أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل النجار - تأملاتٌ فكرية حيرى بين التقدمية والرجعية















المزيد.....

تأملاتٌ فكرية حيرى بين التقدمية والرجعية


جميل النجار
كاتب وباحث وشاعر

(Gamil Alnaggar)


الحوار المتمدن-العدد: 6625 - 2020 / 7 / 22 - 10:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تأملاتٌ فكرية حيــرى
بين التقدمية والرجعية

صراع الحضارات هو في جوهره صراع أفكار بين معسكرين هما: معسكر التقدميين، ومعسكر الرجعيين، وإذا انتقل إلى دائرة الفعل يصبح الصراع صراع ضمائر، ومناخاته بالغة التشابك والتعقيد، حيث تتقاطع دروب التطور والتقدم مع دروب الردة والتخلف. والشيء المتفق عليه، هو أن بوصلة العقل، غالبا، ما تهدي إلى الوجهة الأصح، وإذا ما احتكمنا للعقل باعتباره معيار التقدم أو التخلف؛ نجدأن الفكر الرجعي لا يرتقي حتى إلى مرتبة الفكر الصوري؛ لافتقاره إلى البراهين الدالة على موجوداته الغيبية. والفكر الصوري شكلي بلا مادة أو روح، والأصل في صحة الفكر مادته أو مضمونه، فموضوع الفكر، لاشكله، هو ما ينطبق عليه مدى إمكانية التحقق من نتائج دراسته والبرهنة على صحتها. وبما أن الأفكار الرجعية تعتمد على سرد سِيَر الأولين برواياتها التي تختلط فيها الأكاذيب مع الحقائق، وصعوبة إخضاعها لمناهج البحث العلمي وتدقيقه؛ للتأكد من مدى صدقها ومعقوليتها من عدمه؛ فلا يمكن اعتبارها أكثر من شكل من أشكال المعرفة التي تعتمد على الرواية التاريخية التي يمكن أن تضيع في بعضها أو تُزيّف في بعضها الآخر.
ولتوضيح الفرق بين صورة الفكر ومادته، نفترض أن لدينا أربع مكعبات صُنِعَ أولها من الورق، وصُنِعَ ثانيها من البلاستيك، وصُنِعَ ثالثها من الخشب، وصُنِعَ رابعها من الألومنيوم، في هذه الحالة؛ يحق لنا أن نقول بأن المكعبات الأربع تختلف من حيث المادة التي صُنِعَتْ منها، لكنها تتشابه في هيئتها أو صورتها؛ لتشابهها في العلاقات الخارجية لأجزائها، وهي صورة المكعب. وكمثال تطبيقي على الفكر السياسي في تاريخنا المعاصر، نرصد هذا التناقض الواضح بالفارق بين الشكل الاجتماعي والمضمون السلطوي للبرجوازية في مصر إبان فترة حكم عبد الناصر، من ناحية مدى التوفيق بين الفكر والتنظيم، فتجد أن الشكل تَمثل في مؤسسات إنتاج مؤممة، تؤازرها مجموعة من التشريعات والقوانين المثالية، كقوانين الإصلاح الاقتصادي، التي استهدفت تفكيك بنية الإقطاع التي كانت متمترسة في النظام الملكي قبل الثورة، في مقابل المضمون الذي مثلته السيطرة الفعلية للبرجوازية التي تسللت إلى المواقع التشريعية والتنفيذية، وعطلت بأيديولوجيتها وبيروقراطيتها المتعمدة طموحات الجبهة الوطنية بأفكارها الاشتراكية، التي انحازت للطبقات الكادحة من أفراد الشعب؛ الأمر الذي خلق بوناً شاسعاً بين الشكل والمضمون في مجال تطبيق الأفكار؛ ونتج عن ذلك كله الإضرار بالبُنى التحتية وغيرها من مقدرات البلد في مجالها الاقتصادي.
أما إذا نظرنا إلى الفكر التقدمي فنجد أنه يربط بين المادة وصورتها، ويعنيه في المقام الأول المضمون، فكما يحتاج التقدم إلى قواعد يحتاج إلى سواعد، وإذا أخذنا الفكر التقدمي الغربي أنموذجاً؛ لوجدنا أن التقدم عندهم صار عقيدةٌ من ورائها روح تمثل الردار فائق الاستشعار، ردارٌ لا يكتفي فقط برصد ذبذبات التقدمية، بل بتسجيل ما ورائها من أفكار، عقيدةٌ تهدف إلى تحسين الأوضاع الإنسانية الفكرية والمادية على السواء؛ بحيث يصبح الإنسان أكثر قوةً وأمناً وصحةً وسعادة، الأمر الذي تحقق بالفعل على أرض الواقع، بعد أن أخذ المفكرون بأيادي شعوبهم في علمانيةٍ جريئةٍ، أرست دعائم دولة القانون والدستور، وفصلت الدولة عن الدين، فكان لها دورها البارز في نفض الغبار المتراكم منذ العصور الوسطى عن الجسد الأوروبي، واليوم يسعون إلى تدشين حضارة علمية كوكبية مزدهرة، يحمل الشمال، من غربه إلى شرقه، أثقالها وحده على كتفيه.
وفي تاريخنا بعض النماذج المشرقة التي حاولت بفكرها الليبرالي المستنير، مثل أحمد لطفي السيد وسلامة موسى، واللذان دعيا إلى تطبيق النموذج الحضاري الغربي بالكامل والتوجه بقوة باتجاه التصنيع؛ لنهضة الأمة المصرية؛ فكانا بحق بمثابة الخميرة اللازمة لمثل هذا التنوير المرتجى، لكنها لم تختمر تحت وطأة الفكر السلفي المتغلغل في أغلب عقول هذه الأمة، فكل من أقبل، في فضاءاتنا، على إحياء الفكر التنويري وتمجيده بإجلال ومهابة؛ باء بالخسران المبين، ولو كان قد قُدِّرَ لمثل هذه الأفكار من التمكين لأحدثت نتائج ثورية ثرية، ولساهمت في تشييد صروح أنبل معاني الخير والنماء، من عدالة وحرية ونظام ورفاهية وازدهار في مجالات العمل والإنتاج والإبداع، كما حصل في أوروبا، ولجعلتنا أكثر تركيزاً على احتياجاتنا الأساسية المتناغمة والمنسجمة مع طبيعة الحياة العصرية، ولأمدتنا بالعزيمة المثابرة على نقد المعتقدات والتقاليد التي تحض على التمييز والكراهية والقتل، وتحقر من قيم السماحة والحب والجمال، ولأصبحنا في مصاف دول مثل الصين أو كوريا الجنوبية على أقل تقدير.
وسارت بنا المقادير حتى دخلنا عصر العولمة، وتضاربت المشاعر إزاء مع من نستطيع أن نلعب، مع كبار الشمال المتقدم للغاية، أم مع صغار الجنوب وحالهم من حالنا؟ وقد ترافق ذلك مع سقوط الأيديولوجية الشيوعية في مواجهة الرأسمالية الاحتكارية، في خضم ثورة اتصالات مهيبة؛ تحول على إثرها العالم إلى قرية ذكية صغيرة بفضل شبكة الإنترنت، في عولمةٍ ساعدت على إثراء وتطور من أراد أكثر فأكثر، فكان الشمال- كما هو متوقع- مَن أراد. ودخلت أغلب دول الجنوب في فقرها المدقع؛ بسبب عدم امتلاكها للأرضية الفكرية الخصبة والأدوات التقنية المهارية اللازمة للمنافسة، لا بسبب العولمة في حد ذاتها؛ لأن العولمة ليست بالبشاعة التي يروج لها أصحاب نظرية المؤامرة في بلادنا، فللعولمة ميزاتها وعيوبها، لكن ميزاتها هي الأكثر وهي التي تكفل الخير للإنسانية جمعاء.
ففي مجال السياسة، للعولمة تجلياتها، التي تتمثل في الديموقراطية والتعددية الحزبية، واحترام حقوق الإنسان، وفي المجال الاقتصادي تأتي حرية التبادل التجاري على قمة أولويات منظمة التجارة العالمية، والتي تضمن مع حرية الاتصال وتبادل السلع وحرية تدفق الأفكار والتقنيات والخدمات وتنقل البشر دون قيدٍ أوشرط، وصيانة حقوق الملكية الفكرية، ومن آثارها الثقافية أنها أتاحت التقارب بين الشعوب ودمج البشر معاً حول أفكارٍ وممارسات بعينها ودشّنت ثقافة كونية شاملة؛ تعكس وحدة الإنسانية وعولمة مشكلاتها، وليس أدل على ذلك من هبة العالم المتحضر لنجدة ومساعدة إندونيسيا وغيرها من الدول الآسيوية المتضررة من كارثة تسونامي 2004 والتي راح ضحيتها 300000 نسمة.
صحيحٌ أن من أهم سلبياتها تفرُد الولايات المتحدة بالقرار الدولي في أحادية قطبية أخَلَّت بالتوازن الدولي؛ بعد تفكك الاتحاد السوفيتي 1991، واجتياح الرأسمالية المتوحشة بلداناً مثل روسيا ومصر؛ فتركت الأغلبية من شعوب هذه البلدان-خاصة مصر- في مهب رياح العرض والطلب؛ فبيعَ البشر والحجر، وبيعت حتى القيم. وواجه اقتصادها عمليات نهش منظمة، مارسته النخب السياسية التي تسارعت وتصارعت في تكديس الثروات الضخمة بطرقها المشروعة (الفساد بالقانون) التي سمحت لهم بالتضامن مع أرباب الإدارات العليا والوزراء والمستشارين بالحصول على أعلى الرواتب والحوافز والمكافأت والحصول على نسب محددة من الإيرادات السيادية التي تجمعها الوزارات والشركات التابعة لها في عملية انفتاح غير منضبط، ناهيك عن الطرق غير المشروعة من تلقي الرشاوي والعمولات والعطايا ...الخ.
وتُذكرنا تلك المفارقة بوضع الشعب ونظام حكمه في مصر قبل ثورة يوليو 1952 وبعدها، حيث نعمت مصر الملكية قبل الثورة بنظام ديموقراطي قائم على التعددية السياسية في غياب للعدالة الاجتماعية في ظل سيطرة الإقطاع على مقدرات الشعب، لتأتي الثورة بالإصلاح الزراعي وتلغي الإقطاع، وتؤمم الكثير من الهياكل الاقتصادية، وتنشيء القطاع العام، وتبني السد العالي؛ للنهوض بعدد من الصناعات وبالقرية المصرية بعد دخول الكهرباء، وتعمم مجانية التعليم في كافة مراحله، وتلتزم بتعيين كافة الخريجين، وضمنت الحد الأدنى من الحاجات الأساسية لأفراد الشعب، بتوفير المسكن الشعبي الرخيص والمأكل الرخيص والرعاية الصحية المقبولة وغيرها من الضمانات الاجتماعية الأخرى التي تحفظ للشعب كرامته في ترسيخ واضح للعدالة الاجتماعية. لكنها في المقابل قامت بإلغاء الأحزاب عام 1954 وأسست الاتحاد الاشتراكي، وانتقد الكُتاب هذا المسلك الأخير، ونعتقد أن مثل هذه الانتقادات ليست في محلها؛ لأن ما فعلته في مجال الرعاية الاجتماعية عاد بالفائدة على قطاعات كبيرة من فئات الشعب أكثر مما كان من الممكن أن تفعله التعددية السياسية، فما فائدة التعددية في شعب أغلب مواطنيه من الفقراء البسطاء التعساء والمهمشين على أكثر من صعيد؟
وتسير بنا عجلة التاريخ لتعيد ثورة يناير 2011 الإسلاميين- اللذين يجيدون دغدغة مشاعر الملايين بالدين- إلى الواجهة في انتخابات نزيهة؛ تعكس مدى تغلغل الفكر السلفي في عقول الأغلبية الساحقة من الدهماء البسطاء. ويصبح المواطن غير مطمئن وغير آمن في ظل حالة من الفوضى الرجعية، ومكمن الداء يتمثل في أن أفكارنا الرجعية تنحصر في دائرة مقدسة ضيقة قائمة على التفسير اللاهوتي للواقع، الذي تقضي بمقتضاه بعض معتقداتنا أوقاتاً ممتعة مع الموت والمتاجرة به، وتشكيل جماعات إسلامية تتوق إلى ماضيها البطولي المزعوم والقائم على الفكر الجهادي، الذي يدعو إلى الجهاد ضد كل من ينتمي إلى دار الكفر وأربابه من أهل العلم والتكنولوجي، ويبرر سفك وبذل الدماء مرضاةً للرب! فصرنا كالوباء الكاسح والطاعون الأسود الذي يخشاه ويتحاشاه الجميع.
كما وتحلم هذه الجماعات بدولة الخلافة الشمولية، ليُحيوا ثقافة الغزو القائمة على القتل والسبي؛ إجلالاً "لفضيلة النكاح" ومكرمةً للرق ومرضاةً لملكات اليمين من الإماء السبايا. والسطو والاستلاب وترويع الأمنين، دولة الخلافة التي كانت مليئة– في صدر الإسلام- بالفتن والمؤمرات والاغتيالات؛ لتقيم الحدود؛ فتقطع يد السارق، وتقطع أيدي وأرجل الفاسد من خلاف، وتشكيل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مع أن السجون في عصرنا الحديث وجدت بمضمونها المدني/الحضاري والإنساني للحد من مثل هذه الجرائم القروسطية التي تتنافى وحقوق الإنسان، ففيها الإصلاح والتهذيب اللازمين للعقاب على أي جرم، باستثناء القتل العمد، أو عن عقيدة تحرض على القتل، فالإعدام أو القتل في الحرب على الإرهاب مثلا، يعد عملا مشروعاً للدفاع عن النفس وتكفله القوانين الدولية.
والمشكلة تتفاقم؛ لأن مثل هذه الأفكار الرجعية تظل ترواح مكانها على الدوام وفي أحشائها تتشكل أجنة سلفية تتراكم بتراكم الأجيال، وهذا التراكم يضمن استمرارية هذا النوع من الأفكار، واستمرارية نصبها أفخاخاً لمسيرة التقدم، ومن أشهر أفخاخها؛ التهم الجاهزة على الدوام بازدراء الأديان، يلقون بها في وجه كل من حاول الانطلاق مغردا- بفكره المستنير- بعيدا عن سرب القبيلة بأطروحاتها التي تؤكد دوما على أن تقدمنا لن يتحقق إلا بالرجوع إلى الوراء، وبأن الإسلام هو الحل، وبأن الإسلام دين ودولة، وبأن النقل أسبق على العقل، ولا اجتهاد في موضع النص ... الخ، ومن أفخاخهم أيضا التفريق القسري بين الزوج وزوجه؛ كنصر أبو زيد، وإهدار دم من تجرأ على النقد، مهما كان موضوعياً ...الخ.
ولأن مثل هذه الأفكار وما شابهها تحولت إلى عادة يصعب اقتلاعها من جذورها؛ يصبح ترميمها أو تدجينها غير ذي جدوى، مع العلم بأن الإنسان على سبيل المثال، وخلال مسيرته الحضارية استطاع أن يُدَجِن الكلب الذي ينحدر من السلالة الذئبية، ودرَّبه على حماية قطعان الضأن بعد أن كان يفترسها، ونحن في المقابل عاجزون عن تدجين أفكارنا الدوجماتية المتطرفة التي تصنف البشر إلى مؤمنين ومشركين وكفار، حسب نصوصنا الدينية، هذه هي حقيقة الصورة النمطية عن تخلفنا بدون مساحيق، ولها ما يبررها لدى الشرق والغرب. فتُهمة "ازدراء الأديان" دليلٌ دامغٌ على "هشاشة فكرنا"، لذا؛ فنحن أمة تمارس – بلا حياءٍ- الإرهاب الفكري بموازاة الإرهاب التكفيري/الجهادي!

وبالعودة إلى المشهد الثقافي،يمكن أن تلحظ العين الفاحصة اختلاطا ليس له نظير بين التراث وأفكار الحداثة، وتتنازع الأفكار والأفكار المضادة، بين مدٍّ سلفي وجزرٍ تنويري، هذه الحيرة أصابتنا بإعاقة ذهنية مستفحلة، كان أبرز مظاهرها شيوع الأمراض العقلية والنفسية على المستويين الفردي والمجتمعي، ومن أشهرها حالاتاضطراب الهوية الانشقاقي (ازدواج الشخصية) والشيزوفرينيا التي أصابت أغلب الناس؛ فتجد مثلاً أستاذا جامعياً يحاضر في الجيولوجيا بالمعمل والميدان، ثم يترنم بسفر التكوين في أوقات فراغه، وآخر يحاضر في البيولوجي عن تطور الأحياء ويُقبل على تلاوة آيات الخلق! ومن أبرز مظاهر هذه الازدواجية الجمعية التي تعيشها مثل هذه المجتمعات المضطربة نفسياً، هو إقبالها الشره على استهلاك منتجات الحضارة الغربية من سيارة وتليفون محمول وكمبيوتر وتليفزيون وثلاجة وغسالة وغيرها من مظاهر التحضر المستوردة. ورفضها- في ذات الوقت- لقيم وأفكار هذه الحضارة العصرية الكافرة! ولذا فإن كل المجتمعات المتخلفة تعاني حالة من عدم الاتزان النفسي؛ لاضطراب أفكارها؛ وما يزيد المشكلة تعقيداً؛ أن كل أمة مُتَخلِفة ترى في نفسها خير أمة أخرجت للناس؛ ولذا؛ لن تُرخي، الأفكار الموحشة العتيقة، قبضتها أبداً عن مثل هذه المجتمعات.
وحالة القصور الفكري لدى هذه الدول، تتجلى عند النظر إلى الوجود المادي من حولها، فتجدها تختلف عنها في البلدان المتقدمة، فبينما تنحو الدول المتقدمة نحو المزيد من التجرد من الانفعالات العاطفية، والميل بموضوعية نحو الواقعية، التي تعتمد على الحقائق العقلانية البراجماتية التقنية، وتنأى بنفسها عن الغيبيات والمثالية الأفلاطونية، تلك الفلسفات التي أعقبت عصر النهضة وحركة الكشوف الجغرافية الكبرى أوائل القرن السادس عشر، تجد البلدان المتخلفة وشعوبها لازالت أسيرة الاستجابات العاطفية والغيبية؛ فيتبدى الواقع- بالنسبة لها- غامضاً ومعقداً وأقوى من طاقتها على الاستيعاب؛ الأمر الذي يؤدي إلى النكوص والاستكانة والاستسلام والغرق في حالة من الخمول والجمود واليأس والقنوط في النهاية، والشخصية المتخلفة كبنيتها الاجتماعية المتخلفة تستسلم-عندئذ- للوهم وتركن للوسائل السحرية والخرافية المصحوبة بالقدريَّة، كمسكنات لآلامها أو هربا من تأزم أوضاعها وضبابية واقعها؛ وذلك لعدم قدرتها المتخلفة على السيطرة على مفردات ذلك الواقع بكل تفاصيله.
ويظل الإنسان المتخلف عند مستوى الانطباعات الأولية العامة والملاحظة البلهاء والاستنتاجات القدرية الساذجة، عند النظر في طبيعة الظواهر والأمور بمختلف علاقاتها؛ فيكتفي بالمعرفة الحدسية السطحية، التي لاتذهب بعيدا داخل منظومة البحث العلمي بمنهجياته العقلانية؛ ويقنع بالقشور؛ ولذلك يظل بعيدا عن التحليل الحقيقي للظواهر، والمعروف أن تحليل الظواهر عمقا واتساعا هو الشرط الأساسي للسيطرة على الواقع، فبمقدار عمق التحليل؛ ترتقي الاستنتاجات؛ ولذا تجده يخلص إلى إطلاق الأحكام القطعية المتسرعة والنهائية بشكل مضلل؛ وينتج عن كل ذلك إحساس المتخلف بالضعف والعجز؛ ما يؤجج غرائزه وانفعلاته أكثر فأكثر؛ وتبعا لذلك تصيبه حالة من التوتر تستدعي وسائلا بدائية هي الإسقاط الذي يسمح له بتصريف انفعالاته وصبها على الآخر، فينجرف إلى دوامة الانفعال التي يعقبها في الغالب أعمالا عدوانية في نهاية المطاف.
وقد انعكست آثار هذه المناخات المرضيّة الفاسدة على كافة مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية؛ فكم من الجهود والأموال والأوقات التي أُهدِرت على الخطط المستوردة والمشاريع البراقة والتي فشلت كلها في إحداث تحول تقدمي نوعي أو تنموي مستدام، يطال البُنى الفوقية والتحتية على السواء؛ والسبب الرئيس يرجع إلى إهمالها عنصر التنمية البشرية أولاً وقبل كل شيء. كما ساهمت هذه المناخات على أن تسود بالمجتمعات المتخلفة أقلية تمتلك مقاليد الأمور؛ فيصبحون هم الأسياد الرابحون، وتُهَمّشُ فيها الأكثرية،أو طبقة العبيد، التي تُحكم بالتضليل وتعليب الوعي تارة، وبالقمع تارةً أخرى، ولذا فهي مجتمعات مريضة لا شك في ذلك.
تلك هي سيرة ومسيرة الأفكار وما تؤول إليه،ونخلص من هذا كله بأن تخلفنا تخلفاً فكرياً قبل أن يكون تخلفٌ تقني، وعلى المريض قبل أن يبدأ رحلة العلاج، يجب أن يقر ويعترف بمرضه أولاً، ثم يعلن عن رغبته في الشفاء ثانياً؛ بعدها يسهُل العلاج؛ وعندها يمكننا أن نستفيق من هذا التشبس المتشنج بالتراث النازف، وبعدها نفرغ للإنتاج وتعظيم الفائض منه، ولربما أمكننا العيش المشترك والحصول على الدعم الحقيقي من الشرق والغرب في نهضتنا المرجوة، وتجنيب أجيالنا القادمة تمزق إراداتها بين القديم والحديث، كما كنا منذ أن وعينا. ولن يُكتب لمناخ التنوير النجاح إلا بفناء أو إفناء الأجيال الأميّة والراديكالية في فكرها، أو قهرها وإرغامها على قبول العلمانية؛ تمهيدا لانخراطها في العولمة واستقبال الأجيال التالية، التي ستكون عندئذ قد تربت على الفكر الصحيح، وبهذا نكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح، وطوبى لاستجابةٍ لامست عصباً حساساً لشهقةٍ كانت بالضرورة على الصواب، وسُحقاً لكل "لوديٍّ" تقليديٍّ متعجرفٍ شدهُ الحنين المرَضيّ إلى ماضيه المظلم البغيض.



#جميل_النجار (هاشتاغ)       Gamil_Alnaggar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعرف على طبيعة فِكرك
- قراءة جديدة للتاريخ
- أصل العقيدة (سياقها التاريخي بين العلم واللغة)
- ما هو الوقت؟
- الديانة البوذية (سطورٍ الاستنارة البدائية المضيئة)
- مصر بإسلامييها إلى أين؟
- نفسية التشفي
- أصل النار (هل نحن حقا نعرف النار؟)
- مستقبل الدولار (الفرق بين التنبؤ العلمي والتخمين)
- انما هي نفسية البشر!
- الإدراك السليم والاضطرابات الإدراكية (معايرة إدراكنا ومدركات ...
- المعنى الغائب (للعدميين والعبثيين)
- تطور الحيتان من وحي التطور الأحيائي (12)
- نسبية الأخلاق
- حقيقة الحقيقة (ردا على الأسئلة الوجودية الكبرى 1)


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل النجار - تأملاتٌ فكرية حيرى بين التقدمية والرجعية