أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - غازي الصوراني - ابن رشد ( 1126 م. _ 1198 م. )















المزيد.....


ابن رشد ( 1126 م. _ 1198 م. )


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 6710 - 2020 / 10 / 21 - 15:26
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



هو أبو الوليد محمد بن رشد المولود في قرطبة، كان فيلسوفاً وفقيهاُ وطبيباً، وقبل كل ذلك كان قاضياً، إذ تولى منصب قاضي القضاة في قرطبة بعد وفاة والده، شرح أرسطو حتى قال معاصروه : " لقد فسر أرسطو الطبيعة، أما ابن رشد فقد فسر ارسطو " ولكنه لم يكتف بالتفكير والشرح بل نَّقح وعَّدل وطور في فلسفته كما يؤكد عدد من المفكرين الذي كتبوا عنه .

يقول جورج طربيشي : "كان "ابن رشد" لا يطمح إلى أكثر من دور الشارح لأرسطو، وكان يحرص، حتى بصفته شارحاً، على عدم التنائي عن السلالة الفلسفية التي ابتدأها الفارابي وابن سينا المتقدمان عليه، على الرغم من أنه عارض هذا الأخير بصدد جميع المسائل التي كانت حملت أرسطو – وكان يتبعه تبعية عمياء – على معارضة أفلاطون، على أنه افترق بمنتهى الجلاء عن الغزالي، وكَتَب "تهافت التهافت" رداً على "تهافت الفلاسفة"، كما نقلت جميع شروح ابن رشد إلى العبرية في مجرى القرنين الثالث عشر والرابع عشر؛ ولم تصلنا بعض شروحه إلا في ترجمتها العبرية"([1]).

اعتبر ابن رشد أرسطو "انساناً كاملاً باعتباره أعقل انسان في الأرض وهو خير مثال أبرزته العنايه الالهية"، لكن ابن رشد على الرغم من اعتبار أرسطو أستاذاً له، لم يكن شارحاً أو تابعاً ميكانيكياً لأرسطو، بل قدم رؤيته الخاصة، وفي هذا السياق يقول جون لويس " كان لإبن رشد تفسير خاص لأرسطو، فكان يرى أن العالم المادي أزلي أبدي، أي انه لم يبدأ ولن ينتهي، وبالتالي فهو لم يخلق، وعنده أن الحقيقة المطلقة الوحيدة ليست الشيء المفرد أو مجموع الأشياء المفردة هذه، ولكنها روح العالم أي عقل الانسانية المشترك، ومعنى ذلك ان ابن رشد كان يدين بمذهب وحدة الوجود Pantheism وأنه كان ينكر الخلود الفردي.

"وبرغم إعجابه بأرسطو؛ لم يتورع ابن رشد عن انتقاده أحيانا مدللا على رأيه الخاص مدعما إياه بالبرهان؛ مفيدا في ذلك من معارفه الفلسفية السابقة على أرسطو واللاحقة له، محاولا التوحيد بين العقل والطبيعة والوحى.

إن شروح ابن رشد لأرسطو وثيقة الصلة بمنهجه الخاص الذي هو مزاج بين المنهج الأصولي والمناهج العقلية؛ وهو امر أَهَّلَهُ لأن يكون "الشارح الاعظم" عن جدارة واستحقاق"([2])، وبما أن الكثير من نظريات ابن رشد كانت تتنافى مع الحقائق المنزلة في القرآن، رأيناه يُفَرِّقْ بين الحقيقة المُنَزَّلَة والحقيقة الفلسفية، وهذه هي أول مرة تقابلنا فكرة امكانية كون شيء ما صحيحاً من الناحية الفلسفية وإن كان ليس كذلك من الناحية اللاهوتية، أو العكس بالعكس، وسرعان ما وصلت هذه الصور العربية لمذهب ارسطوطاليس كما شرحه ابن رشد إلى أوروبا بشتى الوسائل، وقد أثار ذلك تهليل نفر من الناس كما أثار سخط آخرين، إلا أن الفلسفة الجديدة أخذت توطد أقدامها شيئاً فشيئاً "([3]).

لقد تركت أفكار كتاب ابن رشد "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" أثراً كبيراً على الفكر الاوروبي ، ففي هذا الكتاب دافع ابن رشد عن الفلسفة مستعيناً بالشريعة أو القرآن، وهذه هي محاولته الرئيسية في التوفيق بين الدين والفلسفة، بهدف الوصول إلى حقيقة واحدة هي الخير أو الله ، لأن الفلسفة والدين لا يتناقضان عند ابن رشد، فالفلسفه برأي ابن رشد هي الوسيلة للوصول إلى البحث عن الله والخير الأسمى بواسطة العقل.

لم يكن ابن رشد –كما يقول د.محمود اسماعيل- كَسَلَفَهُ ابن باجه ومعاصره ابن طفيل – يبحث في فلسفته عن طريق للخلاص الفردي؛ لذلك انتقدهما معاً تأسيساً على موقفه المغاير برغم تأثره بهما في مجال الفكر النظري.

لقد "تاثر بأستاذه أرسطو حين قال إن السعادة لا تتحقق إلا في مجتمع مدني، وأن الإنسان حيوان اجتماعي بالفطرة، وأن المكتسب يمكن أن يتحول إلى فطرى بممارسة الحياة العملية وليس بالانعزال، وأن العمل قيمة ألحت عليها العقيدة طالما كانت رسالة الإنسان في الحياة هي القيام بشئون العمران، ولعل هذا يفسر حملته على التشرذم السياسي والإقليمي والقبلى فاعتبر الاقاليم الواقعة تحت زعامات عنصرية أو طائفية "مدنا منزلية سريعة البوار"([4]).

وإذ عاب عليه البعض عدم اهتمامه بالانسان كفرد أو انحيازه للخاصة دون العامة؛ فذلك -حسب رأي د. محمود اسماعيل- محض افتراء، ذلك أن ابن رشد – نتيجة تفاقم مشكلات عصره – وَجَّهَ خطابه الإصلاحي للمجتمع أساساً؛ إذ لا يمكن إصلاح الفرد في مجتمع فاسد.

ومع ذلك أعطى ابن رشد للإنسان الفرد –كما يؤكد د. محمود اسماعيل- "قيمة تتجاوز أرسطو الذي اعترف بالعبودية وجعلها ضرورة اجتماعية، وما كان له أن ينحاز للخاصة على حساب العامة؛ بل إنه ندد بالخاصة على المستوى الاجتماعي؛ إذ اهتم بالإنسان في عموميته مستهدفا الإصلاح عن طريق التنوير، على اساس أن حرية الإنسان منوطة بدرجة وعيه الذي هو نتاج معارفه، ومن هنا أكد بن رشد على فضيلة قبول كافة الاتجاهات الفكرية؛ شريطة إستنادها إلى البرهان، يستوى في موقفه هذا سائر أنواع المعرفة وكافة أجناس الفكر، موروثا كان أم وافدا"([5]).

من ناحية ثانية، كان ابن رشد "يرى أن العالم المادي لانهائي فى الزمان ولكنه محدود مكاني، وهو يرفض التصورات اللاهوتية عن خلق العالم من لا شيء " لم يرفض أبداَ وجود الله ولكنه يقول بأن الله والطبيعة معاً موجودان منذ الأزل، فلم يكن هناك زمن وجد فيه الإله قبل أن توجد الطبيعة، ويقول أيضاً أن الله هو المصدر الازلي للواقع، في حين تشكل المادة الأساس الوحيد للوجود والمصدر الأزلي للمكان، نلاحظ هنا موقفاً مادياً صريحاً، فالماده والصورة عند ابن رشد متلازمتان لا توجد إحداهما بدون الأخرى، المادة هي المصدر الكلي والأزلي للحركة، والحركة أزلية خالدة مستمرة وكل حركة جديدة تصدر عن سابقتها (نلاحظ هنا جدلية ابن رشد)، لكن أفكار ابن رشد المادية لم تخل من شوائب مثالية حيث تشكل الموجودات في رأيه مراتب أو درجات يتربع على قمتها الله باعتباره العلة الأخيرة للوجود"([6]).

أما خليل شرف الدين في كتابه "ابن رشد" فيؤكد على ما تقدم بقوله أن "ابن رشد" آمن بالعقل باعتباره منطلقاً لتصحيح مسار التفكير الإسلامي الذي انحرف بفعل الأفكار الأشعرية والمعايير الغزالية والمبادئ الصوفية، وساهم في كبح جماح الغزالي وكَشَف وعرَّى الكثير من أقواله ونظرياته الخاطئة ورد للفلسفة اعتبارها في كتابه "تهافت التهافت" ضد كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة"، ويستطرد خليل شرف الدين بقوله أن: ابن رشد قال أن "العالم أزلي وليس بين العالم وبين خالقه انقطاع زمني" كما قدم الفلسفة على الدين، وألزم أهل البرهان (أو الفلاسفة) بالتأويل: أي استخراج المعنى الباطن الذي ينطوي عليه ظاهر النص الشرعي، إنه بهذا يريد حصر المعرفة الحقيقية بالفلاسفة لأنهم وحدهم الذين بإمكانهم إدراك ذلك المعنى الباطن، أما الظاهر فهو لأهل الجدل وجمهور العامة الذين يكتفون عادة بالنقل دون العقل.

تأثر به الكثيرون من المفكرين في فرنسا وأوربا (الذين سموا أتباع ابن رشد) وانتشر بواسطتهم التيار العقلي والعلماني في أوربا مما دفع بالكنيسة في فرنسا إلى إصدار إدانتين لابن رشد وأفكاره (الإدانة الأولى في عام 1271 م. والثانية في عام 1277 م) ومن هذه الأفكار المدانة حسب لائحة الكنيسة:-

- إنكار الرشديين لحدوث العالم وإصرارهم على القول بأزليته .

- إنكارهم على الله الخلق من عدم .

- إنكارهم على الله العلم بالجزئيات .

- إنكارهم للخوارق والمعجزات .

- قولهم بمبدأ الحقيقتين أي أن : الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية موجودتان وصادقتان وأن اختلفتا ظاهراً (أي أن طبيعة الدين لا تتنافى مع طبيعة الفلسفة).

" السؤال عن أي فلسفة تحدث ابن رشد؟ هل هي فلسفة اليونان أم غيرهم أم الفلسفة الاسلامية؟ يقول ابن رشد: ان كل ما أبدعه العقل الانساني هو جائز، لكي نقرأه، ونستفيد من افكاره المفيده، وحكمته الخيرة، وترك كل ما يتناقض مع هذه الافكار، فقد ركز ابن رشد على افكار فلسفة أرسطو بوصفها –كما يقول يوسف حسين- "بناءً علمياً متكاملاً يتضمن كل الحكمة والخير والحقيقة المتوافقه مع العقل الذي قدمه ابن رشد على النقل.

بعد حوالي مائة عام من تأليف الغزالي لكتابه تهافت الفلاسفة، وضع ابن رشد كتابه "تهافت التهافت" وهو يعتبر من الدرر الثمينة التي زَيَّنت المكتبة التاريخية العربية والاجنبية، وهو أيضاً من الكتب الصعبه والمعقدة، أما موضوعات كتاب ابن رشد، فهي نفس موضوعات كتاب الغزالي، ولكن من موقع النقيض أو الرد عليها، فالغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفه" هاجم الفلسفة اليونانية والفلاسفة الذين قالوا بأزلية العالم، وهاجم أيضاً أولئك الذين قالوا بان الله يَعرِفُ الكليات فقط دون الجزئيات، كما هاجم الفلاسفه الدين انكروا البعث الجسدي، وقالوا أن الروح هي التي تتعرض للحساب وليس الجسد، ما يعني انكارهم للعذاب وجهنم، وقد كَفَّرَ الغزالي كل هؤلاء الفلاسفة في كتابه"([7]).

أما كتاب ابن رشد "تهافت التهافت" فهو –كما يضيف يوسف حسين- "نقله تنويريه كبرى، فقد كان حريصاً على إقراره بالمسائل الصحيحة التي طرحها الغزالي، لكنه رفض القضايا الأخرى المتعلقة بالاغراق في الميتافيزيقا ورفض الغزالي للعقل واعتماده الكلي على النقل، وعاب على الغزالي عدم اهتمامه بوعي القضايا الفلسفية العقلانية لدى ارسطو وابن سينا وغيرهما.

كما تحدث ابن رشد في كتابه عن أزلية العالم أو قِدَمِهِ باعتبارها قضية مركزية في حواره مع الغزالي الذي رفض بالمطلق فكرة أزلية العالم، فالعالم عند الغزالي "حادث مخلوق من الله".. أما ابن رشد فقال أنه أزلي موجود وملازم لوجود الله .. وهو هنا لم ينكر الله لكنه نفي صفة الخالق عن الله.. فالعالم قديم أزلي حسب أرسطو.

" ابن رشد اعتبر ان العالم حادث أزلي، لكن له عله هي الله، بينما الغزالي يقول ان العالم حادث زمني خلقه الله في وقت ما، وهذا ما رفضه ابن رشد قائلاً: إن الله لا يمكن أن يخلق العالم بعد وجوده، لأنه لا يجوز لهذا الإله أن ينتظر ظرف مُعَيَّن لتحقق إرادته لكي يخلق العالم، فكيف يقبل الغزالي (ومن معه من المسلمين) فكرة أزلية الله ولا يقبلون بأزلية العالم؟ ثم أليست ارادة الله وفعله متلازمان، ان قال للشيء كن فيكون.. ارادة وفعل متلازمان، ارادة ازلية وفعل أزلي، هذا هو الموقف العقلاني لابن رشد، وكل قول غير ذلك هو موقف غير مقبول ولا عقلاني"([8]).

" ابن رشد هنا يدافع عن وحدة الارادة والفعل عند الله، بل ويدافع عن الله بصورة عقلانية أوضح من دفاع الغزالي، فالله عند ابن رشد هو الفاعل القادر على كل فعل، إذ لا يجوز الحديث عن الفاعل بدون فعل (العالم) وإلا افترقت إرادة الله عن فعله، لقد رفض ابن رشد فصل العله (الله) عن المعلول (العالم)، إذ اعتبر أن مجرد وجود الفاعل (الله) يعني بداهة وجود الفعل (العالم) مقروناً به، فالله عند ابن رشد أزلي وكذلك اراداته، أما الغزالي فقال ان العالم مخلوق وليس ازلي !! فاذا كان مخلوقاً فلماذا انتظر الله عليه ليخلقه كما يسأل ابن رشد؟"([9]).

وفي كل الأحوال، يُعَدْ ابن رشد كما يقول د. محمود اسماعيل "آخر فلاسفة الاسلام المرموقين، ولم يظهر بعده فيلسوف ذو شأن يمكن أن يقاس به أو يقارن بأسلافه، إذ هَوَتْ الفلسفة من عليائها لتذوي في ركام النصية والتهويم الصوفي خلال عصور أطلق عليها ابن خلدون – بحق- عصور الانحطاط، كما يعتبر ابن رشد أشهر فلاسفة الاسلام قاطبة، و"الرشدية" علامة بارزة في مسيرة الفكر الفلسفي الانساني العام، وتفسير ذلك كامن في نسقه الفلسفي العقلاني المتسق، كذا في فلسفته العملية التي استهدفت إعادة التوازن في مجتمع عاني الخلل السياسي والوهن العسكري والتشرذم الفكري؛ نتيجة لعوامل سوسيو– تاريخية".

ومع ذلك اختلف الدارسون في تثمين مشروعه باختلاف مناهجهم وتنوع رؤاهم، وتعدد انتماءاتهم الفكرية والإديولوجية، وإذ أجمعت الأكثرية على تمجيده، فاعتبره البعض أعظم فلاسفة الإسلام قاطبة انظرا لنزعته "العقلانية المحضة" و"فلسفته المادية" الفردية، التي لم تسلم فلسفته من الانتقاد، بله التنديد أحيانا فاعتبرها البعض "إلحادا وزندقة"، ونفوا كونه فيلسوفا بحق بل مجرد شارح لأرسطو ليس إلا، أو "فقيه مجتهد" في أحسن الاحوال"([10]).

أما المفكر الشهيد د. حسين مروة، فإنه يتفق مع مؤرخ الفلسفة الروسي "تراختن برغ" الذي يقول "ان ابن رشد يفسر الله بأنه الدافع الأول فيلتقي مع قول ديكارت بأن الله مصدر الحركة، ولكن ابن رشد يقول بأن الله مصدر للمادة في نهايتها لا في بدايتها، أي انه يعتبر الله غاية لها، على نحو ما يقول ارسطو حين يميز العلة الفاعلة من العلة الغائية، فالله عنده – أي أرسطو – سبب نهائي ، أو هو الهدف لوجود المادة.

ان ابن رشد يحاول تفسير المادة تفسيراً فيزيائياً، أي أن المادة تشكل ذاتها، وتوجد الكائنات الحية بوساطة الحرارة، فاذا زالت الحرارة زالت هذه الكائنات، وقد انتقلت هذه الفكرة الرشدية إلى الفيلسوف الايطالي بترو بومباناري (1464 - 1524) الذي اعدم بتهمة كونه رشديا ، وإلى الفيلسوف الايطالي برناردينو تيليزيو (1508 - 1588) الذي تبنى نظرية ابن رشد بأن الحرارة سبب تحول المادة الجامدة إلى مادة حية"([11]).

ان عقل العالم – عند ابن رشد- قانون، وهو قانون ضرورة. وهنا يتساءل تراختن برغ: هل عقل العالم ماهية، ام ليس بماهية؟. ثم يجيب: أنه ليس بماهية عند ابن رشد، بل ضرورة، لانه يفصل مفهوم العقل عن مفهوم الروح (النفس)، فيقول ابن رشد ان العقل ملازم لكل موجود، فالعالم معقول، لانه يخضع للقوانين، والله لا يتدخل في شؤون العالم ، لان العالم معقول بحد ذاته، بمعنى أنه ضرورة (سببية).

هذا يعني –كما يستطرد د. مروة- "ان ابن رشد ينفي مقولة الغزالي الظرفية، أي كون مقارنة وجود شيء لوجود شيء آخر، ليست مقارنة سببية، بل مقارنة ظرفية، او مصادفة، ثم تصبح مقارنة عادة، فقد اعتاد الناس ان يروا الاحتراق عند ملامسة النار للورقة مثلاً، فظنوا ان النار هي سبب الاحتراق.

وفي نظرية المعرفة يبدو ابن رشد مادياً كذلك، كما يقول تراختن برغ -فهو- أي ابن رشد- يرى أن المعارف تكتسب بتأثير الاشياء المادية على الحس، فاذا اضفنا ذلك إلى قوله بأبدية المادة، وإلى كونه يعترف بموضوعية العالم المادي، لم يبق لدينا شك بماديته، ان العالم يتطور على أساس العقل. وهذا موقف مادي أيضاً لابن رشد، ولكنه –كما يضيف د. حسين مروة- ينتسب إلى المادية الخاصة بالقرون الوسطى"([12]).

وفي هذا الجانب يقول د. مراد وهبة "ابن رشد" الفيلسوف الإسلامي الذي اتهم في القرن الثاني عشر بأنه مرق عن الدين فاستوجب لعنة الضالين، وسماه الخليفة المنصور "معطلاً وملحداً" في المنشور الرسمي الذي كتبه كاتبه ابن عباس ونشره في الأندلس والمغرب للتحذير من فلسفة ابن رشد، ومن ثم أصدر الخليفة المنصور قراراً بنفى ابن رشد إلى قريته أليسانة وحرق مؤلفاته، وكل هذه الإجراءات الظالمة ضد ابن رشد تعود إلى موقفه العقلاني المرتبط برؤيته للعلاقة بين العقل والدين، وهو موقف نقيض لمواقف الغزالي في هذه المسألة، لأن إبن رشد يقرر أن العقل لا يدرك الموجودات إلا بأسبابها، فمن ينكر الأسباب ينكر العقل، كما أن إنكار الأسباب مُبطل للمعرفة والعلم، وبالتالي فإن خلاف ابن رشد مع علماء الكلام في الإسلام –كما يستطرد مراد وهبة- "هو خلاف متعدد الزوايا، ويدور على فكرة محورية هي فكرة التأويلالذي يعني عند ابن رشد "إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية"([13]).

وازدواجية الدلالة – هنا- مردودة إلى أن النص الديني- في رأى ابن رشد- ينطوى –كما يقول د.مراد وهبه- على معنيين: معنى ظاهر وهو المعنى الحرفي، ومعنى باطن وهو المعنى المجازى، فإذا تعارض المعنى الظاهر مع مقتضيات العقل بحثنا عن المعنى الباطن، وهذا معناه تأويل المعنى الحرفي، وكان "وجوب" التأويل مرفوضاً من الغزالى لأن من شأن التأويل عنده إحالة الدين إلى مجموعة من الخيالات، ومن ثم يجب الأخذ بظاهر المعنى.

خلاصة القول: أن فلسفة ابن رشد في التحليل الأخير – فلسفة عقلانية تنويرية تقدمية – إن جاز التعبير- سواء في بنيتها الفكرية المتسقة بالقياس لمنظومات سابقيه ومعاصريه أو في طابعها الإصلاحي الاجتماعي والسياسي، لذلك يمكن نعتها بانها "فلسفة نهوض وصعود"، بل أكثر من ذلك –كما يؤكد د. مراد وهبة- الذي يقول إن ابن رشد هو "أحد جذور التنوير الأوروبي على الرغم من أن هذه الجذور قد اجْتُثَّت من حديقة الفكر العربي، وهذا ما يسميه د. وهبة "مفارقة ابن رشد".

ويستطرد د. وهبة بقوله "أظن أن هذه المفارقة مردودة إلى مفهوم التأويل الذي له الفضل في تأسيس عصر الإصلاح الديني وعصر التنوير، فإذا كان لوثر هو المحرك الأول للعصر الأول فذلك مردود إلى عبارته المأثورة "الفحص الحر للإنجيل" وهي عبارة تعنى تحرر العقل من السلطة الدينية، وبالتالي إعمال العقل مع النص الديني، أي مشروعية التأويل ومن ثم فإن الذي ياخذ بالتأويل يصبح موضع تكفير من السلطة الدينية، وهذا ما حدث للوثر فقد لقب بـ"الهرطيق" أي الكافر"([14]).

وأظن أيضاً –كما يضيف د. وهبة- أن القسمة الثنائية بين الرشديين واللارشديين في أوروبا مردودة في أصلها إلى مفهوم التأويل، واستناداً إلى ذلك كُفر الراشديون في مارس 1270 عندما أصدر أسقف باريس قراراً بتحريم تدريس القضايا الرشدية، وكان من جراء ذلك أن قُتِلَ زعيم الرشديين "سيجر دى برابان" بخنجر من سكرتيره الخاص. وفي القرن الرابع عشر ظهر رائد جديد للرشديين وهو "ما ندى جاندو" فقرر البابا يوحنا الثاني والعشرون حرقه، ولم ينقذه من ذلك الحرق سوى الملك لويس البافيرى، أما زعيم اللارشديين توما الأكويني فقد لقب بـ"القديس"([15]).

وفي القرن السادس عشر استعان جاليليو بمفهوم التأويل للدفاع عن نفسه أمام محاكم التفتيش بمناسبة تأييده لنظرية كوبرنيكس القائلة بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وأنت عندما تقرأ عبارات جاليليو –كما يقول د.مراد وهبه في تقديمه لكتاب فرح أنطوان- تشعر كأنك تقرأ كتاب "فصل المقال" لابن رشد، يقول جاليليو: في رأيى أن أضمن وأسرع طريق إلى البرهنة على أن موقف كوبرنيكس لا يتعارض مع لانجيل هو التدليل على أن هذا الموقف صادق وإن نقيضه ممتنع على التفكير، وحيث إنه لا يتعارض بين حقين فثمة توافق بين موقف كوبرنيكس وموقف الإنجيل، ويقول ابن رشد "إن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له".

هذا عن تأثير ابن رشد في عصر الإصلاح الديني أما تأثيره في التنوير–كما يضيف د. وهبة- فهو وارد أيضاً في مفهوم التأويل وعلاقته بالقسمة الثنائية بين الراسخين في العلم والجمهور، فإذا كان التنوير يعني الا سلطان على العقل إلا العقل نفسه، فمعنى ذلك تحرر العقل من جميع السلطات، ولكن أشرس هذه السلطات هي سلطة الجماهير أو العوام، فهي المقيدة والمكبلة الحقيقية لسلطة العقل. وهذه هي إشكالية التنوير الأوروبي وهي إشكالية ابن رشد في المقام الأول"([16]).

ومهما يكن الأمر "فلا مشقة في ان الفلسفة الرشدية تجاوزت عصرها ولم تجد مع ذلك من يتبناها سياسيا لتحويل مضمونها إلى حقائق عيانية، بل على العكس لاقت معارضة شديدة سواء في زمن مبدعها أو فيما تلاه من عصور، لذلك أصاب من قال إنها مرت في سماء العالم الإسلامي كسحابة صيف عابرة لا لقصور يشوبها بل لسيادة الاقطاعية العسكرية بأبنيتها الاجتماعية والفكرية، هذا في الوقت الذي تلقفها مفكر والبرجوازية الأوروبية الصاعدة، وأسسوا على عقلانيتها وإنسانيتها دعائم الفكر الليبرالي"([17]).

وفي زماننا هذا، الذي تشعبت فيه المسائل والعلوم إلى حد يثير الدهشة، لا يمكن للشريعة أن يكون لها معنى بالنسبة للإنسان، ما لم تأخذ بالحسبان التطور المذهل الذي يلحق بالعلوم والمباحث العلمية والعملية والتقنية يوميا، وفي كل لحظة" ([18]).

لكن، على الرغم من كافة المضامين والمواقف والرؤى العقلانية التنويريه التي قدمها مفكرنا ابن رشد، إلا أنه إتُهم بالهرطقة، وحوكم بعد أن وشى به الكثيرون وزَورَّوا عليه، حيث تمت محاكمته في المسجد الأكبر بقرطبة وبحضور الخليفة "المنصور" الذي حكم عليه بالإبعاد مع أن تهمته كانت التوفيق بين الدين من جهة والعقل من جهة ثانية، ولم يعش طويلاً بعد ذلك إذ توفي وهو في حالة شديدة من الإحباط والحزن عام 1198م.

في ختام الحديث عن الفيلسوف العقلاني المسلم المستنير ابن رشد لا يسعني سوى أن أورد المفارقة التي تناولها د. مراد وهبة، وهي المفارقة التي تكمن عنده في أن "تعاليم ابن رشد التي تبلورت في الرشدية اللاتينية قد أسهمت إسهاماً عظيماً في تشكيل الخطاب الأوروبي الذي أفضى إلى رؤية نقدية للدين الموحى، وبالتالي إلى تأسيس ما يسمى بالعقلانية والتنوير، ومن جهة أخرى –كما يستطرد بحق د.وهبة- فإن الثقافة العربية الإسلامية التي أنتجت ابن رشد هي نفسها التي لم تتطور إلى شكل من أشكال الرشدية تلتقى فيه مع الرشدية اللاتينية، إذ أن غياب "الرشدية" هو السبب الرئيسي لغياب عصر النهضة وعصر التنوير في العالم الإسلامي، ولامتناع الحداثة قبل الاحتكاك مع أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر"([19]).




([1]) جورج طرابيشي – معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط1 – أيار (مايو) 1987.– – ص 23

([2]) د. محمود إسماعيل – مرجع سبق ذكره - سوسيولوجيا الفكر الإسلامي .. طور الإنهيار (3) .. الفلسفة والتصوف– ص 98

([3]) جون لويس – ترجمة: انور عبد الملك - مدخل إلى الفلسفة – دار الحقيقة – بيروت - الطبعة الثانية – 1973 – ص 87

([4]) د. محمود إسماعيل – مرجع سبق ذكره - سوسيولوجيا الفكر الإسلامي .. طور الانهيار (3)– ص 111

([5]) المرجع نفسه – ص 112 + 113

([6])جماعة من الأساتذة السوفيات– مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة – ص152+153.

([7]) يوسف حسين- محاضرة في اليوتيوب- الانترنت.

([8]) المرجع نفسه .

([9]) المرجع نفسه.

([10]) د. محمود إسماعيل – مرجع سبق ذكره - سوسيولوجيا الفكر الإسلامي.. طور الانهيار (3) – ص 87

([11]) مرجع سبق ذكره – حسين مروة- النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية – الجزء الأول – ص154

([12]) المرجع نفسه – ص155

([13]) فرح أنطون – ابن رشد وفلسفته –تقديم: مراد وهبة – القاهرة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 2012 – ص 10

([14]) المرجع نفسه – ص 10

([15]) المرجع نفسه – ص 22

([16]) المرجع نفسه – ص 23

([17]) د. محمود إسماعيل – مرجع سبق ذكره - سوسيولوجيا الفكر الإسلامي .. طور الانهيار (3)– ص 114

([18]) حوار مع الدكتور محمد المصباحي: في قضايا الفلسفة الإسلامية وأسئلتها الراهنة – موقع: مؤمنون بلا حدود - 21 نوفمبر 2013.

([19]) ابن رشد وفلسفته – تأليف: فرح أنطون – تقديم: مراد وهبة – القاهرة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 2012 – ص 17



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ابن طفيل (1110 م- 1185 م)
- ابن باجه  (1080 م- 1138 م)
- أبو حامد محمد  الغزالي (1059 – 1111 م)
- ابن حزم (994م – 1064م)
- ابن سينا([1]) ( 980 م - 1037 م)
- أبو الحسن علي الأشعري (873 – 935 م)
- أبو النصر محمد بن طرخان الفارابي ( 870 م. - 950 م. )
- أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (865 م– 934 م)
- أبو الحسن احمد بن يحيى ابن الراوندي (827 – 911 م )
- يعقوب بن اسحق الكندي ( 800 م. _ 879 م. )
- الخوارزمي محمد بن موسى (781 م - 846 م)
- جابر بن حيان (721 م –815 م)
- الموقف من العقل لدى -إخوان الصفا- (3/3)
- -إخوان الصفا- والموقف من الشريعة وخَلقْ الإنسان والخلافة (2/ ...
- إخوان الصفا(1/3)
- الفلسفة أو المدرسة -المشائية الشرقية-
- رابعاً: الفلسفة الماركسية (5-5)
- ثالثاً: الفلسفة البنيويه([1]) (4-5)
- ثانياً: الفلسفة الوجودية (3-5)
- أولاً : الوضعية المنطقية ([1]) (2-5)


المزيد.....




- بآلاف الدولارات.. شاهد لصوصًا يقتحمون متجرًا ويسرقون دراجات ...
- الكشف عن صورة معدلة للملكة البريطانية الراحلة مع أحفادها.. م ...
- -أكسيوس-: أطراف مفاوضات هدنة غزة عرضوا بعض التنازلات
- عاصفة رعدية قوية تضرب محافظة المثنى في العراق (فيديو)
- هل للعلكة الخالية من السكر فوائد؟
- لحظات مرعبة.. تمساح يقبض بفكيه على خبير زواحف في جنوب إفريقي ...
- اشتيه: لا نقبل أي وجود أجنبي على أرض غزة
- ماسك يكشف عن مخدّر يتعاطاه لـ-تعزيز الصحة العقلية والتخلص من ...
- Lenovo تطلق حاسبا مميزا للمصممين ومحبي الألعاب الإلكترونية
- -غلوبال تايمز-: تهنئة شي لبوتين تؤكد ثقة الصين بروسيا ونهجها ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - غازي الصوراني - ابن رشد ( 1126 م. _ 1198 م. )