أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - تأملات في الزاوية المغربية















المزيد.....


تأملات في الزاوية المغربية


يوسف رزين

الحوار المتمدن-العدد: 6678 - 2020 / 9 / 16 - 14:58
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


دخل المغرب اثناء تدهور الدولة المرينية في لجة من الاضطرابات شملت جميع المستويات. فمع ضعف هذه الدولة صار المجتمع عاجزا عن صد الهجمات الايبيرية و الاعرابية على حد سواء. كما انتشرت الفتن و الحروب الاهلية بين القبائل في شتى ربوع البلاد. اضطرابات بدا معها واضحا عجز مؤسسة المخزن المريني الوطاسي عن القيام بواجباته التأطيرية تجاه المغاربة. فلا هو فرض الامن و النظام و لا هو حماهم من المجاعات الناجمة عن الجفاف.
و هكذا اسقط في يد الفئات المنتجة في المجتمع التي هي بحاجة الى سلطة مركزية تفرض النظام حتى يتمكن الفلاحون من انتاج فائضهم الداخلي و التجار من تسويقه. لقد كانت هذه الفترة هي فترة اختراق الاعراب للسهول المغربية و تسيدهم عليها و لجوء الفلاحين الى الجبال. انها فترة انهزام مغرب الحضر امام مغرب البدو.
و انضاف الى ذلك بوادر مجيء السعديين لانتزاع السلطة من الوطاسيين تحت مفهوم دولة الشرفاء المتعالية على العصبيات. و الواقع ان هذا المفهوم يلفه سوء فهم كبير. فدولة السعديين لم تكن متعالية على العصبيات بل على المجتمع. فهي بدورها اعتمدت على عصبية عرب معقل الاعرابية. و هنا يكمن الفرق. فبخلاف العصبيات البربرية السابقة التي حكمت المغرب من خلال مفهوم المخزن أي ذلك الجهاز الاداري الذي يؤطر المغاربة لحمايتهم من تقلبات المناخ ، فإنه مع الشرفاء السعديين افرغ مفهوم المخزن من مضمونه و تحول الى سلطة سياسية متعالية على الشعب و لا تدين له بشيء.
بمعنى ان المخزن السعدي صار مخزن الاعراب لا مخزن الحضر. فهو يتمثل دوره في جبي الاموال دون اعادة توزيعها على افراد المجتمع ، على اعتبار انه يستمد شرعيته لا من خدمته لهم و تعاقده معهم بل من مصدر خارجي قوامه النسب الشريف ليس إلا.
لذلك كان لزاما على مغاربة الحضر التفكير في حل لهذا الوضع المستجد. فوعيهم بدورية الجفاف و ما يستتبعه من كوارث دفعهم الى البحث عن اطار مخزني جديد يمكنهم من توجيه مخزون فائض السنوات الخصبة للاستهلاك في سنوات القحط. لذلك و مع نهاية الدولة المرينية و قيام الدولة السعدية فهم المغاربة ان نظامهم المخزني قد اصيب بالعطب و الاحتلال الاعرابي و لم يعد ممكنا التعويل عليه. فتم التفكير اذن في ايجاد اطار مخزني بديل اخذ اسم الزاوية . فكيف ذلك؟
بداية ، نشأت مع تدهور الدولة المرينية و صعود ظاهرة الشرف السياسي بها ظاهرة الصلحاء المتصوفة. صحيح ان الدولة المرينية رعت فئة المتصوفة و تقربت منها لتوازن بها فئة الشرفاء، لكن فئة الصلحاء اكتسبت مشروعيتها من طبيعة الواقع المغربي المتردي و الذي لم يعد يرضي المغاربة الحضر. لذلك كان لافتا ان اول ظهور للرباطات/الزوايا كان بمناطق حضرية ساحلية تمثلت في سلا بزاوية ابن عاشر و آسفي برباط ابي محمد صالح.
و قد اشتهر هؤلاء الصلحاء بالتصوف و الزهد و تعظيم الشعائر، فسعى اليهم المريدون من كل حدب و صوب و التفوا حولهم ما جعل المؤرخ ابن قنفذ القادم من تونس يعبر عن افتتانه لكثرة الزهاد بالمغرب اثناء جولاته المتعددة به حيث قال : " و جملة الطوائف التي هي بالمغرب في الارض التي تنتبت الصالحين كما تنبت الكلأ" (1). تجدر الاشارة الى ان كلمة الزاوية مشتقة من فعل الانزواء كما تعني ايضا الركن . فهي اذن ركن ينزوي فيه الصالح للتعبد و التفكير المعمق في مشاكل المغرب المعقدة و الخروج بحلول تأطيرية له.
اذن مع قيام الدولة السعدية كان نظام الزاوية قد استوى بدوره و اكتمل بنيانه ممثلا في كونه سيلعب دور المخزن البديل الذي سيؤطر المغاربة الحضر ما دام ان المخزن السعدي الشرفاوي لا يمكن التعويل عليه. فمهمة هذه الزاوية/المخزن البديل هي تأطير المغاربة و حماية العملية الانتاجية من تعديات الاعراب و المخزن الشرفاوي معا.
كان اول شروط تأسيس الزاوية هو توفرها على شيخ مشهور بالصلاح و التقوى و الكرامات و الاتيان بالخوارق و التي من خلالها يستطيع ابهار المريدين و العوام فليتفون حوله و من جهة اخرى يفهم ممثلي السلطة ان المساس به سيؤدي بهم الى التعرض لخطر اللعنة. انه في هاته الحالة يصبح شخصا محصنا من الاعتداء عليه رغم عدم توفره على قوة عسكرية تحميه. غير ان هذه الحصانة لا تكفي بل يمدها الى زاويته و يكسبها صفة "الحرم". و بهذا و من خلال قانون الكرامة يصبح كل من اعتدى على الشيخ او زاويته معرضا لخطر اللعنة في زمن اشتهر فيه المغرب بالفوضى و كثرة الحروب.
يطرح الشيخ بعد ذلك مشروعه التأطيري ممثلا في فرض الامن في السهول و الجبال و المسالك التجارية عن طريق التحكيم و الوساطة بين القبائل. و هكذا فإن امتثال المريدين من القبائل المحيطة بالزاوية لتعليماتها يمكنهم من فلح الارض و تنظيم الاسواق في امن و امان.
و لا تكتفي الزاوية بهذا الدور بل تساهم في تنشيط العملية الانتاجية و ذلك بأن توفر لمريديها ادوات الانتاج من بذور و ادوات فلاحة و بهائم و قروض و اصلاح منشآت الري و توزيع المياه. كما تقوم بتوفير مخازن الطعام تحسبا للمجاعات الناجمة عن سنوات الجفاف الدورية التي حين يحل موعدها تقوم الزاوية آنذاك بأحد اهم ادوارها و هو اطعام الطعام للجائعين.
و لأن المغاربة انذاك كانوا تحت حكم مخزن شرفاوي لا يتورع عن فرض الجبايات الثقيلة فإنها كانت توفر لهم الحماية اذا استجاروا بحرمها. كما انها لم تغفل عن واجب تهذيب المغاربة و تخليصهم من خلق التوحش الذي فشا فيهم في ذلك الوقت، فعملت على تربيتهم من خلال بث تعاليم الشرع و الاسلام و التصوف بينهم.
و في مقابل هذه الادوار التي كانت تعلبها الزاوية فإن مريديها بادلوها الاعتراف بالجميل فحملوا اليها الصدقات و الهبات و الهدايا. كما كانوا يتركون فيها ودائعهم من كتب و رسوم لحفظها من الضياع.
و كدليل على ذلك نستحضر هنا مثال زاوية تانغملت التي اسسها عبد العزيز بن موسى البوكمازي الذي جعل شعار زاويته " رفع الراية للزائرين" و "ارفاق الناس في زمن المسغبة" لدرجة انه رفع مسألة إطعام الطعام الى درجة الجهاد(2). و قد اهتم بشؤون الوساطة و التحكيم في مختلف النزاعات فتوافد عليه المعوزون و المنقطعون و ذوو الحاجات و استحرم الناس بزاويته فرارا من الكلف المخزنية(3).
كما انه يسر لاتباعه ظروف احياء الارض و تعميرها و قدم لهم الدواب و المواشي و الزروع و الزيوت و الاكسية. بل و ناب عن بعضهم في تسديد ديونهم(4). كما استعمل نفوذه لخفارة المسافرين و تأمين الطرق التجارية(5). فكان بذلك ان توفر الامن للناس و اتسعت حركة الاستقرار و ازدهرت المبادلات التجارية(6).
و نجد عند الشيخ احمد بن محمد الشاوي مثلا اخر اضطلعت به الزاوية و هو انجاز مشاريع البنية التحتية لصالح الناس حيث كرس ثراءه لبناء قنطرة ابن طاطو بفاس بعد ان حطمها السيل. كما اصلح قنوات مياه جامع الاندلس بتكاليف بلغت سبعة الاف اوقية. و قامت زاوية تمصلوحت بإنشاء شبكة ري جديدة بتلكرت و تكفلت بتوزيع المياه على السكان(7).
اذن يمكن القول ان الزاوية نجحت في مهمتها المتمثلة في تأطير افراد المجتمع باعتبارها مخزنا بديلا يستطيعون الاعتماد عليه. لقد كانت الزاوية حلا لجأ اليه المغاربة لحماية العملية الانتاجية في وقت سادت فيه فوضى الاعراب و ذلك من خلال اضفاء هالة القداسة و الكرامة على هذه العملية. لذلك نلاحظ ان الصلحاء استهدفوا بشكل اساسي المناطق الواقعة بين السهول و الجبال لتأسيس زواياهم بحكم انها مناطق يكثر فيها الاحتكاك بين الرحل و المستقرين(8). فيتدخلون بامكانياتهم التحكيمية لفض النزاعات بين الطرفين.
و لأن الانتاج الفلاحي لا بد له من تسويق فقد اهتموا بتنظيم المواسم الدينية التي هي في نفس الوقت اسواق يعرض فيها الباعة سلعهم دون خوف من تعديات الاعراب. و لأن هذه الاسواق لا بد لها من سبل آمنة فقد حرص اتباع الزوايا على تامين الشبكات الطرقية و فرضوا وجودهم بمختلف المرافئ التجارية و محطات العبور كأغمات و آزمور و تارودانت و آسفي و صفرو و مراكش و تادلة و سبتة(9).
و تبعا لهذا النجاح الذي حققته الزاوية في تأطير المغاربة و ادارة شؤونهم و حماية انشطتهم الاقتصادية فإنها استطاعت ان تتحرر من اطارها القبلي او الجهوي لتحلق خارج هذه الحدود الجغرافية المفترضة. ان الزاوية اذا كانت تنطلق من القبيلة فإنها لا تظل حبيسة اسوارها. ان مشروع الزاوية اكبر من تأطير قبيلة او حتى لف من القبائل . ان مشروعها هو تاطير المزيد من الاتباع اينما كانوا داخل المغرب او خارجه.
و لذلك نجد ان اشعاعها امتد الى الحجاز شرقا و افريقيا جنوب الصحراء جنوبا. فهذه زاوية تمجروب بجنوب المغرب استطاعت ان تنشر فروعها في جل مناطق المغرب و خارجه حتى بلغت ثلاثمائة فرع(10). اما الزاوية الدرقاوية فقد حمل محمد بن الحسن بن حمزة المدني سنة 1820 الى طرابلس تعاليمها و اسس فرعا لها ب "مسراتة" تحت اسم الطريقة المدنية و التي امتد اشعاعها الى تونس و مصر و الحجاز(11). و كما يعلم الكثير فقد استطاعت الزاوية التيجانية بث اشعاعها الى اعماق افريقيا جنوب الصحراء.
و كأن الزاوية المغربية بهذا الاشعاع و الانتشار الواسع لاتباعها شرقا و جنوبا تخبرنا بأنها ترفض الاعتراف بواقع التقسيم و التجزيء لارض المغارب الذي تعرضت له غداة انهيار الدولة الموحدية. ان المتأمل في ظاهرة الزاوية المغربية و سلوكات اتباعها يستشعر و كأنها كانت حنينا لعصر الدولة الموحدية و مخزنها.و كأن الزاوية بكل الادوار التي لعبتها كانت تحاول احياء العصر الموحدي بتوحيده لارض المغارب و مخزنه المسؤول عن رعيته.
يبقى السؤال اذن ، ما موقف المخزن الشرفاوي (السعدي و العلوي) من الزاوية و ادوارها التاطيرية و كيف كانت العلاقة بين الطرفين؟. في الواقع كان هناك نوع من التعايش الحذر القائم على المد و الجزر و ان لم يخل من مواجهات مفتوحة. لكن يمكن القول انه ما من احد من الطرفين استطاع الغاء وجود الاخر. فكيف ذلك؟
بنت الزاوية مشروعيتها على المقاومة السياسية للمخزن الشرفاوي. اي انها كانت ذلك الدرع الذي يحتمي به المغاربة من تعديات هذا المخزن. لذلك فإنها حتى و ان كانت تعترف بوجوده الا انها رفضت ان تتماهى معه و وضعت مسافة فاصلة بينها و بينه رغم ان المخزن الشرفاوي لم يكن يقبل بأقل من التبعية الكاملة.
لقد كان دأب شيوخ الزوايا هو عدم الاختلاط بالسلاطين و التردد عليهم. و اتخذوا لذلك اعذارا شتى . فهذا ابو المحاسن الفاسي شيخ الزاوية الفاسية يرفض لقاء احمد المنصور السعدي بدعوى كبر سنه (12)و كذلك فعل الشيخ احمد بن عبد الله زعيم الزاوية المخفية حيث رفض ملاقاة السلطان المولى اسماعيل(13).
كما لجأ شيوخ الزوايا الى اسلوب اخر في اعلان استقلاليتهم عن المخزن و هو رفض الدعاء للسلطان على المنابر يوم الجمعة بدعوى ان ذلك بدعة. و هو الامر الذي اغضب كثيرا من السلاطين. و مع ذلك فإن كثيرا من الشيوخ كانت لهم الجرأة لاعلان هذا الموقف على اعتبار انهم يمثلون المقاومة السياسية للمخزن. و كمثال على ذلك نجد المصادر تصف محمد بن ناصر زعيم زاوية تمجروت ب "كان شديد الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و لا يخاف في الله لومة لائم و لا يرى واقفا بباب ملك من الملوك و لم يخطب لملك قط"(14).
و انسجاما مع خطه المعارض خاطب هذا الشيخ المولى رشيد المعروف بشراسته مع الزوايا قائلا:" و اوصيك اذا امكنك الله في ارضه و ولاك امر عباده ان توقظ قلبك لنشر العدل في الارض و احياء ما اندرس من سنة النبي و محو كل بدعة ضلالة احدثها جور الامراء قبلك". بل ان هذا الشيخ دفع بمعارضته الى اقصى حد بأن سلط الضوء على اصل الخلاف بين الزوايا و المخزن الشرفاوي فبين له أن النسب الشريف لا يمنح اية شرعية للسلطان ما دام لا يرعى مصالح المغاربة و ذلك بأن خاطبه قائلا: " و لا يغرنك انك شريف، فإن الشرف لا يزيدك الا تأكيد وجوب طاعة الله عليك"(15).
و طبعا ما كان للمولى رشيد ان يتحمل مثل هاته المعارضة من طرف شيخ زاوية تمجروت و هو الذي سبق و أن دمر الزاوية الدلائية . فما كان منه الا ان كتب اليه كتابا شديد اللهجة يأمره فيه بالمثول بين يديه مهددا إياه بأوخم العواقب ان رفض القدوم. لكن الشيخ مع ذلك استخف بتهديداته و تجاهلها. فقرر المولى رشيد التوجه اليه بجيشه في درعة لمعاقبته لكن حدث ان توفي السلطان و سلم الشيخ(16) و هو ما زكى كرامته لدى اتباعه.
و لم يقف هذا الشيخ عند هذا الحد بل كان يستغل نفوذه الروحي لمنع ممثلي السلطة من تنفيذ تعليمات السلطان و يحذرهم من انتهاك حرمة الزوايا(17). و هنا يتبدى لنا دور اخر للزوايا و هو حماية الناس من بطش عمال المخزن مستغلة في ذلك مبدأ " الحرم" الذي لم يكن ممثلو السلطة في الغالب يجرؤون على المساس به. و كمثال اخر نجد ان الناس استحرموا بزاوية تانغملت في اوقات الشدة بعد ان انهكتهم الجبايات الثقيلة التي فرضها عليهم ممثلو السلطان(18). و بطبيعة الحال ما كان للمخزن ان يقبل بهكذا معارضة لذلك فقد عمل على وضع حد لها فتراوحت سياسته تجاه الزوايا بين القمع و الاحتواء و المواجهة المفتوحة.
يوضح الباحث محمد جادور ان المخزن كان يراقب عن كثب تنامي ثروات الزوايا و تضاعف اتباعها لذلك وضع لها حدودا كي لا تتجاوزها(19). و لهذا حذر ابو عبد الله محمد بن رضوان الشيخ ابا المحاسن الفاسي حينما لاحظ ازدحام المريدين على زاويته قائلا: " يا سيدي ان موالينا الشرفاء، يعني ملوك الوقت، يقع في نفوسهم شيء من هذا الامر". كما اتخذ احمد المنصور اجراءات عقابية ضد زعيم ابي الجعد الشيخ الشرفي لما بلغه انه مد نفوذ زاويته من منطقة تادلا الى تامسنا(20).
و منع المولى اسماعيل زعيم الزاوية الناصرية من اداء الحج لموسمين متتاليين بسبب رفضه ذكر اسم السلطان على المنابر(21). و نجد باشا مراكش بعد تخريب زاوية تسافت ينصح زعيمها بأن لا يدافع عن الغوغاء الذين لا طائل تحتهم و لا يقدرون على حماية ارواحهم. و هو الامر الذي وعاه الشيخ جيدا فبادر الى اعلان الطاعة و اعقبه من جانب المخزن اصدار ثلاثة ظهائر توقير و احترام لزاويته تفوضها استغلال منجم ملح و ترخص لاعادة بناءها. ما يعني ان المخزن كان يستعمل سياسة العصا و الجزرة لتدجين الزوايا المعارضة له و ضمها الى صفه و قد نجح في ذلك مع عدد منها(22).
لم يكتف المخزن اذن بالقمع بل لوح بجزرة الاحتواء و قد اخذت هذه السياسة عدة اشكال. فنجد انه منح شيوخ الزوايا ظهائر التوقير و الاحترام و اعفى زواياهم من الضرائب و التكاليف و منحهم اقطاعات او عزايب. و تابع اختراقه للزوايا بأن أشرف على تنصيب شيوخها لينتهي باستتباعها بشكل كامل و ذلك من خلال تنصيب شيوخها قوادا له(23).
بيد ان هذه السياسة سواء في شقها القمعي او الاحتوائي لم تفلح في تدجين كل الزوايا و تحييد معارضتها للمخزن. لقد ظلت العلاقات بين الطرفين بين اخذ و رد و مد و جزر حتى انفجرت في عهد المولى سليمان الذي اختار المواجهة المفتوحة مع الزوايا بغية استئصالها بالمرة حيث مثل هذا العهد نهاية التعايش الحذر و اندلاع الحرب الشاملة بين الطرفين.
اتخذت هذه الحرب اولا شكل الحرب الايديولوجية. فالمولى سليمان وفاء منه لاصوله الاعرابية لجأ الى استقدام المذهب الوهابي من الحجاز و احلاله بالمغرب معتبرا عدم شرعية الزوايا بسبب اتباعها للعرف بدلا من الشرع. و قد عبر عن موقفه المناهض للعرف الذي تستند عليه الزوايا بالقول:" فمن المنقول على الملل و المشهور في الاواخر و الاوائل ان المناكر و البدع اذا فشت في قوم احاط بهم سوء كسبهم... و وقعت فيهم المثلات و شحت السماء و غيض الماء و استولت الاعداء...و انتشر الداء و جفت الضروع و نقصت بركة الزروع. ان سوء الادب مع الله يفتح ابواب الشدائد و يسد طريق الفوائد"(24).
و جلي هنا ان المولى سليمان يعزف على وتر خوف المغاربة من الجفاف و ما يترتب عنه من آثار وخيمة كالجوع و الطاعون و الحرب الاهلية و يربط ذلك باتباع المغاربة للزوايا و بدعهم الممثلة في العرف. و كأنه هنا يحاجج الزوايا بأنها سبب الجفاف و لا يمكن ان تكون واقيا منه.
اما على المستوى المادي فقد لجأ الى حرمان الزوايا من مواردها المالية فمنع عنها الامتيازات التي كانت تتمتع بها. بل وصل به الحال الى حرمانها من اقامة المواسم مع ما تمثله من اساس اقتصادي تعتمد عليه في تصريف منتجاتها(25).
كان لهذه الاجراءات المخزنية ان دفعت بالطرفين الى المواجهة العسكرية الشاملة حيث ثار مولاي العربي و اتباعه على السلطان سليمان و كبدوه الهزائم المتتالية. كما اسروه سنة 1818 لعدة ايام بعد هزم جيشه و قتل ابنه المولى ابراهيم. و في سنة 1819 حاصر بوبكر امهاوش مناصر زاوية درقاوة مكناس. اما في سنة 1820 فقد اتفق مولاي العربي الدرقاوي و الحاج العربي الوزاني و اعيان فاس على خلع السلطان سليمان و تنصيب ابن اخيه المولى ابراهيم بن يزيد خلفا له و وقعوا وثيقة بذلك(26).
نستخلص من كل ما سبق ان الزاوية و المخزن الشرفاوي كيانان سياسيان متناقضان فرضت عليهم الظروف التعايش. فلا المخزن ازال الزاوية و لا هي أزالته. فكلاهما استمر في اطار من التعايش الحذر و الصعب و ما من احد كان قادر على نفي الاخر. لكن مع ذلك فإن الزاوية جرى عليها ما يجري على اي كيان سياسي من شباب و هرم . فمنها من عرف صراعات بين شيوخها ما جعلها تطلب وساطة المخزن و تخضع لشروطه و ترتمي في احضانه الشيء الذي افقدها مصداقيتها لدى الاتباع و منها من لجأ الى طلب الحماية القنصلية هربا من مضايقات المخزن و منها من تعاون مع الاستعمار و منها طبعا من قاومه و لم يعترف بسلطة الحماية. الا ان جميعها خفت بريقها بعد الاستقلال لتؤول في النهاية الى مؤسسة فلكلورية يغلب عليها الطابع الاحتفالي و التراثي.
ختاما نقول انه من السهل إلصاق الصفات السلبية بالزوايا نظرا لما آلت اليه حاليا. فينظر اليها انها اداة من ادوات السلطة لتجهيل الناس و شدهم الى الوراء و الهاءهم عن قضاياهم الحقيقية . غير ان هذا الحكم ينطوي على تسرع كبير و يغمض العين عن الادوار التاريخية التي لعبتها الزاوية في الدفاع عن المجتمع المغربي و حفظ كيانه. لقد كانت الزاوية نتاج ازمة خانقة مر بها المجتمع و حينما انتفت هذه الازمة انتفت الحاجة اليها. لكن الانسان المغربي على ما يبدو لم ينسها او يتنكر لها بل ظل مرتبطا بها و إن في اطار فلكلوري احتفالي معبرا عن امتنانه لمربيته التي رعته طوال الخمسة قرون الماضية.
________________________
1- محمد القبلي، المجتمع و الحكم و الدين بالمغرب في نهاية العصر الوسيط،ص:371.
2- احمد عمالك، تانغملت فرع الزاوية الناصرية،الرباطات و الزوايا في تاريخ المغرب،ص:181
3- نفسه،ص:188
4- نفسه،ص:189
5- نفسه،ص:194
6- نفسه،ص:196
7- محمد جادور، مؤسسة المخزن في تاريخ المغرب،ص: 269/270
8- محمد ضريف، مؤسسة الزوايا بالمغرب،ص:83
9- محمد القبلي، المجتمع و الحكم و الدين بالمغرب في نهاية العصر الوسيط،ص:376
10- عبد العزيز الخمليشي، زاوية تمجروت و المخزن،،الرباطات و الزوايا في تاريخ المغرب،ص:123
11- محمد ضريف، مؤسسة الزوايا بالمغرب،ص:83
12- محمد جادور، مؤسسة المخزن في تاريخ المغرب،ص:254
13- نفسه،ص:255
14- عبد العزيز الخمليشي، زاوية تمجروت و المخزن،،الرباطات و الزوايا في تاريخ المغرب،ص:124
15- نفسه،ص:127
16- نفسه،ص:129
17- نفسه،ص:130
18- احمد عمالك، تانغملت فرع الزاوية الناصرية،الرباطات و الزوايا في تاريخ المغرب،ص:188
19- محمد جادور، مؤسسة المخزن في تاريخ المغرب،ص:272
20- نفسه،ص:252
21- نفسه،ص:274
22- نفسه،ص:271
23- محمد ضريف، مؤسسة الزوايا بالمغرب،ص:127
24- نفسه،ص: 149
25- نفسه،ص:140
26- نفسه،ص: 63



#يوسف_رزين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المخزن و الثروة و التراكم المستحيل
- القبيلة المغربية..من -اجماعة- إلى - الجماعة-
- القطاع الصحي في العصر الوسيط بالمغرب
- الطاعون و المخزن..مختصر تاريخ المغرب
- ابن خلدون و المغرب ..بحث في دقائق العلاقة
- مقتل الملك بطليموس و نهاية الحكم الملكي بموريطانيا السياق و ...
- الحماية القنصلية بالمغرب
- غزال الكعبة الذهبي
- يوسف و السجن قراءة في كتاب - يوسف و البئر- لفاضل الربيعي
- الاساطير المؤسسة للتاريخ الفاطمي
- تمثلات الاجانب عن افريقيا السوداء عبر العصور
- الاسلام في الأسر
- من بنى مراكش ؟ مقاربة مجالية لتاريخ المغرب
- علم العمران الخلدوني
- عبد الله العروي مضللا
- قراءة في كتاب : شدو الربابة بأحول مجتمع الصحابة ،خليل عبد ال ...
- كفاح بن بركة
- النظام الدولي : النشأة و التطور
- الحركة الوهابية النشأة و التطور و المآل
- الجزائر الفرنسية ..حكاية تطور مجهض


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - تأملات في الزاوية المغربية