أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غازي الصوراني - فرنسيس بيكون ( 1561 م _ 1626 م )















المزيد.....


فرنسيس بيكون ( 1561 م _ 1626 م )


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 6732 - 2020 / 11 / 14 - 11:44
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


فيلسوف انجليزي، مؤسس النزعة التجريبية الحديثة في الفلسفة، وهو "أول من حاول إقامة منهج علمي جديد يرتكز إلى الفهم المادي للطبيعة وظواهرها"([1])؛ وهو أيضاً، مؤسس المادية الجديدة والعلم التجريبي وواضع أسس الاستقراء العلمي؛ فالغرض من التعلم عنده زيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة وهذا لا يمكن تحقيقه إلاَ عن طريق التعليم الذي يكشف العلل الخفية للأشياء.
 دعا أيضا "إلى النزعة الشكية فيما يتعلق بكل علم سابق بحيث يجب أن تكون هذه النزعة الخطوة الأولى نحو الإصلاح وتطهير العقل من المفاهيم المسبقة والأحكام المبتسرة (الأوثان) والأوهام التي تهدد العقل بشكل مستمر"([2]).
بهذا " يكون فرنسيس بيكون هو الذي افتتح تاريخ الفلسفة الحديثة، لأنه كان صاحب منهج تجريبي يستند على الاستقراء من الوقائع، وكان بذلك بداية للتيار التجريبي في الفكر الحديث، والذي استمر من بعده لدى هوبز ولوك وهيوم، ولأنه واضع قانون جديد في التفكير أَحلَّهُ محل المنطق الأرسطي والمتمثل في كتابه الأساسي "الأورجانون الجديد" والذي ظهرت فيه نظرية بيكون في الأوهام الأربعة، حيث جسد سعي الفكر الحديث في التحرر من الآراء المسبقة الموروثة والأفكار الشائعة، إذ قد استطاع تحرير الفكر الحديث من سلطة فلسفة العصور الوسطى والفلسفة الأرسطية ومكنه من البدء بداية جديدة تماماً غير معتمدة على أي مذهب فلسفي سابق موروث، مما مكن الفلسفة الحديثة من امتلاك استقلال وشخصية متميزة وخصائص جديدة"([3]).
 
أفكاره وفلسفته:
يعتبر فرنسيس بيكون من أبرز فلاسفة المنهج العلمي، رفض المنهج الأرسطي القائم على المنطق الصوري القياسي، واقترب من منهج ديكارت القائم على العقل كمصدر أكثر أهمية من التجربة، لكنه انحاز إلى المنهج التجريبي واصبح أحد أهم رواده.
اعتبر بيكون ان الخطأ الذي وقعت فيه الفلسفة اليونانية انها وقعت في إطار النظرية فقط وباتت أسيره لها، واقترح ان يكون الفكر أو العقل مساعداً رئيسياً للتجربة والعلم، وان الفلسفة يجب أن تبقى بعيدة عن الدين، ولذلك قرر الجمع بين الفكر والتجربة.
قام بيكون بتصنيف العلوم، وعددها ثلاثة:
العلم الأول: التاريخ ومجاله في العقل الذاكرة .
العلم الثاني الشعر ومجاله في العقل هو المخيله.
العلم الثالث: الفلسفة مجالهما العقل والفكر.
كما قسم بيكون هذه العلوم الثلاث إلى عدة اقسام داخليه، فالتاريخ قسمين: تاريخ مدني خاص بالانسان والمجتمع، وتاريخ طبيعي خاص بالطبيعة، وينقسم إلى عدة فروع تاريخ السماء وتاريخ الارض وتاريخ النبات... إلخ.
بخصوص الفلسفة، فهي تتناول العلم الطبيعي او عالم الماده، وفلسفة الانسان وتتناول الروح والعقل والمنطق والارادة والاخلاق، أما اللاهوت يرتبط بالغيبيات.
لقد شك بيكون في كل ما كان يظن "أنه يقين حق" غير أن الشك عنده لم يكن هدفاً بذاته بل وسيلة لمعرفة الحقيقة؛ وأول خطوة على هذا الطريق تنظيف العقل من الأوهام الأربعة التي حددها كما يلي:
أولاً: أوهــــــام القبيلة:-
وهي أوهام طبيعية بالنسبة إلى البشرية عموماً، فقد زعم الإنسان باطلاً أنه مستوى الأشياء؛ والعكس هو الصحيح لأن إدراك الإنسان العقلي والحسي، تصوير لنفسه، وليس تصويراً للكون، أي أنها (الأوهام) أقرب إلى العُرف والعادات الموروثة في بلادنا التي يصر الناس على أنها صحيحة رغم كل هذا التغيير من حولنا، ورغم كل ما جرى لنا من كوارث وهزائم بفعل إيمان شعوبنا الأعمى بالجوانب المظلمة في تراثنا القديم.
ثانياً: أوهام الكهف :-
المقصود بها البيئة التي نشأ الانسان فيها، فلكل انسان كهف تربيته وطريقة تفكيره، بحيث يَنظر إلى العالم وفق المنظور الذي تربي عليه، وهي -كما يقول ديورانت- "تتمثل في الأفكار التقليدية القديمة والتي تُرَكِّز على الحاضر دون الميل إلى تغييره على أساس أن الأفكار السابقة ( القديمة) الدينية والاجتماعية وغيرها، هي أفكار "لا يمكن الشك بها" كما يقول العامة؛ وفي سخريته من هذه الأفكار والمعتقدات القديمة، يقول بيكون في كتابه الأورجانون([4]) الجديد: "إن المعارف والمعتقدات القديمة المطلقة السكولائية هي حكمة مهلكة للمجتمع وشيء مُفسد للأخلاق.. إنها حكمة الفئران التي لا تترك بيتاً بالتأكيد إلاَ وهو آيل للسقوط.
 
ثالثاً: أوهام السوق:-
وهي أخطر الأوهام على العقل -كما يقول بيكون- "مثال المعتقدات والأمثال الشعبيه الغيبية وآثارها الضارة، وفي عصرنا الراهن يمكن الإشارة إلى أوهام السوق أيضاً من خلال "سبايدرمان" وغيره من البرامج، وبابا نويل وأوهامه"([5])، وهذه الأوهام تنشأ من بعض الألفاظ التي يستخدمها الناس أثناء عملية المتاجرة، فالتخاطب هنا يتم عن طريق "لغة السوق" ووفقاً لعقلية السوق والعامة من الناس، حيث ينشأ عن سوء تكوين هذه الكلمات تعطيل شديد للعقل.
رابعاً: أوهام المسرح:-
وهي الأوهام التي انتقلت إلينا من نظريات الفلاسفة المختلفة، وقوانين البراهين والأدلة الخاطئة؛ وهي التي يسميها بيكون "بأوهام المسرح" إذ أن جميع الأنظمة الفلسفية التي نتلقاها عن الفلاسفة من وقت لآخر ليست سوى روايات مسرحية في رأي " بيكون "، وبالتالي فإن المقصود بأوهام المسرح -كما يقول يوسف حسين- "مظاهر وأحوال التخلف والجمود العقلي أو الاستسلام للفلسفات والأفكار القديمة والتأثر بها، وبالتالي ضرورة التخلص من هذه الاوهام لكي يدخل الانسان بعقل نظيف خالٍ من كل ما هو ضار من خلال الاستقراء([6])، مرحلة تغير الظاهرة وأسبابها عن طريق صياغة قانون خاص بها.
 كانت افكار بيكون هذه حجر الأساس للنهضة العلمية الحديثة"([7]).
إن بيكون رأى في هذه الأوهام التي يطلق عليها أحياناً "أخطاء العقل" عقبة في وجه الحقيقة وأن الوسيلة الوحيدة لتذليل هذه العقبة تكمن فقط في الأساليب الجديدة للتفكير، والوسائل الجديدة للفهم والعقل التي تستعين بالمنهج التجريبي في مواجهة المنهج الدوجمائي أو الجمود!!
إذن لقد كان بيكون "أعظم عقل في العصور الحديثة..قام بقرع الجرس الذي جمع العقل والذكاء..وأعلن أن أوروبا قد أقبلت على عصر جديــــد"([8]) .!!
كتب فرانسيس بيكون المدافع "عن منهج الاستقراء، عن العلم الجديد (Novum Organun) "الأداة الجديدة" الذي سيوفر لنا السلطة على الطبيعة، وعن المجتمع الجديد (Nova Atlantis) "الأتلانتس الجديد" الذي سيصير بفضل العلم الجديد فردوساً أرضياً، وعَبَّر عن سيطرة تكنولوجية على الطبيعة، فالعقليه التكنولوجية هي المعرفة التي لابد من أن تؤدي بنا إلى المجتمع الجديد. وبكلمات أخرى نقول: إن المسائل المنهجية والسياسية ربطتا ربطاً وثيقاً، وليس لنا سوى العلم وسيلة للسيطرة على الطبيعة بغية خلق المجتمع الجيد"([9]).
وهكذا، حاول بيكون أن يبيِّن كيف يمكن بسهولة تحريف الأفكار والمواقف وتقييدها، وذلك من خلال مطالبته، بتنظيف العقل، والفكر الإنساني، من الأوهام الأربعة التي أشرنا إليها اعلاه، حيث وَضَع "بيكون" أمامنا برنامجاً كاملاً للتنوير وللصراع ضد الجهل وكل مظاهر التخلف، فكان فكره طليعياً فعلاً على طريق افتتاح عصر التنوير في القرن الثامن عشر.
كان "بيكون" البشير بعصر التنوير، بمعنى أنه أراد أن يساعد إنسان زمنه على التقدم نحو رؤى أصدق ومواقف أفضل، ونحن نعرف اليوم أن آراء بيكون صحيحة على نطاق واسع، فقد مكننا العلم القائم على الفرضية والاستنباط من تحسين احوال معيشتنا، كما أدى هذا العلم دوراً في العملية التكوينية التي بها صار الإنسان مستقلاً.
ولذلك ليس مستغرباً اعتبار الفيلسوف فرنسيس بيكون هو الجدير حقا بالاعتبار دون فلاسفة المنهج في القرن السابع عشر –كما تقول د. يمنى طريف الخولي-، فما دامت الطبيعة قد أصبحت سؤال العصر، فإن بيكون كان الأقدر على تجريد وتجسيد روح عصره باستقطابه لسؤال الطبيعة وتبنيه الدعوة لمنهج البحث المنصب عليها والملائم لها، المنهج التجريبي أو الاستقرائي أساس شريعة العلم الحديث، فاقترن اسم بيكون بحركة العلم الحديث، وعُدَّ وكأنه أبوه الشرعي الذي صاغ شهادة ميلاده الرسمية، بوصفه واحدا من الذين قادوا البشرية إلى العصر الحديث وعلمه الحديث، وكان هذا أساسا بسبب كتابه "الأورجانون الجديد الذي نشره العام 1620.
والذي هو "ليس كتابا مستقلا إنما هو جزء من كتاب، أو على الأقل جزء من خطة عامة لإصلاح العلم وللنهوض بحياة الإنسان"، على أن اللافت حقا هو عنوان الكتاب "الأورجانون الجديد" أي "الأداة الجديدة" أو "الآلة الجديدة"، في إشارة واضحة إلى أن أورجانون أرسطو قد أصبح أداة قديمة بالية عفى عليها الدهر، والكتاب يقدم الأداة أو الآلة الجديدة المناسبة لاحتياجات العصر، وهي المنهج التجريبي"([10]).
 
حياة فرنسيس بيكون السياسة :
يتحدث في مقدمة كتابه "تفسير الطبيعة" عن القرار الذي حوله من الفلسفة إلى السياسة، ولا بد لنا من ذكر هذا المقطع الذي جاء فيه الكتاب لأهميته، يقول:
"لقد اعتقدت بأنني ولدت لخدمة الناس وقدرت أهمية الخير العام بان أكرس نفسي لخدمة الواجبات والحقوق العامة، التي يجب ان يتساوى فيها الجميع كمساواتهم في استنشاق الهواء والحصول على الماء، لذلك فقد سألت نفسي عن اكثر الأمور نفعاً للناس، وما هي المهمات التي اعدتني الطبيعة لادائها أو ما هي المهمات التي تتناسب مع مؤهلاتي الطبيعة، وبعد بحث لم أجد عملاً يستحق التقدير أكثر من اكتشاف الفنون والاختراعات والتطور بها للرقي بحياة الانسان..."([11]).
اخذ بيكون في الصعود من غير ان يرفعه احد، ولكن كل خطوة كلفته عدة سنوات. وفي عام 1583 انتخب عضواً في البرلمان، وفي عام 1606 عين وكيلاً للمدعي العام، وفي عام 1613 عين مدعياً عاماً، وفي عام 1618 في سن السابعة والخمسين تولى منصب رئاسة الوزارة([12]).
ان صعود بيكون إلى أعلى مناصب الدولة أوشك ان يحقق أحلام – افلاطون عن الملك الفيلسوف، لان صعوده خطوة فخطوة نحو السلطة السياسية جعله يمتطي ذرى الفلسفة، فهو يكتب في كلمات تذكرنا بسقراط، "لا استطيع الحياة بلا فلسفة".
لقد كان "مديح المعرفة" تقريباً أولى منشوراته وحماسته للفلسفة في هذه الرسالة تجبرنا على اقتطاف بعض ما جاء فيها: "سأقدم مديحي للعقل نفسه، العقل هو الانسان، والمعرفة هي العقل، وليس الإنسان الا ما يعرف. اليست لذائذ العاطفة والحب أقوى من لذائذ الحواس، اليست لذائذ العقل اعظم من لذائذ الحب. اليس حقاً اننا لا نشبع من لذة البحث عن الحقيقة؟"([13]).
أما "آراء بيكون السياسية كما تظهر في المقالات التي كتبها، فهي محافظة جامدة، وهذا أمر طبيعي من شخص يطمع في الوصول إلى مناصب سياسية كبيرة، ويعيش في عصر محافظ متزمت، فهو يؤيد حكومة مركزية قوية. والملكية في نظره أفضل أنواع الحكومة، كما ويقدم بيكون بعض النصائح لتجنب الثورات كما فعل ذلك ارسطو من قبله، ويقول ان افضل وسيلة لتجنب الفتن والثورات، هو استئصال أسباب هذه الثورات، اذ لا ندري متى تقدح الشرارة وتشعل النار في الوقود. كما لا ينفع قمع الحريات (كحرية الحديث) بقسوة شديدة للقضاء على الاضطراب، لان الاستهانة بها واغفالها كثيراً ما يكون أفضل في ضبطها والسيطرة عليها"([14]).
ان جوهر الثورة -عنده- ينقسم إلى نوعين، "الافراط في الفقر والافراط في الثروة.. أما أسباب الثورة فهي، البدع الدينية، والضرائب، وتغيير القوانين والعادات، وتحطيم الامتيازات، والظلم على نطاق واسع، وتقديم الأشخاص الذين لا يستحقون التقديم، والأجانب، والمجاعات والجنود المسرحون، وهنا ينمو الشغب وتشتد الفتنة، وكل إساءة توجه إلى الناس تزيد في توحيدهم وتوحيد أهدافهم، وافضل وسيلة لتجنب الثورات هو التوزيع العادل للثروة والمال "ان المال كالسماد لا ينفع الا اذا فرد وبسط"، ولكن هذا –كما يقول ديورانت- لا يعني الاشتراكية أو الديمقراطية، ان بيكون لا يثق بالشعب الذي كان محروماً من التعليم في أيامه، ان احط أنواع النفاق والرياء في نظره هو مداهنة الشعب وتملقه"([15]).
وما يريده بيكون "أولاً: جماعة من صغار المزارعين الذي يملكون أراضيهم؛ وحكومة ارستقراطية يتربع على رأسها ملك فيلسوف. اذ لا نجد حكومة واحدة أصابها الفشل تحت زعامة الناس المتعلمين، أو بعبارة أوضح كان النجاح حليف جميع الحكومات التي حكمها الفلاسفة المتعلمون الذين ذكر منهم سنيكا وانطونيوس وبيوس وارليوس ولعله كان يرجو أن تضيف الأجيال القادمة اسمه إلى هذه الأسماء"([16]).
لقد "كان بيكون يفكر طيلة حياته وخاصة في أيام نجاحه السياسي، في إعادة بناء الفلسفة وتجديدها، واعتزم على تركيز كل دراسته حول هذه المهمة، فإذا أراد الإنسان ان ينتج اعمالاً، ينبغي –كما يقول فرنسيس بيكون- أن تكون لديه معرفة بحيث يكون عالماً وعارفاً، لأننا لا يمكن أن نسود الطبيعة الا اذا درسنا قوانينها، لذلك دعنا نتعلم قانون الطبيعة، وبذلك نصبح اسياداً لها، لأننا بجهلنا بها نكون عبيداً لها. والعلم هو الطريق للحياة السعيدة الفاضلة، هذه هي المهمة التي أوقف بيكون نفسه عليها في "تقدم المعرفة" فهو يقول "ان قصدي ان احيط بالمعرفة"([17]).
في هذا الجانب، يقول بيكون: "ان ما تحتاجه العلوم هو الفلسفة، تحليل الطريقة العلمية وتنسيق الأهداف والنتائج العلمية، وكل علم بغير هذا يكون سطحياً، وكما اننا لا نستطيع ان نشاهد منظر المدينة تماماً من مكان منبسط أو منخفض، كذلك من المستحيل ان نكتشف الأجزاء البعيدة والعميقة لأي علم، بالوقوف على مستوى العلم نفسه، بدون الصعود إلى ارتفاع أعلى"([18]).
لقد أحب بيكون الفلسفة في النهاية أكثر من العلم، اذ الفلسفة وحدها هي التي تستطيع ادخال السلام الجليل الناجم عن الفهم حتى إلى الحياة الحزينة المضطربة، ان المعرفة تقهر او تخفف من خوف الموت وتعكس الحظ، والحكومات كالعلم تماماً تعاني كثيراً من افتقارها إلى الفلسفة، ان ارتباط الفلسفة بالعلم وعلاقتها به هو نفس ارتباط إدارة الدولة بالسياسة وعلاقتها بها، لذلك من الخطر ايضاً ان يدير شؤون الدولة وامورها الدجالون من رجال السياسة، على أساس استفادتهم من التجارب والخبرة اثناء الحكم، الا اذا امتزج هؤلاء بالرجال الراسخين في العلم.
وهكذا نجد بيكون، مثل افلاطون، يُعَظِّم الفلسفة، ويعتبرها منجاة وخلاصاً للإنسان، ولكنه ادرك بوضوح أكثر من افلاطون الحاجة إلى اخصائيين في العلم وإلى تخصص عسكري بين الجنود والجيش، إذ لا يستطيع عقل واحد حتى ولا بيكون نفسه إدارة كل ميدان ومعرفة كل علم حتى ولو كان ينظر من فوق جبل الاولمب نفسه، انه يحلم في علماء ينتظمهم التخصص ويجمعهم التعاون والاختلاط الدائم، ويفكر في منظمة كبيرة توحد هدفهم، ويجب أن تكون هذه المنظمة دولية ولا تحدها حدود الدول، حيث تجعل من أوروبا وحدة ثقافية واحدة.
طرح بيكون هذه الأفكار، نتيجة معرفته بضعف "الشعور والرابطة بين الكليات والجامعات في جميع انحاء أوروبا وانجلترا ويدعو جميع هذه الجامعات إلى تحديد وتوزيع المواضيع والقضايا بينها، والتعاون في البحث والنشر، بهذا التعاون والارتباط تصبح هذه الجامعات جامعات مثالية، ترتكز على تعليم عادل يسود العالم"([19]).
يقول (بيكون) لقد اجدبت الفلسفة مدة طويلة لانها كانت تحتاج إلى طريقة جديدة لتخصيبها، كما ان خطأ فلاسفة اليونان الكبير هو انهم صرفوا وقتا كبيراً في النواحي النظرية، والقليل في الملاحظة والبحث العلمي، وكان بيكون يتحدى كل ما جاء به الفلاسفة من ميتافيزيقا، فهو يقول إن الإنسان كمفسر وشارح للطبيعة يدرك ويعمل بقدر ما تسمح له به ملاحظاته عن نظام الطبيعة، لذلك تكون الخطوة الأولى هي تطهير العقل وتنقيته وكأننا اطفالاً عدنا صغاراً أبرياء من الأفكار المجردة، وغسلنا عقولنا من التصورات السابقة والآراء المتحيزة، لذا يجب أن نحطم أوهام العقل وبقية الأوهام" ([20]).
نقد فلسفة بيكون:
"لم يزعم بيكون أو يَدَّعِ الأصالة في طريقته، لكنه –كما يقول ديورانت- "لم يزدر ملاحظات غيره، وكان يضيء، مشعله من كل شمعة، كما انه اعترف بفضل غيره عليه، لكن مواطن العظمة والضعف في بيكون تمكن تماماً في ولعه بالوحدة. انه يحب مد اجنحة عبقريته المنسقة فوق عشرات العلوم، وكان يطمح ان يكون مثل افلاطون "رجلاً ذا عبقرية سامية ينظر إلى جميع الأشياء من فوق صخرة عالية".
لقد تداعى بيكون تحت عبء المهمات التي ارهق نفسه بها، وفشل لانه اخذ الكثير على عاتقه، ولم يستطع دخول أرض العلم الموعودة، ولكنه استطاع ان يقف على حدودها ويشير إلى جمال معالمها من بعيد.
إن أعماله الفلسفية على الرغم من قلة مطالعتها "حَرَّكَت العقول التي حَرَّكَت العالم" لقد جعل من نفسه صوت التفاؤل البليغ وشارح عصر النهضة، ولا نجد شخصاً مثله اثار الهمم في غيره من المفكرين"([21]).
وعندما قام عظام العقول في عهد التنوير الفرنسي بمهمة وضع المشروع الفكري العظيم الرائع، وهو كتاب دائرة المعارف "الموسوعة" اهدوها إلى فرنسيس بيكون – وقال ديدرو اننا لو انتهينا من وضعها بنجاح، نكون مدينين بالكثير إلى "بيكون" الذي وضع خطة قاموس عالمي عن العلوم والفنون في وقت خلا من الفنون والعلوم.
لقد أطلق داليمبرت على بيكون اسم أعظم وأبلغ وأوسع الفلاسفة، وسارت جميع الاتجاهات والاعمال الفكرية البريطانية على فلسفة بيكون.. لقد قدم ميله لتفهم العالم بطريقة أوحت إلى سكرتيره "هوبز" نقطة البداية إلى مذهبه المادي، كما أن طريقته الاستقرائية أوحت إلى جون لوك فكرة علم النفس التجريبي، المرتبط بالملاحظة، والمتحرر من اللاهوت والميتافيزيقا.
لقد كان بيكون –كما يضيف ديورانت- "صوت جميع الأوروبيين الذين حولوا القارة الأوروبية من غاب إلى أرض كنوز الفن والعلم وجعلوا منها مركز العالم، قال بيكون لقد وهبنا الله أرواحاً تساوي جميع العالم، وكل شيء ممكن بالنسبة إلى الانسان، ويقول أيضاً في واحد من أروع مقاطعه الكتابية ان "هناك ثلاثة أنواع من البشر. والأول، أولئك الذين يطمعون في بسط نفوذهم وسلطانهم على بلادهم وهم نوع سافل ومنحط. والثاني، أولئك الذين يسعون في بسط سلطان بلادهم وسيادتها على شعوب أخرى، وهؤلاء أكثر كرامة حتما عن النوع الأول، ولكنهم ليسوا أقل شرها ونهماً، ولكن لو حاول انسان إقامة وتوسيع سيادة الجنس البشري نفسه على الكون فإن طموحه بلا شك أعظم نفعاً، وأكثر نبلاً، من النوعين الآخرين، لقد فرقت هذه المطامح المكافحة من اجل السيطرة على روحه، مصيره إلى قطع، وحطمته إلى شظايا"([22]).
أخيراً، "في مقاله "عن الموت" أوضح بيكون، امنيته ان يموت بلا مرض او ألم، وقد تحققت أُمنيته، فبينما كان راكبا في شهر مارس عام 1626، من لندن إلى هاي جيت، مفكراً في مدى ما يحتاجه من الوقت حفظ اللحم من الفساد لو غطيناه بالثلج، وعزم على اجراء تجربة سريعة، فتوقف امام كوخ واشترى دجاجة، وذبحها ودفنها في الثلج، وبينما كان يقوم بعمله هذا شعر برعشة قوية من البرد، وأحس بالضعف، وشعر بعجزه عن الرجوع، وطلب ان ينقل إلى بيت اللورد اروندل القريب من ذلك المكان، والتزم الفراش ولكنه لم يعتزل الحياة بعد، وكتب في فرحة، لقد نجحت التجربة نجاحاً كبيراً، وكانت هذه عبارته الأخيرة، لقد استنفذت حمى حياته الصاخبة المتقلبة المختلفة جسده الذي انطفأ الآن، واضحى عاجزاً عن محاربة المرض الذي زحف إلى قلبه ببطء. وتوفي في التاسع من شهر ابريل عام 1626 في الخامسة والستين من عمره، لقد كتب في وصيته هذه الكلمات الفخورة: "اترك روحي إلى الله .. ودفن جسدي بغموض، وإسمي للأجيال القادمة والأمم الأجنبية". وقبلته الأجيال والأمم"([23]).
قالوا عنه([24]):
·     "لم يكن قاضي القضاة بيكون يعرف الطبيعة؛ بيد أنه عرف وحدد جميع الدروب التي تقود إليها، لقد احتقر في سن مبكرة ما كان المجانين المعتمرون القبعات المربعة يُعلِّمونه باسم الفلسفة في البيوت الصغيرة المسماة معاهد؛ وقد بذل كل ما في وسعه كيلا تستمر تلك الجماعات، التي نصبت نفسها مدافعة عن كمال العقل البشري، في فساد هذا العقل بماهياتها، وبهلعها من الفراغ واستقباحها له، وبصورها الجوهرية، أي بكل تلك الكلمات التي اكتسبت هالة من الوقار بفعل الجهل، والتي أصبحت شبه مقدسة من جراء مزجها على نحو مثير للسخرية بالدين" (فولتير).
·     "بيكون هو نبي الحقائق التي تولى نيوتن فيما بعد كشفها للناس" (هوراس والبول).
·     "السلف الحقيقي للمادية الانكليزية هو بيكون" (لينين).
·     "مع ان فلسفة فرنسيس بيكون ليست في كثير من جوانبها وافية، فإن له أهمية دائمة كمؤسس للمنهج الاستقرائي الحديث وكرائد لمحاولة تنظيم الإجراء العلمي تنظيماً دقيقاً" (برتراند راسل).
·     "يعتبر بيكون مؤسس التجربية الحديثة والعلوم، وهذا غير مبرر، فالعلم الحديث حقاً، أي الطبيعيات الرياضية، لم يلق منه فهماً في البداية، وما كان له أن يتكون أبداً لو سار في الطرق التي فتحها له، ولكن بيكون، المتحمس بحدة على غرار سائر أهل عرالنهضة، تصور المعرفة قوة وقدرة، فتغني بالامكانيات الهائلة للتقنية وسعى إلى حذف الأوهام لصالح تفهم عقلاني للواقع" (كارل ياسبرز).
 


([1])  موجز تاريخ الفلسفة - جماعة من الأساتذة السوفيات – تعريب: توفيق ابراهيم سلوم – دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – - ص 238 .
([2]) الموسوعة الفلسفية- دار الطليعة - بيروت 1981 - ص 99 و ص 164.
([3]) اشرف حسن منصور – الفلسفة الحديثة: عوامل نشأتها وخصائصها العامة – الحوار المتمدن – العدد 3213 – 12/12/2010.
([4]) الأورجانون معناها الآلة .
([5]) يوسف حسين – محاضرة من اليويتوب- الانترنت.
([6]) الاستقراء المصطلح مشتقل من كلمة تستقرئ أي يقرأ، أما الاستقراء كمنهج وطريقة فهو يتألف من عدة مراحل: (1) مرحلة جمع المعلومات واجراء التجارب. (2) مرحلة ترتيب المعلومات وتسجيل نتائج التجارب ... المرحلة الثالثة وهي مرحلة تحليل البيانات المتوفرة لدينا وتقوم يتثبت ما نجح منها يستبعد أو نلغي ما تبين خطأه لكي نستخلص في النهاية حقائق الطاهرة موضوع البحث .
([7]) يوسف حسين – محاضرة من اليويتوب- الانترنت.
([8])  ول ديورانت - مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة – ص 135
([9]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – تاريخ الفكر الغربي .. من اليونان القديمة إلى القرن العشرين – ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى ، بيروت، نيسان (ابريل) 2012- ص  339
([10]) د. يمنى طريف الخولي – فلسفة العلم في القرن العشرين – عالم المعرفة – العدد 264 – ديسمبر 2000 – ص 63
 ([11])ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص137
([12]) المرجع نفسه –  ص141
([13])المرجع نفسه – ص143
([14])المرجع نفسه – ص148
([15])المرجع نفسه – ص149
([16])المرجع نفسه – ص150
([17])المرجع نفسه – ص152
([18])المرجع نفسه – ص157
([19])المرجع نفسه – ص159
([20])المرجع نفسه – ص163
([21])المرجع نفسه – ص178 / 179
([22])المرجع نفسه - ص180-181
([23]) المرجع نفسه – ص 183 / 184
([24])  جورج طرابيشي – معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط1 – أيار (مايو) 1987– ص 226 - 228



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليوناردو دافنشي ( 1452 م. - 1519 م.)
- جوردانو برونو ( 1548 م. _ 1600 م. )
- جان كالفن (1509 - 1564)
- مارتن لوثر (1483 - 1546)
- توماس مور (1478 – 1535)
- نيكولاس كوبرنيكس ( 1473 م. _ 1532 م. )
- نيقولا ميكافيلي ( 1469 م. _ 1527 م. )
- الفلسفة الأوروبية نهاية القرون الوسطى
- فلسفة عصر الاقطاع في أوروبا منذ القرن السادس حتى الرابع عشر
- شروحات ختامية حول تأثير الفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى
- ابن خلدون ( 1332 م. _ 1406 م. )
- ابن تيمية (1263 م– 1328م)
- ابن عربي ( 1165 - 1240)
- شهاب الدين بن يحيى السهْرَوَرْدي (1155 – 1191 م)
- ابن رشد ( 1126 م. _ 1198 م. )
- ابن طفيل (1110 م- 1185 م)
- ابن باجه  (1080 م- 1138 م)
- أبو حامد محمد  الغزالي (1059 – 1111 م)
- ابن حزم (994م – 1064م)
- ابن سينا([1]) ( 980 م - 1037 م)


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غازي الصوراني - فرنسيس بيكون ( 1561 م _ 1626 م )