أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - الاسلام في الأسر















المزيد.....


الاسلام في الأسر


يوسف رزين

الحوار المتمدن-العدد: 4857 - 2015 / 7 / 5 - 02:08
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تقديم :
قام الكاتب الليبي الصادق النيهوم في كتابه هذا بمقاربة موضوع عجز العرب عن ولوج عصر الحداثة و اقرار نظام ديموقراطي على غرار دول الغرب . لم يعمد الكاتب الى الاجوبة الجاهزة من قبيل المؤامرة الامبريالية على البلاد العربية ، بل لجأ الى تفكيك ما هو عميق و لا شعوري في ثقافتنا العربية ، و اوضح ان العرب يعانون من ازمة مركبة من عدة عناصر و هي : اللغة و الاقطاع و الفقه . و هو ما عالجه في فصول كتابه الثلاثة و العشرين.
مشكل اللغة :
تعاني لغتنا العربية من مشاكل عدة . فمن ناحية يخطئ العرب بترجمة مصطلحات مرتبطة اشد الارتباط ببيئتها الغربية و زرعها في البيئة العربية المختلفة عنها تماما . فمثلا كلمة " الديموقراطية " تعني ان جميع القرارات يتم اتخاذها بعد احصاء الاصوات في مجتمع راسمالي ، أما في مجتمع دون عمال و راسمال كالمجتمع العربي فإنها تصبح غير ذي معنى . ايضا فيما يخص كلمة "الصحافة" فإنها تعني في موطنها الاصلي أن المنشورات تصدر في بيئة الاقتصاد الحر التي تعتبر الصحافة سلطة دستورية رابعة ، لكن نقل هذا المصطلح الى واقع غير راسمالي ، يعني انه ذات من دون واقع و ان لا احد يعترف لها (الصحافة) بالسلطة . كذلك فإن كلمة " الحرية" تعني ان الدستور يكفل للمواطن الحريات الخمس و هي حرية الكسب و حرية العقيدة و حرية الاعلان و حرية التجمع و حرية القضاء . لكن نقل مصطلح " الحرية " الى لغة اخرى يحوله الى مجرد كلمة شعرية فارغة من معناها الحقيقي .
من جهة اخرى، فإن العرب يجهلون استخدام مصطلحات قرآنية التي منذ الانقلاب الاموي تحولت الى مصطلحات جوفاء . فمثلا كلمة " الصلاة " تعني ضمنيا أن المسلم يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و الفحشاء ، و هي مهمة لا يستطيع أدائها الا اذا كان له صوت مسموع في اصدار القوانين . كما ان كلمة " لا اله الا الله " تعني ان لا احد غير الله يملك السلطة و ليس له حق اتخاذ القرار الا بعد احصاء الاصوات و قبل هذا كله فإن مصطلح " الجامع" له نفس معنى الديموقراطية ، لانه صيغة اخرى من صيغ السلطة الجماعية ، لان الجامع مقر مفتوح يرتاده الناس خمس مرات حتى خلال ساعات حظر التجوال ، بالاضافة الى انه باعتباره بيت الله فإنه لا يخضع لقوانين الدولة ، و في المقابل ، فإنها لا تستطيع تجاهل القرارات الصادرة عنه و ان لا احد له حق اتخاذ القرار الا بعد احصاء الاصوات . فالجامع في التراث العربي كان يعني الحرية بكل معانيها . لهذا يوضح النيهوم ان ثقافتنا المعاصرة لا تستطيع ان تترجم ما يقال لانها تجهل وظيفة الجامع الادارية و ثانيا لانها غير صادرة عن البيئة الاوربية القائمة على انكار سلطة البابا و انهاء العلاقة بين الادارة و الدين . في المقابل ترتفع الاصوات مطالبة بالعودة الى الاسلام دون ان يرفع احدهم صوته مطالبا بالعودة الى الجامع. فلا نحن نجحنا في تأسيس الديموقراطية و لا نحن استفدنا من المعطيات الثورية في تراثنا الاسلامي و على راسها نظام الجامع.
يتشبث النيهوم كثيرا بهذا المصطلح (الجامع) ، و يوضح ان الديموقراطية الاوربية صيغة لا يمكن تحقيقها الا بزلزال الذي عايشته شعوب غرب اوربا في حين انه اذا اردنا ان نتحرر من ثقافتنا المعادية للديموقراطية ، التي تحول الطفل الى اسير و المراهق الى متهم و المرأة الى جارية و العجوز الى طفل ، فإنه علينا ان نعود الى نظام الجامع ، فمنذ اربعة عشر قرنا حصل زلزال مماثل في منطقتنا ممثلا في دين يسلم السلطة الى الله و الادارة الى الناس عن طريق الشورى المباشرة في الجوامع .
إن الجامع و المفاهيم المتفرعة عنه لكفيلة –حسب النيهوم- ان تعيد التوازن الى بيئتنا المختلة ، فكلمة عبد الله في لغة الجامع تجعل ان لا احد غير الله يستعبد الاطفال و ان من حقهم ان يعيشوا طفولتهم دون تسلط من المجتمع. كذلك فإن كلمة عبد الله تشمل ايضا المراهق و هي تعني الا تمارس عليه الرقابة . نفس الشيء فيما يخص المرأة فإنها تعني انها مسؤولة شخصيا عما كسبت يداها و ان لا احد ينوب عنها. لذا يرى النيهوم انه لو احسنت الامة العربية استغلال فكرة الجامع ، فسيصبح بامكانها ان تجتمع خمس مرات في الجوامع كل يوم تحت دستور واحد بصيغة واحدة ، فتقضي على تفرقها. إذن ما تحتاجه امتنا هو ان تعيد للجامع وظيفته الادارية لتصنع ديموقراطية نابعة من بيئتها المحلية ، لكن ما يمنع تطبيق نظام الجامع القائم على تسليم الحكم لله و الادارة ، هو ذلك الخلط التاريخي الذي وقع فيه المسلمون بين وظيفة المسجد و وظيفة الجامع . فالمسجد فكرة لم يدع لها احد سوى الاسلام ، لانها تطبيق لمبدأ المسؤولية الشخصية و الغاء لكل وساطة بين الانسان و خالقه عن طريق جمع الناس المتفرقين بين المساجد و الكنائس و المعابد في جهاز اداري موحد موجه لحماية حق الجماعة الانسانية في العدل عن طريق وضع شرعية القرار أمانة بين ايدي الاغلبية. لكن للاسف ما زالت ثقافتنا العربية تجهل مبدأ الجامع و تخلط بينه و بين المسجد.
و لا تقتصر ازمتنا اللغوية على اهمال معاني مصطلحات ثورية من قبيل الجامع و الصلاة و لا اله الا الله بل تتعداها الى استخدام مصطلحات – سامة- ككلمة " الشعب" التي يوضح النيهوم انها مصطلح عبراني يعني في لغتنا العربية " قبيلة كبيرة ، على دين واحد ، من لون واحد و اصل واحد " مع كل ما تحمله الكلمة من حمولة دوغمائية امتثالية رافضة للاخر بينما يمتلك المسلمون ما هو افضل و هو مصطلح " الامة " الذي يعني نظاما جماعيا موجها اساسا لهدم نظام الشعب و تقويض عقائدية القبيلة لاعتماده على مواطنين مسؤولين . فكلمة الامة ، تعني نظاما في الحكم و الادارة يقوم على ثلاثة شروط و هي : انعدام الحق الالهي للحاكم ، لان الملك لله وحده و ان " كل نفس بما كسبت رهينة " فلا احد يشفع لاحد و ان الدين عند الله الاسلام اي احتواء جميع العقائد و الاختلافات في مجتمع جديد . لكن العرب تركوا مهمة اعادة اكتشاف لغتهم و تخليصها مما هو ضار و تثويرها من جديد ، و قاموا بدلا من ذلك بترجمة مصطلحات اوربية كالديموقراطية و هم لم يدخلوا بعد العصر الصناعي مما جعل هذه المصطلحات غير ذات معنى.
يستمر النيهوم في تسليط الضوء على مشاكل اللغة و اثرها على المجتمع فيوضح انها لا تنقسم الى صحيح و خطأ فحسب بل ايضا الى كلمة حية و أخرى ميتة. ففي قديم الزمان تصدى الكهنة لمهمة تبرير الحكم الفردي في اقطاعيات الشرق القديم عن طريق استخدام منهج الاسطورة منذ اول لوح كتب في الحضارة السومرية و ذلك باختراع فكرة العالم الاخر الذي لا يملك الحديث عنه الا الكاهن مدعيا معرفته بأسراره. هكذا ضمن كهنة سومر لانفسهم المقام الثاني في اول دولة اقطاعية عرفها التاريخ، فاخترعوا لغة اسطورية انطلاقا من عالم آخر سماوي لم يروه ، و استطاعوا من خلال هذه اللغة المزورة اللاواقعية ان يقنعوا الناس بذبح طفل عند قدمي صنم ميت تحت فكرة ارساله الى الحياة الخالدة في العالم الاخر، حتى جاء النبي ابراهيم في كالديا –جارة سومر- و افتتح مسيرة الدين بدعوة معلنة الى تحطيم الاصنام و تحريم القربان البشري ، فظهر الفرق بين شريعتين ، احداهما تقول ان عالم الغيب غائب عن عيون الناس لا تراه سوى عيون الكاهن و الاخرى تقول ان عالم الغيب اسمه المستقبل و انه يولد في حاضر الناس و يكون من صنع ايديهم .
إن النيهوم على عكس كثير من العلمانيين لا يدين الدين بل يدرسه من منظور تاريخي فيوضح ان الانبياء (ابراهيم و محمد مثلا) كانوا الى جانب الانسان ضد الاقطاع لكن تراثهم الثوري انقلب على عقبيه بعد سيطرة الانظمة الاقطاعية . فيوم الجمعة مثلا كان مخصصا للحوار السياسي و ليس للصلاة فقط ، حيث اضاف الرسول اسم الجامع للمسجد و دعا الناس الى اللقاء فيه ، مرة في الاسبوع على الاقل لكي يحاسبوا حكوماتهم اولا فأول . لكن بمجئ الامويين انهار نظام الجامع ، حيث الغوا وظيفته السياسية بمنع الحوار السياسي فيه ، فعاد الجامع الى وظيفته الاولى و هي المسجد فقط . في هذه الاجواء صار من حق الخطيب وحده الحديث اما الباقي فعليهم الاستماع فقط دون ان ينبسوا بكلمة . هكذا اذن تحول المسلم الى مواطن بلا لسان ، صبور ، مطيع ، قابل للتعايش مع الظلم الى يوم القيامة .
مشكل الاقطاع :
لا ينتبه العرب الى انهم اسرى نظام قروسطي يدعى " الاقطاع" و مع ذلك يطمعون في تأسيس نظام الاحزاب في بلدانهم دون ان يعوا ان عليهم تجاوز نظام الاقطاع اولا . يوضح النيهوم ان نظام الاحزاب لا يصلح الا في بلد نجح في التحرر من سلطة المؤسسة الدينية و الاقطاع و توطدت فيه سلطة راس المال. و الحال ان هذا الامر لم يحدث في بلدنا بعد . لذلك تظل الاحزاب عندنا مجرد نواد سياسية يمكن اغلاقها عند انقلاب يقوم به رجال الدين كما حدث في ايران او يقوم به الجيش كما حدث في مصر، لاننا اساسا لا نملك ثقافة سياسية .
لمزيد من التوضيح ، يذكر النيهوم انه في مصر قامت معارضة الاحتلال البريطاني و الاقطاع المتحالف معه باحزاب تفتقر الى قوى عمالية او راسمالية منظمة مما حكم على نضالاتها بالفشل . ثم جاء بعد ذلك جمال عبد الناصر و استطاع انهاء نظام الاحزاب سنة 1952 بسهولة لانها لم تكن قائمة على اساس صلب ، ثم بدوره تورط في تطبيق الاشتراكية اللينينية و تأميم وسائل الانتاج دون ان يلاحظ انه لا يتوفر على طبقة للعمال ، فأدار مصر و مصانعها عن طريق موظفين حكوميين ، الشيء الذي حكم عليه بالانفصال عن الواقع و سمح للسادات بالغاء السياسة الناصرية و قلب الحياة السياسية في مصر راسا على عقب ، الشيء الذي اثبت ان ثقافتنا السياسية منفصلة عن الواقع و لا تعي ما تقول و انها لا توجد الا على الورق.
إن الاقطاع واقع راسخ في البيئة العربية ، و العرب ما زالوا لم يدركوا هذا الواقع تمام الادراك ، و يعتقدون واهمين انه يكفي استيراد منجزات الغرب حتى يكونوا متقدمين . لكن النيهوم يوضح انه قد يكون للدولة العربية جندي يقاتل بالصواريخ و طبيب مدرب على الجراحة المعقدة و مهندس متخصص في بناء الجسور و لكن هذا لا يعني ان العرب دخلوا عصر العلم بل فقط يركضون وراءه، لانه ببساطة لا يوجد علم و بحوث علمية بمعزل عن الراسمالية و شركاتها الاستثمارية . إن دخول العرب العصر الراسمالي و تكون طبقة الراسماليين اصحاب المبادرة الاقتصادية الحرة هو الكفيل باخراجهم من عصر الاقطاع . لكن الى ذلك الحين ستظل مشكلة العرب ان اموالهم ليست في ايديهم بل في ايدي حكوماتهم الاقطاعية.
يوضح النيهوم أن المجتمع العربي هو مجتمع خلقته مؤسسات اقطاعية معادية لمعظم مبادئ الاسلام من مساواة و شورى و حرية الحوار و القضاء . هذا المجتمع منذ العصر الاموي هو مجتمع تحكيم القوة لا تحكيم الله ، ما يجعل المواطن العربي يحيا تناقضا مستمرا بين تعاليم دينه المثالية و شروط واقعه الاقطاعي . و كمثال على ذلك ظاهرة الرشوة و الدعارة التي يجد المواطن العربي -رجلا او امرأة- نفسه مجبرا على ممارستها بسبب ضيق الحال . ايضا إذا كان الدين يمنع السرقة ، فإن الواقع الاقطاعي يصعب على المواطن كسب قوته بالحلال ، نفس الامر فيما يخص القتل و الكذب الخ ...فالنظام الاقطاعي يجعل المواطن في تناقض مع تعاليم دينه شاء ام ابى . إذن تبقى الدعوة الى تطبيق الشريعة – كما يطالب بذلك الاسلاميون- في مجتمع اقطاعي فكرة تعوزها روح العلم و غير ممكنة.
يوضح النيهوم ان اول شرط لتطبيق الشرع الاسلامي هو انهاء مجتمع الاقطاع . فتطبيق الشريعة يحتاج اولا الى مجتمع شرعي متحرر من سلطة الفرعون . فالاسلام الذي يبشر به القرآن هو نظام يقوم على مبدأ الشرع الجماعي بادارة جماعية تنعقد يوم الجمعة تحت قبة برلمان رسمي اسمه الجامع لكن الفقهاء حولوا الشريعة الاسلامية الى عكسها بتحويلهم المواطنين الى مجرد رعية . ينضاف الى ذلك ان غياب الديموقراطية جعل الناس يفقدون عقلهم الجماعي و حولهم الى قطيع عاجز عن فهم واقعه . لهذا يؤكد النيهوم انه لن تقوم للعرب قائمة الا بالتحرر من النظام الاقطاعي و اعتماد النظام الراسمالي المسنود بدستور الشرع الجماعي . غير ذلك ، سنظل امة لا تبالي بمنطق العصر و لا تملك نظاما شرعيا للادارة و لا تتورع عن تمجيد الاقطاع و تبذير المال العام على اهواء الاسر الحاكمة . و في وطن كهذا يغرق افراده في نقاشات بيزنطية منفصلة عن الواقع . فهي اما تدعوا الى عصر عمر بن الخطاب الوهمي الجميل او الى استيراد نظام الاحزاب دون ان تكون لنا بيئة راسمالية.
مشكل الفقه :
ينتقل النيهوم بعد معالجته لموضوع اللغة و الاقطاع الى الاس الثالث من اسس التخلف العربي الذي هو الفقه الاسلامي . يوضح النيهوم ان هذا الفقه لا يعدو ان يكون ايديولوجية النظام الاقطاعي منذ العصر الاموي . هذا الفقه الذي صاغه الفقهاء حصر الاسلام في قواعد خمس لا علاقة لها بشؤون الحكم اعتمادا على حديث رواه ابي هريرة . فتحت ضغط الارهاب الاموي اسس الفقهاء لفقه اسلامي يقوم على حكم الفرد و الانفصال عن هموم الجماعة و لا يعترف بمسؤولية الناس عن شؤون الحكم في تناقض تام مع تعاليم القرآن (اذهبا الى فرعون انه طغى) (ارايت الذي يكذب بالدين ، فذلك الذي يدع اليتيم و لا يحض على طعام المسكين) . يوضح النيهوم ان الاسلام كدين ثوري تعرض للتحريف على يد الفقهاء المعبرين عن مصالح الاقطاع ، فحرفوا مفهوم الجهاد الذي كان (في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان) الى حركة مسلحة لاستعباد الشعوب و جلب الغنائم للاسر الاقطاعية الحاكمة . لاجل ذلك عمل الفقهاء على اخماد ثورة عالمية واسعة النطاق بحصر قواعد الاسلام في الشعائر. في حين ان القرآن لا يقول ان قواعد الاسلام خمس و لا يفرق بين شعائر الاديان و لا يضمن الجنة لاحد .
إن هذا الفقه او بالاحرى ايديولوجية الاقطاع يستحق اكثر من وقفة لدراسته بتمعن و تفكيك مقولاته . لقد عمل الفقهاء بدأب على تحريف الاسلام عن مساره و جعله في خدمة الاقطاع ، و من بين اساليبهم انهم تلاعبوا بمعاني المصطلحات القرآنية ، فجعلوا كلمة " الدنيا" خاصة بالحياة على الارض و " الاخرة " خاصة بالمصير بعد الموت . بينما كلتا الكلمتين هما في الواقع خاصتان بحياة الانسان على الارض كما اوضح ذلك النيهوم . كل ما هنالك هو ان كلمة الدنيا تصف حياة المجتمع في طور الطفولة و الاخرة تصف حياته في طور النضج . لأن كلمة الدنيا مصطلح قرآني صرف يقصد به جزء من الحياة لا كلها ( اعلموا انما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم) الحديد الاية 20 . فلفظة الدنيا تعني هنا : القريبة ، و هي صفة المجتمع في طور الطفولة حيث يحيا حياة طفولية غير مسؤولة و مشغولة بالحاضر عن المستقبل شأنه شأن الاطفال . في المقابل تمثل الدار الاخرة هدف المجتمع الناضج الذي من صفاته انه يضع اهدافا و برامج مستقبلية و هو ما يتطابق مع صفات المجتمعات الحديثة.
يعاني الاسلام من مشكل اخر ، و هو تسرب المفاهيم اليهودية اليه . ينتبه النيهوم ان الاحكام الخاصة بالمراة لا علاقة لها بالاسلام بل ذات اصل يهودي مادي . فقد قام الكاهن اليهودي تحت ضغط ظروف البيئة الصحراوية بشيطنة المرأة و فرض عليها تعاليم قاسية ممثلة في فرض الحجر الصحي عليها اثناء فترة الحيض و الطمث . كان هذا الاجراء من طرفه وسيلة بدائية لمنع العدوى المنتقلة عبر الدم ، لكنه نسبه الى الله و جعله مقدسا لا يناقش . لكن حينما جاء الاسلام فإنه الغى هذه التعاليم اليهودية ، فلم يفرض على المرأة ان تعتزل في فترة الحيض او الطمث بل فقط ان تغتسل لكن منذ مطلع القرن الهجري الاول عادت المفاهيم اليهودية من جديد و تسربت الى فقه الاسلامي فاعتبر الفقهاء ان الطمث و الحيض نجاسة ، فابطلوا صلاتها و صيامها اثناء فترة الحيض رغم ان فتواهم لا تستند الى نص من القرآن . و بسبب هذا الانقلاب العبراني على لغة القرآن عادت فريضة عزل المرأة ممثلة في فريضة الحجاب التي اخترعها الفقهاء متماهين بذلك مع شريعة اليهود .
لا يكتفي النيهوم بهذا القدر من النقد ، بل يستمر في استخدام مشرط الجراح و يوضح ان الفقهاء اسسوا فقههم على علم وهمي سموه علم السنة و هو علم لا يعترف بمنهجية العلم ، بل ينتحل لنفسه صفة القداسة و يتوجه لاستنباط احكام شرعية من احاديث منسوبة الى الرسول ، من دون دليل علمي واحد . فالرسول لم يدع ابدا انه مصدر للتشريع . ان القرآن اساسا نزل لالغاء الاحاديث المنسوبة للانبياء . لانها كانت حيلة الكهنة لتحريف الاديان السماوية . يوضح النيهوم انه في عصر الرسول كان الحديث النبوي هو نص التوراة و الانجيل الذي عبث به الكهنة طوال الفي سنة و سطروا كم خلاله فكرة الحديث المنقول لكي يسجلوا على ألسنة الانبياء اقوالا محرفة تحريفا خطيرا . فالانجيل ليس كتابا مقدسا واحدا ، بل سبعة كتب على الاقل ، سقطت منها ثلاثة بامر من الكنيسة و بقيت اربعة مختلفة هي اناجيل متى و مرقس و لوقا و يوحنا. ايضا بخصوص التوراة فانها ليست كتابا دينيا اصلا ، بل سيرة تاريخية لليهود عبارة عن احاديث نبوية . لكن حينما جاء الرسول خاض معركة خاصة مع كتب الحديث النبوي التي تحولت الى كتب مقدسة فنزل القرآن اولا باية (اقرا باسم ربك الذي خلق) و ليس (اكتب) لانه ليس كتابا جديدا ، بل قراءة جديدة في كتاب الله نفسه لتخليصه من شوائب الاحاديث النبوية بالذات.
يوضح النيهوم ان تشابه القرآن مع انجيل لوقا و التوراة عائد الى ان القرآن هو التوراة و الانجيل في صياغتهما الالهية المحررة من عبث رواة الحديث . فبالنسبة للانجيل ، فإن القرآن رفض القول بان المسيح ابن الله و ندد كثيرا بهذه الترجمة الاغريقية متعمدا ضرب القاعدة التي تقوم عليها سلطة الباباوات في الكنيسة الكاثوليكية و هو المنهج الذي اعاد البروتستانت اكتشافه بعد ثمانية قرون من نزول القرآن . أما بالنسبة للتوراة فقد اوجز القرآن في عرض اسفار التكوين و الخروج الى سفر الملوك الاول و عرضها باعتبارها قصصا للعظة و العبرة و لإلغاء نظرية الشعب المختار . و هكذا عمل القرآن خلال ثلاث و عشرين سنة على تحقيق مهمته في استبدال كتب الحديث بكتاب منقح واحد ، محصن ضد التحريف و ختمه بآية ( اليوم اكملت لكم دينكم ) المائدة 3 . مما يفيد ان النص الشرعي قد اكتمل في صيغة القرآن وحده و لم يعد بحاجة الى حديث . يوضح النيهوم ان كلمة "سنة" لا تعني – لغويا- نص الحديث النبوي ، بل نص القرآن كما جاء في العديد من الايات : ( سنة من قد ارسلنا قبلك من رسلنا و لن تجد لسنة الله تحويلا) الاسراء 77 ، (سنة الله التي قد خلت من قبل ، و لن تجد لسنة الله تبديلا) الفتح 23 . لكن الفقهاء حرفوا معنى السنة و جعلوها علما قائما بذاته للتعبير عن شريعة الاقطاع القائم على مبدأ الحق الالهي المقدس في الحكم.
و لا تتوقف مأساة المجتمع العربي مع فقه منحاز لخدمة الاقطاع بل تستمر و تأخذ ابعادا اخرى ، لان هذا الفقه يمنح لنفسه القداسة و يحكم على المجتمع ان يحيا في قبضة الجهل المقدس ، اي الجهل الذي يدعي لنفسه معرفة يقينية لا مجال لنقدها . بالاضافة الى ان ممثلي هذا النوع من الجهل يتخذون لانفسهم صفة العالم او الامام او اية الله مدعين انهم يتحدثون نيابة عن الله انطلاقا من علم مزعوم يدعى علم التفسير . هذا العلم المفتقر الى منهجية العلم لادعائه القداسة يجعل الطالب العربي في المدارس العربية يحيى ممزقا بين ثقافتين متناقضتين : الاولى وثوقية لا تقبل النقد و الثانية نسبية تصحح اخطاءها باستمرار. و كمثال على هذا التناقض قصة الخلق في القرآن التي يتعامل معها علم التفسير بشكل حرفي و مبدأ النشوء و الارتقاء الذي يطلع عليه في درس الاحياء . يوضح النيهوم انه بسبب عجز المفسرين عن التعامل مع النص القرآني بشكل أدبي رمزي و قراءته قراءة حرفية جامدة يتمزق الطالب بين منهجين متناقضين للمعرفة . الاول علمي صارم و الثاني سحري يبرهن عن نفسه بادعائه خرق القوانين الطبيعية .
و ينهي النيهوم نقده لموضوع الفقه و يوضح ان العرب يعانون من الفشل الادراي المزمن و غياب الوعي التاريخي و الاغراق في الطقوسية و الاعتقاد بان حياة الانسان الحقيقية توجد بعد الموت ، لكنهم في الواقع ضحايا اسلام كهنوتي مسخر لخدمة الاقطاع قائم على المنهج الوصفي الذي يكتفي بدراسة الظواهر من الخارج دون اهتمام بالمضمون و السبب و النتيجة. فصفة هذا المنهج انه سهل و عاطفي و ساذج و مريح فكريا . فهو يكتفي بالعموميات من قبيل ان الاسلام دين العدل و الرحمة و الرخاء و الكرامة و الحرية دون ان يوجه اصبع الاتهام الى الانظمة الاقطاعية . لكن النيهوم من ناحية اخرى يوضح ان هذا المنهج ينطبق ايضا على دعاة الديموقراطية و نظام الاحزاب و الدولة القومية عندنا دون ان يعوا ان مجتمعاتنا لا تتوفر على راسمال و طبقة عمال و تجار.
خاتمة
كخلاصة لما جاء في افكار الكتاب يقترح النيهوم ان نتخلى عن ثقافتنا المترجمة لانها فارغة المعنى . فالديموقراطية في الغرب هي غير الديموقراطية عندنا . كما يدعونا الى الكف عن سرقة افكار الاخرين و ان نفتش في تربتنا عن البذرة التي تنبت مثل اشجارنا و سنابلنا ، و ذلك بان نستعيد شرعنا الجماعي و نحرر يوم الجمعة من خطب الوعاظ و نسمح للمواطن بالتعبير عن رايه داخل الجامع ، اما غير ذلك فلا يعدو كونه قفزة في الظلام لا طائل من ورائها.
ختاما و كتعليق على كتاب النيهوم ، فإنه يمكن القول ان عمله النقدي هذا يدخل في خانة اشكالية الوافد و الموروث التي طالما ارهقت ذهن المفكرين العرب . يمكن الاقرار بان النيهوم نجح في مهمته الى حد بعيد لولا ان كتابه افتقر الى التأصيل و الاتيان بالادلة و الاحالات على المراجع و المصادر في الغالب من الحالات . فنحن لم نعلم من اين عثر النيهوم على تفسيره لكلمة الجامع و على اي مصدر استند . من وجهة نظر اكاديمية يبقى كلامه عن الجامع – رغم جماليته- مجرد كلام مرسل لا دليل عليه و هو ما كان على النيهوم ان يتجنبه خصوصا و قد تحدث في كتابه عن المنهج العلمي .



#يوسف_رزين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من بنى مراكش ؟ مقاربة مجالية لتاريخ المغرب
- علم العمران الخلدوني
- عبد الله العروي مضللا
- قراءة في كتاب : شدو الربابة بأحول مجتمع الصحابة ،خليل عبد ال ...
- كفاح بن بركة
- النظام الدولي : النشأة و التطور
- الحركة الوهابية النشأة و التطور و المآل
- الجزائر الفرنسية ..حكاية تطور مجهض
- عبادة الماء في المغارب القديمة
- سوسيولوجيا الأعيان
- حيرة شيخ - قراءة في مقال لعبد السلام ياسين -
- أحداث 23 مارس 1965
- الكتابة على الجسد..بحث في الدلالات
- وداعا نابليون
- أنثروبولوجيا الحرام
- تاريخ المطبخ الفرنسي
- شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة
- الحرية الجنسية في الإسلام
- نشأة علم التاريخ عند العرب
- فلسفة التاريخ بين هيغل و ماركس


المزيد.....




- الناطق باسم نتنياهو يرد على تصريحات نائب قطري: لا تصدر عن وس ...
- تقرير: مصر تتعهد بالكف عن الاقتراض المباشر
- القضاء الفرنسي يصدر حكمه على رئيس حكومة سابق لتورطه في فضيحة ...
- بتكليف من بوتين.. مسؤولة روسية في الدوحة بعد حديث عن مفاوضات ...
- هروب خيول عسكرية في جميع أنحاء لندن
- العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يدخل المستشفى التخص ...
- شاهد: نائب وزير الدفاع الروسي يمثل أمام المحكمة بتهمة الرشوة ...
- مقتل عائلة أوكرانية ونجاة طفل في السادسة من عمره بأعجوبة في ...
- الرئيس الألماني يختتم زيارته لتركيا بلقاء أردوغان
- شويغو: هذا العام لدينا ثلاث عمليات إطلاق جديدة لصاروخ -أنغار ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - الاسلام في الأسر