أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - لماذا أصيب المصريون ب”متلازمة جينوفيز“؟















المزيد.....

لماذا أصيب المصريون ب”متلازمة جينوفيز“؟


ياسين المصري

الحوار المتمدن-العدد: 6731 - 2020 / 11 / 13 - 16:41
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في دراسة أجراها عالم النفس الأمريكي جيمس كوان James A. Coan الأستاذ في جامعة أريزونا، جاء أن من الصفات الأساسية التي تميزنا كبشر قدرتنا الفطرية على وضع أنفسنا مكان الآخرين، فأدمغتنا مصممة بحيث نتعاطف مع الأشخاص القريبين منَّا، إذ نشعر أن مُصابَهم مصابُنا، ونتعاطف معهم عندما يهددهم أي خطر. فالإنسان بطبيعته يشعر بالسعادة إذا قدَّم المساعدة لشخص يحتاجها، وفي نفس الوقت فإن التعاطف وتقديم المساعدة لغيرنا هي عملية مستدامة، بمعنى أن حجم التعاطف يزيد بزيادة ممارسة الشخص نفسه العطاء المعنوي تجاه الآخر. إنظر المقال:
https://news.virginia.edu/content/human-brains-are-hardwired-empathy-friendship-study-shows
لكننا أصبحنا نرى المصريين الآن لا يشعرون بالأمن والأمان وهم متواجدون مع بعضهم البعض، سواء في الشارع أو العمل أو حتى في البيت، لقد أصيبوا باللامبالاة (التطنيش) والبلادة، بحيث ظهرت عليهم أعراض ”متلازمة جينوفيز“ التي سوف نتعرَّف عليها لا حقًا في هذا المقال؟
الذين عاشوا في الأربعينات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي في ريف مصر يعرفون جيدًا أنه عندما يندلع حريق في أجران القمح أو في منازل الفلاحين المليئة بالحطب (عيدان الذرة الجافة) أو بأقراص الجلة المجففة فوق أسطح المنازل لاستعمالها في الأفران، وكانت الحرائق كثيرًا ما تندلع، يهب سكان القرية عن بكرة أبيهم بما يتوفر لديهم من ماء أو عصي لإطفائها في دقائق معدودة قبل أن تأتي على الكثير. لم يكن للمطافئ الحكومية ضرورة متوقعة آنذاك. وعندما كانت ترد من وقت لآخر علي القرية جثة سابحة في مياه الترع والمساقي، يسرع من يراها إلى انتشالها من الماء وتغطيتها باحترام حتى تأتي الشرطة، فتقدم له الشكر قبل اتخاذ الإجراءات اللازمة تجاهها. وعندما تسقط بقرة أو جاموسة لسبب ما، ممَّا يستدعي ذبحها يسارع أهل القرية إلى شراء لحومها بسعر معقول، لتعويض صاحبها عن خسارتها. وكان من غير المعروف على الإطلاق شيء إسمه التحرش أو الاغتصاب، أو التعدي على النساء حتى ولو بالقول، احترامًا للمرأة وخشية من ردود الأفعال الفورية والحاسمة من الآخرين. لم يكن يفرِّق أحد منهم بين المسلم والقبطي. كانت ظاهرة التعاطف الجمعي مع الآخرين والتضامن المجتمعي والاستنهاض الجماعي للهمم هي القيمة العليا الأساسية التي يتَّسِم بها المواطنون في ذلك الوقت، وكانت هي السمة الغالبة بين الريفيين البسطاء، والتي نقلها البعض منهم إلى المدن.
اليوم نجد اللامبالاة والبلادة والإحجام والهروب، سواء في القرى أو في المدن، فيظل الحريق يدمر الأخضر واليابس أمام أعين الجميع وهم في انتظار سيارات الإطفاء التي قد تأتي بعد انتهاء الحريق من عمله أو قد لا تأتي على الإطلاق. اليوم نرى جثث البشر والحيوانات تسبح جنبًا إلى جنب مع القاذورات في الترع والمساقي دون أن يقترب منها أحد، بل يحجم الجميع عن مجرد تبليغ الجهات المعنية خشية القبض عليهم وتضييع أوقاتهم وتبديد كرامتهم في أقسام الشرطة، اليوم تتعرض الفتيات والنساء للتحرش والإهانة والاغتصاب في وضح النهار دون أن ينقذهن أحد وإذا تصادف وجود من يُفترض أنه المنقِذ كضابط أو أمين شرطة، فإنه يقول للضحية: ”تستاهلي“ لمجرد أن منظرها أو ملبسها لم يعجبه!
حديثًا، وفي يوم 12 نوفمبر 2029 أضرم مصري النار في نفسه في ميدان التحرير المكتظ بالمارة والسيارات، دون أن يمنعه أحد، وظل الرجل خلال الفيديو يردد هتافات ”آه يا بلدنا، يا تكية، ماسكينك شوية حراميه“.
https://www.alhurra.com/egypt/2020/11/12/مصري-يشعل-النار-في-نفسه-بميدان-التحرير-في-بث-مباشر
ماذا حدث إذَنْ للمصري الذي كان شجاعًا وشهمًا في يوم ما؟ لماذا أصيب بمتلازمة جينوفيز؟
ومتلازمة جينوفيز تنسب إلى الأمريكية ”كيتي جينوفيز“ 28) عام)، التي كانت تدير بار في مدينة نيويورك، وفي إحدى الليالي الهادئة من ليالي الشتاء الباردة عام 1964 وأثناء عودتها إلى شقتها من عملها في الساعة الثالثة صباحًا، طاردها سفاح سيكوباتي (معتل نفسيًا) يحب مضاجعة الموتي من الفتيات، اسمه «وينستون موسيلي». وما أن اقتربت من العمارة التي تسكنها حتى إنقض عليها وسدد إلى جسدها طعنتين من الخلف بسكين أمام أعين 38 شخصًا من الجيران، الذين أضاؤوا الأنوار في شققهم وفتحوا النوافذ وشاهدوا الفتاة وهي تتمرغ في دمائها وتصرخ وتتلوَّى من شدة الألم دون أن يكلف أحد منهم نفسه بمساعدتها أو محاولة إنقاذها حتى أن أحدهم طلب من السفاح أن يبتعد عن نافذة شقته. وعندما أخذت ركنا بجوار المبني وهي تتلوَّى على الأرض وتنزف دمها وتبكي وتصرخ طلبًا للمساعدة، عاد إليها السفاح وسدد إلى جسدها عشر طعنات أخرى حتى فارقت الحياة وقام بمضاجعتها وهي جثة هامدة قبل أن يلوذ بالفرار. لقد وقف الكل ينتظر أن يبادر غيره بالمساعدة إلى أن توفيت كيتي متأثرة بجراحها!. وفي اعترافه قال«موسيلي» إنه شاهد الرجل الذي طلب منه الابتعاد عن شباك شقته، يقفل الشباك ويعود لإكمال نومه وكأنه أدَّى ما عليه. تم القبض على «موسيلي»، وحكم عليه بالإعدام على الكرسي الكهربائي، ثم ما لبث أن خفف الحكم للسجن مدى الحياة بعدما ألغت ولاية نيويورك عقوبة الإعدام، ومات في السجن في عام 2016.
بعد قتل كيتي أجرى كثير من العلماء في أمريكا سلسلة من التجارب ليعرفوا سر تصرُّف الشهود على حادثتها. وتوصلا إلى دافعيْن أساسيين وراء هذه الظاهرة: الأول هو ”تأثير انتشار المسؤولية“ (Diffusion of Responsibility Effect)، أي عندما تكون المسؤولية غير محددة بوضوح، فيتصور المرء الذي ضمن المجموعة أن المسؤولية تقع على عاتق فرد آخر، وأن هذا "الآخر" سيتصرف بعد قليل، أو أنه تصرّف بالفعل. 
أما الدافع الثاني، فهو ”قوة المعايير الاجتماعية“ (The Power of Social Norms)، ويُقصد به أنّ تقييم الفرد لأحداث معينة يتغير بوجود آخرين معه، إذ يلاحظ في البداية ردود أفعال الآخرين ممن حوله ثم يتصرف بناء عليه، فإن رأى الآخرون أن ما يحدث هو أمر غير طارئ، يميل الفرد لتقييمه على أنه كذلك بالفعل. ومن مظاهر هذا الدافع تبادل النظرات بين الحاضرين لفهم ما يحدث؛ كما ينطوي هذا الدافع على عوامل أخرى مثل الامتناع عن تقديم المساعدة خوفاً من خرق خصوصية الآخرين، أو الخوف من الظهور بمظهر غير لائق أو مظهر الأحمق الذي يسيء التصرف. بمعنى أنَّه «إذا وُجد فرد واحد فقط أمام حادثة فاحتمالية أن يتقدم للمساعدة أكبر من وجود عدة أفراد أمام الحادثة نفسها»، فهناك أشخاص ظلوا هادئين ولم يتحركوا للمساعدة أو يتخذوا رد فعل بسبب أن ثبات الآخرين جعلهم يظنون أن الأمر ليس خطرًا حقيقيًّا، لكن هناك آخرين أدركوا وجود خطر حقيقي لكنهم لم يتحركوا بسبب الإحراج من إظهار خوفهم أمام الآخرين الهادئين.
إن الموقف السلبي من البشر تجاه المعتدى عليهم أذهل علماء النفس وجعلهم يكثفون دراساتهم على مثل هذه السلوكيات الغامضة للبشر والتي تدعو للحيرة، ففي عدة تجارب لدراسة "تأثير الجماعة على الفرد" أجراها العالم النفسي البولندي سولومون أش، بينت بشكل مذهل الأثر العظيم الذي يحدثه رأي الأغلبية في التأثير على الفرد وبالتالي على المجتمع ككل! فالضغط الذي تحدثه المجموعة على الفرد الذي يحمل أفكارا مختلفة أو شاذة عنها يدفعه إلى عمل الفعل نفسه أو اعتناق الفكر نفسه الذي كان يرفضه وتتبعه المجموعة لينضم إليها ويجاريها!. لذلك نجد في ألمانيا مثلًا برنامجًا تليفزيونيًا شهيرًا يُبَث شهريا دون انقطاع منذ عام 1967، بإسم: ”رقم القضية XY ... بدون حل Aktenzeichen XY … ungelöst“، وهو يعرض جميع الجرائم الكبيرة والصغيرة المستعصية على الحل مهما كان طال بها الزمن، ومحاولة معرفة الفاعل وعرض مبالغ مالية كبيرة لمن يدلي بمعلومات حاسمة في القبض عليه، كما يخصص البرنامج في كل حلقاته تكريمًا معنويًا وماديًا لعدد من الأشخاص الذين توفرت لديهم الشجاعة والشهامة لإنقاذ الآخرين في ظروف حرجة وحمايتهم من الاعتداء بأي شكل من الأشكال. والهدف من ذلك هو حث المواطنين على التحلي بالشجاعة والشهامة وعدم التردد في إنقاذ الآخرين قبل سقوطهم ضحايا.
إن الأوضاع السياسية التي أوجدتها الفاشية العسكرية في مصر لعبت دورًا رئيسيًا في أصابة المصريين بداء اللامبالاة والجبن وانعدام الشهامة، حيث شكَّل استبداد العسكر، وعجزهم عن ممارسة العمل السياسي الواقعي، وهروبهم من المسؤولية الملقاة على عاتقهم ضغطًا هائلًا على المجتمع، حيث دخلت البلاد في غابة من القوانين العشوائية والقرارات المسماه بالسيادية والأهواء الشخصية التي تخدم أصحاب المصالح على حساب الشعب، فأصبحت المسؤولية على كافة المستويات غير محددة بوضوح، وبات المخطئ يفلت من العقاب أو يوضع مكانه ”كبش فداء“ يتلقى العقاب بدلا منه!
لقد كانت ومازالت للمسؤولين اهتمامات أخرى غير الحكم الرشيد، وممارسة السياسة الحقيقية لخدمة المجتمع وتوجيهه نحو التضامن وإظهار طاقة الإنسان الحقيقية ومخزونه الحضاري، خاصة وقت الكوارث والأزمات بعيدا عن الروتين اليومي واللهث وراء لقمة العيش والبحث عن طرق لمواصلة الحياة بأقل قدر ممكن من الإحساس بالكرامة وعزة النفس والتطلع الدائم إلى الستر.
إن جُلَّ همهم كان - ومازال - يتمحور حول الهيمنة على الثروة والسلطة في البلاد، فكان من تداعيات هذه الهيمنة إصابة ملايين البشر بالبلادة واللامبالاة، ولجوءهم إلى التدين الكاذب ممَّا أدَّى تلقائيًا إلى مضاعفة نشاط وعمل الجماعات المتاجرة بالدين، والتي سارعت إلى نشر تأويلاتها لأسباب الكوارث، وغالباً ما لعبت على الشعور بالذنب لدى المواطنين البسطاء حين بررت لهم ما حدث بسبب ابتعادهم عن الدين. ومن الملاحظ أن هذه الجماعات ضاعفت من نشاطها وفتاواها بعد هزيمة 1967، وكيف وجدت استجابة واسعة من جماهير مصدومة بعد انهيار حلمها، وتصدع أركان عالمها الذي كان مستقراً .
علم النفس يقول إن اللامبالاة والبلادة وجهان لعملة واحدة ولكن اللامبالاة قد تكون متعمدة ومقصودة من شخص ما تجاه شخص اخر او تجاه موضوع او قضية معينة ويمكن الخروج منها بسرعة والعودة الي الحالة الطبيعية للشخص وذلك برغبته وقناعته، اي تغيير موقفه. وتعرّف على أنها حالة نفسية تتَّصف بعدم التأثّر بالمواقف التي تثير الاهتمام وفقدان الشعور والانفعال بأمرٍ ما وعدم أخذه بعين الاعتبار. ويقول علماء النفس إنها حالة وجدانية سلوكية معناها أن يتصرف الشخص بلا اهتمام في شؤون حياته أو حتى الأحداث العامة كالسياسة وإن كان هذا في غير صالحه، مع عدم توفر الإرادة على الفعل وعدم القدرة على الاهتمام بشأن النتائج. واصحاب اللامبالاه هم دائما اشخاص يحاولون الهروب من مواجهه المشكلات او السعي الي حلها ولذلك يلجئون الي هذا الاسلوب اي اللامبالاه للهروب من المشكلات والضغوط العصبيه ورغبتهم الدائمه في راحه البال وعدم الانزعاج بمشكلات سواء تخصهم او تخص من حولهم .
اما البلاده فهي اكبر واخطر من اللامبالاه فهي تمثل حالة من الانفصال المرضي وعدم التفاعل مع مايدور في المجتمع المحيط بالشخص، لانها تكون تطبُّعًا زرع في الشخص بهدف التكيف مع المجتمع الذي سادت فيه البلادة، فتصبح متاصله فيه وهي تمثل اعلي درجات اللامبالاه، لذلك فهي تتاصل وتتعمق في داخل الذات والسلوك ويصبح من الصعب التخلص منها.
إنها انعكاس لضعف في التفكير وقله التركيز وتشابه الاحاسيس لدي صاحبها، فإذا طبقنا ذلك على أرض الواقع يتجلى لنا بشكل واضح حادث القطار فى محطة مصر، فقد ثبت من التحقيقات وبالفحص الفنى للحركة الميكانيكية للجيران أن السائق ترك ذراع التشغيل للقاطرة فى وضع التشغيل على السرعة الثامنة والتى تعادل 120كم/ الساعة وأن الحادث نتج عن تصادم الجرار بالمصد الخرسانى بنهاية الرصيف محدثًا آثارًا تصادمية نتج عنها تسييل وتناثر السولار من خزان الوقود أسفل الجرار والذى يسع ستة آلاف لتر من السولار واختلاط أبخرته بالهواء مكونًا مخلوطًا قابلاً للاشتعال مما أدى إلى اندلاع النيران نتيجة وجود الشرر المعدنى الناتج عن احتكاك الأجزاء المعدنية ببعضها عند الاصطدام بالمصد الخرسانى بالسرعة القصوى التى كان يسير بها الجرار، كل هذا تم لأن السائق نزل من الجرار ليتشاجر مع زميله دون أن يوقف الجرار فى وضع الأمان، لقد نسى أن يؤدى عمله ولم يكن جالسًا على المقهى ليترك مكانه كي يتشاجر مع زميله ويترك الجرار ينطلق دون سائق.
والمصيبة الكبرى بعد أن عرف هذا السائق أن تركه الجرار وانطلاقه أدى إلى موت وحرق مواطنين لم يهتم وكأن شيئًا لم يحدث وذهب إلى منزله ونام مقر العين إلى أن تم القبض عليه وظهر على الشاشة وهو فى حالة من البلادة واللامبالاة وكأن ما حدث شيء عادى بل قال إن كل واحد ممكن يخطئ فى عمله مرة واثنتين وعشر. إنه إذَنْ الاستهتار واللامبالاة وعدم احترام القانون لأنه هو وغيره يعرفون أن العقوبة ضعيفة وربما استطاعوا النجاة منها!
إن الحكومات الفاشية المتسلطة من شأنها أن تفرز مجتمعًا تنغرز في مخالب التسلط كي تعزز به سلطتها ويؤمن لها سلطة مطلقة لا ينازعها فيها أحد. وهي في ذلك تعتمد في تعاملها مع المواطنين على جرعات ثقيلة ولا إنسانية من القمع بهدف قوْلَبَتهم بحيث يصبحون هم الضحايا والمستفيدون في نفس الوقت، بمعنى أنهم يصبحون بدورهم فاشيين متسلطين صغار يقمعون أيضاً من هم دونهم في النظام الاجتماعي. وعليه، فالقمع لا مركزي، مما يخلق أرضاً خصبة لـ"القمع المجتمعي"، الذي يتكون ضحاياه الأساسيون من المهمشين والشرائح الأضعف من المجتمع مثل: الأقليات، والنساء والفقراء، ويصبح ظاهرة مجتمعية عامة في المدارس وأماكن العمل وبين الأسرة في المنازل. إن هذا العنف المجتمعي والذي تتغاضى الدولة عنه موجه أساسًا ضد الطبقات الدنيا في المجتمع بهدف غرس بذور الطاعة والولاء والانضباط في عقول المواطنين وتضييق الخناق على جميع أشكال الفكر الإبداعي الخلاق. إنه طريقةالحكام العجزة للمحافظة على نظمهم الأتوقراطية ونشرها في المجتمع
لا شك في أن المصريين يدركون جيدًا أن العسكر الذين يحكمونهم منذ 79 عامًا يكذبون عليهم، فلم تعد لديهم الكثرة تغلب الشجاعة كما يقول المثل، بل تزرع الخوف واللامبالاة والبلادة.
لقد تغلغل القمع في جميع طبقات المجتمع، حتى وصل إلى مراكز التنشئة المدرسية، ففي عام 2014، حُكِم على مدير دار أيتام بالسجن لمدة ثلاث سنوات بعد لقطات تُظهره يعتدي بالضرب بوحشية على أيتام تحت رعايته، وعام 2015 توفي طفل نتيجة الإصابات التي تعرض لها جراء ضربه من قبل المعلم. وهناك قضايا أخرى معروفة، يتفشّى فيها العنف المفرط تجاه الأطفال في مدارس مصر، لا سيما في مناطق الطبقات الدنيا، نشأت مع نشوء النظام العسكري الذي يحكم مصر حتى اليوم. ومع ذلك يصرّح وزير التعليم في عهد مبارك "أحمد زكي بدر"، إن حظر العقاب البدني في المدارس سيجعل المعلمين ضعفاء ومعرضين للهجوم. وهكذا تتغاضى الدولة عن هذا العنف تجاه الطلاب.
وهكذا، تمكنت الفاشية العسكرية من خلق ديكتاتوريات مصغّرة في كل مكان في الدولة، موجّهة بشكل أساسي ضد الطبقات الدنيا، وتهدف إلى غرس بذور الطاعة والانضباط في عقول الفقراء، الذين لا يملكون أي ملجأ حماية ضد هذه الممارسات. وهذا يترافق مع التلقين الديني الأيديولوجي المتواصل لأهمية الطاعة، والحاجة إلى تضييق الخناق على أي شكل من أشكال الفكر الإبداعي.
وفي عام 2006 ظهرت جثث عدد من أطفال الشوارع ملقاة على الأرصفة وفي مقالب القمامة، فألقي القبض على عصابة من 6 أشخاص زعم أنهم هم المسؤولون عن اغتصابهم وتعذيبهم وقتلهم، بيد أن القضية سرعان ما توارت دون أي رد فعل من الحكومة، ودون أي تغيير في الرأي حول أطفال الشوارع. وهكذا تخلق الفاشية والنظم الاوتوقراطية فضاءً رحبًا للامبلاة والبلادة والقمع، حيث يُفتَرس الأكثر ضعفاً من قبل الأشد قوة، مما يجعل هذا الفضاء لا مركزياً وينتشر إلى الأطراف، منتهكاً العقد الاجتماعي الأساسي لـِ [كائن] "اللفياثان" [الخرافي] كما يعرّفه [الفيلسوف الإنكليزي] توماس هوبز [في نظريته السياسية]. إذ لا تحظى حياة هؤلاء الأطفال بالقيمة، لا من جانب الحكومة ولا من جانب الشرائح الأشد قوة في المجتمع. ويتجلى ذلك في دعوة وجهها كاتب مصري، بأنه من أجل أن تُحلّ المشكلة، ينبغي أن يُقتل الأطفال.
تحول المجتمع إلى غابة يفترس فيها القوي الضعيف ويفترس فيه الضعيف الأضعف منه، وأصبحت الفئات المهمشة من النساء والأطفال والفقراء أهدافًا سهلة لقمع المتسلطين الأقوياء، الذين يقمعون بدورهم أنفسهم بأنفسهم، مما يخلق دورة عنف وقمع، فالمواطن الذي يُقمع خارج منزله ممن هم أقوى منه، يمارس القمع في أسرته وفي الشارع ومكان العمل على منهم أضعف منه دون تردد أو خوف مع ما يلمسه من قلة الحماية القانونية أو الاجتماعية الممنوحة للفئات الضعيفة والمقهور في المجتمع.
لقد وضع النظام العسكري الفاشي الأوتوقراطي أسس لدورة شيطانية من العنف اللفظي والبدني وانعدام العدالة الناجزة في الدولة، وخلق الشروط التي تسمح باستغلال السلطة ونقل عملية القمع إلى المواطنين لكي يكفل لنفسه الاستقرار الكاذب، ولا يكون في المجتمع فاشيًا أوتوقراطياً واحداً، بل حشدًا من الفاشيين الأوتوقراطيين المنتشرين في كل جوانب الحياة اليومية. فهو يسمح لضحاياه بقمع الآخرين رغم أنهم مقموعون بحد ذاتهم. والنتيجة النهائية هي الاستمتاع بسلطته المطلقة. وخلق نزعات مناهضة للديمقراطية، والحرية والكرامة الإنسانية، إذ يكره المواطن على فرض سلطته على غيره من الذين لا يملكون حماية اجتماعية وقانونية ضد الاعتداء. كما يسمح القمع والعنف المتواصل بالوحشية وتجريد المواطنين من إنسانيتهم والاحتماء بالبلادة واللامبالاة.



#ياسين_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرسول (الكريم) أهم لدي المتأسلمين من الله!
- متلازمة الأبناء وحكم السفهاء 2/2
- متلازمة الأبناء وحكم السفهاء 1/2
- السادية الإسلاموية والإسلاموفوبيا
- ثقافة القطيع
- العربان ونظرية المؤامرة
- شعب بين المطرقة والسندان 5/5
- شعب بين المطمرقة والسندان 5/4
- شعب بين المطرقة والسندان 5/3
- شعب بين المطرقة والسندان 5/2
- شعب بين المطرقة والسندان 5/1
- الديكتاتور الحقير!
- ومازال العمل جاريًا تحت تعريشة بني ساعدة!
- إشتراكية عبد الناصر وما آلت إليه
- لماذا خرج المصريون من التصنيف العالمي للإنسانية؟
- توجيهات سيادة الرئيس
- إلحاد الأمس وإلحاد اليوم
- نتيجة التخبُّط بين ثقافتين
- الإنسان بين الوهم والواقع
- ما سر عداء العروبان والمتأسلمين لعلم المنطق؟


المزيد.....




- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - لماذا أصيب المصريون ب”متلازمة جينوفيز“؟