أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - غازي الصوراني - جان جاك روسو ( 1712 – 1778 )















المزيد.....



جان جاك روسو ( 1712 – 1778 )


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 6753 - 2020 / 12 / 6 - 14:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    




ولد جان – جاك روسو في مدينة جنيف في بيئة كالفنية([1])، توفيت أمه باكراً، وعندما كان عمره عشر سنوات، اضطر والده إلى الهرب من سويسرا. وترعرع الولد في كنف أقاربه، وبدأ حياته متجولاً في فرنسا، في معظم الاحيان، وفي الجزء السويسري الذي كان يتكلم اللغة الفرنسية، وحوالي الثلاثين من عمره استقر روسو في باريس مؤقتاً، وهناك قابل فلاسفة ينتمون إلى عصر التنوير، مثل فولتير وديدرو، وهيوم وغيرهم.
"لقد واجه روسو صعوبات كثيرة مع فلاسفة عصر التنوير بقدر ما واجه من صعوبات مع الناس عموماً: فقد تابع حياته جوالاً، جغرافياً وروحياً، وفي عام 1766 التقى هيوم في لندن، لكن لم يمض وقت طويل حتى تشاجر معه أيضاً"([2]).
في كتابه "العقد الاجتماعي" يقول الكلمات الشهيرة التالية "ولد الإنسان حراً، إلا أنه مكبل بالأغلال في كل مكان .. فكيف حدث هذا التغيير؟ لا أعرف ما الذي جعل هذا الوضع مشروعاً؟ أعتقد أننى أستطيع حل هذه المسألة"، ففي كتابه "أصل التفاوت بين الناس" يحدد روسو منشأ وجود الفروقات بين البشر، ففي الحالة البدائية كان الناس متساوين، ثم مع ظهور المِلْكِية والسلطة بدأت مظاهر الظلم والقهر والاستغلال من خلال الفروقات الطبقية بدءاً من المجتمع العبودي ثم الاقطاعي ثم الرأسمالي.
في كتاب"العقد الاجتماعي" يستخدم روسو لفظ "صاحب السيادة" لكي يشير إلى أن مصدر كل مشروعية هو الشعب بوجه عام، ولابد أن تكون هناك حكومة، وقد تكون ملكية، أو أرستقراطية، او ديمقراطية، غير ان حقها في الحكم يستمد من الشعب، ولا يمارس إلا طالما أنه يرضيه"([3]).
تابع روسو رد فعله السلبي على فلسفة عصر التنوير، ففي حين مارس فلاسفة عصر التنوير جانباً رعائياً واحداً من جوانب العقل، قدم روسو رعاية المشاعر وتهذيبها، وحيث أثنى فلاسفة عصر التنوير على الفرد وعلى المنفعة الذاتية، راح روسو يمتدح المجتمع والإرادة العامة، وحيث امتدح فلاسفة عصر التنوير التقدم، ذهب روسو إلى إعلان "العودة إلى الطبيعة"، وهذا لا يعني أن روسو كان على تضاد مع عصر التنوير في جميع النقاط، فهو غالباً ما شارك مشاركة كاملة بوجهات نظر فلاسفة عصر التنوير، مثل النظرة التي تقول إن الإنسان هو خير بشكل أساسي، وفي "حين رأى فلاسفة عصر التنوير أن أصل الشر يمثل في الجهالة وعدم التسامح المحفوظين من التقاليد والامتيازات، وأن العلاج هو بالتنوير، قال روسو بخلاف ذلك، فقد رأى أن أصل الشر في الحضارة، وشكلت هذه الفكرة الجزء المثير من مقالته التي ربحت جائزة أكاديمة ديجون: حيث اعلن أن الحضارة قادت إلى حياة مصطنعة ومنحطة، وهنا نجد نقد روسو للإيمان بالتقدم بمثابة مقدمة إلى الرومانسية، ذلك إن الحضارة والعلوم يفسدان الخير الطبيعي في الإنسان. لذا، فإن روسو أعلن عن وجوب عودتنا إلى الطبيعة. ولم يَعنِ روسو بذلك الرغبة في الحياة البدائية، فروسو أكد أن الكائن البشري هو جزء من المجتمع.  فبرأيه علينا العودة إلى الطبيعة بمعنى "أن نعيش حياة طبيعية وفاضلة في متحد اجتماعي"، لذا، رفضت أطروحة روسو على السواء ما اعتبره الانحطاط المصقول بتطرف، والبدائية غير المتمدنة"([4]).
وهكذا، "مَثَّلَ روسو الطبقات الوسطى – الدنيا المهتاجة والمضطربة (الشرائح البورجوازية الصغيرة الفقيرة) التي كانت مقتنعة بسموها الأخلاقي، لكنها صدمت بالنقد الفكري للإيمان والتقاليد المحترمة في الزمان، "ولما كانت الطبقات الوسطى – الدنيا مفتقرة إلى التعليم لتدافع عن قيمها عقلياً، فإنها غالباً ما كانت ترد بشجب قومي للعقل، وبمديح عاطفي للمشاعر، وبما أن المواطن المحترم في الطبقة الوسطى – الدنيا لا يستفيد، شخصياً، من التقدم العلمي والاقتصادي، فإن التغيرات الاجتماعية، لا تبدو "تقدماً" دائماً، وغالباً ما كان المواطن في الطبقة الوسطى – الدنيا مصدوماً بمظاهر الإبداع وبما بدا لا أخلاقياً ولا إنسانياً.
أما مواطن الطبقة العليا، فكان يمتدح الفرد، ويدافع عن حرية التجارة وحرية التعبير، غير أن تلك فضائل الأقوياء، أما فضائل الضعفاء في المجتمع فكانت في التضامن والاجتماع. وكان روسو مثل الطبقات الوسطى – الدنيا، يمتدح الحياة الأسروية والمصالح العامة، فالفضائل، مثل فضيلة التضامن الاجتماعي موزعة توزيعاً متساوياً أكثر من القدرة على الحسابات العقلية وحسابات الربح"([5]).
لذلك، غالباً ما كانت الطبقات الوسطى – الدنيا (والعمال) تؤكد المساواة وليس الحرية الفردية وأسلوب الحياة الشخصية، وغالباً ما كانت هذه الطبقات الوسطى – الدنيا تقليدية ومطيعة، بينما كانت الطبقات الحاكمة تركز على المصلحة الذاتية العقلية، وتطالب بحق الاختيار لأنفسهم، وبالتالي قد هاجم روسو النظرة التي تقول إن المصلحة الذاتية العقلية المحض يمكنها أن توحد المجتمع، فما يربط البشر ويضمهم في مجتمع هي المشاعر والمواقف العميقة الجذور، لا الحسابات السطحية المتعلقة بالربح وباللذة، فالمجتمع يقوم على المشاعر وليس على العقل، وهنا، يصوغ روسو نقداً مهماً للمذهب الفردي الليبرالي، فروسو مثله مثل اليونانيين القدماء، نظر إلى المجتمع كمجتمع صغير، كما في "دولة – المدينة" في جنيف.
مَثَّلَ روسو رد فعل محافظ ضد المذهب الفردي والمذهب القومي اللذين كانت الطبقات العليا تدافع عنهما.
كِلا المذهبين الفردي والجمعي يميزان بين عاملين، هما الفرد والدولة، غير ان روسو، انتقد بشكل أساسي التمييز ذاته: فالجوهري هو الإنسان  -في- المجتمع. غير أنه امتدح طريقة حياة الفرد في "حالة الطبيعة"، وأدان المجتمع في زمانه لكبحه فضيلة الإنسان الطبيعية وحكمته وسعادته"([6]).
لقد "أصبح واضحاً أن "روسو" لم يكن يجد فرقا بين الإنسان في الحالة الطبيعية وبين الكائنات الحية الاخرى، إلا في نقطة واحدة هي أن طبيعته الأولى تنطوي على إمكان أن يكون انسان فيما بعد، أعني –كما يقول د.حامد خليل- "أن يكون عاقلاً واخلاقياً، إذ أن هاتين السمتين هما وحدهما اللتان تجعلان منه انساناً، لكن لما كانتا لا تتحققان للإنسان الا بوصفه عضوا في مجتمع، فان انتقال ذلك الإنسان من حالة الطبيعة الأولى إلى الحالة الثانية التي كان يسميها بالحالة المدنية في بعض الاحيان، هو وحده الذي يجعله انساناً بحق؛ لأنه هو وحده الذي يجعله اجتماعياً له عقل، ويتحلى بالأخلاق، ولا شك أن هذه النقطة كانت تمثل قفزة كبرى بالفلسفة إلى الامام تجاوز فيها "روسو" ليس فقط "لوك" وأصحاب نظرية الحق الطبيعي التي سلف ذكرها، وإنما كافة الفلسفات السابقة أيضاً، فلأول مرة في تاريخ الفكر الفلسفي، يستطيع فيلسوف أن يضع علامات فارقة على طريق تأسيس علم للإنسان، سيكون لها تأثير كبير على مسار الفكر الفلسفي فيما بعد، وبالذات عند اهم أعلامه : هيجل وماركس.
 إن الجديد عند "روسو" هو قلبه للمفاهيم الفلسفية رأساً على عقب، فبينما كانت كل الفلسفات السابقة تقول إن الإنسان اجتماعي لأنه إنسان، فان "روسو" صحح هذا الخطأ التاريخي، وقال: إن الإنسان هو انسان فقط لأنه يعيش في مجتمع، وبغير ذلك لا يكون إنساناً، وبذلك يكون قد حقق لعلم الإنسان انجازاً كبيراً لم يحققه فيلسوف من قبل. فقد علم البشرية فيما بعد ماذا يتعين عليها أن تفعله إن شاءت أن تتعرف على نفسها، ووضعها على الدرب الصحيح الذي يتعين عليها ان تسلكه إن هي رغبت في تحرير نفسها، والارتقاء بها إلى المستوى الإنساني الذي يليق بأفرادها بوصفهم بشراً"([7]).
صحيح أن الحلول التي أتى بها لتحرير البشرية –كما يضيف د.حامد خليل- "لم تكن على مستوى التحليل الذي قام به وكشف فيه عن علة الاغتراب والقهر الإنسانيين، لكن ذلك لا يحول دون أن يسجل الفكر الفلسفي له تلك المأثرة الإنسانية العظيمة التي أنجزها، وحقيقة الأمر أن الإنسان – بعد أن قادته الحاجة إلى الانتساب إلى مجتمع معين- لم يعد ذاته التي يفترض أن ذلك المجتمع قد أعانه على تشكيلها انسانياً، وإنما أصبح، على العكس من ذلك، مغترباً عنها، والحق أن "روسو" لم يكن متناقضاً مع نفسه في هذه المسألة، فهو "لم يقل أبداً إن حالة الاغتراب المذكورة هي حالة طبيعية، ولا مفر منها بالنسبة للإنسان، وإنما الذي قاله هو ان المجتمع، الذي يفترض أنه يشكل البيئة التي يرتقي الإنسان من خلالها، هو مجتمع فاسد.
لكن "السؤال الاساسي الذي يفرض نفسه هنا ويتعين على "روسو" الإجابة عنه، إنما هو : هل الفساد هو من طبيعة المجتمع بحكم كونه مجتمعاً، أو أن الحالة المذكورة هي حالة عابرة في التاريخ، ومشروطة بشروط تاريخية معينة؟ الواقع أن منهج "روسو" لم يكن تاريخياً لما يكفي لكي يجيب بأن الحالة المذكورة هي حالة عابرة ومشروطة تاريخياً. فقد كان يتأرجح بين الميتافيزيقية والتاريخية، إلى درجة يصعب جداً فيها تعيين الحدود الفاصلة بينهما، فحين يكون منهجه ميتافيزيقياً، فانه يتعامل مع النتائج على أنها مقدمات أو مبادئ أولى، أي انه كان يجرد حالة الفساد التي كان يعيشها المجتمع الفرنسي آنذاك من شروطها التاريخية، أو من المقدمات التي هي نتيجة طبيعية لها، ويتعامل معها على أنها حالة مطلقة تسري على كل مجتمع، أما حين يكون تاريخياً، فانه يرى أن الحالة المذكورة هي حالة تاريخية طارئة، وأنها نتيجة لأسباب معنية يمكن أن تتغير بمجرد زوال تلك الاسباب"([8]).
ففي بحث "أصل التفاوت بين البشر" كشف روسو بوضوح شديد عن تلك الأسباب؛ حيث قال: إن أول انسان أحاط قطعة من الأرض بسياج وقال: "هذا ملكي"، ووجد أناساً بسطاء صدقوا ما قاله لهم، إنما هو مؤسس المجتمع المدني، (أي المجتمع الفاسد)، وقد زاد من توضيح هذه النقطة، فأردف يقول: فلو أن أحداً أقدم -آنذاك- على هدم ذلك السياج هاتفاً بأبناء جنسه: احذروا من أن تصدقوا كلام هذا المشعوذ المكار، ولا تنسوا أن ثمار الأرض للجميع، وأن الأرض ليست ملكاً لأحد، لكان وفر على البشرية الكثير من الجرائم، والحروب، والقتل، والشقاء، والفظائع .
والحق ان "روسو" أثبت –كما يضيف د. حامد خليل- "أنه كان على وعي عميق بقوانين التطور الاجتماعي، فقد أدرك أن ذلك لم يكن في الامكان منع وقوعه؛ إذ أنه كان تعبيراً عن مستوى محدد من التطور الذي بلغته البشرية كان يستحيل ان تكون الامور على غير ما كانت عليه، فها هو يقول: ولكن لم يكن بالمستطاع بسبب تطور أوضاع البشر الذي أفضى إلى وجوب خلق الملكية الفردية، وهو تطور أنضجته أجيال من التقدم الصناعي والعلمي والاجتماعي"([9]).
وعلى هذا النحو –يقول د. حامد خليل- "يكون "روسو" قد استبق "ماركس" بمائة عام تقريباً، ففي القول المذكور ما يدل على أن الملكية الفردية هي بالنسبة لروسو أصل كل الفساد والشرور التي نراها في المجتمع، وبالتالي اصل فساد الطبيعة البشرية التي يفترض أنها تتحول في المجتمع من طبيعة طبيعية إلى طبيعة إنسانية.ولتوضيح هذه النقطة، فقد بين "روسو" أن الملكية الفردية، حين تقوم بوصفها حاجة ضرورية للإنسان، ستؤدي بطبيعة الحال إلى خلق حاجة جديدة، أعني طلب المزيد منها، مما يترتب عليه قيام حالة "لا مساواة" بين البشر لأسباب بدنية وعقلية واجتماعية كثيرة"([10]).
غير أن الحالة المذكورة (المساواة) ستؤدي، إذا لم يوضع لها حد، إلى إفساد طبائع الناس وأخلاقهم وعقولهم من وجهتين؛ وجهة الذين يملكون، ووجهة الذين لا يملكون.
"فمن الناحية الأولى ستجد ان الذي يملك، سيظل يسعى إلى أن يملك أكثر، ولذا فانه، لكي يحقق الرضا، سيظل يسلك بطرق مفسدة ومؤذية له وللآخرين، وهو في سلوكه هذا سيصبح أيضاً أكثر غروراً كلما صار اكثر ثراء، وليس ثم من شك في ان طبيعته ستصبح على هذا النحو أكثر انحداراً وأقل إنسانية. ستدمر في نهاية الامر السلام العقلي والروحي للإنسان، بالإضافة إلى ما تحمله من أذى للآخرين.
أما من الناحية الثانية، فإن الذين لا يملكون، أو يملكون القليل، سيكونون مرغمين على بيع أنفسهم لهم والتخلي عن حريتهم لصالحهم، مما يترتب عليه الحط من طبائعهم، وبالتالي افسادهم، والأهم من ذلك كله أن حالة اللا مساواة المذكورة ستؤدي إلى أخطر نتيجة قد لا تخطر على بال أحد في نظر "روسو"، أعني تدمير المجتمع بالكامل، وذلك بسبب ضعف الولاء له من قبل أفراده سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، هذا من جهة، أما من الجهة الثانية، فان "روسو" كان يرى أن الاغنياء في كافة المجتمعات يرتبطون فيما بينهم بروابط أوثق من الروابط التي تقوم بينهم وبين مجتمعهم"([11]) .
وفي حاشية للكتاب الرابع من "إميل" أشار – تعبيراً منه عن الحالة المذكورة – إلى أن أحد الاثينيين الاغنياء اجاب، حين سئل من أين هو، بأنه "واحد من الاغنياء"، وقد فهم "روسو" من الإجابة المذكورة أن الاغنياء لا وطن لهم، طالما أن لا هم لهم سوى الغنى والمزيد منه"([12]).
أما الإرادة العامة عند روسو، فهي "بطريقة غير تحديدية "إرادة الشعب" الحقيقية، الإرادة العامة هذه تشمل مصالح المجتمع مقابل جميع المصالح الخاصة، فضلاً عن ذلك، فقد اعتقد روسو أن الإرادة العامة "هي دائماً على حق"، فإذا أراد أشخاص شيئاً غير الإرادة العامة، أي ما يريد الشعب "حقيقة"، فإن مثل هؤلاء الأشخاص لا يعرفون ما هي أفضل مصالحهم، أو ما يريديون حقيقة، لذا، ليست المسألة مسألة إلزام كل واحد بالخضوع للإرادة العامة، فقد راى روسو أنه حيث تحكم الإرادة العامة يستحيل وجود إكراه، غير أن النقطة المهمة هي كيف نعرف ما هي الإرادة العامة في كل مرة تثار فيها مسألة عامة، وعلينا أن نسأل أيضاً من له السلطة (والقوة) لتحديد ما هي إرادة الشعب الحقيقية؟ ثم، هناك شك في ما إذا كانت جميع الرغبات الفردية تتطابق في مصلحة عامة واحدة، لكن روسو لم يشرح، بشكل صحيح، كيف نضمن بواسطة المؤسسات أن صوت الإرادة العامة قد سمع، حتى لا تقرر مجموعات القوى اللاشرعية ما هي "الإرادة العامة"([13]).
فالرجل الذي صرخ قائلاً "ولد الإنسان حراً، وهو في كل مكان يرسف في الأغلال" هذا الرجل بعينه نبه الآن البولنديين، الذين حكم عليهم "حق النقض المطلق" بالفوضى، إلى أن الحرية امتحان عسير، وأنها تحتاج إلى مجاهدة للنفس أشق كثيراً من طاعة الأوامر الخارجية، وأضاف روسو قائلاً: "إن الحرية طعام قوى، ولكنه طعام يحتاج إلى هضم متين .. إننى أضحك من تلك الشعوب المنحطة التي تثور لمجرد كلمة من متآمر دساس، والتي تجرؤ على التحدث عن الحرية وهي تجهل كل الجهل ماتعنيه، والتي تتصور أنه لكي يتحرر الإنسان يكفي أن يكون ثائراً متمرداً. أيتها الحرية المقدسة السامية! ليت هؤلاء المساكين يعرفونك حق المعرفة، ليتهم يتعلمون أي ثمن يبذل للظفر بك ولصيانتك، وليت في الإمكان تعليمهم، إن قوانينك أشد صرامة من نير الطغاة الثقيل!، لكنه أكد أن كل شيء رهن بنشر التعليم، وتعزيز الحرية بأسرع من تعزيز الذكاء والأخلاق معناه فتح الباب على مصراعيه للفوضى وتقسيم البلاد"([14]).
وهنا، ننتهي بمسألة مؤسساتية ونظرية، وهي: عندما لا يكون التعبير عن الإرادة العامة واضحاً مؤسساتياً، فإننا نواجه خطراً مفاده أن يفرض حكام اعتباطيون مستبدون إرادتهم على أنها الإرادة العامة، أما في المجتمع المحلي، في المنزل وفي القرية، لا يوجد ضرر من استعمال الإرادة العامة. وهنا، نقع إلى نوع من الديمقراطية المباشرة، غير أنه من الخطر بمكان بناء المجتمع الحديث على مثل هذه الإرادة العامة التي لا تُؤمِّنها المؤسسات.
إن أهمية روسو ليست في أفكاره الفلسفية النظرية فحسب، بل في تلك الأفكار الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والتربوية التي طرحها، وكان أكثر وضوحاً من كل المنورين الفرنسيين في عهده، وهو من الذين نادوا بالمصالح البرجوازية ضد الإقطاع، فقد ناضل روسو ليس فقط ضد السلطة الإقطاعية بل كان مستوعباً لتناقضات المجتمع الفرنسي أكثر من غيره؛ فقد وقف مع وجهة نظر البرجوازية الصغيرة "الراديكالية" والفلاحين والحرفيين.. وكان موقفه أكثر ديمقراطية من معاصريه.
ففي كتابه "العقد الاجتماعي" يحاول روسو البرهنة على أن الوسيلة الوحيدة لتصحيح التفاوت الاجتماعي هي في ضمان الحرية والمساواة المطلقة أمام القانون؛ وهذه الفكرة لقيت ترحيباً فيما بعد عند رجال الثورة الفرنسية لاسيما اليعاقبه طرح روسو في العقد الاجتماعي نظام الجمهورية البرجوازي الذي أكد فيه أن الحياة السياسية يجب أن تقوم على سيادة الشعب المطلقة، ورفض تقسيم السلطة إلى تشريعية وتنفيذية واقترح بدلاً منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسية الهامة.
ساهم "روسو" في الإعداد الفكري للثورة البرجوازية الفرنسية بشكل فعال، وكان متقدماً في أفكاره، ضد الاستغلال، فهو يرى أن أصل الشرور والتفاوت بين البشر يعود إلى الملكية الخاصة باعتبارها سبب العداء والأنانية بين البشر .
"بحث في العلوم والفنون" (1750) "خطاب حول أصل التفاوت وأسسه بين البشر" (1755) "في العقد الاجتماعي" (1762)، "إميل أو في التربية" (1762) "اعترافات" (1782)([15]).
وفاة روسو:
"حينما علم روسو بأن فولتير يحتضر قال متنبئاً كانت حياتينا مرتبطتين الواحدة بالأخرى، ولن يطول عمرى بعده، وحين بدأ ربيع 1778 يزهو طلب بيتاً في الريف، فدعاه المركيز رينيه ليسكن كوخاً على مقربة من قصره الريفي، وفي أول يوليو 1778 تعشى بشهية مع أسرة مضيفه. وفي صباح الغد أصيب بالنقطة ووقع على الأرض. فرفعته تريز إلى فراشه، ولكنه وقع منه واصطدم بالأرض المبلطة صدمة حادة أحدثت قطعاً في رأسه تدفق منه الدم، وصرخت تريز مستغيثة، فحضر المركيز، ووجد أن روسو قد فاضت روحه.
وفي 4 يوليو 1778 وورى الثرى في جزيرة في بركة صغيرة على ضيعة جيراردان. وظلت جزيرة الحور هذه طويلا كعبة يحج إليها الأتقياء، فأَمَّها المجتمع العصرى كله – حتى الملكة- للصلاة على قبر روسو، وفي 11 أكتوبر 1794 نقل رفاته إلى البانتيون حيث ثوى إلى جوار رفات فولتير، ومن ذلك المرفأ الذي نعما فيه بسلام الجوار نهضت روحاهما لتجددا حربهما في سبيل الثورة. وفرنسا، والإنسان الغربي"([16]).
تأثير روسو:
إن روسو كما قالت مدام دستال: "لم يخترع شيئاً، ولكنه أشعل النار في كل شيء"، فأول شيء بالطبع هو أنه كان بمكانة الأم من الحركة الرومانتيكية. وقد رأينا غيره كثيرين يبذرون بذرتها. ولكن روسو أنضج البذار في مستنبت عواطفه الدافئ وأسلم لنا الثمرة مكتملة النمو خصبة منذ مولدها. في "الأحاديث: و"العقد الاجتماعي" و"إميل" و"الاعترافات".
ولكن ما الذي سنعنيه بالحركة الرومانتيكية؟ تمرد الوجدان على الفكر، والغريزة على العقل، والعاطفة على الحكم، والذات على الموضوع، والنزعة الذاتية على الموضوعية، والوحدة على التجمع، والخيال على الواقع، والخرافة والأسطورة على التاريخ، والدين على العلم، والشعر والنثر الشعرى على النثر والشعر النثرى. والفن القوطي المحدث على الكلاسيكي المحدث، والأنثوى على الرجولى والحب الرومانسي على زواج المصلحة. و"الطبيعة" و"الطبيعي" على المدنية والتكلف، والتعبير العاطفي على الضوابط العرفية، والحرية الفردية على النظام الاجتماعي وتمرد الشباب على السلطة، والديمقراطية على الأرستقراطية، والإنسان في مواجهة الدولة – وباختصار، تمرد القرن التاسع عشر على الثامن عشر أو بعبارة أكثر تحديداً. الفترة 1760 – 1859 على 1648 – 1760: هذه كلها أمواج للمد الرومانتيكي العظيم الذي اكتسح أوربا فيما بين روسو وداروين.([17])
ولقد وجد كل من هذه العناصر تقريباً في روسو تعبيراً وتأييداً. ذلك أن فرنسا كانت قد مُلَّتْ الفكر الكلاسيكي والانضباط الارستقراطي، فأتاح تمجيد روسو للوجدان تحرراً للغرائز المكبوتة، والعاطفة المكظومة، والأفراد والطبقات المظلومة وأصبحت "الاعترافات" كتاب الوجدان المقدس كما كانت "الموسوعة" العهد الجديد لعصر العقل.
ولا يعني هذا أن روسو رفض العقل، فهو على العكس وصفه بأنه عطية إلهية. وقَبِلَهُ حكماً نهائياً، ولكنه أحس أن نوره البارد في حاجة إلى دفء القلب ليلهم العمل والعظمة والفضيلة وأصبحت "الحساسية" شعار النساء والرجال، وتعلم النساء الإغماء والرجل البكاء، بأسرع من ذي قبل وتذبذبوا بين الفرح والحزن، ومزجوا الاثنين في دموعهم.
وقد "بدأت الثورة "الروسوية" على صدور الأمهات، هاتيك الصدور التي آن الآن أوان تحريرها من عقال المشدات، على أن هذا الجانب من الثورة كان أصعب جوانبها، ولم يعقد له النصر إلا بعد أكثر من قرن تراوح فيه الحبس والإفراج، وبعد نشر "إميل" أرضعت الأمهات الفرنسيات أطفالهن. حتى في دار الأوبرا، وفيما بين الألحان وأطلق الطفل من سجن أقمطته، قام أبواه على تربيته بأنفسهم فإذا التحق بالمدرسة حظى بالتعليم "على طريقة روسو" في سويسرا أكثر منه في فرنسا، ولما كانت النظرة للإنسان الآن تعده خيراً بطبيعته، فإن التلميذ وجب أن ينظر إليه لا على أنه عفريت صغير مشاكس بل ملاك رغباته هي صوت الله"([18]).
ووفقاً للنظرة الجديدة لا تعود حجرات الدرس سجوناً، أما التعليم فيجب أن يُجْعَلْ طبيعياً وساراً بتفتيح حب الاستطلاع والقوى الفطرية وتشجيعها. وأما حشو الذاكرة بالحقائق، وخنق الفكر بالعقائد القطعية، فيجب أن يحل محلهما التدريب على فنون الإدراك الحسي، والحساب، والتفكير. ويجب أن يتعلم الأطفال من الأشياء لا من الكتب كلما أمكن – من النبات في الحقل، والصخور في التربة، والغيوم والنجوم في السماء.
وقد حفز التَّحَمًّسْ لأفكار روسو التربوية "بستالوتزى" و"لافاتير" في سويسره، و"بازدوف" في ألمانيا، و"ماريا مونتسورى" في إيطاليا، و"جون ديوى" في أمريكا؛ و"التربية التقدمية" هي جزء من تراث روسو وقد أنشأ "فريدرش فرويل" نظام رياض الأطفال في ألمانيا، ومنها انتشر في العالم الغربي طولاً وعرضاً.
وأعمق من هذا "أثَّر روسو في الأخلاق والسلوك. فطرأ المزيد من دفء الصداقة ووفائها، ومن التضحيات والاهتمامات المتبادلة. واقتنص الحب الرومانسي الأدب وشق طريقه إلى الحياة، واستطاع الأزواج الآن أن يحبوا زوجاتهم دون هزء بالتقليد؛ واستطاع الآباء ان يحبوا أبناءهم، وأصلح ما فسد من الأسرة، "كان الناس يغضبون عن الخيانة الزوجية، اما روسو فقد جرؤ على اعتبارها جريمة".
وحل محل الإعجاب الأعمى بالمحظيات الشفقة على المومسات، وقاوم احتقار العرف طغيان الأتيكيت. وارتفعت سمعة الفضائل البورجوازية، كالاجتهاد، والاقتصاد، وبساطة العادات واللباس. وعما قليل ستطيل فرنسا "الكيلوت" (السراويل القصيرة) إلى سراويل طويلة وتصبح "صان – كيلوت" (متطرفة) في زيها كما هي في سياستها. وقد ساهم روسو مع البستنة الإنجليزية في تغيير الحدائق الفرنسية من رتابة طراز النهضة إلى المنحنيات الرومانتيكية والأركان الفجائية، وأحياناً إلى فوضى برية و"طبيعية". وانطلق الرجال والنساء من المدينة إلى الريف، وزاوجوا بين حالات الطبيعة وحالاتهم النفسية وتسلق الرجال الجبال، والتمس الرجل منهم الوحدة، واستسلم الأدب بجملته تقريباً لروسو والموجة الرومانتيكية، فغمر جوته بطله "فوتر" في فيض من الحب، والطبيعة، والعبرات (1774)، وجعل بطله فاوست يختزل نصف روسو في كلمات ثلاث "الوجدان هو الكل". قال في 1787 مسترجعاً ذكرياته "كان لكتاب إميل وماحوى من عواطف تأثير شامل على العقل المثقف"([19]).
وصاح "هردر" "تعالى ياروسو وكُنْ لى مرشداً". وانتصر تأثير جان – جاك الأدبي بعد الفاصل النابليوني في أشخاص شاتوبريان، ولامارتين، وموسيه، وفينى، وهوجر، وجوتييه، وميشليه، وجورج صاند، وقد أنجب هذا التأثير –كما يقول ديورانت- "جيلاً من الاعترافات وأحلام اليقظة وقصص العاطفة أو الغرام، وحبذ تصور العبقرية على أنها فطرية لا تعرف قانوناً، وأنها القاهرة للتقليد والتقييد، فحرك في إيطاليا ليوباردى، وفي روسيا بوشكن وتولستوى، في إنجلترا وردزورث، وكولردج، وبايرون، وشلى، وكيتس، وفي امريكا هوثورن وثورو، وفي ألمانيا كانت "عقلانية "فولف" في صعود الجامعات وحين أصبح إيمانويل كانط أستاذاً في كونجزبرج كان قد اقتنع بما قاله هيوم وجماعة الفلاسفة الفرنسيين من أن العقل وحده لا يمكنه أن يقدم الدفاع الكافي حتى عن أساسيات اللاهوت المسيحى. ولكنه وجد في روسو سبيلاً لإنقاذ تلك الأساسيات: هي أن تنكر مفعول العقل في العالم فوق الحسى، وتؤكد استقلال الفكر، وأولوية الإرادة، والقوة المطلقة للضمير الفطرى، وتستنبط حرية الإرادة، وخلود النفس، ووجود الله، من شعور الإنسان بالتزام غير مشروط بالقانون الأخلاقي.
وقد أقر كانط بِدَيْنَهُ لروسو، وعلق صورته على جدار مكتبه، ونادى به "نيوتناً" للعالم الأخلاقي، وشعر ألمان آخرون بروح روسو تتقمصهم: ياكوبى في فلسفة الوجدان، وشلايتر ماخر في تصوفه الدقيق النسيج، شوبنهاور في تمجيده للإرادة. وتاريخ الفلسفة منذ كانط صراع بين روسو وفولتير"([20]).
أما "الدين فقد بدأ بتحريم روسو، ثم انتقل إلى استخدامه منقذاً له. وأجمع القادة البروتستنت والكاثوليك على تكفيره، ووضع على صعيد واحد مع فولتير وبيل بوصفهم رجالاً "يبثون سموم الضلالة والفسوق.
وقد حاول منظرو الثورة الفرنسية إقامة أخلاقية مستقلة عن العقائد الدينية؛ على أن روبسيير في اقتدائه بروسو أقلع عن هذه المحاولة لفشلها، والتمس قوة تأييد المعتقدات الدينية في صيانة النظام الأخلاقي والمضمون الاجتماعي. وأدان جماعة الفلاسفة لأنهم رفضوا الله وأبقوا على الملوك أما روسو (في راى روبسبيير) فقد ارتفع فوق هامات هؤلاء الجبناء، وهاجم جميع الملوك بشجاعة وجاهر بالدفاع عن الله والخلود.
فولتير وروسو:
لقد انشغل فولتير في الكفاح ضد طغيان الكهنة ورجال الدين لدرجة اجبرته في السنوات الاخيرة من حياته على الانسحاب من الحرب ضد الظلم والفساد السياسي، وهو يقول "لقد تعبت من هؤلاء الناس الذين يحكمون الدول من علياء قصورهم، هؤلاء المشرعون الذي يحكمون العالم ويعجزون عن حكم زوجاتهم أو عائلاتهم، ويتلذذون في تنظيم الكون.
ولكونه غنياً فقد "كان موقفه محافظاً، اذ لا شيء يدفع الإنسان إلى التغيير في الأوضاع السياسية أكثر من الجوع، ويرى ان علاج الخلل الاجتماعي يكمن في زيادة عدد الملاكين، لان الملكية تكسب الإنسان شخصية، وترفع من كرامته، ان روح التملك تضاعف من معنوية الإنسان وقوته، ومن المؤكد ان مالك الضيعة أقدر على تربية أولاده وتثقيفهم من الفقير المعدم، كما يرفض فولتير تبني أي نوع من أنواع الحكومة، ولكنه يميل نظرياً إلى النظام الجمهوري، ويعرف عيوب هذا النظام الذي يجيز الانقسامات التي ان لم تؤد إلى حرب أهلية على الأقل فإنها تمزق وحدة الشعب، فالنظام الجمهوري في نظره يتناسب مع الدول الصغيرة التي تحميها حدود جغرافية، والتي لم تفسدها الثروة ويعتقد بصورة عامة ان الناس غير كفء لحكم انفسهم"([21]).
بالنسبة لمفهوم الوطنية (أو القومية)، يرى فولتير ان هذا المفهوم يعني أن يكره الإنسان جميع البلدان الا بلده، فاذا أحب الإنسان لبلده الخير والازدهار والرخاء، هذا من حقه وواجبه، ولكن لا على حساب البلدان الأخرى فهو وطني عاقل ومواطن عالمي.
في هذا السياق، أشير إلى أن فولتير كره الحرب أكثر من أي شيء آخر، يقول: "ان الحرب أم الجرائم وأعظم الشرور، وكل دولة تحاول الباس جريمتها ثوب العدل، تستحق الإدانة والعقاب".
السؤال هنا: هل يعتبر فولتير الثورة علاجاً لحل مشاكل البلد؟ والجواب: كلا، فهو لا يثق بالشعب أولاً: يقول "عندما يتولى الشعب الحكم كل شيء يضيع"، فان الأكثرية الساحقة مشغولة جداً ومنهمكة في اعمالها وليس لديها الوقت لادراك الحقيقة أو تفهم أمور الدولة، إلى ان يجعل التغيير الحقيقة خطأ، وتاريخ الشعوب ليس سوى احلال خرافة محل خرافة أخرى، ويضيف فولتير: "ان عدم المساواة بين الناس أمر لا مفر منه، وهو أساس من أسس المجتمع، ومن الصعب التخلص من عدم المساواة بين الناس ما بقي الرجال رجالاً والحياة كفاحاً"([22]).
ويستدرك بالقول: إن "أولئك الذين ينادون بالمساواة بين الناس يقولون صدقاً لو عنوا بقولهم مساواة الناس في الحرية والفرصة وامتلاك الاشياء وحماية القانون، ولكن المساواة أكثر الاشياء طبيعية وأكثرها خيالاً ووهماً في الوقت ذاته، فهي طبيعية إذا اقتصرت على الحقوق، وغير طبيعية اذا حاولت مساواة الناس في الحكم والسلطة والاملاك والمتاع، لان المواطنين ليسوا جميعهم على قدم المساواة في القوة، ولكن يمكن مساواتهم في الحرية، هذه المساواة في الحرية هي التي فاز بها الشعب الانجليزي".
وكونك حراً يعني ان لا تكون خاضعاً لشيء سوى القانون"، هذه رسالة الاحرار من تورغو وكوندورسي وميرابو وغيرهم من اتباع فولتير الذين حاولوا القيام بثورة سلمية، ولكن هذه الثورة لم تُرضِ المظلومين الذين لم يطالبوا كثيراً بالحرية بقدر ما طالبوا بالمساواة، لقد ارادوا المساواة حتى على حساب الحرية.
لقد كان جان جاك روسو صوت عامة الشعب، وبما انه كان حساساً بالنسبة إل الفوارق الطبقية التي واجهته في كل مرحلة، فقد طالب بالمساواة وإزالة الفوارق، وعندما وقعت الثورة في يد اتباعه مارا وروبسبير جاء دور المساواة وارسلت الحرية إلى المقصلة لقطع رأسها، لقد كان فولتير يشك في مقدرة المشرعين الذين يحاولون اقامة بناء جديد للعالم من وحي خيالهم وأوهامهم، والمجتمع بالنسبة له عبارة عن تطور ووقت"([23]).
 
قال فولتير قبل وفاته:
"كل شيء آراه ينمو عن بذور ثورة لا مفر من وقوعها في يوم من الأيام، والتي لن أسعد برؤيتها، ان الفرنسيين متأخرين جداً دائماً، ولكنهم يأتون في النهاية، إن الضوء يمتد من الجيران إلى الجيران، وسيحدث انفجار ثوري عظيم في اول فرصة، ويعقبه هياج نادر، يالسعادة الشباب لانهم سيشاهدون اشياء بديعة جميلة".
ومع ذلك فانه لم يتحقق مما سيحدث له، وهو لم يقصد اطلاقاً بقوله "انفجار ثوري" ان تقبل فرنسا بحماس شديد فلسفة جان جاك روسو الذي كان يهز مشاعر العالم من جنيف إلى باريس، بقصص عاطفية ومنشورات ثورية".
لقد بدا ان روح فرنسا المعقدة –يقول ديورانت- "قد قَسَّمَتْ نفسها بين هذين الرجلين الفرنسيين على الرغم من أوجه الخلاف الشاسع بينهما. اننا نرى في هذين الرجلين مرة ثانية الصراع القديم بين العقل والغريزة، لقد آمن فولتير في العقل دائماً "اننا نستطيع تثقيف الناس واصلاحهم بالخطاب والقلم"، ولكن روسو لم يؤمن بالعقل الا قليلاً، ويريد العمل ولم ترهبه مخاطرة زج البلاد في ثورة، وهو القائل: "فلنتخلص من القوانين وبعدئذ يحصل الناس على حكم المساواة والعدالة"، وعندما ارسل إلى فولتير رسالته عن اصل عدم المساواة التي هاجم فيها المدنية والآداب والعلوم ودعا إلى العودة إلى الحالة الطبيعية التي كان يعيش فيها الانسان، كما تبدو واضحة في حياة الحيوانات والمتوحشين، اجابه فولتير: "لقد تلقيت كتابك الجديد يا سيدي، الذي تهاجم فيه المدنية والعلوم والآداب وأشكرك على إرساله.. لم يقم احد بمثل هذه المحاولة التي تحاول فيها تحويلنا إلى وحوش حيوانات"([24]).
لقد حزن فولتير ان يواصل جان جاك روسو اتجاهه إلى الوحشية في كتابه "العقد الاجتماعي"، ومع ذلك فقد هاجم السلطات السويسرية لمصادرتها كتاب روسو واحراقه، تمسكاً بمبدأه المعروف: "انا لا اتفق معك في جملة واحدة مما قلته، ولكني سأدافع عن حقك في الكلام وحرية التعبير عن افكارك حتى الموت". وعندما هرب روسو من مئات الاعداء الذين كانوا يطاردونه ويحاولون الاعتداء عليه، ارسل له فولتير دعوة صريحة كريمة ليقيم معه.
لقد "اعتقد فولتير ان ما ذهب اليه روسو من نبذ المدنية والحضارة والعلوم ليس سوى هذيان صبياني سخيف، وان حياة الإنسان في حالة المدنية أفضل من حياته في حالة الوحشية، وهو يُذَكِّر روسو بان الإنسان بطبيعته وحش مفترس، وان المجتمع المتمدن يعني تقييد هذا الوحش وتكبيله بالقيود والسلاسل، وتخفيف وحشيته، هذا بالإضافة إلى امكانية تطور العقل والتفكير عن طريق المجتمع المنظم ويوافق على: "ان الحكومة التي تسمح لفئة من الناس بأن تقول، ان دفع الضرائب ينبغي ان يقع على عاتق الناس الذين يعملون، اما نحن فسوف لا ندفع الضرائب لأننا لا نعمل، ان هذه الحكومة ليست افضل من حكومة الافريقيين في جنوب افريقيا"، ان لباريس معالمها التي تستحق ان نفتديها حتى في وسط فسادها وانحلالها"([25]).
لكن كيف يمكن ادخال التغيير، يعتقد فولتير والاحرار ان هذا التغيير يأتي من طريق التثقيف والتعليم تدريجياً بالوسائل السلمية، ولكن روسو والمتطرفين اعتقدوا بأن هذه الحلقة لا يمكن تحطيمها الا عن طريق العمل العاطفي الغريزي الذي يقضي على النظم القديمة، ويبني نظماً جديدة يكون الحكم فيها للحرية والمساواة والاخوة.
وفي "عام 1793 بلغ تراثا فولتير وروسو المتنافسان مرحلة الحسم في الصراع بين جاك- رينيه إييبر ومكسمليان روبسيير. فأما إيبير، أحد قادة كومون باريس، فقد اتبع العقلانية الفولتيرية، وشجع انتهاك حرمات الكنائس، وأقام العبادة العلنية لإلهة العقل (1793). وأما روبسبير فكان قد راى روسو أثناء مقام هذا الفيلسوف آخر مرة في باريس. وقال مناجياً جان – جاك "إيه أيها القديس!.. لقد تطلعت إلى محياك المهيب.. وفهمت كل احزان حياة نبيلة كرست نفسها لعبادة الحق"([26]).
استشهد الخطباء في طول فرنسا وعرضها بأقوال روسو في التبشير بسيادة الشعب؛ وبعض الفضل في استطاعة الثورة أن تعيش عقداً من الزمان رغم خصومها وشططها راجع إلى الترحيب العارم الذي لقيته أفكار روسو.
كما "وجد فيه الفوضويون والاشتراكيون على السواء نبياً وقديساً؛ ذلك لأن كلتا الدعوتين المتعارضتين وجدتا غذاء في إدانته الأغنياء وعطفه على الفقراء، وقال تولستوى "كنت وأنا في الخامسة عشر أحيط عنقى بمدالية عليها صورة روسو بدلاً من الصليب المعتاد".
روسو لم يخاطب المثقفين والكبار بالمنطق والحجة، بل تكلم إلى الشعب كله بشعور وحماسة في لغة يستطيعون فهمها، وكانت حرارة بيانه، في السياسة كما في الادب، أقوى من سلطان قلم فولتير"([27]).
قالوا عنه([28]):
·     "فلسفة فولتير هي فلسفة الناس السعداء .. أما روسو فهو فيلسوف التعساء: إنه يرافع عن قضيتهم، ويبكي معهم.. ولكن غالباً ما نشعر، بعد أن نطالع مؤلفاتهما، أن مرح أولهما يحزننا، وأن حزن ثانيهما يسلينا". (برناردان دي سان – بيير)
·     "مع فولتير، فإن العالم القديم هو الذي ينتهي، أما مع روسو، فإن عالماً جديداً يبدأ ". (غوته)
·     "لكأن روحك يعرف مسبقاً دروب الصيرورة، فتدرك من العلامة الأولى ما سيحدث، فتندفع، أيها الجريء بالروح، مثلك مثل النسر الذي يسبق العاصفة، محوماً في طليعة الآلهة الآتين". (هولدرلن).
·     "جان – جاك روسو لم يكتشف شيئاً، لكنه ألهب كل شيء". (مدام دي ستايل).
·     "لجان – جاك روسو ندين بفصاحة المنابر؛ فقد كان أستاذ القول للخطباء الذين سيولدون ويتكلمون بعد موته، وقد كانت رسالته الأدبية أن يعجن أدب فرنسا المدني برسم الثورة والمناقشات السياسية" (لامرتين).
·     "روسو، ذلك الرجل العصري الأول، المثالي والوغد في شخص واحد، المريض بقرف مسعور من ذاته، ذلك الطرح الذي ضرب اطنابه عند عتبة الأزمنة الحديثة". (نيتشه).
 
 


([1]) كالفن (Calvin) هو اللاهوتي الفرنسي البروتستانتي (1509-1564) الذي قال، إن قدر الإنسان مرسوم قبل الولادة .
([2]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – تاريخ الفكر الغربي .. من اليونان القديمة إلى القرن العشرين – ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى ، بيروت، نيسان (ابريل) 2012- ص 535
([3]) آلان بلووم – مقال بعنوان: جان جاك روسو –تاريخ الفلسفة السياسية (مجموعة مؤلفين)- تحرير: ليوشتراوس و جوزيف كروبسي – ترجمة: محمود سيد أحمد – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – الجزء الثاني – 2005   – ص 151
([4]) غنار سكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص 537
([5]) المرجع نفسه - ص  538
([6]) المرجع نفسه - ص  539
([7]) حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990 م  -  ص161
([8]) المرجع نفسه - ص162/ 163
([9]) المرجع نفسه - ص164
([10]) المرجع نفسه - ص 165
([11]) المرجع نفسه - ص 166
([12]) المرجع نفسه - ص 167
([13])غنارسكيربك و نلز غيلجي–  مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص  542
([14])ول ديورانت –  مرجع سبق ذكره – قصة الحضارة "روسو والثورة" – المجلد الثاني والعشرون -ص  367
([15])غنارسكيربك و نلز غيلجي–   مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص 535
([16]) ول ديورانت - ترجمة: فؤاد أندراوس – قصة الحضارة "روسو والثورة" – المجلد الثاني والعشرون -ص  371
([17]) المرجع نفسه –ص  372
([18]) المرجع نفسه –ص  373
([19]) المرجع نفسه –ص  374
([20]) المرجع نفسه –ص  376
([21]) ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص303
([22])المرجع نفسه -ص305
([23])المرجع نفسه - ص306
([24])المرجع نفسه - ص308
([25])المرجع نفسه - ص309
([26])ول ديروانت – مرجع سبق ذكره –قصة الحضارة – المجلد الثاني والعشرون –ص  377
([27]) المرجع نفسه –ص  379
([28])  جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره –معجم الفلاسفة – ص 328- 332



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ديفيد هيوم (1711 – 1776)
- فرانسوا فولتير ( 1694م. – 1778م. )
- شارل مونتسكيو ( 1689م. – 1755م. )
- جورج بركلي (1685 – 1753)
- عصر الحداثة
- عصر التنوير – العقل والتقدم
- جوتفريد فيلهلم لايبنتز ( 1646م.  – 1716م. )
- اسحاق نيوتن (1642 – 1727)
- جون لوك ( 1632م. – 1704م. ).. عصر التنوير والمساواة
-   كتاب :  عواصف الحرب وعواصف السلام  [1]
- باروخ سبينوزا([1]) (1632م. – 1677م. )
- بليز باسكال (1623 - 1662)([1])
- رينيه ديكارت ( 1596 م. _ 1650 م. )
- كتاب :الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية
- توماس هوبز (1588 – 1679 )
- المسألة اليهودية والصراع العربي الصهيوني
- كلام في السياسة
- جاليليو ( 1564 م. _ 1642 م. )
- عن انتشار الاسلام السياسي و دور جماعة الاخوان المسلمين......
- فرنسيس بيكون ( 1561 م _ 1626 م )


المزيد.....




- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...
- دراسة ضخمة: جينات القوة قد تحمي من الأمراض والموت المبكر
- جمعية مغربية تصدر بيانا غاضبا عن -جريمة شنيعة ارتكبت بحق حما ...
- حماس: الجانب الأمريكي منحاز لإسرائيل وغير جاد في الضغط على ن ...
- بوليانسكي: الولايات المتحدة بدت مثيرة للشفقة خلال تبريرها اس ...
- تونس.. رفض الإفراج عن قيادية بـ-الحزب الدستوري الحر- (صورة) ...
- روسيا ضمن المراكز الثلاثة الأولى عالميا في احتياطي الليثيوم ...
- كاسبرسكي تطور برنامج -المناعة السبرانية-
- بايدن: دافعنا عن إسرائيل وأحبطنا الهجوم الإيراني


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - غازي الصوراني - جان جاك روسو ( 1712 – 1778 )