أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - فارس كمال نظمي - في انثربولوجيا ثورة تشرين: صفاء السراي كارزما البطل الاجتماعي















المزيد.....

في انثربولوجيا ثورة تشرين: صفاء السراي كارزما البطل الاجتماعي


فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)


الحوار المتمدن-العدد: 6755 - 2020 / 12 / 8 - 15:44
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


يعجّ الفضاء العمومي في العراق منذ 2003 بأيقونات التدين السياسي المتناسلة من بعضها، إذ تقف وراءها سلطة المال والسلاح و"المقدس" العصي على النقد والمساءلة. وهي بذلك اكتسبت "شرعية" أحادية لتعبئة هذا الفضاء انتخابياً وطقوسياً -ضد عدوٍ وهمي يستوجب استيلاده في كل مناسبة-، باستثمار سردياتٍ مصنوعة من نسيج معجزاتٍ وطهاراتٍ، يُتهَمُ من يشكك بها بالإلحاد أو الفسق أو الخروج عن الدين والملة.
وطوال سنوات هذه الحقبة، لم يتمكن المجتمع المدني -في مقابل المجتمع الدين -سياسي- أن يطوّر أيقونات خاصة به تستطيع الفاعلية والتأثير الكارزماتي في جزءٍ من الفضاء العمومي على الأقل، كما فعل "صفاء السراي"، الشاب الذي هشمتْ جمجمتَه قنبلةٌ دخانية أطلقتها قوات مكافحة الشغب قرب جسر الجمهورية في بغداد مساء يوم 28 تشرين الأول 2019 في ذروة الحراك الشبابي الثوري الباحث عن وطن.

لفهم ظاهرة صفاء السراي وتفسير تحوله إلى أيقونة عميقة الانتشار والتأثير في الحراك التشريني، فيمكن للتحليل أن ينصب على عاملين متفاعلين جدلياً: عامل يتعلق بالبنية النفسية الأساسية للحراك، وآخر يتعلق بوظيفة الحراك الساعية إلى امتلاك شرعية البقاء والديمومة.


النزعة الفردانية الباحثة عن الخير العام

يتحدد العامل التفسيري الأول بواحدة من أهم الصفات البنائية المفجّرة لذلك الحراك الثوري، إذ استند منذ بدايته إلى إطار سيكولوجي وجودي فرداني لدى الشاب المحتج، اتخذ طابعاً تعبيرياً جمعياً؛ بمعنى إنه حراك جماعي عبّر عن تنامي النزعة الفردية الحقوقية غير المؤدلجة بعقيدة سياسية أو دينية محددة، إذ برز الفرد وسط الجموع للتعبير بحدة واستماتة وتضحية عن رغبته الذاتية باستعادة حقوقه في أن يكون مشاركاً في الثروة الاقتصادية والمكانة الاجتماعية والهيبة الوطنية، بعد أن جرى تهميشه طويلاً. فهذه النزعة الفردية الإيثارية جاءت مكرسة لخدمة الخير العام أو مصالح المجتمع أو لاسترجاع وطن، لا لمنفعة مطلبية ضيقة أو لانصياعٍ تسليمي لعقيدة تدّعي امتلاك الحقيقة.

وصفاء السراي (المولود في 1993) بتاريخه الاحتجاجي والشعري والشخصي يمثل على نحو دقيق هذا المثال التشريني، أي هذه النزعة الفردية الثورية الشبابية البطولية المستميتة الباحثة عن التغيير لصالح المجتمع، حد الاستخفاف الجمالي بالموت وبأي تضحيات جسيمة، دون الحاجة إلى أي تأطير عقائدي أو حزبي. إنه البطل الاجتماعي البسيط، الخارج تلقائياً من تفاصيل الظلم اليومي المرير، دون تحشيدٍ لاهوتي أو ايديولوجي لتسويق فعله الإيثاري المتجذر في قلب الحياة لا في ما ورائياتها.

فالسراي الذي عُرف داخل ساحات الاحتجاجات بالمتظاهر المزمن أو الأبدي أو المحترف، ابتداءً من انتفاضة جمعة الغضب 2011 مروراً باحتجاجات 2015 ثم 2018 ، وصولاً إلى تشرين 2019، كان مثالاً ملهِماً لعدد غير محدود من رفاقه، بزهده وعصاميته وبنزعته الشديدة إلى الحرية والحداثة والعفوية والإيثار والشاعرية الوطنية المفرطة، وبمواقفه المتفردة وغير المألوفة في مناهضة السلطة أيا كان مصدرها: السياسة أو الدين أو العشيرة، حدّ أنه سمّى نفسه "إبن ثنوة" بالضد من التقاليد الذكورية واعتزازاً بأمه التي أصيبت بعدة سرطانات وتوفيت في سنة 2017.

وحينما اندلعت ثورة تشرين أوصى صفاء رفاقه بأن يطوفوا بجنازته حول نصب الحرية إذا ما قُتل وأن يدفن جنب أمه ثنوة. وهذا ما حصل بالفعل إذ جاء مقتله الدراماتيكي المروع برهاناً مؤكداً وملموساً على التطابق البطولي بين أقواله وأفعاله، وهو أمر أخلاقي منح الشباب إلهاماً عاطفياً شديداً للتماهي برمزانيته. في هذه اللحظة حقق صفاء كارزما الشهيد الذي سيزداد حضوراً وتأثيراً وحياةً بعد غيابه المفجع.


حاجة الحراك لتشييد رمزيته في الفضاء العمومي

أما العامل التفسيري الثاني فقد اتضح منذ لحظة استشهاده، متمثلاً بمساعي الحراك الاحتجاجي إلى امتلاك شرعية البقاء والديمومة. فالفضاء الاحتجاجي كان بحاجة نفسية عارمة إلى سردية مدنية متينة (في ضوء افتقاره لرصيد عقائدي أو حزبي من الصور والرموز والثيمات البطولية) تمنحه إطاراً يوتوبياً متفوقاً للاستقواء على الخصم الذي احتكر بهيمنته الثقافية الفضاءَ العمومي وحولّه إلى إيقونات "مقدسة" تنتج له "شرعية" الحكم وحتى قمع الاحتجاجات.

فكان صفاء السراي بسيرته ومواقفه وأشعاره وصوره وملامحه ونهايته المفجعة، يمثل مادة حياتية وذهنية محرضة على صناعة رمز وطني مُلهِمٍ يستطيع الوقوف –من بين رمزيات عديدة- بالضد من ترسانة السلطة الغنية جداً بحكايات ومفاهيم وتصورات تمنحها "أحقية" الوجود والاستمرار.

إن قوة هذه السردية/ الأيقونة التي صنعها جزء من الحراك التشريني عن صفاء السراي وحالات أخرى لشهداء آخرين، في مقابل شهداء منسيين، إنما تعزى إلى أسباب عديدة، بعضها يتعلق فنياً بالسياق الزماني والمكاني الذي حدث فيه الاستشهاد، أو بشخصية الشهيد وشبكة علاقاته وتأثيره، أو بدور شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. إلا أن ما يميز قوة أنموذج صفاء السراي، أنه حقق في مخيال الشباب الثوري عدداً مهماً من القيم والسمات الشديدة الجاذبية، والتي شكّلت باجتماعها أنموذجاً ثقافياً سياسياً كارزماتياً مضاداً وفّر طاقة نفسية شديدة لهم لشرعنة الاحتجاج وأهدافه في التغيير الجذري.

وما ميّز هذه القيم والسمات -في أنموذج السراي- أنها تفاعلت فيما بينها بطريقة النقائض الجدلية: «جدية صفاء العالية تجاه آلام الوطن في مقابل مرحه وانبساطه مع الناس/ اعتقاده المؤكد باستشهاده في مقابل نزعته السلمية الصافية/ شجاعته في المواجهة حد الافتقار للخوف في مقابل عاطفيته الشديدة في أبسط التفاصيل/ زاهد يعمل في أبسط المهن في مقابل حمله لشهادة جامعية/ واقعيته الناقمة على الفساد والظلم الاجتماعي في مقابل رومانسيته الشفافة حد التصوف».

* * *

إن سردية السراي قدمت مثالاً -من بين أمثلة كثيرة- على النزاع الذي اندلع – وما يزال- بين المحتجين والسلطة (الثورة المضادة) للهيمنة على الفضاء العمومي، في لحظة ثورية فاصلة يتنازع فيها القديم مع الجديد على تحديد المصير القادم للبلاد.

هذا النزاع بدأ ولن ينتهي قريباً سواء استمرت الاحتجاجات أو انحسرت، إذ أن جزءاً أساسياً من الصراع السياسي الذي اندلع في تشرين بات متجسداً بين أنموذجين أو نمطين ثقافيين، لكل منهما رؤيته في تصور الوجود الاجتماعي وأنساقه السياسية وبناه الدولتية. وكل المؤشرات تؤكد أن ثمة قطيعة نفسية شبه تامة بين الأنموذجين، ما يعني استمرار المواجهة بينهما وتطورها إلى تمظهرات أكثر حدة وحسماً في المراحل القادمة.



#فارس_كمال_نظمي (هاشتاغ)       Faris_Kamal_Nadhmi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قانون الانتخابات الجديد في العراق: تجميعُ الهوية الوطنية أم ...
- هل انتهت ثورة تشرين؟ أم بدأت للتو تأثيراتُها القادمة...؟!
- عام على ثورة تشرين: زمننا الاجتماعي محتجزا بين الماضي والمست ...
- حكومة الكاظمي بين استنساخ الماضي وترميم المستقبل..!
- فايروس كورونا وسيكولوجيا الموت
- الوباء الكوروني.. وأسئلة في السياسة والدين..!
- الاحتجاجات التشرينية في العراق: احتضار القديم واستعصاء الجدي ...
- سيكولوجيا السلطة لاستنزاف الحراك الثوري التشريني: القمع والت ...
- ثورة تشرين العراقية: القيادة الغائبة والثورة المضادة
- ثورة تشرين والصحة النفسية السياسية في العراق: تعافي المجتمع ...
- الشيعة العراقية السكانية وعرقنةُ الصراع السياسي: مقاربة لدين ...
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ...
- إعلان تأسيس الجمعية العراقية لعلم النفس السياسي
- في نقد العقل الديني المُؤَسَّسي
- نحو تأسيس ائتلاف اجتماعي عراقي - وثيقة مبادئ
- التقارب المدني – الصدري في ساحات الاحتجاج: رؤية نفسية في دين ...
- ما بعد اجتياح المنطقة الخضراء: مساراتُ الحراك الاحتجاجي.. وخ ...
- سيكولوجيا الأمل.. والتغيير السياسي القادم في العراق
- كتاب جديد: الرثاثة في العراق/ أطلال دولة.. رماد مجتمع !
- جدلية أفول الأسلمة وبزوغ الوطنياتية في العراق


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران
- بالفيديو.. اتساع نطاق التظاهرات المطالبة بوقف العدوان على غز ...


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - فارس كمال نظمي - في انثربولوجيا ثورة تشرين: صفاء السراي كارزما البطل الاجتماعي