أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - غازي الصوراني -   كتاب :  عواصف الحرب وعواصف السلام  [1]















المزيد.....



  كتاب :  عواصف الحرب وعواصف السلام  [1]


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 6741 - 2020 / 11 / 23 - 22:12
المحور: القضية الفلسطينية
    


 
  كتاب :  عواصف الحرب وعواصف السلام  [1]
للإعلامي الكبير الراحل أ. محمد حسنين هيكل
 
عرض وتلخيص غازي الصوراني
 
 
الأصدقاء والرفاق الأعزاء:
استكمالاً للجزئين الأول والثالث من كتابي محمد حسنين هيكل، ننشر الجزء الثاني من تلك السلسلة المعنونة بـ: "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل: عواصف الحرب وعواصف السلام"، حيث يضعنا في هذا الجزء أمام الوضع الذي كانت عليه فلسطين ما قبل عام 1948 (النكبة)، خاصة لجهة مقارنة الوجود اليهودي فيها قبل هذا التاريخ، كما نسبة حوزتهم على الأرض، مقارنة بأعداد وحوزة السكان العرب الفلسطينيين. ثم يلقي الضوء بشكل رئيسي على واقع مصر بعد الهزيمة/ النكبة، وكيف استطاع الضباط الأحرار بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر أن يصلوا إلى الحكم ويدشنوا ثورة 23 يوليو بمختلف أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والدور المحوري الذي لعبته "مصر عبد الناصر" في الصراع مع العدو الصهيوني، وصولاً لهزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967، وما ترتب عليها من نتائج عسكرية وسياسية، إلى أن يصل بنا إلى مرحلة السادات، كيف بدأ بتسويغ خطوته لإقامة تسوية مع "إسرائيل" من بوابة قوله: "لقد جربنا كل الخيارات، وآن أن نجرب خيار السلام"، حيث جرى تطويع الفكر العربي تمهيدًا لهذه التسوية التي جرت في كامب ديفيد، وكما يقول "هيكل": لم يكن مهمًا أن يجيء السلام، وإنما كان الأهم أن تتهاوى بعض القيود التي كانت تفرضها "المقدسات: المحرمات".
غازي الصوراني
اكتوبر2020


 
عواصف الحرب وعواصف السلام 
عندما عادت الجيوش العربية إلى أوطانها تداوى جراحها، وتداري انكشافها، وتجتر مشاعرها بالمرارة والإحباط كانت الأوطان في حال أشد سوءاً من حال الجيوش.
عندما بدأت أولى محاولات الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين بفضل سياسات "بالمرستون" و"دزرائيلي" ، وبأموال "روتشيلد" و"مونتفيوري"، كان عدد اليهود في فلسطين ثمانية آلاف لا يملكون أكثر من خمسة آلاف فدان.
وعندما نشر "هيرتزل" كتابه عن الدولة اليهودية في فلسطين سنة 1896 كان عدد اليهود فيها لا يزيد عن 25 ألفاً يملكون 2% من الأراضي المزروعة في فلسطين، وكان العرب 800 ألف ولديهم 98% من الأراضي.
وعندما صدر وعد بلفور يتعهد بإقامة دولة يهودية في فلسطين سنة 1917، كان عدد اليهود فيها لا يزيد عن 48 ألفاً يملكون 3.5% من الأراضي المزروعة في فلسطين، وكان العرب 920 ألفاً يملكون 96.5% من الأراضي.
ويوم صدر قرار التقسيم عن الجمعية العامة للأمم المتحدة كان عدد اليهود في فلسطين حوالي ثلاثمائة ألف، وملكيتهم من الأراضي لا تزيد عن 6% في مقابل مليون ومائة ألف عربي يملكون 94% من أرضها.
ويوم أعلن عن قيام الدولة اليهودية في فلسطين كان عدد اليهود فيها لا يزيد مطلقاً عن أربعمائة ألف، وملكيتهم من الأراضي لا تزيد عن 7%  في مقابل مليون ومائة وخمسين ألف عربي يملكون 93% من الأراضي.
فهل كان مقدور أي عربي أن يقبل بالتقسيم أو بإعلان قيام دولة إسرائيلية؟
وبرغم ذلك فلا يستطيع أحد أن يدير ظهره إلى شاهدين:
وأولهما- أن العرب في واقع الأمر قبلوا بالتقسيم مبكرا، وحتى من قبل أن تقترب الجيوش من الخطوط .
وثانيهما- أن الوكالة اليهودية عرفت ذلك من كل طريق، لكنها رفضت أن تعترف به، لأن اعترافها به يتعارض مع نيات مضمرة، وإن كانت معروفة!
يضاف إلى ذلك أن الزعماء اليهود في فلسطين، و"هيرتزل" أولهم، أدركوا من أول لحظة أن المحظور الذي يجب توقيه من جانبهم هو التفاوض مع الفلسطينيين ، لأن التفاوض معهم يعني الاعتراف بوجود شعب فلسطيني، ويعني التسليم بأن مقولة "إنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" هي مقولة غير صحيحة، وذلك يهدم الفكرة الصهيونية من أساسها.
وهكذا فإن الحركة اليهودية الصهيونية كانت أول من قرر والتزم بأنه لا اعترف ولا تفاوض ولا سلم مع الفلسطينيين، وكان التعامل مع الفلسطيني بالطرد أو القتل أو الاقتلاع، لأن ذلك هو الطريق العملي والسهل.
وقد حاولت الوكالة اليهودية والدولة اليهودية بعدها أن تتفاوضا على أساس الأمر الواقع بعد الحرب، وعند خطوط تتجاوز حدود التقسيم بكثير. وحتى عندما فعلتا ذلك فقد أرادتا أن تتفاوضا مع أي طرف إلا مع الفلسطينيين. فجرى التفاوض مثلاً مع الملك "عبد الله" ملك الأردن، ولم تكن المحاولة مفاوضات بالمعنى المتعارف عليه، والحقيقة أنه يصعب أن يكون هناك تفاوض بين الخيمة والدبابة.
وفي كل الأحوال فإن الاتصالات مع الملك "عبد الله" لم تكن عملية سياسية، وإنما كانت عملية توزيع ثروة في حياة صاحبها وفي غيبته.
وتمسكت مصر بأرض منطقة النقب حتى لا تنعزل بالكامل عن دورها ومستقبلها، ولكن إسرائيل كانت مصممة على إخراجها منه، وكانت أكثر من مصممة على الوصول إلى إيلات لإكمال حجز مصر عن سوريا، وتطل على البحر الأحمر كما أطلت على البحر الأبيض قبله.
المنطق الذي قدم به "إيبان" نصيحته لـ"بن جوريون":
"لا داعي لأن نتفاوض مع العرب لسنوات. إذا تفاوضنا الآن فسوف تكون لهم طلبات في حقوق الأرض وحقوق الناس- بما فيها حق عودة اللاجئين – وهي طلبات ليس في وسع إسرائيل أن تقبلها".
كان هناك سبب آخر لم يقله "أبا إيبان" ، وهو أن أي تفاوض مع العرب الآن، وأي مطالبة باعترافهم، سوف يؤديان إلى رسم لحدود دولة إسرائيل، فيما هي الآن مشروع قابل للتوسع لا يمسك به قيد، ومن الواضح أن القيادة الإسرائيلية في ذلك الوقت توصلت إلى سياسة رسمتها لنفسها والتزمت ببنودها ولم تخرج عنها أبداً:
1.   سوف تظل تطلب الاعتراف والتفاوض وبقصد السلام.
2.   لكنه إذا تم لها ذلك فسوف تضع شروطاً تجعل السلام مستحيلاً.
كان "دافيد بن جوريون" يبدى خشيته من أن يظهر بين العرب "شخص يماثل شخصية "كمال أتاتورك" ليعيد إلى العرب ثقتهم بأنفسهم، ويقودهم على طريق التقدم والبناء في مجالات الصناعة الكبيرة والزراعة الحديثة، والنهوض الفكري والاجتماعي. وكان ذلك أكبر خطر على إسرائيل!".
ورغم اغتيال الملك "عبد الله" سنة 1951 فإن الاتصالات مع إسرائيل مضت بعده، وإن قل مستواها وزاد التكتم على تفاصيلها.
وكانت سوريا قد بدأت قناة اتصال مع إسرائيل من خلال اجتماعات لجنة الهدنة بعد رفع مستوى التمثيل فيها بعد انقلاب "حسني الزعيم"، واستمرت هذه القناة تعمل حتى وقع انقلاب "أديب الشيشكلي" . ومرة أخرى كان الاتصال تحت مظلة لجنة الهدنة، وارتفع مستوى التمثيل فيها أكثر، وتحول الاتصال إلى جلسات منظمة بين الجنرال "موشي ديان" رئيس أركان حرب الجيش الاسرائيلي وبين العقيد "غسان جديد"، وتحفل الوثائق الإسرائيلية والأمريكية في هذا الوقت بتفاصيل عن اتفاقيات محدودة، بينها بالذات اتفاق على اقتسام المنطقة المجردة من السلاح في منطقة "الحوله".
وكان لبنان مفتوحاً لاتصالات على مستويات متعددة وأحياناً متنافسة. بل وكانت السعودية على اتصال غير مباشر ومباشر بشكل ما، وأكثر من ذلك فإن مدير التخطيط في وزارة الخارجية الإسرائيلية "شيلواح" حضر اجتماعاً في جدة مع الأمير "فيصل" وزير الخارجية.
ولم يكن الحال مع مصر مختلفاً، قبل حرب 1948 كانت هناك اتصالات مع القصر ومع رؤساء الوزارات والأحزاب مع الوكالة اليهودية ممثلة بـ"إلياهو ساسون" بالدرجة الأولى، وأقطاب الجالية اليهودية في مصر.
وبعد الحرب كانت هناك فرص متعددة للاتصال، في باريس أثناء الدورة الاستثنائية لمجلس الأمن، ثم في لوزان أثناء انعقاد اجتماعات لجنة التوفيق، ثم في نيويورك تحت غطاء اجتماعات الأمم المتحدة.
وحتى قبل قيام الثورة بأيام فإن "ساسون" وربما غيره من المندوبين الإسرائيليين التقوا في أوروبا باكثر من واحد من الساسة الوفديين، والمؤكد أن اجتماعاً عقد في منتصف شهر يوليو بين "ساسون" وبين الأستاذ "محمود أبو الفتح" صاحب جريدة "المصري" في ذلك الوقت، وهو إلى جانب ذلك صديق مقرب من زعماء الوفد.
وطوال شهر أغسطس 1952 كانت إسرائيل لا تكاد ترفع نظرها عن القاهرة، وحين أشار اللواء "محمد نجيب" في واحد من الأحاديث الصحفية التي أدلى بها بعد الثورة إلى انتقاداته للطريقة التي اتخذت بها مصر قرار الاشتراك في حرب سنة 1948 وقف "دافيد بن جوريون" رئيس وزراء إسرائيل في اليوم التالي (18 أغسطس) أمام الكنيست ليقول مرة أخرى:
"إننا مع اللواء نجيب نرى أن اشتراك مصر في غزو إسرائيل في مايو 1948 كان عملاً من أعمال الحماقة ارتكبه حكام مصر في ذلك الوقت، ونحن نأمل أن تقوم مصر بانتقال مستنير من عصر إلى عصر آخر".
وفي يوم 17 سبتمبر 1952 بعث السفير الأمريكي في إسرائيل "ديفيز" ببرقية إلى وزير خارجيته "وثيقة رقم 1752 – 9 / 320) قال فيها:
"أخبرني وزير الخارجية شاريت بعد ظهر اليوم أن مستشار سفارتهم في باريس قد أبرق إليهم بأنه تلقى ما يمكن أن يعتبره دعوة للقاء من مندوبين عن النظام الجديد في مصر، فقد أخبره رجل يزعم أنه ممثل شخصي للواء نجيب بانه يحمل رسالة منه مؤداها أن نظامه لا يضمر أية نيات عدوانية لإسرائيل.
وقد قال هذا الشخص للمستشار الإسرائيلي إن نجيب مشغول الآن في التحضير للمفاوضات مع البريطانيين، ومع ذلك فإنه سوف ينتهز أي فرصة ملائمة ليبحث مع الإسرائيليين أموراً معينة".
كان بين أعضاء مجلس العموم الذين جاءوا في ذلك الوقت نوفمبر 1952 النائب العمالي الشهير "ريتشارد كروسمان"، وكان أول ما طلبه "كروسمان" في القاهرة موعداً مع "جمال عبد الناصر".
قال "كروسمان": إنني أحمل معي رسالة إليك ، من "دافيد بن جوريون" رئيس وزراء إسرائيل.
واصل كلامه قائلاً : "إن دافيد بن جوريون حملني تحياته إليك ورسالة منه بأن سلاماً مع إسرائيل هو وحده الذي يعطيك الفرصة لكي تقدم لبلادك ما تتمنى أن تقدمه".
وتجنب "جمال عبد الناصر" أن يدخل في مناقشة حول هذا الموضوع، وآثر بدلاً من ذلك أن يتحدث عن ضرورات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقال إن "كل ركن في مصر يطالب الثورة بأن تهتم به، وسبيلها إلى ذلك هو رفع مستوى الإنتاج والخدمات".
ولم يصل "كروسمان" إلى نتيجة يطمئن إليها، وراى أن يسافر من القاهرة إلى قبرص، ثم من قبرص إلى إسرائيل ليطلع "بن جوريون" على فحوى حديثه مع "عبدالناصر" ، ثم عاد بعد أسبوعين إلى القاهرة وطلب مقابلة "جمال عبد الناصر"، ورأى "جمال عبد الناصر" أن يفوض الدكتور "محمود فوزي" لمقابلته.
وكان اهم ما قاله "كروسمان" للدكتور "فوزي" هو إنه عندما التقى "بن جوريون" نقل إليه تفاصيل جلسته مع "جمال عبد الناصر" بما فيها اهتمامه بأوضاع مصر الداخلية.
وقال "كروسمان" إن دافيد بن جوريون قال له بعد أن أصغى إلى تقريره من القاهرة دون أي مقاطعة: "ديك (الاسم المختصر لريتشارد)، هذا أسوأ ما سمعته"، ثم واصل كلامه : "إنني لا أريد رجلاً في القاهرة يهتم بالتنمية قبل أن يعقد صلحاً مع إسرائيل".
لم يكن الوسيط الثاني مع "جمال عبد الناصر" مكلفاً من "بن جوريون" بمهمة مثل نواب حزب العمال البريطاني ، وإنما كان ذلك الوسيط متطوعاً، تصور أن واجبه يفرض عليه أن يسعى بوساطة بين مصر وإسرائيل، وكان هذا الرجل هو أشهر يهودي في القرن العشرين، وهو العالم العظيم "ألبرت آينشتين".
كان "محمد حسنين هيكل" في رحلة إلى واشنطن (أواخر 1952 وأوائل 1953)، وعاد منها إلى نيويورك حيث التقى بأستاذ وصديق قديم هو الدكتور "محمود عزمي" الذي كان نائباً لرئيس الوفد المصري في الأمم المتحدة.
كان "هيكل" يتصور أن لقاءه مع "آينشتين" سوف يتيح له الفرصة أن يسأل "آينشتين" عن منجزاته العلمية في مجال الطبيعة، وعن تجربته الإنسانية، وعن رؤيته لاحتمالات حرب نووية.
لكنه عندما تمت المقابلة لم ياخذ العلم ونظرية النسبية والأسلحة النووية أكثر من ربع ساعة، ثم إذا بـ"آنشتين" يفتح حديث السياسة.
وبدأ "آينشتين" بالقول "إنه فهم مما نشر أن ضيفه يعرف "الجنرال" نجيب، كما أنه صديق لكولونيل شاب –يبدو أنه القوة الحقيقية في الثورة.
ثم تساءل "آينشتين": "ماذا يريد صديقك من قومى؟ " وتطلع إليه زائره مستفسراً، وواصل "آينشتين" كلامه قائلاً: "أنا أقصد اليهود .. أمريكا بلدى واليهود قومي"، ومضى "آينشتين" يشرح فحوى رسالة يريد نقلها إلى "جمال عبد الناصر":
·        هو أولاً (ألبرت آينشتين) كيهودى يعرف مأساة اليهود لأنه عاشها بنفسه في ألمانيا النازية.
·        وهو بضميره لم يكن متحمساً لقيام دولة لليهود لا في فلسطين ولا في غيرها، فاليهود شعب عالمي، وكان الأفضل أن يظلوا كذلك.
·        وهو بصراحة يخشى على اليهود من حُمَّى الوطنية، وهم لم يعرفوها في تاريخهم، وفي رأيه أن اليهودية قيمة إنسانية أكبر من أي دولة، وهو بنفسه ذهب مرة إلى فلسطين سنة 1943 ونصح زعماء الوكالة اليهودية الذين قابلهم هناك أن يمدوا يدهم إلى عرب فلسطين وأن يتصالحوا معهم، وما زال هذا رأيه.
·        لكنه، وقد قامت لليهود دولة في إسرائيل – يشعر بنوع من العاطفة تربطه بهذه الدولة وتفرض عليه الاهتمام بمصيرها، وهو لا يريدها أن تتحول بفعل الحصار – حتى وإن كانت مسئولة عنه – إلى مجتمع حامية عسكرية لأن ذلك معاد للروح اليهودية.
·        وأكثر من ذلك، فلقد دعى قبل أيام بواسطة "بن جوريون" ليكون رئيساً لجمهورية إسرائيل بعد أن توفى رئيسها الأول "حاييم وايزمان" واعتذر عن هذا العرض لأن ذلك خارج شواغله واستعداده، لكنه أحس في الوقت الذي اعتذر فيه عن عدم رئاسة إسرائيل أن واجبه يدعوه إلى أن يفعل من أجلها شيئاً.
·        وعندما عرف من الصحف، وبوسائل أخرى، أن في الولايات المتحدة الآن زائراً يعرف قادة الثورة المصرية وتربطه صداقة وثيقة مع الرجل الأول بينهم، فقد خطر له على الفور أن يبعث برسالة إلى هذا الرجل مؤداها أن "سلاماً بين مصر وإسرائيل هو ضرورة حضارية وأخلاقية وسياسية أيضاً".
·        وهو لا يريد أن يدخل في تفاصيل عملية، ويفضل أن يقوم بها غيره، لكنه يريد أن يطمئن أولا إلى .. أنهم في "القاهرة" مستعدون لذلك.
·        وإنه ينتظر رداً على سؤاله عن استعداد القاهرة، ثم هل في الإمكان أن يعود إليه زائره برد؟ - أو هل يمكن للقاهرة أن تحدد له شخصا يتصل به لإتمام الترتيبات العملية للمسعى الذي بدأه؟
هذه المحاولة من جانب "آينشتين" لم تصل لنتيجة، فلم يكن "جمال عبد الناصر" عندما سمع بالتفاصيل مستعداً لتبادل الرسائل، مع أن "آينشتين" لا يزال ينتظر رداً، وحاول استعجاله .
وعندما نشرت الصحافة العالمية أن "جواهر لال نهرو" رئيس وزراء الهند سيقوم بزيارة إلى مصر، طلب "آينشتين" من صديق مشترك بينه وبين "نهرو"، وهو الفيلسوف البريطاني الكبير "برتراند راسل"، أن يحصل له من "نهرو" على رد من "جمال عبد الناصر" يجيب على سؤال سبق أن بعث به إليه.
وبالفعل، فإن "نهرو" فاتح "جمال عبد الناصر" في الموضوع، وكان رد "جمال عبد الناصر" أنه عرف بالتفاصيل، وطلب عدم إرسال رد إلى "آينشتين" – لكنه من ناحية أخرى، ومراعاة لمكانة العالم الكبير، طلب إبلاغ الدكتور "محمود عزمي" في نيويورك أن يتصل بـ"آينشتين" ويبلغه برد عام مفاده أن أفكاره سوف توضع في الاعتبار عندما يجئ الوقت المناسب لبحث مشكلة العلاقة مع إسرائيل".
فإسرائيل استطاعت عسكرياً أن تفرض حربها، ولكنها عجزت سياسياً عن فرض سلامها، والعرب من جانبهم خسروا الحرب، لكن الحجم الجغرافي والسكاني والموارد الاستراتيجية والاقتصادية المتاحة لهم لا تجعل من أي هزيمة واجهوها في ميدان القتال نهاية للتاريخ، وقد تحفزهم على تعبئة قواهم بطريقة أفضل، والعودة مرة أخرى إلى ميادين الصراع عَلَّهُمْ ينجحون مرة ثانية فيما فشلوا فيه مرة أولى، وبالتالي فإن الأوضاع في المنطقة مليئة بأسباب القلق والتحفز.
الرياح تحولت إلى عواصف عندما وقف "جمال عبد الناصر" ليعلن بعد ظهر يوم 27 سبتمبر 1955 أن مصر عقدت صفقة أسلحة سوفيتية الصنع، إن حجم الصفقة طبقاً لمصادر موثوقة هو:
200    طائرة نفاثة، يجرى تسليم 100 منها قبل ديسمبر 1955، ويكون ضمن هذه المائة طائرة الأولى سبع وثلاثون قاذفة متوسطة، وبقية المائة من طراز ميج 15
6      طائرات تدريب.
100   دبابة ثقيلة
6      قوارب طوربيد
2      غواصة
تكاليف الصفقة حسب ما وردنا من معلومات 30 مليون جنيه استرليني تدفع في مقابل صادرات مصرية.
تؤكد معلوماتنا أن الشحنة الأولى غادرت ميناء أوديسا فعلا، وكانت هناك بعثة عسكرية مصرية تابعت عملية الشحن، هناك ما يشير إلى أن مجموعة خبراء سوفيت سوف يصلون إلى مصر ويقيمون فيها لمدة ثلاثة شهور للقيام بمهام تركيب بعض المعدات، والتدريب".
وتشير أوراق "دالاس" (وزير خارجية أمريكا آنذاك) الخاصة المودعة في جامعة "برنستون" إلى أن تفكيره أيام أزمة الأسلحة كان موزعا بين اتجاهات شتى:
·        في لحظة من اللحظات خطر له توجيه إنذار إلى "جمال عبد الناصر" يشترك معه فيه وزير الخارجية البريطاني، أو يكون الإنذار بخطاب مشترك من "أيزنهاور" و "إيدن" يقولان فيه "إنه لا يمكن قبول الصفقة.
·        وفي لحظة تالية كان تفكيره يتجه إلى أن الصفقة تعني أن الحرب وشيكة في الشرق الأوسط.
·        وفي لحظة أخيرة كان "دالاس" يغالب حدة مشاعره ويحاول إقناع نفسه أن الحل الوحيد لتجنب الحرب بين مصر وإسرائيل إذا: وعدت مصر بأنها صفقة واحدة غير قابلة للتكرار، وإذا حصلت إسرائيل على بعض التعويض من حلف الأطلطني عن طريق فرنسا أو إنجلترا ، وإذا أمكن إغراء ناصر بتمويل السد العالي.
لكن "دالاس" كان يعود دائماً إلى العقبة المستعصية في رأيه، وهي إصرار ناصر على وجود صلة بين مصر والعالم العربي عن طريق أن تكون منطقة النقب عربية.
كانت صفقة الأسلحة –نقطة تحول خطيرة بالنسبة "للمقدسات: المحرمات" التي تراكمت طبقات فوق طبقات على الصراع العربي – الإسرائيلي طوال نصف قرن من الزمان تقريباً.
وكان هناك إحساس عارم في كل عاصمة عربية بأن الشهور القادمة – اللازمة حتى تتمكن مصر من تسلم الصفقة واستيعابها – شهور حاسمة تفرض على كل إنسان عربي أن يهرع إلى حماية مصر حتى يستطيع درع الفولاذ الذي اكتسبته أن يؤدي دوره.
وكتب القائم بالأعمال الأمريكي تقريراً إلى "دالاس" بتاريخ 23 ديسمبر 1955 يقول في البند السادس منه:
"إن بن جوريون عقد اجتماعاً مع هيئة أركان حرب الجيش الاسرائيلي، وقال لكبار الضباط الاسرائيليين إن أمامهم "شهرين أو ثلاثة" – وطبقاً لرواية أخرى "ثلاثة شهور أو أربعة" – من الصبر، وبعدها فإن إسرائيل سوف تقرر لنفسها ما يقتضيه أمنها".
وسافر "أندرسون" من القاهرة إلى قبرص، ومنها إلى إسرائيل، وعن طريق السفارة الأمريكية في إسرائيل تلقى من وزير الخارجية "جون فوستر دالاس" رسالة يقول فيها: " إن شرط ناصر بشأن تخلي إسرائيل عن النقب خط الظاهرية غزة تستحيل مناقشته من الأساس".
وقال شاريت "إنه يخشى أن يكون هدف ناصر من الإصرار على اتصال جغرافي مع العالم العربي عن طريق النقب هو في الواقع منع إسرائيل من الإطلال على البحر الأحمر وخنق إيلات" وقد طلب منى أن أستوثق من هذه النقطة في لقائي المقبل مع ناصر وأن أسأله صراحة عنها".
إن قراءة دقيقة لكل محاضر اجتماعات "أندرسون" في القاهرة والقدس تؤدي إلى استنتاج رئيسي هو أن الولايات المتحدة كانت بالفعل تريد "المجئ بناصر إلى موقف يمكن أن تقبله إسرائيل".
يوم 31 يوليو 1956 كان هناك اجتماع في البيت الأبيض لمجلس الأمن القومي رأسه "دوايت أيزنهاور" بنفسه، وتؤدي قراءة محضر الاجتماع، إلى الصورة العامة التالية:
1.    إن الإجراء الذي قامت به مصر (تأميم شركة قناة السويس) لا يمكن قبوله، وتتحتم مقاومته بكل الوسائل المتاحة بما فيها القوة شرط توفير الأجواء السياسية التي تجعل استخدام القوة فاعلا وحاسماً. وإذا ترك هذا الإجراء المصري ينجح فإن ذلك سوف يهدد مصالح البترول والأهمية المتعددة الجوانب للشرق الأوسط، كما أنه خطر داهم على إسرائيل.
2.    إن المؤسسات العسكرية الأمريكية هي الأشد حماسة لأسلوب التصدي، وقد عبر الأميرال "بيرك" عن رأيها حين جاء دوره للكلام، فقال بالحرف: "إن "ناصر" يجب كسره" (Nasser must be broken).
3.    ومن ناحية أخرى فإن "آلن دالاس" مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وزع على الحاضرين تقريراً جاء فيه: "إن قيام الرئيس ناصر بتأميم قناة السويس أضاف قوة عظيمة إلى مركزه، ليس فقط كزعيم لمصر، وإنما كرمز القومية العربية في الشرق الأوسط".
4.    وكان تقدير "أيزنهاور" أنه في هذه الحالة فإن "التعرض لـ"جمال عبد الناصر" بالقوة يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة في العالم العربي، وكان رأى "أيزنهاور" أن "استعمال القوة يجئ دوره بعد تهيئة للمسرح تجعل استعمال القوة في النهاية جراحة لاستئصال ورم بعد السيطرة على كل عوامل الالتهاب المحيطة به"، وكان رأى "دالاس" أن "أخطر نقط الالتهاب هي سوريا التي تتعامل مع ما حدث في مصر بحيوية وفوران، ناشرة عدواها في العالم العربي"! 
5.    وكانت كل الإشارات في اجتماع مجلس الأمن القومي ووثائقه الملحقة واضحة في أن المجتمعين يعرفون تماماً ما يتناقشون فيه، فلم يكن شاغلهم هو تأميم شركة، لكنه كان إعادة ترتيب منطقة بأسرها من العالم.
إن "دافيد بن جوريون" كان يعرف في قرارة نفسه، أنه اتخذ قراراً استراتيجياً، في أعقاب فشل الحملة الثلاثية على مصر في السويس سنة 1956، مؤداه أن إسرائيل لم تعد تستطيع أن تعتمد في أمنها النهائي على أسلحة تقليدية ولا على تحالف دولى، وإنما يتعين أن تكون لديها قدرة نووية مستقلة تستطيع التلويح بها ردعاً واستعمالها فعلاً إذا أحست أن المخاطر المحيطة بها توشك أن تهدد وجودها.
وتسجل محاضر لجنة الأمن القومي في إسرائيل في جلسة حضرها الدكتور "أرنست برجمان" رئيس لجنة الطاقة الذرية بتاريخ يناير سنة 1957 قول "بن جوريون" :
"إنني لا أعرف إلى أين يمكن أن نصل ببرنامجنا النووى، ولكنى أتطلع إلى اليوم الذي تستطيع فيه إسرائيل أن ترغم أعداءها على توقيع اتفاقية سلام على أساس الأوضاع القائمة على الأرض وقتها، ثم لا يكون في مقدور هؤلاء الاعداء مناقشة شروط إسرائيل لأنهم يعرفون ما يمكن أن ينتظرهم".
جونسون:
عندما اغتيل الرئيس الأمريك "جون كنيدي" – في 22 نوفمبر 1963 – حل محله نائب الرئيس "ليندون جونسون"، وعندما دخل "ليندون جونسون" إلى البيت الأبيض لم يكن دور صانع السلام في الشرق الأوسط ضمن نياته أو خططه، ولا كان هذا الدور أصلا من طبائعه.
كانت لإسرائيل في معركة يونيو 1967 ثلاثة أهداف محددة:
1.    كسر الدرع الفولاذي الذي احتمت به "المقدسات: المحرمات" العربية في موقف الرفض الذي اتخذته إزاء الدولة اليهودية.
2.    الإمساك بأكبر مساحة من الأراضي العربية واستعمالها رهينة لإرغام العرب على التفاوض من أجل صلح معها، تطبيقاً عملياً لنظرية "بن جوريون" في "فرض السلام".
3.    احتلال القدس كاملة لتكون عاصمة موحدة لإسرائيل.
فكر "جمال عبد الناصر" وتقديراته بعد هزيمة حزيران:
·        تقديره الأول: "أن الأمة العربية – في معركة يونيو 1967 – أصيبت بنكسة خطيرة، ولا بد من الاعتراف بذلك وتحمل المسئوليات التي تنجم عنه، ورسم الخطط التي تكفل مواجهته".
·        وتقديره الثاني: "أن المطالب العربية الكبرى عليها أن تنزوى في الانتظار، فلم تعد هذه المرحلة مهيأة للكلام عن امتداد الاتصال الجغرافي بين أرض الأمة العربية (النقب)، ولا عن حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطن له كيان وله حدود.
o    وإنما الموقف الآن يقتضي العمل على مرحلتين:
o      مرحلة أولى من أجل إزالة آثار عدوان 5 يونيو بالنسبة لأراضي مصر وسوريا والأردن.
o      وإذا تحقق ذلك فإنه قد يفتح الباب لمرحلة ثانية يصعب التخطيط لها إلا بإتمام مهام المرحلة الأولى، والمهم ألا يفرط العرب أثناء سعيهم لتحقيق مهام المرحلة الأولى في أية حقوق تتصل بالمرحلة الثانية".
·        وتقديره الثالث: "أن العمل العربي في وضع لم يسبق له أن واجهه، فالحرب صعبة في ظل هذا الوضع، والسلم مستحيل، وليس هناك حل من نوع ما حدث سنة 1956 تتولى فيه القوى الكبرى والأمم المتحدة وموازين القوى العالمية مهمة إيجاد حل للازمة".
·        وتقديره الرابع: "أنه لا حل على الإطلاق في ظل موازين القوة الحالية، وأنه لا بد من تغييرها بعمل عسكري يصبح به العمل السياسي ممكناً".
·        وتقديره الخامس: "أنه لكي يصبح العمل العسكري قادراً على التمهيد للعمل السياسي فإن موقف الاتحاد السوفيتي أساسي لأنه القوة الوحيدة التي تستطيع أن تعطي العرب ما يحتاجونه للحرب، وذلك يقتضى اشتراكهم أيضاً في العمل السياسي، فليس معقولاً أن تقبل قوة عظمى أن يقتصر دورها على الحرب، فإذا جاء الدور على عمل سياسي قيل لها إنه لم يعد لها فيه دور".
·        وتقديره السادس: "أن الولايات المتحدة الأمريكية، ومهما بلغ ضيقه بتصرفاتها المعادية مما أدى إلى معركة 1967 ومهد لها – عنصر رئيسي في احتمالات العمل العسكري والعمل السياسي على حد سواء".
ومن مجمل هذه التقديرات (للرئيس عبد الناصر) تفرعت السياسات:
1.    قبول قرار مجلس الأمن 242.
2.    إعادة ترتيب العلاقات مع الاتحاد السوفيتي والتغلب على مخاوفه في مجال إمداد العرب بالسلاح – تحسباً من مواجهة مع الولايات المتحدة- وذلك بإعطائه  فرصة تجربة مباشرة في الاتصال بالولايات المتحدة، وبإسرائيل إذا أراد، وحتى يتأكد من أن ما يفكرون فيه ويخططون له لا يصلح أن يكون أساساً للسلام، وبالتالي فإنه لا يعود أمام مصر وبقية العرب إلا العمل العسكري لتحرير أراضيهم، وهو هدف مشروع تختبر فيه المبادئ والصداقات.
وبالتالي فإن الاتحاد السوفيتي مخول بان يتصل ببقية القوى الدولية المؤثرة على مستوى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن – وحتى بإسرائيل- على أساس أن مصر على استعداد لقبول ما يتوصل اليه بشرطين اثنين لا ثالث لهما:
أولهما : ألا يطلب منها في أي مشروع حل أن تتنازل عن أراض عربية تحت ضغط الاحتلال.
وثانيهما: ألا يطلب منها التفاوض مع إسرائيل مباشرة طالما هي تحتل أرضا عربية مما دخلته بالقوة سنة 1967، وهكذا شارك الاتحاد السوفيتي في محادثات رباعية في نيويورك، ثم في محادثات ثنائية بين واشنطن وموسكو.
3.    فتح قنوات محدودة للاتصال مع الولايات المتحدة الأمريكية بقصد الاستكشاف المباشر، ثم لعل وعسى!
برغم كل الاتصالات والمذكرات والرسائل والرسل، فلم يكن هناك حل أو أمل في حل طالما كان "ليندون جونسون" رئيسا في البيت الأبيض.
كانت إسرائيل – و"جونسون" وراءها – مصممة على حل يبدأ من الأمر الواقع المفروض باحتلال أراض لثلاث دول عربية.
وكانت مصر مصممة من ناحية أخرى على ضرورة تغيير هذا الأمر الواقع ، وكان إعلانها عن نياتها هو إبقاء المواجهة حية باستمرار على خط قناة السويس.
وعندما جلس "نيكسون" على مقعده في المكتب البيضاوي وجد أمامه أزمتين: فيتنام والشرق الأوسط.
وفي مجال السياسة الخارجية فقد وجد بجانبه رجلين: "هنري كيسنجر" مستشاره للأمن القومي، و"ويليام روجرز" وزير خارجيته .
وكان قراره أن يفوض كل واحد منهما في علاج أزمة، يعهد إلى "كيسنجر" بازمة فيتنام ويعهد إلى "روجرز" بأزمة الشرق الأوسط.
وكانت صورة ما يجرى في واشنطن مرئية في القاهرة، ورأى "جمال عبد الناصر" أن مرحلة من العمل انقضت، وثبت فيها لكل الأطراف أن الشعب المصري تقبل حقيقة الهزيمة ولم يعتبرها نهاية التاريخ، كما أنه في نفس الوقت تقبل منطق أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ورضى بتحمل التكاليف.
وبالتالي فإن الموقف المصري لم يتساقط كما كانت تتوقع إسرائيل و"جونسون"، ولم تقبل سلاما بأي ثمن كما انتظر كلاهما، وإنما على العكس من ذلك تصاعدت مصر بحرب الاستنزاف وأعدت نفسها للعمل السياسي.
وكان السوفيت بعد طول اتصالات قد توصلوا إلى نتيجة مؤداها أن إسرائيل ليست مستعدة لحل عادل، وإن العرب – وفي مقدمتهم مصر- ليس أمامهم إلا أن يخوضوا بشكل ما معركة للضغط بالسلاح.
مرحلة السادات:
بشكل من الأشكال فإن خيار الاتفاق مع إسرائيل جرى تصويره في ذلك الوقت وكأنه خيار معقول تستدعيه الظروف. ولم يبق غير خيار واحد هو التعامل مع إسرائيل كامر واقع يصعب إنكاره.
وكانت الحجج تمضي أبعد من ذلك إلى قضية فلسطين، فإذا أصحاب الحجج ينسون تاريخ المنطقة وحقائقها ومستقبلها – ويركزون فقط على أنه "ما شأننا نحن بشعب فلسطين؟"
ومضت بعض الذرائع إلى أبعد: "لقد عرفنا اليهود لعهود طويلة وتعاملنا معهم، وكانوا بيننا تجارا في الموسكى والسكة الجديدة، وكانوا بالقرب منا مسالمين في حارة اليهود.
ونسى القائلون بذلك إن المسألة ليست اليهود، فاليهود الذين عرفناهم كانوا من مجتمع البحر الأبيض وثقافته، وأما اليهود الذي يواجهوننا في فلسطين فهم غرباء جاءوا من قرب البحر الأسود وما حوله.
وحين وقف الرئيس "السادات" أمام مجلس الشعب يوم 9 نوفمبر 1977 يعرض محاولات التوصل إلى فك ارتباط مع إسرائيل كان قوله: "لقد جربنا كل الخيارات، وآن أن نجرب خيار السلام"، ثم توافقت مع ذلك كله عملية أكثر خطورة، وهي عملية تطويع العقل العربي لقبول فكرة السلام مع إسرائيل، وعلى أساس الأمر الواقع.
وكانت هناك قوى كثيرة جاهزة لتدبير برامج وبنود رحلة الفكر المصري والعربي إلى عالم جديد لا يعرفونه.
وفي سنة 1974 دُعِيَ مفكرون ومثقفون عرب إلى ما يزيد عن ستمائة ندوة ولقاء فكري في امريكا وفي أوروبا، وكانت الندوات عن النظام العالمي الجديد، أو عن العلاقات بين الشرق والغرب، أو عن أزمة الصراع العربي – الإسرائيلي، أو عن التعاون في حوض البحر الأبيض المتوسط، أو عن ؟ أو عن ؟ مئات الموضوعات الأخرى.
وظهرت فجأة عشرات المؤسسات والمنظمات (NGO s) التي تولت أمر الرحلة الفكرية، أو السياحة الفكرية لقادة الرأي العام العربي، أو من يفترض أنهم كذلك، وكانت تذاكر السفر جاهزة ، والغرف في الفنادق محجوزة، وأوراق العمل تغطي شيئاً أشبه ما يكون بالألغام المعبأة بغازات أعصاب.
وفي البداية كان هناك مشاركون من اليهود، ثم مشاركون إسرائيليون من أحزاب السلام، ثم مشاركون إسرائيليون عن الأحزاب الحاكمة، وراحت الثلوج تذوب، بل أصبح حجم الدعوات إلى الندوات الدولية الواصلة إلى أي مفكر أو مثقف عربي معياراً لقياس أهميته و"حداثته"!
كان تطويع الفكر العربي معركة من أهم المعارك في التمهيد للتسوية، ولم يكن مهماً أن يجئ السلام، وإنما كان الأهم أن تتهاوى بعض القيود التي كانت تفرضها "المقدسات: المحرمات".
{ولعل هذه قضية من أهم القضايا التي تستحق التقصى والتحليل، خصوصاً وأن هنا صعوبة في الحصول على أرقام دقيقة يمكن أن يقاس بها حجم الجهد الذي بذل في تطويع العقل العربي .
إلا أن قراءة تقارير أربع جامعات أمريكية كبرى إلى مجالس أمنائها في سنة 1984 تشير إلى أن هذه الجامعات عقدت أو شاركت في ترتيب عقد 143 مؤتمراً وندوة يتصل نشاطها بالشرق الأوسط، أو بالإسلام، أو بصنع القرار السياسي في بعض بلدان العالم العربي.
وكان متوسط تكلفة الندوة يصل إلى مليون دولار، ما بين تذاكر السفر، وفواتير الفنادق ، ومكافآت المشاركين ، وعمليات الطبع.. إلى آخر.
وإذا كانت أربع جامعات قد صرفت في عام واحد ما يصل إلى 140 مليون دولار، فإن حجم عملية تطويق العقل العربي – أو لالتزام الدقة حملة إعادة تركيب العقل العربي- لا بد أن تكون تكاليفها في حجم تكاليف حرب مسلحة كبرى ، وإلى حد ما فإن ذلك صحيح }.
وبقدر ما كانت متغيرات الحوادث تسبق جهود الفكر – كانت الأزمة تتبدى أكثر وأكثر كل يوم.
وأخيراً زاد على الصورة أن بعض المقربين الجدد من الرئيس "السادات" خطر لهم أن لديهم ما يمكن استغلاله في تسهيل مرور تحولات واسعة في نفوس الناس وفي مجموعة ما استقر في وعيهم من قيم (بالذات في المجال الاجتماعي)، وكانت البداية عملية تشجيع للتيارات الدينية (الإخوان المسلمين) بين الشباب، قصد لها أن تتركز في الجامعات بين الشباب لكي تقدم أفكاراً قادرة على طرد أفكار أخرى (الأفكار القومية والشيوعية)  ثم خرج الأمر عن نطاق صدام الأفكار، وإذا هو يصل إلى اشباك بالأيدي وبجنازير الحديد وبالسلاح الأبيض داخل حرم الجامعة (من شباب الإخوان المسلمين).
وبدلاً من أن تجري مراجعة الماضي بمعيار أنه "حيث تكون مصلحة الناس فهناك شرع الله" – على حد التعبير المأثور عن الإمام الشاطبي- فإن مراجعة الماضي جرت بالنصوص الخارجة عن سياقها في الدعوة وفي التاريخ، حتى وصل الأمر بقمة المؤسسة الدينية (الأزهر) أن تفتي بأن السلام مع إسرائيل حلال بغير تحرز، وبغير شروط، وبغير إضافة في النهاية بأن الله أعلم!
وهكذا حدثت التحولات الكبرى من 1974 إلى 1977، بل وهكذا جرى الانقلاب!
مشهد الغضب العام الذي اجتاح مصر بعد قرارات رفع الأسعار (17 يناير 1977)، وما ترتب عليها من الأحداث التي اشتهرت بوصف "مظاهرات 18 و 19 يناير" (أطلق عليها السادات "انتفاضة الحرامية").
إن أحداث 18 و 19 يناير كانت ظاهرة أكبر كثيراً من كل الأوصاف التي أطلقت عليها، وفي حقيقة الأمر، فإنها كانت أعلى صوت بالاحتجاج صدر عن الطبقة المتوسطة المصرية وما تحتها وما فوقها أيضا احتجاجاً على النتائج الاجتماعية التي أسفرت عنها حرب أكتوبر .
فالطبقات الوطنية التي أعطت خيرة أبنائها للدفاع عن وطنها تحملت ما وضعه عليها الواجب من أعباء، صابرة وآملة في يوم تستطيع فيه أن تستعيد حقوقها بعد ظروف الحرب القاسية.
لكن الذي حدث فعلاً هو أن مكاسب الحرب بدأت بسياسات الانفتاح ، التي اختارها الرئيس "أنور السادات" ، وكأنها غنيمة لطبقة طفيلية ظهرت فجأة على سطح الحياة المصرية، وراحت تخطف ثروات طائلة دون جهد أو عمل، ومن غير مصدر ظاهر أو مشروع.
بل إن تعبير "العبور" الذي كان وصفا لملحمة تاريخية ، تنازلت به الظروف الجديدة فأصبح "العبور" هو "العبور إلى الثروة"، والجسور إليه كلها مريبة معتمة لا يكشف ما يجري عليها نور أو نار.
حول الاعتراف بـ م.ت.ف ، يقول الرئيس الأمريكي كارتر أن "فانس" (وزير خارجيته) وجه حول هذه النقطة سؤالاً مباشراً إلى "ييجال آللون" (وكان وقتها وزيراً لخارجية إسرائيل) سأله فيه عما إذا كانوا مستعدين لقبول اشتراك منظمة التحرير إذا هي قبلت قرار مجلس الأمن 242 بما فيه حق إسرائيل في الوجود كدولة.
وكان رد "آللون" على "فانس" هو قوله "إنهم لا يمانعون في ذلك لأنه إذا قبلت منظمة التحرير الفلسطينية بوجود إسرائيل كدولة، فإنها لن تصبح في هذه الحالة "منظمة تحرير فلسطين".
كانت الأيام والأسابيع والشهور تمر دون تقدم يذكر لأن "كارتر"، سواء بسبب معاهدة بنما أو بسبب مسئولياته الدولية الأخرى، لم يستطع أن يخرج بموقف أمريكي حازم يمارس من خلاله الضغط المنتظر على "بيجن".
ولم يكن الرئيس "السادات " قادراً على الانتظار بدون أجل ، وفي ذلك الوقت، وبمعونة من بعض مساعديه، فقد توصل إلى خطة وجدها صالحة لتحريك الأمور وتشديد الضغط على إسرائيل، وكانت خطته من عدة عناصر:
- استعمال ضغط المؤسسة الصهيوينة العالمية على إسرائيل ، وكان قد حافظ على اتصالاته بأقطابها وراسلهم وحرص على إطلاعهم على وجهة نظره، وفي مقدمتهم بالطبع "إدجار برونفمان"، وقد أضيف إليه البارون "جي روتشيلد".
وكان هناك رسل كثيرون يسعون بالرسائل بينه وبين "المؤسسة" كما أصبح يرمز لها باستمرار.
وكان بين الشخصيات التي ظهرت في ذلك الوقت ولهذا الدور، أكاديمي أمريكي يهودي هو الدكتور "ستيفن كوهين"، وكان في ذلك الوقت شخصية نشيطة في أحد مراكز الدراسات السياسية في واشنطن.
 
 


[1] محمد حسنين هيكل – المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل  "عواصف الحرب وعواصف السلام "– الكتاب الثاني – دار الشروق – الطبعة الخامسة 15 يوليو 1996.



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- باروخ سبينوزا([1]) (1632م. – 1677م. )
- بليز باسكال (1623 - 1662)([1])
- رينيه ديكارت ( 1596 م. _ 1650 م. )
- كتاب :الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية
- توماس هوبز (1588 – 1679 )
- المسألة اليهودية والصراع العربي الصهيوني
- كلام في السياسة
- جاليليو ( 1564 م. _ 1642 م. )
- عن انتشار الاسلام السياسي و دور جماعة الاخوان المسلمين......
- فرنسيس بيكون ( 1561 م _ 1626 م )
- ليوناردو دافنشي ( 1452 م. - 1519 م.)
- جوردانو برونو ( 1548 م. _ 1600 م. )
- جان كالفن (1509 - 1564)
- مارتن لوثر (1483 - 1546)
- توماس مور (1478 – 1535)
- نيكولاس كوبرنيكس ( 1473 م. _ 1532 م. )
- نيقولا ميكافيلي ( 1469 م. _ 1527 م. )
- الفلسفة الأوروبية نهاية القرون الوسطى
- فلسفة عصر الاقطاع في أوروبا منذ القرن السادس حتى الرابع عشر
- شروحات ختامية حول تأثير الفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى


المزيد.....




- روسيا تدعي أن منفذي -هجوم موسكو- مدعومون من أوكرانيا دون مشا ...
- إخراج -ثعبان بحر- بطول 30 سم من أحشاء رجل فيتنامي دخل من منط ...
- سلسلة حرائق متتالية في مصر تثير غضب وتحليلات المواطنين
- عباس يمنح الحكومة الجديدة الثقة في ظل غياب المجلس التشريعي
- -البركان والكاتيوشا-.. صواريخ -حزب الله- تضرب مستوطنتين إسرا ...
- أولمرت: حكومة نتنياهو تقفز في الظلام ومسكونة بفكرة -حرب نهاي ...
- لافروف: أرمينيا تسعى عمدا إلى تدمير العلاقات مع روسيا
- فنلندا: معاهدة الدفاع مع الولايات المتحدة من شأنها أن تقوض س ...
- هجوم موسكو: بوتين لا يعتزم لقاء عائلات الضحايا وواشنطن تندد ...
- الجيش السوداني يعلن السيطرة على جسر يربط أمبدة وأم درمان


المزيد.....

- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ
- أهم الأحداث في تاريخ البشرية عموماً والأحداث التي تخص فلسطين ... / غازي الصوراني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - غازي الصوراني -   كتاب :  عواصف الحرب وعواصف السلام  [1]