أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن مدن - الضمير الشقي















المزيد.....

الضمير الشقي


حسن مدن

الحوار المتمدن-العدد: 6751 - 2020 / 12 / 3 - 10:40
المحور: الادب والفن
    


أطلق جان بول سارتر وصف "الضمير الشقي" على المثقف، كأنه بذلك يُحدّد مواصفات هذا المثقف الذي لا يرتاح لما هو منجز ويضع المسلمات موضع المساءلة والشك، ولا يقف عند حدود معرفته وتخصصه العلمي ويذهب إلى ما ورائها. إنه ضمير لأنه مفعم بالمسئولية وبالحس الإنساني العالي، وهو شقي لأنه لا يركن لليقين، ويتميز بالعقل الناقد والقلق، حين تكون الحقيقة لديه مفتوحة متجددة وليست وثوقيات نهائية.

يتعين التمييز بين المثقف وبين تقني المعرفة. الأول هو ذاك الذي يجعل من الأفكار موضوع عمل، يجعل منها، تأثيراً، مساهمةً، وخاصة هنا الأفكار ذات البعد الإنساني الاجتماعي الأخلاقي، أما تقني المعرفة فهو ذاك البارع في تخصصه، وربما غير البارع أيضاً، والمكتفي بهذا التخصص في معزل عن نبض الحياة. كان أحد الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين قد صاغ هذه الفكرة بدقة حين لاحظ "أن صفة المثقف ليست مرتبطة قسراً بالمهنة وإنما هي راجعة بالأساس إلى توظيف المهنة عن طريق الأفكار ومن أجل الأفكار".

منذ مطلع التسعينات خاصة، شهدنا حالاً من المراجعة لدور المثقفين على الصعيد العربي، وهي مراجعات مأخوذة من سياقات فكرية وثقافية غير سياقاتنا، انصبت على تقريع المثقفين وإسقاط ما أحاط بدورهم من هالة، ولكن هذه المراجعة، للأسف، لم تكن تهدف تقريع أو كشف زيف الزائف من هؤلاء المثقفين، بقدر ما كانت ترمي لتحييد المثقف وتجريده من كل دور. ولعل في التطورات الدراماتيكية التي نعيشها ما يبلور الحاجة مجدداً لردّ الاعتبار للمثقف بوصفه ضميراً، ضميراً شقياً بالتحديد، ولذلك موجبات بينها استقلاليته عن البنى والولاءات التقليدية، وحاسته الانتقادية إزاء الأوضاع المحيطة به، وامتلاكه لنزعة إنسانية تحررية وجمعه بين التنظير والفعل الاجتماعي.

لا يمكن للمثقف أن يكون جديراً بهذه الصفة إذا كان فاقداً للعدّة النظرية – الفلسفية، أو الرؤية الخاصة للحياة، التي تميزه عن الحرفي أو المهني أو التقني، فليس كافياً أن يكون الإنسان مطلعاً أو ناقلاً للمعرفة بصورة حيادية مجردة، إنما يجب أن يكون هو نفسه حَكماً على أحداث مجتمعه، فدوره، حسب تعبير للدكتور خلدون النقيب، لا ينحصر في تقديم المعرفة وتطويرها فقط، وإنما في قدرته على أن ينازل الرؤى الفاسدة أو الزائفة، موغلاً فيها مبضع النقد، الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبب ذلك آلاماً مبرحة لمريضه.

يروي الكاتب أنيس منصور الحكاية التالية التي جرت له في وقت ما في ستينات القرن الماضي على الأرجح، إذ حدث أن دعاه أحمد بهاء الدين هو وكامل زهيري لمرافقة الشاعر الروسي الكبير يفغيني يفتوشينكو الذي كان يزور مصر يومها بدعوة رسمية في رحلة إلى مدينة الأقصر، وفي ليلة قمرية خرج الثلاثة: منصور وبهاء الدين وزهيري إلى رحلة على متن زورق فوق سطح النيل. كان الشاعر الأجنبي مستلقياً في الزورق مأخوذاً بالقمر والليل والنيل يتأمل في ما يرى. وفجأة ومن دون سابق حديث سأل الضيف مضيفيه: ما هي القضية التي يتجادل حولها المفكرون والمثقفون في مصر، فيتفقون أو يختلفون ما الذي يشغلكم؟ ما هي قضيتكم؟!

يقول أنيس منصور إن السؤال فاجأ جميع من هم على الزورق، واجتهد كل مهم في تقديم إجابة. كامل الزهيري تحدث عن الأدب والجدل حول الواقعية كمدرسة، معها أو ضدها. منصور نفسه تحدث عن الوجودية بوصفها رداً لاعتبار الفرد في مواجهة ما فعلته به الشمولية، وأحمد بهاء الدين تحدث عن أمر ثالث، وهكذا، فما كان من الشاعر الضيف إلا أن روى لزملائه المصريين حكاية عن فنان طلب منه أن يرسم بورتريه لرجل مهم، ولكن في وجه هذا الرجل المهم ثمة عاهة، إن أظهرها في الرسم قد يأخذ عليه ذلك، فاحتال الفنان بأن رسم وجه الرجل من زاوية نظر جانبية، أو ما يعرف بـ "البروفايل" وما ذكرتموه من أجوبة ليس أكثر من "بروفيلات" لواقعكم، إنكم تتفادون النظر إلى الواقع كما هو تماماً كما فعل الفنان الذي تحاشى رسم "البورتريه" ولجأ إلى "البروفايل".

يضيف أنيس منصور معقباً: هذا السؤال الذي طرحه الشاعر الأجنبي والتعقيب الذي قاله فيما بعد شغلاه طويلاً، وسعى للإجابة عنه في العديد من الكتب التي ألفها على مدار عشرين عاماً أو أكثر من دون أن يوفق في الإجابة كما يقول هو نفسه. ولست اتفق مع أنيس منصور، لا في الفكر وفي السلوك السياسي، ولكني أظنه مصيباً تماماً في ما ذهب إليه من أن الفكر العربي مازال مشغولاً بالجدل في قضايا قد تكون مهمة لكنها لا تشكل محور أو جوهر ما يدور في الواقع من اشكاليات.

إن هذا الفكر يقع غالباً في أحد محذورين: الإنشغال بتفصيل معين من تفاصيل هذا الواقع، قد يكون مهماً لكنه ليس الأهم، وفي غمرة انشغاله بأمر الشجرة ينسى الغابة التي تتكون من آلاف الأشجار، وإما أنه يلجأ إلى التجريد الذي يغفل حيثيات هذا الواقع، ومن طبيعة الفكر أن يكون مجرداً لأنه يشتغل على القوانين العامة لحركة المجتمع، لكن هذه القوانين حين تبحث مفصولة عن الواقع الذ تنشط فيه، تصبح رسماً أشبه بالبروفايل لا رسما للبورتريه على نحو ما ذهب الشاعر الروسي الذي عنه حدثنا أنيس منصور.

وفي هذا الإطار فانه ما من علاقة مليئة بالالتباس والتعقيد والتشابك والغموض كعلاقة المثقف بالسلطة. تقليدياً كانت هذه العلاقة محاطة بما هو مدعاة للفضول وللنقاش لأنها ملأى بالمفارقات. ربما لأن "سلطة" الثقافة، حين نعني بها المكانة المعنوية أو الرمزية التي تمثلها هذه الثقافة، جعلت طرفي العلاقة، أي السلطة والمثقف في حالتي تجاذب، وتراوحت هذه العلاقة بين القطيعة التي تجعل السلطة في خصام مع المثقف، خصام يصل حد اضطهاده أو عزله أو محاربته، وبين تماهٍ رخيص يصبح معه المثقف أداة، ويصادر المساحة التي يجب أن تفصل بينه وبين هذه السلطة، بصرف النظر عن طبيعتها.

ليست هذه الإشكالية ابنة اليوم. حتى تاريخنا العربي الإسلامي مليء بالأمثلة على العلاقة المعقدة بين المبدع والحاكم، إن أمثلة ابن خلدون على النحو الدرامي الذي صاغه سعدالله ونوس في "منمنمات تاريخية"، أو المتنبي لأدلة ساطعة على أن المبدع عرضة للتقلبات في هذه العلاقة، بالشكل الذي يجعل سيرته الذاتية مثقلة باللحظات الصعبة التي عليه أن يختار أثنائها أياً من المواقع عليه أن يقف فيه، وهو اختيار نعلم أنه يتضمن محكاً عملياً لهذا المبدع، ليس فقط لأنه يتصل بمصداقيته، ولكن لأن حساسية هذا المبدع ورهافته هي التي تكون أولاً قيد الاختبار.



#حسن_مدن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ذكرى هيئة الاتحاد الوطني، كيف صنع البحرينيون وحدتهم؟
- من الوطنية إلى المحلية
- (أوروبة) أوروبا
- الرهان الوطني
- غربتان في الزمان والمكان
- البرجوازي غير النبيل
- سلامة موسى علّمني
- أي أوجاع يُوَرث المنفى؟
- بين السياسي والمثقف
- ما بعد الجائحة: مقدّمات عالم قَيدْ التشكّلْ
- لكل صنوبرةٍ غابتها
- المدينة والثقافة.. من يصنع الآخر؟
- يوم الفلسفة أتى من المغرب
- في اليوم الواحد نعيش حياتين
- هشاشة الثقافة المدنية
- تهشيم صورة المثقف
- (أوراق) عبدالله العروي
- تأنيث العالم
- بين عبدالخالق محجوب وسيد قطب
- فُتوّة العقل


المزيد.....




- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن مدن - الضمير الشقي