بأنني لست على ما يُرام، كما أني معتاد على الدخّان البلدي. قالت لي متصنّعةً ابتسامة إغواء وهي تشعل سيجارتها:
- هل أنت متزوج، وأين تسكن، وهل تحبّ البسط والكيف؟
أجفلتني عبارتها الأخيرة، وأيقنتُ فوراً أنها من بائعات الهوى. أمعنتُ النظر في وجهها بارتياب، ألفيته موسوعة للأحزان لفرط ما تكالبت عليه نوائب الدهر. تنهّدتُ بعد لحظات من الصمت. وقلتُ بصوتٍ واهنٍ وغمٌّ مفاجئٌ إضافيٌّ يخنقني:
- وهل شَيْبتي وهيئتي توحيان بأنني من ذلك الصنف الذي تبحثين عنه؟
حدّقتْ إليَّ وفي عينيها ابتسامة جريحة وقد صدمها جوابي. وقالت بصوتٍ خفيض:
- إنها الحاجة يا عمّ. هل تعلم أنني لم أتذوّق الطعام منذ ليلة البارحة وحتى الآن؟
أحسستُ بتلقّي صفعة. لم أقوَ على نطق كلمة واحدة. وأوكلتُ للصمت والدهشة أمر مشاعري الجيّاشة. تذكّرت أن الساعة تجاوزت الثالثة من بعد الظهر. هذا يعني أنه مضى على تضوّرها وقتٌ طويل جداً. انتابتني مشاعر متناقضة من التضامن والاشمئزاز. نظرتُ إليها مجدداً، يا إلهي! وجهها النحيف يعبّر عن أقسى مظاهر المجاعة. قلت لها بمشقّة:
- سأُقاسمك يا أختي ما تبقّى معي من مال. رغم إدراكي بأن ذلك لن يحلّ لك المشكلة.
غللتُ يدي في جيبي وسحبتُ كل ما فيها من نقود. كان بحوزتي (1700) ليرة. أعطيتها الألف وأعدتُ الباقي إلى جيبي.
أمسكتْ بورقة الألف وأطرقتْ في الأرض دون أن تنبس بحرف. وهي ترنو إلى سيجارتها ترسل خيوط الدخان بكسلٍ شديد. قلت لها بنبرة أستاذ يؤنّب تلميذه على ذنبٍ اقترفه:
- هذا ما يمكنني تقديمه لك. وأتمنى عليك الإقلاع عن هذه المهنة البغيضة، والبحث عن فرصة عمل تقيكِ من المذلّة. فأنتِ ما زلتِ شابّة.
أجابت بعد تردّدٍ وجيز بصوتٍ تشغله الحيرة والأسى المشبع بالغضب:
- أرجوك، لست بحاجة إلى نصائحك ومواعظك. هل تعتقد أنني فور تزاحم الاحتياجات لي ولأطفالي، فكّرت بهذه الطريقة للعيش؟ صدّقني بعد استشهاد زوجي في هذه الحرب اللعينة، واعتقال اثنين من أخوتي، واختفاء الثالث والأخير منهم، لم أوفّر باباً إلّا وطرقته بحثاً عن عمل يحقق لي الكرامة، لكن جميع الأبواب كانت موصدة. اللهمّ، إلّا تلك الأبواب الحقيرة التي استقبلتني مُنتهِزةً وضعي كأرملة فقيرة مقطوعة من شجرة، ويمكن أن ترضى بأيّ شيء لقاء تمتّعهم بجسدي.
موجات من الشجن اجتاحت كياني وأنا أتابعها برثاءٍ وإشفاق. جعلتني أنسى وضعي الصحّي، وأندم على قسْوة عبارات الهداية التي تلفّظتُ بها منذ قليل. سحبتُ نفساً عميقاً والتفتُّ إليها بارتباك، عارضاً عليها ابتسامة متسامحة وقلت:
- بدايةً، أنا أعتذر منك وأتفهّم استياءك. لكن، هل يُعقَل أن الدنيا باتت خالية من الشرفاء الذين يحتاجون إلى عمال وعاملات؟! مثلاً، هناك الكثير من المحلات التجارية تضع إعلاناً على واجهاتها تشير إلى حاجتهم إلى عاملات.. و..
قاطعتني بانفعال وهي ترمي عُقب سيجارتها، وقد ازداد وجهها شحوباً وعيناها امتلأتا بالدموع:
- جرّبتُ ودخلتُ على بعضها. هل تعلم كم الراتب الذي عرضوه لقاء عملي لديهم من العاشرة صباحاً وحتى العاشرة ليلاً؟ خمسون ألف ليرة! يعني إذا حسبتُ أجرة الذهاب والإياب وسندويشة فلافل مع كأس شاي خلال النهار، فإن الراتب لن يُغطّي حتى هذه النفقات القليلة.. هل تريدني أن أعمل كل هذا الوقت بعيدةً عن أطفالي، ومجّاناً؟!
واستأنفت حديثها بحزنٍ يمزّق الهواء وهي تنشم دموعها من أنفها:
- عملتُ بشركة خاصة معنيّة بنظافة شوارع المدينة، فأنا لا أستعيب من أيّ عمل، على الرغم من نظرة المجتمع إلى هكذا أعمال. ولكن ولسببٍ أجهله، تم انفضاض الشركة وسُرِّح عمّالها. ورجعتُ إلى حالة البطالة من جديد. تصوّر! حتى عملي كزبّالة لم أوفّق به. يا ربّ، أيُّ ظلمٍ هذا، بل أيّ قهر! يا ألله ما أحلى الموت لأمثالنا! (أغرقت وجهها في راحتيها وبدت على أبواب النشيج وهي تتمتم) آه، كم أنا معذّبة يا أخي!
علّقت جزدانها على كتفها بعصبية، ونهضت مغادرةً المكان وهي تغمغم لاعنةً ظروفها وحياتها والساعة التي وُلِدت فيها..
هبّت ريحٌ عاتيةٌ مفاجئة وأثارت زوبعةً من الغبار لحقتْ بتلك السيدة. وما لبثتُ أتأمّلُ طَيْفَها وهي تحمي وجهها بكلتا يديها وسط الغبار الكثيف، حتى أحسستُ أن عالمي يرتجّ وينذر بانهيار مروّع. دهمتني قشعريرة مختلطة بوثبة غضب. وشعرتُ بطوفان من الحزن يكسّر ضلوعي. نظرتُ إلى السماء المكفهرّة، إلى أشجار الحديقة العاقر، إلى قذارة كل ما يحيط بنا.. فجأةً فعلتُ ما لم أفعله منذ وفاة أمّي؛ بكيت.



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مُتْ قاعداً!
- بانتظار الفجر
- الغلاسنوست والبيروسترويكا
- إنّا نُحِبُّ الوردَ، لكنّا..
- شهامة طفل
- كراج مستعمل، ممنوع الوقوف!
- هل الشيوعيّون قِلّة في مجتمعاتهم؟
- أين أختبئ يا ناس؟!
- ما أمرّ قهوة الجنرال!
- حاضر معالي الوزير!
- طائر البلشون
- كاسة قهوة ومحرمة وطابور..
- هل يكمن الحلّ بقتْلِ كِبار الفاسدين؟
- أرجوك لا تقاطعني!
- «ماذا وراء هذه الجدران؟»
- جدل بيزنطي
- دلال
- ما مصلحة الغرب في فرض العقوبات على سورية؟
- من يقف وراء الحرائق في البلاد؟
- طفولة غير سعيدة


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضيا اسكندر - جعلوها مُومِساً