أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فارس كمال نظمي - فايروس كورونا وسيكولوجيا الموت















المزيد.....

فايروس كورونا وسيكولوجيا الموت


فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)


الحوار المتمدن-العدد: 6533 - 2020 / 4 / 9 - 18:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في أعماقنا لا نعترف بأننا سنموت، بل نعتقد في لاشعورنا بأننا خالدون..!
سيجموند فرويد


أثبت فايروس كورونا (COVID-19) في الأسابيع القليلة الماضية قدرته (أو قدرة أي كائن فيروسي مجهري) على أن يجرّد البشر من شعورهم بالقدرة على مجاراة قوانين الطبيعة، ويعيدهم مباشرة إلى هاجس مواجهة القدر البيولوجي البدائي بمعزل عن أي احتياطات وقائية معقدة أقامتها الحضارة طوال آلاف السنين لمواجهة الموت بأسلوب مؤسساتي نظامي: أي احتياطات الطب والتغذية والسلوك الصحي.

لا تمثل هذه الرؤية الا قشرة تفسيرية فوقية للحدث الكوروني بأبعاده المتداخلة مناعياً وطبياً وتكنولوجياً وحتى سياسياً إذا ما نظرنا إليه بوصفه نتاجاً مختبرياً مشوهاً لعصر سياسي يفتقر إلى الحكمة والرأفة وروح المسؤولية. إلا أن الملاحظة المجهرية للسلوك البشري اليومي المرتبط بانتشار هذا الوباء، قد يستدعي الغوص إلى ما تحت تلك القشرة، لالتقاط مشهدٍ أفرزته سيكولوجيا الكوارث، أكثر إثارة ومدعاة للتأمل والتفكر.

ففي حقلي علم النفس الاجتماعي وعلم النفس التطوري، ظهرت نظرية "السيطرة على الخوف" (أو التحكم بالهلع من الموت) Terror Management Theory، خلال العقدين الأخيرين من القرن السابق، بتأثير كتاب " إنكار الموت" Denial of Death 1973 لمؤلفه عالم الأنثربولوجيا الثقافية الأمريكي "إرنست بيكر" Ernest Becker (1924- 1974). فقد بنى "بيكر" رؤيته على أفكار "سورين كيركجارد" و"أوتو رانك"، ومستفيداً بشكل خاص من "سيجموند فرويد" الذي سبق أن حدد في كتابه "تأملات في الحرب والموت" Reflections on War and Death 1915 أن البشر يدركون حتمية الموت وعدم إمكانية تفاديه، موتهم وموت الآخرين، لكنهم معتادون على التصرف بطريقة يستشف منها أنهم أنكروه واستبعدوه من حياتهم ووضعوه على الرف، في محاولة للانشغال بأمور أخرى تصرفهم عن التفكير به.

خضعت نظرية "السيطرة على الخوف" إلى تحققات تجريبية كثيرة، فتشعبت مساراتها التنظيرية التي ظلت تتمركز حول فرضية أساسية مفادها أن معظم السلوك البشري يمكن تفسيره بوصفه محاولة لتجاهل أو تجنب حتمية الموت؛ أي أن الدافع الأساسي المحرك لهذا السلوك هو دافع الخوف (الهلع) من الفناء التام، الذي يخلق قلقاً شديداً – شعوري ولا شعوري - لدى الناس يدفعهم أن يقضوا حياتهم محاولين أن يجعلوها ذات قيمة، عبر تعزيز الإحساس بأهميتهم, واحترامهم لذواتهم, وجدارتهم بالبقاء, ليؤمنوا بأنهم يؤدون دوراً مهماً في عالم "ذي معنى".

فتقدير الذات Self-Esteem هذا الذي يصنعونه بأنفسهم لأنفسهم، يعمل بوصفه واقياً ضد القلق الوجودي المرتبط بالموت. وهذا ما يفسر كيف تشيد المجتمعات أبنيتها الثقافية كأنظمة المعتقدات والنتاج الأدبي والفني والقوانين والأعراف، لتُبرِزَ "أهمية" الحياة وترفع من شأنها بمواجهة حتمية الموت القادم في كل الأحوال. هذه الأبنية الثقافية تمنح الإنسان خلوداً رمزياً من نمط ما. فمثلاً، أنظمة المعنى الديني وأنساق الهويات بأنواعها (الوطنية والفرعية)، ووجهات النظر الثقافية عن سموّ البشر على الحيوانات، وبأن الفرد قادر على الامتداد أبعد من حياته (العائلة والسلالة والوطن وحياة ما بعد الموت)، تزود الإنسان بشعور واعتقاد مُطَمْئنينِ أنه جزء من شيء أعظم سيبقى مادياً أو رمزياً بعد فنائه؛ بمعنى أنه يمتلك معنى وامتداداً عصياً على الزوال، وأبعد بكثير من كونه كتلة بيولوجية فانية من الخلايا فحسب.

والسؤال الآن: هل ميكانزمات التلهية والإنكار والتجنب والمناورة هذه، والتي دأبت البشرية على ممارستها حيال حتمية الموت عبر "تحكمها الشعوري واللاشعوري بالهلع منه"، باتت اليوم – مع كورونا- عرضة للتعطيل ولعدم الفاعلية (ولو لأمدٍ محدود ينتهي بنهاية الوباء)، أي عرضة لانكشاف الذات الآدمية بعريها الأول –دون دفاعات تمويهية- أمام تراجيدية الموت مُجَسَّداً بفيروس بدائي لا تدركه الحواس؟

وهل إن سرّ التأثير النفسي الكاسح لهذا الفيروس يكمن في مجهريته إذ يصنع الفناء بأسلوب غيبي وغير مرئي (المتناهي في الصغر)، على العكس من أساليب أخرى للموت المفاجئ كأسلحة الحرب مثلاً (المتناهي في الكبر) التي تصنع الموت بأسلوب محسوس و"منطقي" فلا تستدعي من الناس أن يتخلوا عن خداعهم المستمر لذواتهم لتفادي حقيقة زوالهم؟

وهل ما يحدث اليوم – لدى فئة مهمة من السكان- في بلدان ومجتمعات تجاوزت الثمانين، من تعطيلٍ –جزئي أو كلي- للتعليم والعمل والفن والرياضة والترفيه، وللعبادات الدينية الجماعية المؤسساتية، هو في جوهره لحظة عميقة – ربما عابرة- تجسّد عجزَ الممارسات السيكولوجية عن ترويض هاجس الموت، والخضوع بدلاً عن ذلك لـ "هلع" مواجهته وجهاً لوجه دونما أقنعة ثقافية أو حيل إنكارية؟

وهل يمكن فتح حوار هادئ بعد كل هذا عن هشاشة "قدسيات" يشيدها الناس لقرون ليملأوا بها قسراً أو طوعاً، فضاءاتهم وفضاءاتِ غيرهم، ليكتشفوا اليوم أن التلاعب المعهود بحتمية الموت بات مستحيلاً، إذ أن أنظمة التقديس الذهني المشيدة في عقولهم تبدو عاجزة أمام شفرات الطبيعة المبرمجة على إماتة كائناتها؟ أهكذا يرتعش "المقدس" الأيقوني وهو يرى انفضاض الناس من حوله، هارعين إلى الكمامات والمعقمات وحجرات العزل، باحثين عن "مقدسهم" البدائي الأوحد، أي وهم "خلودهم" الكامن في أعماقهم؟

هذه التساؤلات لا تتناقض مع حقيقة أن بشراً كثيرين - منذ العصور البدائية وحتى اليوم- اعتادوا على مواجهة واقعية مستمرة مع الموت بأقل درجة من درجات التلهية والتجنب بحسب نظرية "السيطرة على الخوف" المشار إليها. إلا أنهم بموقفهم ذاك اختاروا تلك المواجهة طبقاً لـ"إرادتهم" ولتوجهاتهم الفكرية المستقرة وغير الطارئة بل الناتجة عن مجمل تطورهم بناهم العقلية؛ فيما يضطر ملايين الناس في العصر الكوروني الحالي إلى الانخراط بهذه المواجهة قسراً وعلى نحو مباغت ودون تهيئة مسبقة لأبنيتهم الثقافية، بعد أن تحول هذا الفيروس – الذي لا تدركه الحواس- ليس إلى سالبٍ للحياة فحسب، بل سالبٍ أيضاً لكل الدفاعات النفسية التي أقامتها الحضارة للتمويه على الموت وإبطال سحره المفجع.

ستنحسر الأزمة الحالية بعد أسابيع، وسيعاود الناس الاستعانة "المجدية" من جديد بألعابهم المعهودة للسيطرة نفسياً على هلعهم من الموت. غير أن الذين فقدوا حياتهم بسبب الفيروس لن يعرفوا أبداً أنهم بموتهم ومن خلال سيكولوجيا الأرقام والفديوات التي نقلت مشاهد موتهم ونسب الانتشار الوبائي والجغرافي للمرض، إنما أسهموا – غير قاصدين- بجعل البشرية الناطقة تتموضع في أقرب نقطة ممكنة من الموت، لتحدق بوجهه الصامت دونما "حاجة" إلى إنكاره..!



#فارس_كمال_نظمي (هاشتاغ)       Faris_Kamal_Nadhmi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوباء الكوروني.. وأسئلة في السياسة والدين..!
- الاحتجاجات التشرينية في العراق: احتضار القديم واستعصاء الجدي ...
- سيكولوجيا السلطة لاستنزاف الحراك الثوري التشريني: القمع والت ...
- ثورة تشرين العراقية: القيادة الغائبة والثورة المضادة
- ثورة تشرين والصحة النفسية السياسية في العراق: تعافي المجتمع ...
- الشيعة العراقية السكانية وعرقنةُ الصراع السياسي: مقاربة لدين ...
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ...
- إعلان تأسيس الجمعية العراقية لعلم النفس السياسي
- في نقد العقل الديني المُؤَسَّسي
- نحو تأسيس ائتلاف اجتماعي عراقي - وثيقة مبادئ
- التقارب المدني – الصدري في ساحات الاحتجاج: رؤية نفسية في دين ...
- ما بعد اجتياح المنطقة الخضراء: مساراتُ الحراك الاحتجاجي.. وخ ...
- سيكولوجيا الأمل.. والتغيير السياسي القادم في العراق
- كتاب جديد: الرثاثة في العراق/ أطلال دولة.. رماد مجتمع !
- جدلية أفول الأسلمة وبزوغ الوطنياتية في العراق
- الدَوْعَشَة: رأسُ المال، وفائضُ الدم، والطبيعة البشرية
- التديين السياسي ومسؤولية هدم الوطن وتجريف الإنسان
- رسالة إلى التيار العقلاني في العراق
- قراءة نفسية - اجتماعية في مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفر ...
- سيكولوجيا إنتاج الرثاثة في المدينة العراقية


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فارس كمال نظمي - فايروس كورونا وسيكولوجيا الموت