أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - شعب بين المطرقة والسندان 5/1















المزيد.....


شعب بين المطرقة والسندان 5/1


ياسين المصري

الحوار المتمدن-العدد: 6608 - 2020 / 7 / 2 - 02:49
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


المقالات الخمس التالية ليست تأريخًا لصعود الفاشية العسكرية أو صعود الفاشية الإسلاموية في مصر ولكنها محاولة حيادية وموضوعية لرصد المحطات الرئيسية في تحالفهما معًا، والنتائج التي أسفر عنها هذا التحالف الأزلي، وكيف أمكن له في آخر المطاف أن يضع شعبًا بكامله بين مطرقة الأولى وسندان الثانية، وما زال يئن تحت ضربات هذا التحالف الفاشي حتى اليوم.
1- البكباشي عبد الناصر
خضعت مصر كغيرها من الدول الأخرى - منذ القرن السابع الميلادي - لغزو واحتلال بدوي صحراوي، هو الأسوأ في تاريخ البشرية جمعاء، فقد جاء لها أولئك الرعاع الجوعى بثقافة دينية هابطة، أدت إلى أستنساخ حكام من السفلة والفاسدين، لم يكن همهم سوى السلب والنهب والسبي والاغتصاب واحتقار المصريين وقهرهم وإذلالهم. واستمر هذا النهج حتى نهاية الحكم العثماني التركي، ولكنها حافظ المصريون دائمًا ولحد ما على جزء ضئيل من التنوير الحضاري بفضل تاريخهم العريق واحتكاكهم بالغرب. تجلى ذلك بوضوح في فترة حكم محمد علي الذي التزم بالعمل النهضوي والتقدمي، وبدت البلاد في عهده وهي سائرة على طريق الخلاص من الاحتلال البدوي والبريطاني معًا. وعندما قام البكباشي عبد الناصر عام 1952 بانقلابه العسكري واغتصب السلطة في البلاد، ظهرت في الأفق بادرة أمل في أن ينعم المواطن المصري بالحرية ويستعيد عزته وكرامته، إذْ قال له أنذاك: ”إرفع رأسك يا أخي فقد مضى عصر الاستعباد“، وقال عنه بعض المصريين إنه أول مصري يحكم بلده منذ أكثر من ألف عام (بما في ذلك فترة حكم الاحتلال البدوي الصحراوي المقيت)، ومع ذلك كان هناك من المصريين المتنورين من عرف أن البلد بكاملها قد وقعت بين مطرقة الفاشية العسكرية وسندان الفاشية الدينية، فهرب الكثيرون منهم إلى خارج أو تعرض للسجن والقتل، في وقت بدأ يتعرض فيه المواطنون لموجة عاتية من التخويف والتهميش والانكماش، عبَّر عنها المفكر والفيلسوف المصري الرحل الدكتور فؤاد زكريا في كتاب ”عبد الناصر واليسار المصري“ الصادر عام 1971، بقوله:
« لقد أصبحَ الإنسانُ المصريُّ من فرطِ خوفِه وانكماشِه، يَقبلُ أوضاعًا ما كانَ ليقبلَها من قبل؛ أصبحَ يقبلُ باستسلامٍ فكرةَ وجودِ قانونَيْن، قانونٍ للمحكومِين وقانونٍ للحاكِمِين».
لم يتوقف الأمر عند قبول الإنسان المصري لفكرة وجود قانون للمحكومين وقانون للحاكمين، بل تعدى ذلك إلى قبول أوضاع أخرى كثيرة ما كان ليقبلها من قبل!، وذلك لأن المجتمع المصري قد شهد خلال فترة حكمه (18 عامًا) تحولات عشوائية راديكالية عنيفة، مدعومة بقوانين وتعليمات سيادة الرئيس أصابته بالدوار والحيرة، قيل عنها أنذاك إنها ”اشتراكية“، من صميم الديانة الإسلاموية، ولكنه مالب أن تعرَّض مرة أخرى في عهد السادات لنفس التحولات مدعومة أيضًا بالقوانين وتعليمات سيادة الرئيس، ولكن في الاتجاه المعاكس وهو ”الرأسمالية“ التي قيل بالمثل إنها من صميم الديانة الإسلاموية، فكان من شأن هذه التحولات أن تقلب المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية رأسًا على عقب، وتضيف إلى المجتمع مزيدًا من الضلال والانحطاط والتخبط.
إن الثابت الوحيد على مدار تاريخ الحكم الإسلاموي الأسود هو التوظيف السياسي الدائم للدين، سواء من الحكام ورجال الدين أو المحكومين بالدين، فالجميع متأسلمون، والجميع يعرفون أن نبيهم وخلافاءه وكافة السلاطين من بعدهم وظفوا الدين لخدمة مصالحهم الشخصية، كما يوظفه أي متأسلم قدر استطاعته ومكانته لتحقيق مصالحه الشخصية. ولأن الحكام دائمًا جهلة ومستبدين وأتوا إلى السلطة من الأبواب الخلفية، يجدون دائمًا في هذا الدين عكازًا يتكئون عليه في تخدير الجماهير وتهدئة الثائرين وكبت المعارضين، وتغطية عجزهم وفشلهم وكافة سلوكياتهم الشاذة والمنحطة والفاسدة والإجرامية، فهو يمثل بالنسبة لهم الرافد الوحيد الذي يستمدون منه شرعيتهم وشعبيتهم والحصول منه على سند معنوي يبرر ويضمن التأييد الشعبي لإجراءاتهم السياسية مهما كانت مدمِّرة وقاتلة، فبقدر ما تتفاوت أو تتناقض سياساتهم وانحيازاتهم الطبقية والعنصرية سواء خرجت تصرفاتهم الحمقاء من يمين السلطة أو يسارها، بقدر ما يتبدل - تبعًا لها - موقع هذا الدين وصياغته الرسمية المعتمدة، وتفسيراته الرائجة والمهدئة.
بالطبع حاول جميع الحكام ومازالوا يحاولون نفي هذا، وفي نفس الوقت كانوا ومازالوا يمارسونه بأريحية شديدة. وبقدر ما يحاولون نفي هذه الممارسات عنهم، بقدر ما يضطرون إلى ممارستها بنفس الدرجة، خاصة وأنّه في حال السيطرة على المجال الديني بين شعوب مقهورة سياسيًا ومتخلفة ماديًّا ومعنويًّا أن يصبح الدين أداة من أدوات السلطة السياسية، ممَّا أفرز ويفرِز باستمرار جماعات متأسلمة، تسعى إلى العمل السياسي تبعًا لمنهج القرآن والسنة. من تلك الجماعات ”جماعة الإخوان المتأسلمين“ التي أصبحت فصيلًا شعبيًا قويا، لديه نهم شديد منذ تأسيسها على يد حسن البنا في عام 1939، للاستيلاء على السلطة في مصر بشتى الطرق والأساليب التي تتوفر لديه حتى وإن كانت إجرامية، وقد انضم إليهم البكباشي عبد الناصر في وقت مبكر من حياته، فساعدوه ومكنوه من الاستياء على السلطة مع مجموعة من ضباط الصف الثاني الفاشلين في الجيش، على أمل مشاركتهم معه في الحكم، تبعًا لأجندة دينية جاهزة لديهم، تعتمد الحكم بما أراد الله ورسوله. وكانوا يعرفون جيدا أن البكباشي ورفاقه يجهلون العمل السياسي تمامًا، وأنّهم كغيرهم من الحكام الجهلة والعجزة على مر التاريخ سوف يجدون أنفسهم مضطرِّين للاستفادة منهم كإسلامويين محترفين في تخدير الشعوب. ولكن عبد الناصر ما لبث أن خيَّب آمالهم وانقض عليهم بالتنكيل والقتل والسجن، فهو كديكتاتور مستبد لا يسمح قط بأن ينافسه على السلطة والنفوذ أو يشاركه أحد في مقاليد الحكم.
وفي نفس الوقت ولكي يحدث توازنًا عاطفيًا لدي الشعب المتديِّن بجهله المطبق، اعتمدت استراتيجية دينية تقوم على أساس احتواء المجال الديني وتأميمه لصالحه وصالح الطبقة العسكرية الداعمة له، بهدف اكتساب شرعية سياسية لا يستحقها، ومواجهة خصومة الإسلامويين داخل البلاد، أو خارجها ممن أسماهم بالرجعيين في مملكة آل سعود ودول الخليج وغيرها. فالدين بالنسبة له وكما فهم حقيقته ليس أيدولوجية (روحانية) قائمة بذاتها، إنما عنصرًا أساسيًا في النظرية السياسية منذ تأسيسها، لذلك حاول ربطه بخرافة "القومية العربية"، ودمجه كجزء أساسي في عملية التعبئة الجماهيرية ضد الإستعمار وإسرائيل، واعتباره بمثابة العمود الفقري الذي تنتصب عليه تصوراته عن عملية التنمية الإجتماعية المزعومة.
أما جماعة الإخوان المتأسلمين والتيارات المتأسلمة الأخرى من ناحيتها، فقد ركزت في أدبياتها على الإدانة الصريحة لكون عبد الناصر علمانياً ومعادياً للإسلاموية ويطبق الإشتراكية الإلحادية، في وقت شهد اعتقالات وتعذيب وإعدامات شملت أهم مفكريهم وعلى رأسهم سيد قطب. وبذلك انتهى الصراع على السلطة بكبت حركتهم، كأحد أبرز اللاعبين بورقة الدين في المجال السياسي، ومضت الدولة وحدها تمارس سلطة العمل في هذا السياق.
ومع ذلك نجد أن آراء السياسيين والمؤرخين عن تلك الفترة، وقد تراوحت بين اعتبار أن عبد الناصر لم يخلط الدين بالسياسة، وبين أنه لم يقطع قط مع الدين، بل قدم رؤية تثويرية (تجعل منه ثورة!) وتنويرية له، مثلما ذهب خيال المؤرخ المصري يونان لبيب رزق الذي قال: « إستطاعت الناصرية بمهارة أن توظف الوجه المضيء والحقيقي للدين لخدمة مواطنيها، بدلاً من جعله أداة للإرهاب والقهر والتسلط ».
أوضح عبد الناصر في كتاب ينسب إليه بعنوان: "فلسفة الثورة"، ضمن تحديداته القواعد التي تعتمد عليها مصر للانطلاق إلى فضاءات التنمية والعدالة بحسب تصوُّره، أن القاعدة الإسلاموية هي مصدر إلهام روحي وتاريخي له. لذلك كان لا بد من أن تمسك الدولة الناصرية بزمام الظاهرة الدينية، كي لا تنفلت من بين أيديها قواعد اللعبة السياسية، فأقدمت إلى جانب ”الخوازيق السياسية“ البلهاء على دس ”خوازيق دينية“ حمقاء في صلب الحياة الثقافية والعلمية، بحيث يصعب تماما انتزاعها والتخلص منها. هذه الخوازيق الدينية هي التي تفسر كيف بدأت ظاهرة التطرف الديني في مصر، وهي التي على أساسها يمكن القول بحق إن جمال عبد الناصر كان أميرَ المؤمنين وسادس الخلفاء الراشدين، أهمها:
1- أنه هو أول رئيس متأسلم في التاريخ يتم في عهده جمع القرآن مسموعا (مرتلا ومجودا) في ملايين الشرائط والأسطوانات بأصوات كبار القراء المصريين، ومن ثم توزيعه على أوسع نطاق في كل أنحاء العالم.
2- وهو أول رئيس متأسلم تمت في عهده ترجمة القرآن إلى كل لغات العالم، وإنشئت إذاعة القرآن التي تذيع القرآن على مدار اليوم.
3- وفي عهده تمت زيادة عدد المساجد في مصر من 1100 مسجد قبل الانقلاب العسكري إلى 21000 مسجد عام 1970، أي أنه في فترة حكمه (18 سنة) تم بناء (10 آلاف مسجد) وهو ما يعادل عدد المساجد التي بنيت في مصر منذ "الغزو الإسلاموى" وحتى عهده.
4- كما عمل على تطوير الأزهر وتحويله لجامعة عنصرية لا تقبل غير المتأسلمين، وتدرس فيها العلوم الطبيعية إلى جانب العلوم الدينية، وتم بناء آلاف المعاهد الأزهرية والدينية في ربوع مصر وافتتاح فروع لجامعة الأزهر في العديد من الدول المتأسلمة.
4- تم إنشاء مدينة البعوث الإسلاموية على مساحة ثلاثين فدانًا ومازال يدْرُس فيها عشرات الآلاف من الطلاب المتأسلمين القادمين من سبعين دولة إسلاموية يتعلمون في الأزهر ويقيمون في مصر إقامة كاملة على حساب الدولة المصرية، وقد زودت المدينة بناء على أوامره بكل الإمكانيات الحديثة.
5- أنشأ ”منظمة المؤتمر الإسلاموى“ التي جمعت كل الشعوب المتأسلمة، وتم تنظيم مسابقات تحفيظ القرآن على مستوى الجمهورية والعالم العربى والعالم الإسلاموي، وكان يوزع الجوائز بنفسه على حفظة القرآن.
6- في عهده أيضا تم وضع موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلاموى والتي ضمت كل علوم وفقه الدين في عشرات المجلدات وتم توزيعها مجانًا أو بأسعار رمزية في العالم كله.
7- كذلك سجلت بعثات نشر الإسلاموية في أفريقيا وآسيا في عهده أعلى نسب دخول في الدين الإسلاموى على مدى تاريخه، حيث بلغ عدد الذين تأسلموا بفضل بعثات الأزهر 7 أشخاص من كل 10 أشخاص، وهى نسب غير مسبوقة وغير ملحوقة في التاريخ حسب إحصائيات مجلس الكنائس العالمى.
8- وفي عهده صدر قانون بتحريم القمار ومنعه، كما أصدر قرارات بإغلاق كل المحافل الماسونية ونوادي الروتاري والمحافل البهائية، كما استمر إلغاء تراخيص العمل الممنوحة للنسوة العاملات بالدعارة التي كانت مقننة في العهد الملكى مقابل الحصول على رخصة العمل والكشف الطبى، وتدفع العاهرات عنها ضرائب للحكومة، وألغيت عام 1949.
9- وفي عهده جعل الدين مادة إجبارية في المدارس، ودخلت الفتيات لأول مرة إلى التعليم الديني كما تم افتتاح معاهد أزهرية لهن.
10- تم طبع ملايين النسخ من القرآن، وإهدائها إلى البلاد الإسلاموية، كما تمت طباعة كل كتب التراث الإسلاموي في مطابع الدولة طبعات شعبية لتكون في متناول الجميع.
ولكن الأهم من كل هذه الخوازيق الدينية هو فرض سيطرته الكاملة على جامع الازهر عام 1961، حيث أقر قانوناً بإعادة هيكلته، وأصبح تعيين شيخ الأزهر في يد رئيس الجمهورية، كي لا يخرج على طاعته، ويلتزم بدعمه دينيًا. وبناء على ذلك تم إجراء تغييرات جوهرية على المناهج الدراسية الأزهرية ومحتواها، فأُدخِلت إليها مواد حديثة وتم افتتاح كليات جديدة تشمل كلية الطب والهندسة …، وذلك بهدف تسييس النخبة الدينية واستقطابها إلى منظومته، دون التخلص منها كقوة اجتماعية ذات أثر كبير. وقام بإلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد منظومة القضاء الوطني، ليدخل إليه قضاة شرعيون من خريجي الأزهر، ممَّا تسبب في تصادم واضطراب بين الحكم الوضعي والحكم الشرعي في أمور كثيرة والذي مازال قائمًا حتى اليوم، إذ أصبحت العدالة المنشودة تعاني من إزدواجية القانون والفتوى.
هذه الإجراءات الجسورة من قبل عبد الناصر تسببت في تنحي شيخ الأزهر آنذاك ”محمد الخضر حسين“ الذي أزعجته قبضة الدولة على الأزهر، واعتباره كمصدر من مصادر سيطرة الدولة على حقل الدين وتدجين مؤسساته ودمجها في النهج السياسي الجديد.
إن الطغاة والمتسلطين المتأسلمين يعرفون تمام المعرفة أن الدين سلاح فعال في استمرار الطغيان والتسلط على شعوبهم، ويدركون في كل العصور والأزمنة مدى أهمية الرموز الدينية في تكريس صورهم على أنهم القادة الملهمين ، وأمراء المؤمنين الذي لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، لذلك استدعى عبد الناصر دور الأزهر إبان العدوان الثلاثي على مصر في إطار ما يخدم رؤيته ويدعم توجهاته، كما ساندته المؤسسة الدينية الرسمية من قبل، بدخولها دائرة الصراع السياسي المحتدم عام 1954، في ما عرف بأزمة الديمقراطية بين اللواء محمد نجيب والبكباشي عبد الناصر، فأصدر شيخ الأزهر خلالها فتوى تقول: « الزعيم الذي يتعاون ضد بلاده ويخذل مواطنيه فإن الشريعة تقرر تجريده من شرف الوطن». كذلك، وفي مضمار تبريرها للتنكيل والقتل والسجن لرموز الإخوان المتأسلمين أعلنت جماعة بالأزهر تعرِّف نفسها - بلا مصوِّغ علمي - بأنها ”هيئة كبار العلماء“ في بيان عام 1954 عن « انحراف هذه العصابة (تقصد جماعة الأخوان المتأسلمين) عن منهج القرآن في الدعوة». وجاء في البيان أنه « كان منهم من تآمر على قتل الأبرياء وترويع الآمنين وترصد لاغتيال المجاهدين المخلصين وإعداد العدة لفتنة طائشة لا يعلم مداها في الأمة إلا الله». كما قام بعض رجال الأزهر أمثال محمد بن فتح الله بدران وعبد المغني سعيد والشيخ محمد عبد اللطيف السبكي رئيس لجنة الفتوي بالأزهر، بالذهاب إلى السجون وإلقاء الخطب والمحاضرات ومناقشة معتقلي الأخوان في المسائل الخلافية، التي يعتبرون فيها النظام خارجاً عن الدين ومحاولة تصحيحها لهم أو تبريرها. وقدم الشيخ السبكي تقريرًا مطولًا لشيخ الأزهر في 13.1.1965، يهاجم فيه كتاب سيد قطب "معالم في الطريق"، وينتقد فيه تجهيل وتكفير قطب للمجتمع حكاماً ومحكومين، واتهمه بأنه « متهوس وشبيه بإبليس ويقود الناس للمهالك ليظفر بأوهامه». أنظر نص التقرير في كتاب صلاح عيسى، ”شخصيات لها العجب“ من ص 130 حتى 137، نهضة مصر للطباعة النشر والتوزيع، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
وهكذا حقق الدين أغراضه كأحد الأسلحة التي اعتمد عليها النظام الناصري لتمرير سياساته وتمديد نفوذه الإقليمي خصوصا في الدول المتأسلمة، وظل الدين قائماً لم يمسه تغيير في بنيته وخطابه سوى ما كان يسعي إليه مكتب الشؤون الدينية في الاتحاد الاشتراكي، بإعداد البحوث التي تطابق بين الإسلاموية والاشتراكية، وتنفي عن الأخيرة تهمة الإلحاد، فضلاً عن اجتماعات المكتب الأسبوعية بشيوخ وأئمة المساجد ورجال الوعظ الإسلاموي والمسيحي والمثقفين، لتنظيم محاضرات وتوزيع نشرات تشرح المفاهيم الإشتراكية والتنموية وحقوق العاملين في الإسلاموية والرد على معارضيها.
ومن ناحية أخرى بدأت تظهر على الساحة الاجتماعية مجموعة من المثقفين الذين اعتمد عليهم عبد الناصر في محاولة تطويع النصوص الدينية من أجل دعم فكرة العدالة الإجتماعية المزعومة وإبراز الصراع الطبقي في التاريخ الإسلاموي، على أساس أن الرسالة المحمدية جاءت كضرورة لتأزم الوضع الإجتماعي وانسدادته التاريخية، وللعمل على حل التناقض الطبقي وإعادة توزيع الثروة وتمكين المستضعفين في الأرض.
ثم جاءت الهزيمة الساحقة الماحقة في عام 1967 لتكشف عبث كل شيء، فالعناصر الجوهرية للدولة المتصلبة ظلت متماسكة لم يمسها جوهر التغيير، وقيم الدولة الحديثة من المجتمع المدني وسيادة القانون والعلمانية والمواطنة التي طالما تشدق بها عبد الناصر، وظلت غائبة ومغيبة عمداً، وذلك لأن النظام نفسه كان غير مؤهل لهذا المخاض بأي صورة ولا يملُك آلياته وإنتاج كادر حداثي ليصبح عضواً في الحضارة الحديثة بقيمها وإنتاجها المادي والعلمي والثقافي.
وفي خضم هذا الارتباك السياسي الناجم عن القفزات العشوائية والإجراءات الهمجية، كان لابد من أن تتزايد الكثافة السكانية بشكل راديكالي، لينشأ شعب ضعيف البنية من الناحيتين المادية والمعنوية، بحيث استوعب دون عناء المد الديني الإسلاموي الذي انطلق في السبعينات من القرن الماضي في أحداث الفتنة الطائفية، وانتشار الحجاب بين الفتيات، وعدم الإختلاط بين الجنسين، ومنع الأنشطة الأدبية والفنية في الجامعات.
قضت الهزيمة الكارثية شعارات النظام وتهاوت دعايته السياسية، فقدمت الإسلاموية السياسية نفسه بديلاً منافساً لكل ذلك. لقد أحدث النظام الناصري بغبائه فجوات عميقة في بنية النظام الطبقي والاجتماعي في مصر، ولم يستطع بجهله أن يدشن لوعي جديد لديه المقدرة على استقبال تداعيات التغيير الحداثي بعيدًا عن التصلب الديني، ولم يمتلك أدوات المعرفة العلمية وقيمها السياسية والاقتصادية الجديدة، ممَّا أفسح المجال لتكوين الحاضنة الأولى للمد الديني الإسلاموي المتخلف الملتزم بالإستخدام النفعي للدين ويحصر ذهنيته داخل الأساطير والإيمان بالغيبيات والحلول العجائبية.
بالطبع لم يسلم الأقباط بدورهم من الاستغلال السياسي لديانتهم، فقد رافقت الهزيمة حادثة تجلي العذراء فوق إحدى كنائس ضاحية الزيتون عام 1968، ومن ثم تبنتها وسائل الإعلام الناصرية وروجت لها باعتبارها ذات مغزى سياسي، وقالت الكنيسة في بيان لها: "سيكون هذا في نصرتنا لكي ترتفع الروح المعنوية لأن العذراء يحزنها ما جرى وهذا الظهور إشارة من السماء على أن الله لا يرضى عما يحدث في القدس وأن النصرة ستكون لنا بإذن الله".
المفكر السوري صادق جلال العظم (1934 - 2016) اعتبر أن ذلك هو إحدى المناورات التي استخدمتها الدولة "لتصفية آثار الهزيمة".
ووصف في مؤلفه: "النقد الذاتي بعد الهزيمة": «مأسوية هذا الحال بقوله إن تصوير الأطياف الروحانية وربط تحرير القدس والصمود في وجه العدو بظهور العذراء تجيء على لسان أجهزة إعلام بلد يعتبر نفسه ثورياً اشتراكياً كان يجب أن يضع إمكاناته الإعلامية في خدمة الشعب بغية تثقيفه لا بغية تضليله والشطط في متاهات الهلوسات الدينية وتزيين الخرافات بمظهر الحقائق العلمية». 
وهكذا كان البكباشي عبد الناصر تركيبة عسكرية مضطربة، إسلاموية عروبية وطنية اشتراكية ومحصلتها النهائية أضرت مصر ولم تنفعها بشيء.



#ياسين_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الديكتاتور الحقير!
- ومازال العمل جاريًا تحت تعريشة بني ساعدة!
- إشتراكية عبد الناصر وما آلت إليه
- لماذا خرج المصريون من التصنيف العالمي للإنسانية؟
- توجيهات سيادة الرئيس
- إلحاد الأمس وإلحاد اليوم
- نتيجة التخبُّط بين ثقافتين
- الإنسان بين الوهم والواقع
- ما سر عداء العروبان والمتأسلمين لعلم المنطق؟
- هل السفاهة من خصال العربان؟
- رد على تعليق الأستاذ منير كريم
- إعتذار المشايخ عن فتاويهم المدمِّرة!
- القول المعقول في أخلاق الرسول
- خلاصة البيان في تأويل القرآن
- تجديد التراث الذي يريده المشايخ
- ما سبب إضطراب الشخصية المصرية؟!
- الشجرة المحتارة بين الغباء والحضارة!
- لماذا أصبحت مصر مرتعًا للاغتصاب الجنسي؟
- ومازالت الصعلكة مستمرة! 2/2
- ومازالت الصعلكة مستمرة! 1/2


المزيد.....




- المحكمة العليا الإسرائيلية تعلق الدعم لطلاب المدارس الدينية ...
- رئيسي: تقاعس قادة بعض الدول الإسلامية تجاه فلسطين مؤسف
- ماذا نعرف عن قوات الفجر الإسلامية في لبنان؟
- استمتع بأغاني رمضان.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ا ...
- -إصبع التوحيد رمز لوحدانية الله وتفرده-.. روديغر مدافع ريال ...
- لولو فاطرة في  رمضان.. نزل تردد قناة وناسة Wanasah TV واتفرج ...
- مصر.. الإفتاء تعلن موعد تحري هلال عيد الفطر
- أغلق باب بعد تحويل القبلة.. هكذا تطورت أبواب المسجد النبوي م ...
- -كان سهران عندي-.. نجوى كرم تثير الجدل بـ-رؤيتها- المسيح 13 ...
- موعد وقيمة زكاة الفطر لعام 2024 وفقًا لتصريحات دار الإفتاء ا ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - شعب بين المطرقة والسندان 5/1