أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - من تاريخية الانتلجنسيا العراقية : (1-8)















المزيد.....


من تاريخية الانتلجنسيا العراقية : (1-8)


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 6731 - 2020 / 11 / 13 - 09:46
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


1.1- من تاريخية الانتلجنسيا العراقية : (1-8)

{ إن المعرفة لا تولد الأخلاق، والأفراد المثقفين، ليس بالضرورة أناساً صالحين }
جان جاك روسو
{كل عودة للاصول هى عودة مؤكدة للبربرية }
نيتشة

بعد أن استقرت اوضاع تبعية العراق للدولة العثمانية منذ عام 1638، توزع سكان العراق الحديث بين ثلاث فئات اجتماعية وهي : البدو الرحل ؛ الفلاحون الزراع ؛ وسكان المدن. وقد خضعت هذه الصيروة السكانية، لحكم قانون التطور الاجتماعي، فتغيرت النسب إلى مجموع السكان، لكل فئة منهم بمرور الزمن الحضاري وولوج عالم التقدم وبخاصة بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، كما يوضحها الجدول التالي:
جدول يوضح نسب التركيب السكاني العراقي للسنوات 1867-1957
السنة البدو العشائر(الفلاحون المتوطنون ) المدن المجموع
1867 35% 41% 24% 100%
1905 17% 59% 24% 100%
1930 7% 68% 25% 100%
1957 1% 58% 41% 100%
المصدر: مستل من د. سليم الوردي، ضوء على ولادة، ص. 53، مصدر سابق
ومن الجدول أعلاه يتضح أن أغلبهم يعيشون في الريف كقبائل رحل أو فلاحين متوطنين أو في مرحلة انتقالية بين هاتين الحالتين.. وهم منظمون أنفسهم على وفق القيم العشائرية المستندة على أساس بطرياركي ابوي، طالما أن الشيخ مرتبط برابطة الدم مع عشيرته وكان بمثابة الرئيس السياسي، إن جاز التعبير، للعشيرة. وفي هذه الحالة كان التضامن المتبادل بين شيخ العشيرة وأفرادها هو السمة المميزة. كما تمثل العصبية القبلية مصدر المسؤولية المشتركة في المجتمع العشائري.
أما أرض العشيرة فقد "... ظلت هي الأساس في ملكية الأرض، إذ لم تكن هناك ملكية فردية في الغالب.. ولذلك فأبناء القبيلة بموجب هذا النظام لم يكونوا افرادا مالكين ولا عمالا زراعين، بل مزارعين في أرض يملكها الجميع... ". بمعنى آخر إن هذا النمط من العلاقات يتوائم مع إقتصاد الكفاف دون غيره، حيث ان اقتصاد القبيلة مكتفي ذاتيا إلى درجة كبيرة. لكن هذا النوع من الاقتصاد لم يصمد أمام التطورات في الحقول الاقتصادية والتجارة الخارجية وتطور وسائل الانتاج الاجتماعي.
لقد بدأت ملامح هذا الاقتصاد بالتلاشي التدريجي منذ العقد الرابع من القرن التاسع عشر عندما بدات تتكون ملامح السوق العراقية ، وإزدادت وتائرها تعجيلا منذ إصلاحات مدحت باشا والي ولاية بغداد عام 1869 وبخاصة بعد تشريع قوانين الأرض العثمانية التي سمحت بنقل ملكية الأرض وتسجيلها بأسماء الشيوخ وليس العشيرة لذا تركزت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية بأيديهم للشيوخ والملاكين والملاكين الغائبين في المدن. وأخذت إطارها الأوسع بعد الأحتلال الأول حيث طبقت قوانين الأرض في الهند على الريف العراقي منذ احتلالها للعراق، وأكملتها الدولة العراقية في سلسلة قوانين منظمة .
وجهت هذه التحولات في الملكية الحقوقية للأرض ضربة قاضية إلى اقتصاد الاكتفاء الذاتي من جهة. ومن جهة أخرى حررت الشيوخ من ضرورة الاعتماد على قدرات العشيرة القتالية واعتمادهم على القوة الاقتصادية المتمثلة بالملكية الخاصة للأرض والمكانة الاجتماسياسية التي توفرها لهم السلطة. مما نجم عنه تفكك العلاقات التضامنية بين أفراد العشيرة وسيادة النظام شبه الاقطاعي.. رغم النزعة المتأصلة للمساواة والمشاعية في الريف العراقي، لآنه تاريخيا كانت ملكية الأرض للدولة وليس إلى الاشخاص.
لقد أدت هذه الصيرورات الانتقالية في البنية الاقتصادية، إلى تغيرات في نسبة القبائل البدوية قياسا إلى مجموع السكان، والتي وأخذت بالتناقص، كما وضحها الجدول أعلاه. وقد لعبت عوامل عدة في التحقيق المادي لهذه الصيرورة، التي بموجبها تحول الرعاة المتنقلون إلى فلاحين متوطنين منها :
- قانون الطابو الذي سنه مدحت باشا ؛
- تمليك الاراضي الزراعية لزعماء البدو بغية استقرارهم وهو الاكثر فعالية ؛
- سياسة القهر التي اتبعها الولاة العثمانيون ضد البدو الرحل بغية اسكانهم ؛
- تأسيس الدولة المركزية العراقية وسياسة الاعتماد على الشيوخ والاقطاعيين وبخاصة القبائل الكبرى ؛
- سياسة قوى الاحتلال الأول (1914-1932) المعتمدة على اسناد مؤسسة العشيرة ؛
- كثرة العوامل الطاردة في الصحراء دفعتهم إلى الجنوح نحو الاستقرار ؛
- توافر العوامل الجاذبة بالريف أو في الارياف القريبة من المدن مقارنة بحياة الصحراء وتصحرها المعنوي والمادي؛
- العوامل الذاتية المتمثلة في تأمين مستوى معيشة أفضل من التنقل الدائم في الصحراء وما يصاحبه من غزو ونهب كوسيلة لتأمين مستلزمات الحياة، لأن حياة الصحراء خلقت من البدوي { نهابا وهابا} كما يقول السيسلوجي علي الوردي؛
- الاستقرار النسبي في الأمن ؛
- الارباح المتوقعة من العملية الزراعية والانتقال من اقتصاد الكفاف إلى اقتصاد السوق، بخاصة بعد افتتاح قناة السويس وتوسع التجارة الخارجية.
هذه العوامل وغيرها، كان لها التأثير الكبير والمباشر على استقرار العلاقات الجديدة بين شيخ العشيرة والملاكين الكبار مع الفلاحين , لذا ازدادت نسبة العشائر المتوطنة على حساب العشائر المتنقلة. وأخذت هذه الصيرورة تفرض نفسها بحكم تبدل علاقات الانتاج الزراعية، على العشائر المتوطنة ذاتها، حيث بدأت العناصر الشابة الفائضة عن الحاجة بالهجرة نحو المدن منذ العشرينيات وتعمقت في الخمسينيات .. نتيجة التحول الكبير في ملكية الأرض الحقوقية، من ملكية مشاعية للعشيرة إلى ملكية خاصة لرئيس العشيرة ، المقترن بالتعسف في إدارتها من الشيوخ ووكلائهم من السراكيل. وبهذا تم الانتقال إلى المجتمع شبه الاقطاعي. وتمثل هذه سُنّة الحراك الاجتماعي المتلائم مع تطورات القوى المنتجة، حيث مرت هذه الصيرورة بما يماثلها في عموم المجتمعات الانتقالية وبخاصة عند الانتقال العلاقات الصناعية الرأسمالية وتسليع وسائل الانتاج بما فيها قوة العمل وتُشيء أغلب مناحي الحياة.
كما وضح الجدول أعلاه التطور العاصف لسكان المدن واتساع نطاق تأثيرها الاجتماعي والمعرفي والخدمي فكانت هي الأخرى من عوامل الجذب وتحقيق صيرورة الانتقال من الصحراء إلى الريف ومن الريف إلى المدينة " ... ومثلما هو الحال مع أوربا في فترة أسبق، كان نمو المدن شرطاً مسبقاً لتغيير أنماط الهوية السياسية ولظهور النزعة الوطنية بوجه خاص. فإحياء المناطق المدينية، قدر تعلق الأمر بالسكان وبالنشاط الاقتصادي، جعل أعداد كبيرة من العراقيين يتواصل بعضهم مع البعض الآخر، كما أدى إلى نمو في الصحافة وزيادة التعليم. ورغم أن نمو هذه المؤسسات كان ضئيلا جداً حتى بالمقاييس الأقليمية، لكنه مثل، مع ذلك، يقظة لوعي سياسي هام لدى سكان المدن المتعلمين... ."
أما الناحية التعليمية فقد كانت الأمية في مطلع القرن المنصرم، على نسبة عالية تفوق الـ 90% من مجموع السكان ومن ثم انخفضت نسبتهم إلى حوالي ثلاثة ارباع السكان حسب احصاء 1957. في حين يقول مصدر أخر: " ...انطوت صفحة الحرب العالمية الأولى ولم يزد عدد المتعلمين في العراق على 1% من مجموع السكان، إذ لم يكن الأتراك جادين في تعليم رعاياهم العرب... ".
لقد ظهرت تاريخياً الطبقة الوسطى مع الثورة التجارية في اوربا في عصر النهضة وأسهمت بقوة "... في تغيير النظام الاجتماعي الذي كان قائماً على وجود طبقتين أساسيتين هما : الطبقة الارستقراطية وطبقة العوام ... ". ومن ثم ظهرت فئة الانتلجنسيا الجديدة وبوادرها التأثيرية، بصورة عامة، منذ اضمحلال العلاقات الاقطاعية في أوربا، وتطور المدن والتي كانت آنذاك تمثل آجنة العلاقات المستقبلية في البناء الفوقي والمعبرة عن التطلع الانساني ضمن صيرورات تحقق غائية الارتقاء بالانسان وواقعه إلى مراحل تطويرية أعلى، فكانت فئة لذاتها.. تطورت وتبلورت كفئة في ذاتها اثناء التحولات الدراماتيكية المرتبطة بالتطور العاصف لقوى الانتاج الاجتماعي وعلاقاته ضمن تطور النمط الرأسمالي، عندما ولد في رحم الاقطاعية، ومن ثم التشكيلة الاجتماعية للرأسمالية، عندما تم الانتقال من المنفاكتورة الحرفية حيث العمل اليدوي، إلى العمل الآلي، الذي ينبثق منه تقسيم العمل الاجتماعي، والذي بدوره يلغي فوارق الجنس والسن ( عمل النساء والاطفال) . بمعنى أخذ تطور القوى المنتجة يشق طريقه في الورشات والحرف في البدء، ومن ثم تطور في المصنع ( شبه الميكانيكي) ومن ثم (الميكانيكي) وبعدها العمل المؤتمت ، كل هذا التطور رافقه نقلة من الاقتصاد القومي إلى القاري ومن ثم العالمي وأخيرا الاقتصاد الكوني .
إن هذا التطور من جانب آخر، عمق من ماهيات عملية الانتاج الاجتماعي وقسمها إلى عمل عضلي فيزياوي، وعمل عقلي ذهني، إذ تضاءل الأول لصالح الثاني، والذي حسب السيسيولوجي فالح عبد الجبار (يجد تعبيره في تعاظم القطاع الرابع - صناعة المعلومات). ومن هذا الصنف االثاني تكونت فئة الانتلجنسيا الاجتماعية. وكلما تطورت قوى الانتاج، وبضمنها العلوم والافكار كتجسيد معبر عن ذاته ضمن هذه القوى، إزداد موقع المنتجين الماديين للمعرفة والثقافة سواءً كان انتاجا مجرداً أو عملياً .
كما أنهم يلعبون الدور الرئيسي في استحواذ "... المنتجون الثقافيون على سلطة نوعية هي السلطة الرمزية ، بالمعنى الضيق، لإظهار الأشياء وجعل الناس يؤمنون بها. ويضيف أنهم يكشفون عن خبرات مختلطة، غامضة وغير متشكلة، أو غير قابلة للتشكل، للعالمين الطبيعي والاجتماعي، وبهذا يأتون بها للوجود، وقد يضعون هذه السلطة في خدمة المسيطرين. لا بل أنهم قد يضعون سلطتهم، «بمنطق صراعهم داخل مجال السلطة في خدمة الخاضعين لها هنا يكمن السر إذن. وهنا تحديدا يتوفرون على القوة التي يفتقر لها «العاديون». انهم، بالأحرى، يملكون الرأسمال المؤثر، البلاغة، الرموز، اللغة. هم سادة الفنون والآداب، وبإمكانهم أن يقلبوا الحق باطلا والباطل حقا. بإمكانهم إقناعك بالقضية ونقيضها، وحينئذ ستقول لهم «غصبن عله خشمك» ـ أي نعم! تقول ذلك وأنت تفرّ بأذنيك حيرة. نعم، تسمعهم وتصمت عاجزا رغم أن حدسك يخبرك أنهم مخادعون. تقرأ لهم وتهزّ رأسك موافقا. وفي الخلفية، تتخيل فراشات ملونة تحلق من هذه الزهرة إلى تلك بحثا عن الرحيق... ". ولابد من التنويه من أن مصطلح (الانتلجنسيا Intelligentsia) هو روسي الأصل، أطلق في حينها على الفئات العاملة في الحقل الفكري قبل الثورة البلشفية عام 1917، وبالتحديد في منتصف القرن 19، للدلالة على الفئة الاجتماعية الصغيرة في حينها ذات الثقافة الأوربية الغربية والذين تلقوا تعليما جامعيا أوربياً. وتطور مضمونه بالترافق مع التطور العاصف للعلاقات الرأسمالية وتعمق تقسيم العمل الاجتماعي، في سيرورة الانتاج المادي .
ولقد لقى مصطلح الانتلجنسيا الغموض لروائجه وكثرة توظيفاته وتباين مدلولاته، خصوصاً أنه يجاور مفهوم المثقف فيغدو (أحياناً) مرادفاً له. ويحاول بعض الكتاب من التمييز بين " المثقفينIntellectuals ، والانتلجنسيا Intelligentsia ، ويعزوون هذا التفريق إلى أن مصطلح الانتلجنسيا عندما تم استخدمه لأول مرة في روسيا وبولونيا، قصدوا به آنذاك أولئك الذين تلقوا تعليماً جامعياً يؤهلهم للاشتغال بالمهن الفنية العليا. وقد اتسع استخدامه وامتد مدلوله إلى كل الذين ينخرطون في مهن غير يدوية. واصبح ما يميزه هو المثقف الذي تقترن همومه بهموم شعبه وعمله الدؤوب إلى التغيير الاجتصادي ليخلق تأريخيا جديداً.
أما المثقفون فهم أولئك الذين يسهمون مباشرة في ابتكار الأفكار أو نقدها. وتضم هذه الفئة المؤلفين والعلماء والفلاسفة والمفكرين والمتخصصين في النظريات الاجتماعية والمحللين السياسيين.. والمثقف هو الذي يضع أوسع نظرة لتغيير المجتمع وأشملها وهو الذي يعمل لصالح القطاعات العريضة فيه وهو الذي يتميَّز بما لديه من قدرة على النقد الاجتماعي والعلمي.
ولمصطلح الانتلجنسيا عدة تعاريف ذات دلالات متقاربة وحسب رؤية من يستخدمه، وتتفق أغلب التعاريف على أنه "... معيار التحصيل العلمي والجامعي، وهو المعيار الرئيس المعتمد في الكثير من التعاريف، لا سيما بالنسبة للمثقف في البلدان النامية. وفي هذا الصدد يذهب ريمون آرون، وهو يتحدث عن شمال أفريقيا، إلى القول: يكفي أن يكون المرء قد قضى عدداً قليلاً من السنين على مدرجات الكليات لكي يتحق هذا اللقب.. وانهم سيستحقون هذا اللقب بمعنى أنهم اقتبسوا الكفاءة التي تمكنهم من اشغال بعض الوظائف ... ".
بمعنى أن هذه التعاريف المتعددة تتفق على الجوهر، الذي معياره العام هو التحليل المعرفي/العلمي في حلته الابداعية المقترنة بالنقدية الموضوعية، أي نوعا من المعرفة الحديثة، ولكنها تختلف في سعة الشمول للفئات المنضوية تحته. ونحن نطلقه في ظروف البلدان النامية، والعراق منها، على العاملين في إنتاج المعرفة والثقافة وإعادة انتاجهما. وبدورنا استخدمنا المفهومين بمعنى واحد.. طالما أن المثقفين "... هم أولئك الأشخاص من المتعلمين الذين يمتلكون المعرفة ولهم طموحات سياسية، وعلى أساس هذه المعرفة الموضوعية والطموحات السياسية وتأملاتهم الذاتية.. يسعون إلى التأثير في السلطة السياسية في اتخاذ القرارات الكبرى، والى صياغة ضمير مجتمعهم، وكذلك صياغة أحكامهم على الواقع دون أن يستخدموا هذه الأحكام مباشرة أو بالضرورة من خبراتهم الحسية... ".
وفي الوقت نفسه يشير مصطلح الانتلجنسيا، حسب تعريف معجم أكسفورد لعلم الاجتماع إلى: " طبقة المتعلمين بصورة عامة في أيّ من المجتمعات, وإلى المثقفين والمعنيين بشؤون الفكر على وجه التحديد. وقد حصر تاريخيا استخدام هذا المصطلح ونوقشت أصوله أيضا، وظهر استخدامه بصورة مبكرة في القرن التاسع عشر خاصة في روسيا وبولونيا. بينما كطبقة اجتماعية اختلفت في البلدين لأسباب تاريخية جلية " .
أما غرامشي فقد نظر ووسع من ماهيات الدور الذي يؤديه المثقفون ويربطه بتطور القوى الانتاجية والمعرفية، يقول :" ... لم يعد بالإمكان أن يتمحور نسق حياة المثقف الجديد حول الفصاحة والإثارة السطحية والآنية للمشاعر والأهواء بل صار لزاماَ َعليه أن يشارك مباشرة في الحياة العملية كبانِ ِومنظم مقنع دائماَ، لأنَّه ليس مجرد فارس منابر. بات لزاما عليه أنْ يتغلب على التفكير الحسابي المجرد، فينتقل من (التقنية– العمل) إلى (التقنية – العلم)، وإلى النظرة التاريخية الإنسانية، وألا يبقى اختصاصيا دون أنْ يصبح – قائداَ َ- أي رجل سياسة بالإضافة إلى كونه اختصاصيا " .
كما أن غرامشي قد ميز بين نوعين من المثقفين هما: "... المثقف العضوي والمثقف التقليدي (traditional intellectual) وقد عنى بالمثقف العضوي( organic intellectual ) ذلك المثقف الذي ينتمي انتماء عضوياَ للكتلة السياسية والاجتماعية التي ينتمي إليها وما يبديه من أجل إنجاح مشروعها، وهو غير المثقف التقليدي الذي يوظف أدواته الثقافية للعمل على استمرار هيمنة الكتلة التاريخية السائدة المشكَّلَة من الإقطاع والبرجوازية والفئة العليا الأكليروس مقارناَ هذا بالأول الذي يمثل الفلاحين في الجنوب والعمال في الشمال الإيطالي. والمعني بالدرجة الأولى هنا هو المثقف العراقي العضوي الذي تكون كتلته التاريخية هي المجتمع والوطن العراقي والمشروع الديمقراطي الحضاري الذي واتت فرصته الآن. المثقف العضوي الذي تكون أهدافه ومعطيات إنتاجه الثقافي البحت ومن ثمَّ معيار نجاحه متمثِّلة في العراق والعطاء المقدَّم له. إنَّ المثقف هو الذي يضع أوسع نظرة لتغيير المجتمع وأشملها وهو الذي يعمل لصالح القطاعات العريضة فيه وهو الذي يتميَّز بما لديه من قدرة على النقد الاجتماعي والعلمي. والمثقف كما يرى جان بول سارتر أيضاَ هو إنسان يتدخل ويدس أنفه فيما لا يعنيه... "
بمعنى آخر"...إن المثقف هو الكائن الذي يعرف.. إنه يعرف أكثر مما يجب على وفق مقاييس السلطات السائدة، ولهذا فهو يقف في الجانب الأخر. فإذا كانت السلطة هي من تضع الحدود فإن المثقف هو من يخترق هذه الحدود. ومن هنا يكون المثقف هو الكائن الذي ترتاب فيه السلطات بأشكالها، وتحسب له حسابا لأنه يعرف أكثر، ولأنه يتخذ الجهة الضد من السلطات، ولأنه يخرق موجباتها... إن المثقف وجود متوتر بين العقل والواقع.. بين السؤال وجوابه الذي بلا شك يحوي سؤالا آخر .. بين المعلوم والمجهول.. بين ماهو قائم وما هو محتمل وممكن.. بين الحاضر والمستقبل... ".
ويشير برهان غليون إلى ضرورة توافر أمربن مترابطين بالنسبة إلى المثقف وهما :
1- القيام بممارسة منتظمة للتفكير في الواقع الاجتماعي - السياسي ؛
2- المشاركة في تغير الواقع ذاته.
وهكذا نرى أن مهمة المثقف وبخاصة العضوي ، يجب أن تكون مستمرة ودائمة التطور، وتكييف مهامها على وفق مستجدات الظروف الحسية الواقعية. بمعنى أن مهمة المثقف حالة متداخلة جدلياً مع التطور الفكري عامةً وهي النافي الطبيعي والنوعي للمثقف التقليدي الخاضع لتأثيرات الايديولوجية الوصائية والخلاصية واللا عقلانية.
وتأسيسا على ما تقدم فمن الناحية التاريخية وظروفها المحسوسة، فقد بدأت ملامح تشكل هذه الفئة الاجتماعية بالعراق في غير الظروف الموضوعية والذاتية التي ظهرت فيها في العالم الرأسمالي الاوربي ، حيث تقسيم العمل الاجتماعي على اهبته وبخاصة في العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر. لكنها، كما أعتقد، إن ظروف نشأتها في العراق هي قريبة، إلى حدٍ ما، مع نشأتها في روسيا حيث كان نظام العبودية له السيادة في الريف الروسي ولغاية إلغائه قانونيا عام 1863، والتطور الرأسمالي متأخر نتيجة ضعف قوى الانتاج وسيادة تعددية للانماط الاقتصادية لغاية ثورة اكتوبر.
الهوامش
- فؤاد حسن الوكيل، جماعة الاهالي في العراق، ص.14، ط.3، دائرة الشؤون الثقافية،بغداد 1986
2 - أصدرت سلطة الانتداب البريطاني والحكومات العراقية جملة من القوانين المشرعنة للنمط الاقطاعي في الريف واهمها : قانون تسوية حقوق الأراضي رقم 50 لسنة 1932؛ قانون اللزمة رقم 51 لسنة 1932؛ قانون العقد رقم 55لسنة 1932، وقانون حقوق وواجبات الزراع رقم 28 لسنة 1933، وقانون استملاك الأموال غير المنقولة رقم 43 لسنة 1934. بالاضافة إلى قانون دعاوي العشائر
3 - تعتبر خطة مدحت باشا " ... لتوزيع الأراضي على العشائر كانت أعظم ما قام به. تلك الخطة المعروفة بـ (فرمان مدحت باشا المؤرخ 13 شوال سنة 1387، بشأن الأراضي العقارية في العراق) والتي أدخلت مع تعليمات الحكومة العثمانية للعام 1864(أمورالاراضي في دور تاريخي جديد)... ". مستل من فؤاد حسن الوكيل، جماعة الاهالي، ص.16، مصدر سابق.
4 - للمزيد راجع محمد جبار الجمال، بنية العراق الحديثة، تاثيرها الفكري والسياسي 1869-1914، ص.32، بيت الحكمة، بغداد 2010.
5 - لقد بينَ "... استبيان جزئي أجري للنازحين من الريف إلى بغداد عام 1957، أن ترتيب أولوية أسباب النزوح تتلخص في الآتي: الجوع ؛ تعسف الشيوخ الاقطاعيين؛ الخلاف مع الشيوخ بسبب حصص الإنتاج؛ عدم وجود ماء ؛ ... لقد انتهت الفترة الملكية في الوقت الذي كان الفلاحين مدينين أكثر بسبب التعسف المركب الممارس ضدهم من البريطانيين - وإن كان بشكل غير مباشر- والحكومة والشيوخ والعسكريين وغيرهم . وحدا الوضع المزري للمواطنين إلى أن يصف طبيب بريطاني الفلاح العراقي بأنه ( عينة مَرَضية غلى قيد الحياة)مقدرا متوسطعمره بين 35و39 اماً فقط". رغم أن هذه العوامل تعتبر من العوامل الطاردة من الريف، مستل من علي طاهر الحمود، من صدمة الهوية إلى صحوة الهويات، ص.126و 152، مؤسسة مسارات ، بغداد2012.
6 - إريك دافيس، مذكرات دولة، ص.61، مصدر سابق. . حتى تم منذ سبعينات القرن المنصرم ترييف المدن وغزوها من قبل الريف حيث بسط معاييره وقيمه على المدن العراقية، وتسارعت هذه الصيرورة منذ الحرب العراقية -الايرانية.
7 - مستل من فؤاد حسن الوكيل، جماعة الاهالي، ، ص. 51،مصدر سابق
8 - د. عامر حسن فياض، جذور الفكري الديمقراطي في العراق الحديث 1914-1939، ص. 40، الشؤون الثقافية، بغداد، 2002.
9 - يقصد بالبناء الفوقي: مجمل آراء المجتمع السياسية والحقوقية والفلسفية والسلوكية والجمالية والدينية ، كذلك العلاقات والمؤسسات والتنظيمات المطابقة لها.ومجمل هذه الآراء تعكس واقع البنية التحتية (العلاقات الاقتصادية) المباشرة. ويتمتع البناء الفوقي في استقلاليته النسبيةعن هذه العلاقات الاقتصادية. ويشمل على ثلاثة أجزاء : الأول هو الذي يعكس الجزء الاكبير من الآراء عن البناء التحتي ، والثاني يمثل جزء من العلاقات القديمة، والثالث أجنة العلاقات المستقبلية. وهذه الاجزاء بجملتها تؤثر جدليا في البناء التحتي وتتأثر به بالأساس. اما البناء التحتي فهي جملة العلاقات الاجتماعية السائدة في حقول الانتاج المادي والتبادل والتي تؤلف البنية الاقتصادية للتشكيلة الاجتماعية.
10 - محمد غازي الأخرس، المثقفون والفراشات، جريدة الصباح، في 7/9/2016، بغداد.
11 - للمزيد أنظر: الدكتور خالد السلام، الرأسمالية والمثقفون، الثقافة الجديدة العدد 78، بغداد 1976.
12 - د. عامر حسن فياض، جذور الفكر الديمقراطي، ص. 129، مصدر سابق.
13- وليد خالد أحمد، محددات الدلالة اللغوية والمفاهيمية لمفردة الانتلجنسيا، الزمان في 16/12/ 2012، لندن.
14--" مستل من د. الدكتور حميد الهاشمي، لأنتلجنسيا العراقية والدور الوطني المطلوب، موقع الحوار المتمدن في 12/8/ 2006. http://www.ahewar.org
15 - المصدر السابق.
16 - عيسى اموي، مستل من http://www.lawjo.net
17 - سعد محمد رحيم، انطقة المحرم، المثقف وشبكة علاقات السلطة، ص. 26، دار ميزوبوتاميا ومكتبة عدنان ودار صفحات، بغداد 2013.
18 - د . برهان غليون، الانتلجنسيا والسياسة والمجتمع، موقع http://hekmah.org/



#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن الجيش والعوائل العسكرية في العراق الملكي: (3-3)
- عن الجيش والعوائل العسكرية في العراق الملكي: (2-3)
- عن الجيش والعوائل العسكرية في العراق الملكي: (1-3)
- 14 تموز سيبقى عيداً وطنياً
- إبراهيم الخياط كمثقف عضوي
- التحليل السياسي والتأريخي لتقارير مديرية الأمن العامة في الج ...
- التحليل السياسي والتأريخي لتقارير مديرية الأمن العامة في الج ...
- التحليل السياسي والتأريخي لتقارير مديرية الأمن العامة في الج ...
- التحليل السياسي والتأريخي لتقارير مديرية الأمن العامة في الج ...
- التحليل السياسي والتأريخي لتقارير مديرية الأمن العامة في الج ...
- من ماهيات رفع شعار الوحدة الفورية الاندماجية :
- لتحليل السياسي والتأريخي لتقارير مديرية الأمن العامة في الجم ...
- التحليل السياسي والتأريخي لتقارير مديرية الأمن العامة في الج ...
- التحليل السياسي والتأريخي لتقارير مديرية الأمن العامة في الج ...
- التحليل السياسي والتأريخي لتقارير مديرية الأمن العامة في الج ...
- لتحليل السياسي والتأريخي لتقارير مديرية الأمن العامة في الجم ...
- السلبيات الناجمة عن التغيير الجذري في 14 تموز:
- محاولة تاريخية مقارنة: بين ثورة العشرين وثورة الشباب الحالية
- الأهمية التاريخية والغائية لثورة 14 تموز (3-3):
- الأهمية التاريخية والغائية لثورة 14 تموز (2-3):


المزيد.....




- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...
- دراسة ضخمة: جينات القوة قد تحمي من الأمراض والموت المبكر
- جمعية مغربية تصدر بيانا غاضبا عن -جريمة شنيعة ارتكبت بحق حما ...
- حماس: الجانب الأمريكي منحاز لإسرائيل وغير جاد في الضغط على ن ...
- بوليانسكي: الولايات المتحدة بدت مثيرة للشفقة خلال تبريرها اس ...
- تونس.. رفض الإفراج عن قيادية بـ-الحزب الدستوري الحر- (صورة) ...
- روسيا ضمن المراكز الثلاثة الأولى عالميا في احتياطي الليثيوم ...
- كاسبرسكي تطور برنامج -المناعة السبرانية-
- بايدن: دافعنا عن إسرائيل وأحبطنا الهجوم الإيراني


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - من تاريخية الانتلجنسيا العراقية : (1-8)