أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل النجار - الإدراك السليم والاضطرابات الإدراكية (معايرة إدراكنا ومدركاتنا بمدركات الأمم الأخرى)















المزيد.....


الإدراك السليم والاضطرابات الإدراكية (معايرة إدراكنا ومدركاتنا بمدركات الأمم الأخرى)


جميل النجار
كاتب وباحث وشاعر

(Gamil Alnaggar)


الحوار المتمدن-العدد: 6623 - 2020 / 7 / 20 - 23:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الإدراك السلـــيم والاضطرابـــات الإدراكيــــــة
(معايرة إدراكنا ومدركاتنا بمدركات الأمم الأخرى)

بالإضافة لعلم النفس التطوري، أنا من أشد المعجبين بعلم النفس التجريبي الغربي، والذي أكدت أحدث أبحاثه على أن الإدراك يُوْلَد حسيّا مع ميلاد الطفل، وينمو بنموه؛ إلى أن يصبح قادراً على التمييز العقلي بين ما يحيط به من ظاهرات؛ ومن ثم القدرة على بناء نموذجه الخاص القادر على تفسير كيفية سير الأمور عندما يتجول- كإنسان- في العالم المحيط به؛ وذلك عن طريق فرض العديد من الفرضيات العلمية الآنِيّة لحين إثباتها أو دحضها؛ بغية تصحيح الصور الحدسية المؤقتة؛ ليتمكن من أن يدرك عالمه الموضوعي الحقيقي تمام الإدراك.
ووفقاً لهذه المدارس التقدمية الحديثة؛ فالإدراك هو تنظيم المعلومات الحسية وتحديدها وتفسيرها من أجل تمثيل وفهم البيئة المحيطة بنا. وتتضمن مجمل العمليات الإدراكية إشارات في الجهاز العصبي، والتي تنتج بدورها عن التحفيز الفيزيائي أو الكيميائي للأعضاء الحسية. إنه ليس الاستلام السلبي لهذه الإشارات؛ ولكن يتشكل من خلال التعلم والذاكرة والتوقع والاهتمام. وكشفت تلك الدراسات، عن أن عمل العمليات الإدراكية؛ يتأثر بثلاث فئات من المتغيرات:
1. الأشياء أو الأحداث التي يتم إدراكها.
2. البيئة التي يحدث فيها الإدراك.
3. الفرد الذي يدرك.
وتكمن أهمية الإدراك القصوى في فهم السلوك البشري؛ لأن كل شخص يدرك العالم ويتعامل مع مشاكل الحياة بشكل مختلف. وكل ما نراه أو نشعر به ليس بالضرورة هو نفسه كما هو في الواقع. إذ يعتمد سلوك الأشخاص على تصوراتهم لما هو عليه الواقع، وليس على الواقع نفسه. إذ يمكنك أن تلاحظ أنه عندما نشتري شيئًا، فهذا ليس لأنه الأفضل، بل لأننا نأخذه ليكون الأفضل. وإذا تصرف الناس على أساس تصورهم؛ فيمكننا التنبؤ بسلوكهم في الظروف المتغيرة؛ عن طريق فهم تصورهم الحالي للبيئة. فقد ينظر شخص ما إلى الحقائق بطريقة ما قد تختلف عن الحقائق كما يراها مشاهد آخر. وبوجه عام، يعتمد الإدراك على الوظائف المعقدة للجهاز العصبي والتي تعمل بشكل تلقائي، في الغالب، بلا بذل أي مجهود لأن هذه المعالجة تحدث خارج العقل الواعي.
لكن بمساعدة سيكولوجية الإدراك، يمكننا تحديد احتياجات مختلف الأشخاص، لأن تصور الناس يتأثر باحتياجاتهم. كما أن الإدراك يبني الشخصية (بغض النظر عن أنها شخصية جيدة أو سيئة) التي تحدد الأدوار المختلفة للأفراد؛ فمنهم من يقع في "دور المهرج"، ومنهم من يقع في "دور المنافق"، ومنهم من يقع في "دور الصالح"، ومنهم من يقع في "دور الضحية"... إلخ.
ومن المهم للغاية؛ إذا ما أردنا أن نتوافق مع الآخرين، خاصة إذا كانوا من البسطاء الفطريين المحافظين غير العنيفين؛ أن نحاول رؤية الأشياء من منظورهم هم، وليس من منظورنا نحن، أو كما يُقال: "المشي في أحذيتهم لفترة من الوقت". وإذا مشينا في أحذيتهم؛ فسوف نكتسب منظورًا جديدًا حول الأشياء؛ وبهذا نفهم الآخر. ونستطيع أيضًا أن نحب الآخر، ونساعده بشكل أكثر ملاءمة. وبالتالي؛ لفهم السلوك البشري، من المهم جدًا فهم إدراكهم، أي كيف ينظرون إلى المواقف المختلفة.
والخيال الإنساني ذا طبيعة لدنة؛ فعندما نستقبل معلومات حسية جديدة، تتغير مدركاتنا وفقا لها. وفي حالة الإدراك الحسي؛ يمكن لبعض الناس أن يروا حقيقة التغير في المدرك البصري بما يمكن أن نسميه "العيون العقلية". لكن الأشخاص الآخرين الذين لا يتمتعون بتفكير صوري؛ تكون الصورة لديهم مُلتبسة، وهذه تملك أكثر من تفسير على المستوى الإدراكي. وبشكل عام؛ أكد العلم الحديث أن 95 % من معرفتنا وإدراكنا للبيئة المحيطة بنا ناجم عن حاستي البصر والسمع وحدهما.
ويتم تحديد الإدراك من خلال الخصائص الفسيولوجية والنفسية للإنسان، في حين يتم تصور الإحساس مع السمات الفسيولوجية فقط. وينظم الإدراك المعلومات المدركة بطريقة محددة، ثم يقوم المخ بتفسير المعلومات لعمل تقييم ما يجري في بيئة المرء. وشملت السمات الشخصية التي تؤثر على الإدراك مواقف الشخص، ودوافع الشخصية، وتجارب الماضي، والتوقعات. فالإدراك إذن؛ عملية عصبية تبدأ بتفعيل مستقبلاتنا الحسية (البصر، السمع، اللمس، التذوق، الشم). ثم يأتي دور التنظيم في عملية الإدراك، حيث نقوم بفرز وتصنيف المعلومات التي ندركها بناءً على الأنماط المعرفية الفطرية والمتعلمة.
وهناك ثلاث طرق لتصنيف الأشياء إلى أنماط هي: باستخدام مدى القرب، والتشابه، والاختلاف. ثم يقوم المخ بالترجمة. وبعد أن حضرنا حافزًا، وتلقت أدمغتنا المعلومات ونظمتها؛ نُفسِرها بطريقة منطقية باستخدام معلوماتنا الموجودة حول العالم من حولنا. ويعني التفسير ببساطة أننا نأخذ المعلومات التي أدركناها ونظمناها؛ لنُديرها بشكل يمكننا من تصنيفها. وبوضع محفزاتنا المختلفة في فئات على هذا النحو؛ يمكننا فهم العالم من حولنا والتفاعل معه بشكل أفضل.
وفي بعض الأحيان نلمس طبيعة ملتبسة محيرة للإدراك الحسي، يمكن أن تظهر في بعض التقنيات الحيوية التي تستخدمها الأحياء في الطبيعة مثل : التقليد والتمويه. ولكي تعمل تقنيات الإدراك الحسي؛ لابد لها من شروط: يأتي في مقدمتها وجود مثير. يتبعه الإحساس بهذا المثير: أي أن يشعر الفرد بآثار المثير؛ وبذلك يكشف الإحساس عن وجود ذلك المثير. ثم التعرف على نوعية المثير ـ إدراكه ـ أي أن يكون المثير له معنى معين. وبعد ذلك تكون الاستجابة: التي تحدد نوع السلوك أو ردة الفعل. وتكون استجابة الفرد هنا محكومة بخبراته الإدراكية السابقة وما مر به من تجارب. فمن مرَّ بتجربة زلزالية ما؛ وأحس بهزةٍ أرضية خفيفة (المثير) أدرك بأنها دليل على الخطر؛ فاستجاب، وفقا لخبرته السابقة، بالهرب. ولذا؛ فالإدراك يحتاج إلى ذاكرة تتعاقب فيها العمليات على هذا النحو: المثير- الإحساس- التعرف والادراك- الاستجابة.
وثبت علمياً بأن العمليات المعرفية المتمثلة في الإحساس والانتباه والادراك؛ ترتبط جميعها معا في رباط وثيق. ومع أنه قد أمكن التميز بين الإحساس والانتباه والإدراك من الناحية الأكاديمية، إلا أن المرء لا يمكنه، في العادة، الفصل بينهم في الواقع العلمي العملي، كعمليات عقلية معرفية مستقلة عن بعضها تماما. حيث تعمل تلك العمليات معا في تناغم وتآزر مستمرين في شكل حلقة متكاملة، ويؤثر كل منهم بالآخر ويتأثر به في آن واحد.
ومعلوم بأن العوامل الداخلية المؤثرة؛ يتأثر فيها إدراك الفرد بما حوله من مثيرات ومواقف وأشخاص وظواهر بعدد من العوامل الذاتية المتعلقة بالشخص ذاته؛ حيث توجه تلك العوامل إدراك الفرد وسلوكه وردة فعله وفقا لبعض المتغيرات وهي:
• الإيحاءات التي تقف وراء المثيرات.
• الانطباعات والأفكار المسبقة.
• التوقع المبني على الخبرات السابقة.
• الحالة الانفعالية والمزاجية للفرد.
• ميول الفرد واتجاهاته.
• حاجات الفرد ورغباته.
وأيضا؛ يتأثر إدراك الفرد لما حوله من المثيرات ومواقف وأشخاص وظواهر؛ بعدد من العوامل الخارجية الموضوعية المتعلقة بالمثيرات الخارجية، حيث توجه تلك العوامل إدراك الفرد وفقا لبعض المتغيرات:
• خداع الحواس.
• العالم المليء بالتباينات والتغيرات، وكذلك بالتضاد والتناقضات.
• العوامل الظرفية مثل وقت إدراك الآخرين، وإعدادات العمل، والإعدادات الاجتماعية، وما إلى ذلك مما تؤثر على عملية الإدراك.
• القيود والمحاذير التي تفرضها المعتقدات والعادات والتقاليد المجتمعية وآثارها السلبية على نفسية الكثير من الأذكياء والنابهين المتمردين.
والإدراك قديماً كان يتم بالجمع بين الحدْس (الفراسة والتخمين دون تحقق أو استدلال، وبغير هداية أو هدف) والحواس التي قد تنخدِع فتخدع أحياناً؛ دونما توظيف وإعمال للعقل بالشكل الجدي؛ لضحالة رصيده المعرفي تبعا لطبيعة المرحلة التطورية. وما زاد الأمر سوءً؛ وأدى في الماضي إلى تأخر إدراكنا لطبيعة محيطنا البيئي نحن البشر؛ عدم قدرتنا على علاج الاضطرابات الإدراكية التي تولد مع مواليدنا، وما يتشكل منها في مرحلة المراهقة، التي تتسم في العادة بالاضطرابات النفسية وما يرتبط بها من اضطرابات معرفية تتميز بضعف القدرة على إدراك طبيعة الأشياء أو المفاهيم من خلال استخدام أعضاء الحس. وهي ذات علاقة بالاضطرابات النفسية العصبية المصاحبة للأمراض النفسية الوظيفية.
وتشمل هذه الأمراض متلازمات الإهمال المكاني، حيث لا يعتني الفرد بالمحفزات البصرية أو السمعية أو الحسية المقدمة من جانب واحد من الجسم. وفي كثير من الأحيان تكون الأحكام المسبقة عن الفرد، ووقت الإدراك، والخلفية غير المواتية، وعدم وضوح التحفيز، والارتباك، والصراع وغيرها من العوامل مسؤولة عن الأخطاء الحاصلة في الإدراك والتصور أو عدم التماثل الإدراكي وعلاقته بكل هذه التفسيرات النفسية/العصبية، وموضوعة في الاعتبار عند بدء العلاج.
ومن أشهر التهيؤات الناتجة عن الأخطاء في التصور:
• الوهم.
• الهلوسة.
• تأثير الهالة.
• النمطية.
الوهمُ تصورٌ خاطئ. هنا يخطئ الشخص في التحفيز ويدركه بشكل خاطئ. حيث يتشكل الوهم عندما يقدم الإدراك تفسيرًا خاطئًا للمعلومات الحسية؛ وفي ذلك إشارة إلى التصورات غير الصحيحة. والتوهم عبارة عن إحساس مشوّه أو مفسّر تفسيرا خاطئا، كما يتميّز من خلال ذلك الحلم عن التخيل والذي يتحقق بإرادة الإنسان وهو عبارة عن تصرف في صور المحسوسات الواقعية. فعلى سبيل المثال؛ قد يُخطئ الشخص الموهوم في الظلام، بتشخيص الحبل على أنه ثعبان أو العكس. وقد يُخطئ في ترجمة صوت شخص ما غير معروف على أنه صوت صديق. وهناك نوعان من الأوهام: تلك الناتجة عن العمليات الفيزيائية والأخرى الناتجة عن العمليات المعرفية. ويمكن أن تتطور الأوهام الناشئة عن تشويه الحواس للظروف المادية المحيطة؛ إلى الهلوسة، حيث يدرك الفرد أشياء غير موجودة، على سبيل المثال، رؤية العطشى للسراب على طريق جاف بأنه ماء.
أما الهلوسة، فتحدث حينما يدرك الفرد بعض التحفيز غير الموجود. فقد يرى الشخص شيئا ما، شخصًا ما، أو قد يستمع إلى صوت ما... إلخ. على الرغم من عدم وجود لكل هذه الأشياء في الواقع. يمكن تعريف الهلوسة بأنها الإحساس في حالة اليقظة والوعي بمحسوس غير موجود، وبالتالي ومن خلال هذه الخصائص يمكننا تمييز الهلوسة عن الحلم الذي لا يحصل في حالة الوعي. كما يمكننا من خلال التعريف المذكور أن نميز ما بين الهلوسة والهلوسة الكاذبة، والتي لا تحاكي المحسوسات الواقعية، ولكنها تتم دون إرادة الإنسان. وتختلف الهلوسة أيضا عن "الإحساسات الوهمية" التي يقوم المريض المصاب بها بتحسس محسوسات واقعية بشكل صحيح وتفسير سليم إلاّ أنه يعطي هذه المحسوسات مغزى إضافيا غريبا تتنوّع أشكال الهلوسة ما بين بصرية وسمعية وشمية وذوقية ولمسية، كما يمكن للهلوسة أن تصيب إحساس الإنسان بالتوازن والحرارة والألم، كما تصيب إحساس الإنسان بالمواضع النسبية لأجزاء جسمه المتجاورة. يعتبر الاضطراب شكلا مخففا من الهلوسة ويمكن أن يحدث في أي من الحواس المذكورة، ومن أشكاله سماع أصوات منخفضة أو إزعاج خافت، أو حدوث تحركات في البصر الطرفي. تتعدد العلل التي تسبب الهلوسة، حيث تعتبر الهلوسة عرضا جانبيا لبعض الأدوية، كما يؤدي الحرمان من النوم إلى الهلوسة، وبعض أنواع الاضطرابات العقلية والعصبية؛ الناتجة عن ضغوطات مجتمعية كتلك التي يقع تحت وطأتها سكان الشرق الأوسط الواقعين تحت تأثيرات التصورات الغيبية والحياة القبلية؛ يمكن أن تؤدي إلى هذا المرض الذي انتشر بين مفكريها؛ حتى وأنه قد ثبت ادعاء بعضهم للنبوة في تلك المناطق.
وقد وضعت العديد من النظريات العلمية لتفسير ظاهرة الهلوسة، فعندما كانت النظريات النفسية الحركية (نظريات فرويد) شائعة في الطب العقلي، كان التفسير الشائع على أساسها هو أن الهلوسة ما هي إلا بروز الأماني والأفكار والرغبات الطافحة من العقل الباطن على صفحة الوعي، ولاحقا تصدرت النظريات البيولوجية وأخذ العلماء (الأخصائيون النفسيون على الأقل) بتفسير الهلوسة على أساس أنها خلل وظيفي في الدماغ. ويمكن القول أيضا بأن فعالية ووظيفية الناقل العصبي المعروف بهرمون "الدوبامين" تعتبر مهمة في هذا الخصوص، وقد حققت بعض بحوث علم النفس حديثا في القول بأن السبب المسؤول عن الهلوسة هو حدوث تحيزات في القدرات "الميتا-إدراكية"، وهذه القدرات تسمح لنا بمراقبة وسحب الاستدلالات من حالاتنا النفسية الداخلية (مثل النوايا، والذكريات، والعقائد والأفكار)، وتعد القدرة على التمييز ما بين مصادر المعلومات الداخلية ذاتية التولد ومصادر المعلومات الخارجية (المحفزات) تعد هذه القدرة مهارة "ميتا-إدراكية" مهمة، ولكنها قد تتحلل مسببة الهلوسة، كما قد يتشكل بروز الحالة الداخلية أو تفاعل الشخص اتجاه شخص آخر على شكل هلوسات وبالخصوص هلوسات سمعية، وهنالك فرضية حديثة أخذت تكسب قبولا بين المختصّين تسلط الضوء على دور التوقّعات الحسية الشديدة التي قد تولد مخرجات حسية عفوية.
وأما تأثير الهالة، فيقصد به تقييم الفرد على أساس الجودة أو الميزة أو السمة الإيجابية المتصورة. عندما نرسم انطباعا عاما عن الفرد على أساس خاصية واحدة، مثل الذكاء أو المؤانسة أو المظهر، فإن معنى ذلك أن تأثير الهالة يعمل بداخلنا. وعندما يقع الأشخاص في فئة عامة واحدة، على الأقل، بناءً على السمات الجسدية أو السلوكية، ثم يتم تقييمهم. وعندما نحكم على شخص ما بناءً على تصورنا للمجموعة التي ينتمي إليها، فإننا عندئذ نستخدم الاختصار المسمى "التنميط" وهو الأمر الذي يحدث في العادة.
وبالنظر إلى كل تلك المفاهيم والأسس والمعايير العلمية الحديثة عن الإدراك؛ تجدها وقد باتت مفهومة لدى الأمم المتحضرة بل وآمنت بأن الإدراك لا يخلق فقط تجربتهم للعالم من حولهم؛ بل يسمح لهم بالعمل ضمن بيئتهم؛ فساعدها ذلك على أدراك واقعها على النحو الصحيح. وأثبتت تجاربهم العلمية الحديثة بأن التمييز والتصنيف باتا واضحين بين الإدراك الحسي والإدراك العقلي. فمجالات الإدراك الحسي تجسدها الفنون، أما مجالات الإدراك العقلي فتُجسدها العلوم. ونجحوا في المفضالة بين مدى إمكانية وأهمية عمل كل منهما على حده. ووصلوا إلى نتائج حاسمة، كان من أبرزها: سيادة العقل؛ فبالعقل وحده يمكن إدراك المعارف، من خلال هيمنته على الحواس والحدس، لأنه القادر على تمييز الصحيح من الزائف، فيما تقدمه له الحواس من صور وبيانات، فالحواس وحدها قاصرة، وقد تكون الحواس في الحيوانات أرقى منها في الإنسان، فمنها ما هو أحد منه بصرا، ومنها ما هو أرهف منه سمعا، وهي، مع ذلك القصور، خير معين للعقل؛ إذ تقوم بدور رصد وجمع البيانات وإدخالها إلى ذاكرة العقل- بإدارة وتوجيهٍ منظم منه- أما عقل الإنسان منا فقادر على التصويب إذا أخطأ؛ بوضع الأمور موضع البحث والتجربة، من خلال شكه المتواصل في الفروض والنتائج، ولا يقنع إلا إذا وصل- من خلال شكه هذا- إلى الدليل القاطع أو الحقيقة الخالصة واليقين الناصع. والصفة الأسمى للعقل تتمثل في قدرته على التفكير المنطقي السليم من خلال معاييره الموضوعية التي يعتريها دوما النزوع الفطري باتجاه الاستنباط والاستقراء والاستدلال والاستنتاج العقلي...الخ؛ مُتحريّاً أصدق الحقائق العلمية وأبلغ الأقوال معنى ومبنى. والأهم من كل ذلك نزوعه باتجاه التشكيك؛ ما يتيح الفرصة للمراجعة حتى الاستوثاق من الحقيقة؛ ما أتاح لهم استغلال بيئتهم وغيرها من بيئات أخرى استعمروها فعمروها؛ بإدراكهم الواعي لمدركاتهم المادية؛ الأمر الذي دفع، بدوره، بعجلة التقدم على كافة المستويات.
أما نحن فلازلنا مستمرئين العيش في تهيؤاتنا التي هرعنا للعيش في رحابها الخرافية؛ بعدما تأكدنا من أن حواسنا الفطرية وقشرتنا الدماغية (كوسائل إدراك حيوية) لن تسعفانا في الحصول على أي دليلٍ ملموس يصلنا بمعشوقنا المتعالي في العلالي والمُمْعِن في التخفي بممالكه الخلفية خلف ظهر المجهول؛ ذلك الرجل الأبيض العملاق "المزاجنجي" الملتحي والغضوب اللعان والمتسلط بقدرية خانقة ويعاني البارانويا والإحساس المفرط بالنقص ويحتاج لنصرة عاشقيه بالقتل والسلب والسبي. فكانت تهيؤاتنا الملاز الآمن من شكوكنا المنطقية التي لاحقتنا – عن استحياء- ونحن نحزم واقعنا بدار الفناء ودنيانا الدنيئة وحملناه على أكتافنا الهزيلة ونحن في طريقنا إلى موئلنا المخملي بتهيؤاتنا الأبدية؛ ففشلنا في التعرف على واقعنا المادي؛ وتركناه لخبرائه من العقلانيين الذين استجارنا بهم ليكتشفوا ويستخرجوا لنا خيراتنا ومواردنا الاستخراجية من باطن أراضينا؛ مقابل امتيازات حرمتنا الكثير من عوائدنا؛ كما في حالات النفط والغاز وغيرهما؛ وبما تبقى لنا نعود به اليهم مستوردين به أكثر من نصف غذائنا وكل تقنياتنا تقريبا؛ فزاد تخلفنا – تبعا لذلك- بامتياز في كل أمور دنيانا؛ آملين العوَض في دار الرفاه، التي غرستها أيديولوجية أجدادنا القدماء في تربة كافة الأيديولوجيات اللاحقة.
ولأننا لم نستخدم وسائلنا الإدراكية الحيوية؛ ضَمُرَتْ؛ وبتنا حتى اليوم نخطئ حتى في تفسير وفهم سلوكيات أطفالنا، وننظر إليهم بشكل خاطئ في أحايين كثيرة. ولطالما أسقطنا انفعالاتنا وتفسيراتنا – نحن الكبار- مثلاً؛ على الأطفال؛ متبوعةً بالعقاب. وهم أبعد ما يكونون عما يدور بخلدنا؛ فمن المعتاد عندنا تفسيرنا الغبي لسلوكيات الأطفال؛ على أنها تحركات وأفعال بدوافع سيئة أو شريرة، في حين أنها لا تعدو أن تكون سلوكيات طفولية بريئة؛ ما يعني بأننا قد أسقطنا دوافعنا ونوازعنا – نحن الكبار- على الصغار؛ وهذا جهلٌ منا مبين؛ نابع من ملاحظتنا السطحية لسلوك الآخرين، وتفسيره تفسيرا لا يستند على أي معايير علمية صحيحة، وبأن ما نراه في الآخرين؛ محكومٌ بدوافعنا واستعداداتنا ونوازعنا ومعتقداتنا وتهيؤاتنا وتحيزاتنا واهتماماتنا واتجاهاتنا وزِدْ عليها كل ما شئت أن تقول!
ويكفي للوقوف على الفارق بين مفهومنا للإدراك ومفهوم الأمم المتحضرة؛ أن تقارن بين منتجاتنا الفكرية - كأمة- ومنتجات باقي الأمم، ومن أشهر منتجاتنا: كتاب "الإدراك" لأبي محمد سميح بن محمد بن القاسم بن محمد بن الحسين، من منشورات: مؤسسة الأسوار- عكا، 2000. والذي استهله بفصل: "إدراك التهيؤ" بالثناء على المبدع العظيم، رافع السائل بالأثير تكوينا نظيما في التكوين النظيم، واهب المكان نعمةً والزمان محنةً للإنسان، ميزانا منصوبا للكائنات كافة والأكوان... الخ. تبعها بفصل: "إدراك الخليقة" بدأها بقوله: علمك علم اليقين، مقيم الحد بين الظنون والظنين، فيصل الحق بين شبهة المشبوه... الخ. تلاها: "إدراك الديانات" قال فيها: اللهم فيك غاية التوحد، ولا نهائية التفرد، ولنا نعمة التعدد، وحكمة التجدد، اللهم سدد ضمائرنا إلى إدراك الديانات، أرشد عقولنا إلى جوهر النبوءات، وعبرة الرسالات... الخ. ولحقها بفصل: "إدراك السلوكيات" بدأها بقوله: بسم الله بدء الكلام، وأول اللقاء السلام، وتحية التصافي الختام، وليكن اقتصاد في العبارات، وتناسق في الأصوات، وإقلال من الاشارات، واعتدال في الايماءات... الخ. ثم فصل: "إدراك الأسرة" على نفس المنوال. ثم فصل: "إدراك السلام" على نفس الوتيرة. وفصل: "إدراك التغيير" قال فيه: بسم الله ألا فليعتبر المدركون، وليدرك المعتبرون، أن الإرادة هي الأصل، والسابق العقل، والبداية الصغير، والغاية الكبير، والذات أساس الهمة ومرتكز التغيير... الخ. حتى وصلنا للفصل الأهم – الذي هو لب الموضوع- فكان بعنوان: "إدراك الإدراك" قال فيه: بسم الله الإدراك، وإدراك الإدراك، وكيان المجرات ودوران الأفلاك، بتوحيده يتحد البصر بالبصيرة أما الضلال فالإشراك، البدء بعد البدء النفس ويليها الحس ويليه العقل ويليه الصوت ويليه الكلمة ويليها الحلم ويليه العلم ويليه الفكر ويليه العمل وبين البدء والختام الإدراك، ويليه إدراك الإدراك، وهو نهاية السؤال وبداية الإيمان... الخ. ثم فصل: "لواء الإدراك" على نفس المنوال. وختم كتابه بفصل: "دعاء الإدراك" ودعاء العافية والعتق و"دعاء الولادة" والرحيل. وحتما؛ إذا ما قرأ أحدكم هذا الكتاب، خاصة إذا كان من المستنيرين، فسيستغرب بشدة صبري على قراءته وكيف أنني لم أُصَب بالشلل أو بسكتةٍ دماغية!
أما كتب أساتذة علم النفس الجامعيين في هذه الأمة العجيبة عن "الإدراك" فهي ترجمات منقوصة، وينطوي الكثير منها على أخطاء "مفاهيمية" خطيرة، لِما كتبه علماء النفس الغربيين؛ وسبب الترجمة المنقوصة هو التزامنا القصري بقاعدتنا الفقهية الفكرية: " ... بما لا يخالف شرع الله"؛ القاطعة/المانعة لكل إبداع، والبدعة عندنا –كما تعرفون- ضلالة. وعند المقارنة بين التراثين؛ ستدرك السبب الرئيس لتخلفنا؛ وتدرك الفارق الحضاري الرهيب بيننا وبين الآخر، وستدرك حجم المصيبة المستقبلية والمصيرية؛ إذا ما عولت هذه الأمة على مفكريها في استشراف أي نهضةٍ يمكن أن تُشتَهى من قِبل البعض.
وللانعتاق فقط (أي من دون أمل في أي نهضة لها متطلباتها الأخرى) من ربقة التخلف هذه؛ يجب أن تكون الغاية هي المعرفة الحقة، ووسيلتها الناجزة في ذلك تحرير العقول من أوهام الموروث، الذي يؤكد على أفضلية النقل على العقل؛ فصادروا بذلك حرية التفكير والاجتهاد في ظل وجود نصٍ رمزيٍّ زَلِق، حتى ولو كان هذا النص فيه ضرر، أو لا يناسب المرحلة. مع وجوب الإقبال بالفكر على كل نافع مفيد، وترك كل ما لا طائل من وراءه، ويجب ألا نخشى من إعلاء سلطان العقل؛ فلا يخشى العقل إلا من ضَعُفَ منطقه وتغلغل جهله واستفحل، ومحراب العقل تحيط به هالة من الرهبة لا تُفزع إلا كل من يخشى الفكر ولا ينشغل بالتفكير المنطقي.



#جميل_النجار (هاشتاغ)       Gamil_Alnaggar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المعنى الغائب (للعدميين والعبثيين)
- تطور الحيتان من وحي التطور الأحيائي (12)
- نسبية الأخلاق
- حقيقة الحقيقة (ردا على الأسئلة الوجودية الكبرى 1)


المزيد.....




- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا
- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل النجار - الإدراك السليم والاضطرابات الإدراكية (معايرة إدراكنا ومدركاتنا بمدركات الأمم الأخرى)